الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع
في آية سورة الأنبياء:
مطلب: في بيان موضع التسبيح وآيته وصلته بما بعده:
- في آية التسبيح أخبر الله عز وجل عن مقولة المشركين باتخاذه ولداً، ويقصدون بذلك الملائكة حيث جعلوهم بنات الله -كما سبق بيان ذلك فيما قبل- قال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} .
- وبعد ذِكْره تعالى لمقالتهم هذه نزه ذاته الكريمة عنها فقال: {سُبْحَانَهُ} ؛ استعظاماً ممّا قالوا وتبرّؤاً مما وصفوه به، ثمّ ردّ عليهم بما يبطلها ويبيّن نزاهته عنها إذ قال عزّ شأنه:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} .
-وابتداء الردّ عليهم بحرف (بل) لإفادة الإضراب عن مقالتهم تمهيداً لإبطالها بما سيأتي بعدها. وكأنّه قيل: ليست الملائكة كما قالوا بل هم عباد له -تعالى- مقرّبون عنده. وهذه حجة في انتفاء بنوّة الملائكة لله -كما سبق بيانها-؛ لأنّ العبودية تنافي الولدية ii.
قال الجمل في حاشيته على الجلالين: "قوله: "والعبودية تنافي الولادة" هذا إمّا بحسب المعتاد الذي لا يتخلّف عند العرب من كون عبد الإنسان لا يكون
i سورة الأنبياء: الآيات (26-29) .
ii انظر: تفسير الطبري ج17 ص12؛ تفسير ابن كثير ج3 ص176؛ البحر المحيط لأبي حيان ج6 ص307؛ أضواء البيان للشنقيطي.
ولده، وإمّا بحسب قواعد الشرع من أنّ الإنسان إذا ملك ولده عتق عليه، والأول في تقريره المنافاة أظهر؛ إذ الكلام مع جُهَّال العرب وهم لا يعرفون قواعد الشرع"i.
- ثمّ وصف الله تعالى ملائكته بخمس صفات تؤكِدّ وتبيّن تقرير ما ذكره من عبوديتهم له، وذلك في الآيتين بعد التسبيح. وفي ذكرها المزيد والتأكيد لتنزيهه عز وجل ذاته عن مقولة المشركين باتخاذهم ولداً.
وتلكم الصفات ما يلي:
الصفة الأولى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به وهذه الصفة تنبئ عن كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى.
الصفة الثانية: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي أنّهم منقادون له تعالى في الأعمال كما أنهم منقادون له في الأقوال.
الصفة الثالثة: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي أنهم تحت علم الله وإحاطته بهم. والمقصود أي كيف يخرجون عن عبوديته مع إحاطته بهم.
والصفة الرابعة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} أي لا يستطيعون الشفاعة لأحد إلاّ لمن ارتضاه الله من أهل الإيمان والتوحيد. والمقصود أي كيف يخرجون - أيضاً- عن عبوديته وهم لا يقدرون على أدنى وجوه معارضته وهي الشفاعة عنده.
والصفة الخامسة: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وهذه الصفة الأخيرة تبيّن كمال عبوديتهم لله تعالى إذ هم يعظمونه تعظيم من يخاف بطشته ويحذر مخالفة أمره ii.
i حاشية الجمل على الجلالين: ج3 ص125.
ii انظر: تفسير ابن كثير ج3 ص176؛ تفسير أبي السعود ج6 ص63-64؛ تفسير القرطبي ج11 ص281-282؛ تفسير فتح القدير للشوكاني ج3 ص404-405؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج17 ص51؛ محاسن التأويل للقاسمي ج11 ص248-249؛ تفسير المهايمي ج2 ص30-31.
- وبمناسبة تقرير عبودية الملائكة لله تعالى أخبر الله عز وجل بما يدلّ على نفي إلهيتهم التي زعمها المشركون لهم فقال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . والشرط ههنا على سبيل الفرض، أي لو قاله أحد منهم مع العلم بأنهم لا يقولونه لأجل ما تقرّر من شدة خشيتهم لله. فالمقصود من هذا الشرط التعريض بالذين ادّعوا لهم الإلهية بأنّهم ادّعوا لهم ما لا يرضونه ولا يقولونه، وأنّهم ادّعوا ما يوجب لقائله نار جهنم على حد قوله تعالى في شأن النبي صلى الله عليه وسلم:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} i.
* لطائف:
- اللطيفة الأولى:
إنّ في الإتيان بصفة (الرحمن) لله تعالى في قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} تعرّضاً لعنوان الرحمانية لله -تعالى- المنبئة عن كون جميع ما سواه مربوباً له عز وجل بنعمه ومنعماً عليه برحمته العامة، وذلك لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة ii.
- اللطيفة الثانية:
إنّ في وصف الله تعالى للملائكة بأنهم {مُكْرَمُونَ} تنبيهاً على منشأ خطأ وغلط المشركين باعتقادهم أنهم بنات الله حيث أنّهم بمعرفتهم أنّ الملائكة مقرّبون من الله لِما هم عليه من الأحوال والصفات، فذلك هو الذي غرّهم في شأنهم وادّعوا ولديتهم لله تعالى عما يقولون علواً كبيراً iii.
i التحرير والتنوير لابن عاشور: ج17 ص52. والآية في سورة الزمر رقم (65) .
ii انظر: تفسير أبي السعود ج6 ص63.
iii انظر: تفسير أبي السعود ج6 ص63؛ الكشاف للزمخشري ج3 ص9.
- اللطيفة الثالثة:
إن الأصل في قوله تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} لا يسبق قولهم قوله عز وجل، ولكنّه أسند السبق إليهم منسوباً إليه تعالى؛ تنزيلاً لسبق قولهم قوله سبحانه منزلة سبقهم إيّاه؛ وذلك لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبق المعرّض به للذين يقولون ما لا يقوله الله تعالى i.
- اللطيفة الرابعة:
إنّ في تقديم {بِأَمْرِهِ} على {يَعْمَلُونَ} في قوله عز وجل: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إفادةً للقصر أي لا يعملون عملاً إلاّ عن أمر الله تعالى، فكما أنهم لا يقولون قولاً لم يأذن فيه كذلك لا يعملون عملاً إلاّ بأمره ii.
- اللطيفة الخامسة:
إنّ في قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} تخصيصاً بالذكر لبعض ما شمله قوله من قبل {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} للاهتمام بشأنه لأنّه ممّا كفروا بسببه إذ جعلوا الآلهة شفعاء لهم عند الله iii.
i انظر: تفسير أبي السعود ج6 ص63.
ii انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج17 ص51.
iii انظر: المرجع السابق ج17 ص51.