المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة: لا يستطيع شعب من الشعوب المتحضرة أن يمضي حياته اليومية - تطور الصحافة المصرية ١٧٩٨ - ١٩٨١

[إبراهيم عبده]

الفصل: ‌ ‌مقدمة: لا يستطيع شعب من الشعوب المتحضرة أن يمضي حياته اليومية

‌مقدمة:

لا يستطيع شعب من الشعوب المتحضرة أن يمضي حياته اليومية من غير صحف، هذه ظاهرة اجتماعية حديثة لا يمترى فيها أحد، والصحافة في ذاتها وسيلة لا غاية، اهتمت بها الحكومة الحديثة كما حصرت عليها شعوبها مهما تختلف هذه الحكومات ومهما تتفاوت هذه الشعوب في إدراك حياتها السياسية وتناول شئونها الاجتماعية، فالحكومة النازية أو الفاشية تحرص، كما تحرص الحكومة الديمقراطية على هذه الوسيلة وتعمل على التمكين لها؛ لأن وراءها غايات قد تتشعب ومآرب قد تتباين، أما الوسيلة نفسها فقد فرضت وجودها على المذاهب السياسية والاجتماعية والاقتصادية جميعًا بلا استثناء.

وحظ مصر من هذه الوسيلة كحظ غيرها من الجماعات المتحضرة، وكما دعت الحاجة إلى نشأة الصحف في أوربا منذ عدة قرون، كذلك أملت النظم الجديدة على مصر الحديثة أن تنشئ صحفًا تعددت أغراضها وتباينت أهدافها وإن يكن عمرها أقل من قرنين من الزمان للظروف السياسية والاجتماعية التي حالت دون النشاط الصحفي وأخرته عن أوربا زهاء ثلاثة قرون.

وقد عرفت الصحف في أوربا بعد أن ظهرت الطباعة بفترة طويلة إذ اقتصر فن جوتنبرج خلال قرن على طبع أوراق الدفاتر وكراسات الأعمال التجارية وما إلى ذلك من الأشياء التي تمت إلى الحياة العملية ولا ترتبط بالصحافة والصحف، غير أنه قد لوحظ في تلك الفترة أن من بين الكراسات التي طبعتها المطبعة في صدر عمرها كراسات تحمل الأنباء للناس، والأنباء كما نعلم أهم عناصر الصحيفة، وقد سبقت إذاعة الأنباء فن الطباعة، فكانت تلقى في أول الأمر مشافهة ثم مضى أصحابها بنسخونها، فلما عرفت الطباعة صارت تذاع بعد طبعها في كراسات خاصة1.

عرض لهذا الموضوع Georges Weill في كتابه

Le Journal. Origines، Evolution et Role De La Prese Periodique

ص: 13

ولم تكن إذاعة الأخبار المخطوطة من وظائف الحكومات بل تخصص بعض الأفراد لنسخ الأخبار المهمة ليقف على مضمونها النبلاء، وكان لهذه الطريقة أهمية خاصة في غضون القرن الخامس عشر في إيطاليا، وقد ساعدت الحياة الفكرية والتجارية والاجتماعية على نشاط هذه الطريقة الإخبارية، فإيطاليا في ذلك الوقت شعب راجت تجارته وزكت علومه ومعارفه وسيطر تفكيره على معظم أرجاء أوربا، فكان طبعيًّا أن يتحسس نبلاؤه وأغنياؤه ومفكروه أخبار دويلات أوربا والبلاد الأجنبية خارج القارة بما يحمله التجار وما تنقله أخبار السفن من أحاديث وروايات، فوجد أشخاص يحققون لهم هذه الرغبة، وكان هؤلاء يدفعون ثمنها بسخاء، وكان البندقية قطب الدائرة، دائرة العلوم والتجارة ودائرة الأخبار المنسوخة أيضًا، ولم يكن نشاط تجار الأخبار المخطوطة يقف عند البندقية بل كان لهم عملاء وحرفاء في المدن الإيطالية والألمانية من التجار ورجال المال، وقلد الألمان وغيرهم الإيطاليين في هذه الصناعة الجديدة.

وفي القرن السادس عشر ظهر الخبر المطبوع فلم يقض على الخبر المنسوخ وذلك لندرة المطابع أولًا وهي في أكثرها محتكرة من الحكومة أو رجال الدين كما أن ناشري الأخبار المخطوطة كانوا قلة قادرة صقلتها المرانة فتمسكت بمستواها العالي في أخبارها وأسلوبها، وتبع ذلك تمسكها بعملائها وحرفائها، ولما انتشرت الطباعة وأصبح الخبر المطبوع سهل النشر يسير التناول هبط مستواه ولم يعد يليق إلا بالعامة، كما أن المطبوعات جميعًا كان موضع رقابة خاصة من السلطات كما كانت موضع شكوكها وتضييقها، ففضل العظماء الأخبار المنسوخة وهي أخبار لا تخضع لرقابة رقيب ولا يعنيها أكان في الحكم سلطة استبدادية أم سلطة عادلة، لذلك كان أخبارها أصدق وأقرب إلى الحقيقة، ولهذه الصحف المخطوطة آثار في المكتبة الأهلية بفيينا وبعضها الآخر في مكتبة الفاتيكان.

ولقد لقي مذيعو الأخبار من البابوات والحكومات المختلفة ضيقًا وحرجًا

ص: 14

شديدين فصودرت أموالهم وبترت أيديهم وقطعت ألسنتهم ونصبت المخانق لكثير منهم، ولم يوهن نشاط مذيعي الأخبار المخطوطة والمطبوعة أو يفتر بالرغم من هذه القسوة التي ذكرنا بعض أمثلتها، واضطرت السلطات آخر الأمر إلى الرجوع عن هذه القسوة، بل جعلت تترضى بعض المخبرين المحترفين وتكلفهم العمل لحسابها فنفقت سوق هذه التجارة في أوربا عامة وروما خاصة.

لكن الخبر المنسوخ لم يعمر طويلًا بل أخذ يتقهقر أمام الخبر المطبوع بانتشار الطباعة واعتدال ثمنه وتساهل الحكومات وتنازلها عن رقابته، فتلونت الأخبار وتباينت، وظهرت شعرًا ونثرًا، ولم تعد الأخبار وقفًا على الحوادث العادية المتواضعة، بل كان للحروب والحوادث الطبيعية والمشاكل الدولية أثر في ترويج هذه الصناعة بما كانت تذيعه المطابع في الأنباء المثيرة، كما عمدت بعض الأوراق الخبرية إلى نشر فيض من الحوادث المنقولة عن أوراق دول أخرى، وقد كبرت أوراق الخبر رويدًا ثم حثيثًا، فإذا هي دوريات تظهر كل ستة أشهر ثم دوريات تظهر كل شهر ثم كل أسبوع ثم كل يوم: وقد شهد القرن السابع عشر مولد هذه الدوريات جميعًا في فرنسا وانجلترا، وفي غيرهما من البلاد الأوربية ومضت هذه النهضة قدمًا وعبرت البحار إلى أمريكا الشمالية، بينما مضى الشرق في عزلته وتزمته، فلم يعرف الطباعة إلا بعد أن عرفت أوربا الكتب المطبوعة والصحف السيارة في المدن والمقاطعات المختلفة.

وكان من الأمور الغريبة حقًّا ألا تشارك مصر دويلات أوربا في تقدير الطباعة وتكريم الصحافة، وألا تمر بها الأدوار الصحفية التي مرت بأوربا، وأن تكون آخر بلاد الشرق الأدنى معرفة بالمطبعة وأقلها احتفالًا بها، ذلك أن مصر أبقت على تراث فكري كاد يندثر بسقوط الدولة العربية وتفرق كلمتها، وقد حملت علم النهضة ولم يقف نشاطها في العلوم والفنون بالرغم من غشاوات الجهل التي أعمت بعض حكامها، وبالرغم من نوبات الفتور التي مست الحياة الفكرية المصرية آنًا بعد آنٍ منذ عهد الفاطميين إلى أيام

ص: 15

المماليك البحرية والبرجية "الشراكسة" وقد ظهر فيها كثير من العلماء الأدباء والمؤرخين كالقلقشندي وابن هشام، وابن خلكان وابن تغري بردي وغيرهم من فطاحل العلم والتاريخ، وقد اتصلت مصر في عصورها الوسطى بممالك البحر المتوسط وجنوب أوربا وجمهورياته المهمة للمتاجرة معها، وكان معها واسطة العقد بين الشرق والغرب، وكان يرجى لها التوفيق إلى كل جايد تعرفه أوربا في ذلك الوقت.

وكانت جمهورية البندقية وغيرها من البلاد الأوربية لاستقبال النهضة الحديثة، وفي هذه الفترة عرفت الطباعة في مدن إيطاليا والمدن الحرة الآخرة وكان الأمل واسعًا في أن يستفيد أعظم عملاء أوربا من هذا الحديث الجديد لو استمر الاتصال قائمًا وعرف المصريون قدره، غير أن مركز مصر قد تدهور بعد كشف رأس الرجاء وسلوك التجارة سبيلها عن طريقه، فانقطعت الصلة بين مصر وعملائها إلى حد بعيد، وأقفلت الأبواب دون الإحساس بخطر المطبعة زهاء ثلاثة قرون كان مصر قد بلغت فيها التقهقر والاضطراب مبلغًا تقوضت فيه دعائم الحياة السياسية والاقتصادية، وانطفأت الذبالة الباقية من حضارة الأمس، وشغلت بنزوات حكامها وقاست من جهلهم وعسفهم ما قاست حتى انقطع ما بينها وبين كل جديد من أسباب، وأهمل شأن المدارس والتعليم وبيعت الكتب وانتهبت، وتخربت دور الفن وعماراته، وكانت مصر آخر من عرف المطبعة بين دويلات السلطنة المهمة".

وإلى أوربا يرجع الفضل في صناعة الحروف الشرقية والعربية، عنوا في أول الأمر باللغة العبرية وحروفها لأنها لغة الإنجيل والتوراة، وقاموا بنشرهما في إيطاليا، ثم مضوا ينشرون كتبًا دينية مختلفة، ثم اتجهوا إلى العلم فنشروا باللغة العربية بعض كتبه، وفي مستهل القرن السابع عشر احتدمت المنافسة بين روما وباريس وليدن ولندن على طبع الكتب العبرية والعربية، وأحس الشرق هذه المنافسة فجلب إليه الطباعة من الغرب ليقوم هو أو يساهم على الأقل

ص: 16

في نشر آثاره وتعاليمه، وقد أوحت بذلك أيضًا الفكرة الدينية، لذلك بدأت المطبعة في الشرق أول ما بدأ تنشر كتبًا دينية باللغة العبرية ثم كتبًا أخرى باللغة العربية، وتخلصت أخيرًا من الاتجاه الديني، ومضت تذيع المؤلفات والتراجم العلمية والأدبية.

ولقد سبقت الأستانة جميع بلاد الشرق في معرفة الطباعة، وإلى اليهود يعود الفضل في نشر هذه الصناعة، فقد أنشأ أحدهم مطبعة عبرية في عاصمة الخلافة لتنشر كتبهم وتعاليمهم الدينية ولتغنيهم عن المخطوطات التي كانت تكلفهم أجرًا كبيرًا وجهدًا عسيرًا، وكان هذا اليهودي ينشر بين آن وآخر كتبًا في التاريخ والعلوم بجانب كتب الدين اليهودي وتعاليمه، وقد بدأ عمله هذا في أواخر القرن الخامس عشر1 ولم تعرف الأستانة الحروف العربية إلا في أواخر القرن الثامن عشر أي بعد أن قطعت المطبعة العبرية من وجودها في الشرق أكثر من قرنين من الزمان، وقد نشط اليهود في بلدان الشرق الأخرى فأنشئوا المطابع هنا وهناك.

أخذت الطباعة تنتشر في بلاد الشرق الأدنى، وقد بدأت كما رأينا في الأستانة وحروفها عبرية، غير أن هذا الشرق ولغته الفضلى اللغة العربية، عني عناية خاصة بحروفها، فأنشأ أحد البطارقة مطبعة عربية في حلب في أوائل القرن الثامن عشر حوالي سنة 1702 وقيل: إن حروفها في بخارست وهي أول مطبعة عربية في الشرق، ثم أنشئت في الأستانة المطبعة العربية الثانية وقد لقي إنشاؤها عنتًا شديدًا من الحكومة ورجال الدين فقد أفتى العلماء بأن المطبعة رجس من عمل الشيطان، إلى أن قيض الله لها بعض المصلحين، واستطاع الصدر الأعظم بمعاضدة بعض هؤلاء العلماء أن يستصدر من السلطان فرمانًا عاليًا موقعًا عليه بالخط الشريف في سنة 1712 بالإذن لسعيد أفندي "وقد صار صدرًا أعظم فيما بعد" بإنشاء المطبعة وطبع جميع أنواع الكتب.

1 مجلة المشرق، السنة الثالثة، عدد 4 ص175 وعدد 6، ص254 - 255.

ص: 17

إلا كتب التفسير والحديث والفقه والكلام1. تم عرفت الطباعة العربية في قرية الشوير من أعمال لبنان في دير من أديرتها المعروفة حوالي سنة 1732، وقد نافس الأرثوذكس أصحاب الشوير الكاثوليك وأنشئوا ببيروت مطبعة عربية قلدوا فيها حروف مطبعة الشوير سنة 1750.

في أصغر القرى عرف بعض أمم الشرق المطبعة على حين جهل المصريون هذا الفن، إلى أن جاءت الحملة الفرنسية سنة 1798، فعرضت بين بضاعتها مطابعها العربية واليونانية والفرنسية، وقد ناسب نشاط المطبعة الفرنسة قدر الحملة، فلم تعمل مطابع الفرنسيين على غرار المطابع الشرقية الأخرى بحيث يكون جهدها منصبًا على نشر الكتب والتعاليم الدينية وحدها بل كان الاحتلال الفرنسي يرمي إلى أشياء مهمة من وراء مطابعه، فقد بدأ عملها قبل أن يبدأ الجيش عمله، نشطت وهي في البحر والحملة في طريقها إلى مصر، فأعدت المنشورات العربية وأذاعت أوامر القائد العام، ففيها إذن جزء للدعاية وجزء آخر للأوامر الإدارية والحكومية، حتى إذا استقرت في مصر فتحت صدرها للكتب المؤلفة والمترجمة لعلماء الحملة وأدبائها، ثم أضافت إلى ذلك شيئًا جديدًا لم تعرفه مطابع الشرق الأدنى، وانفردت به مصر أول الأمر، وكانت بمعرفته سباقة لبلاد الشرق جميعًا، ذلك إخراج الصحف، فعن طريق هذه المطابع عرفت مصر الصحيفة، أو الدورية في صورتها الكاملة، ومنذ ذلك الوقت يستطيع المؤرخ أن يحدد نشأة الصحافة في مصر2.

أنشأ الفرنسيون صحيفتين في مصر، إحداهما يقال لها كورييه دو ليجيبت Courrier De L Epypte والثانية يقال لها لاديكاد إجيبسين La Decade Egyptienne.

فتاريخ إنشاء الصحف في مصر إذن يجب أن يحدد بالحملة الفرنسية.

1 تاريخ جودت: ص81 - 84.

2 راجع تاريخ الطباعة والصحافة في مصر خلال الحملة الفرنسية للمؤلف، القاهرة، سنة 1941.

ص: 18

ولا يجوز للمؤرخ أن يحدد تاريخ الصحافة المصرية بإنشاء هاتين الصحيفتين؛ لأنهما صحيفتان أجنبيتان وإن ظهرتا في مصر، وإذا كان لكل صحيفة فكرة ولكل جريدة هدف وغاية، فأهداف هاتين الدوريتين تجعلنا نقرر أنهما ليستا من الصحافة المصرية في شيء اللهم إلا المكان الذي صدرتا فيه وهو القاهرة.

صدرت جريدة: "كورييه دون ليجيبت" بعد الاستيلاء على القاهرة مباشرة في 28 أغسطس سنة 1798 "فريكتيدور سنة 6 جمهورية" في حجم كتاب وسط باللغة الفرنسية، وتقطع اللغة التي صدرت بها "لو كورييه" الصلة التي بينها وبين المصريين، فالمصريون في ذلك الوقت لم يكن لهم بهذه اللغة ولا بأصحابها عهد موصول لأسباب لا تغيب عن دارس هذه الحقبة من التاريخ المصري.

وقد حملت هذه الصحيفة أخبار مصر الداخلية وهي الأخبار المحلية في القاهرة والأقاليم، وكان القصد من نشر هذه الأخبار أن يعرف الفرنسيون في القاهرة ما يجري لدى زملائهم في ريف مصر وأقاليمه حيث توزعت فصائل الجيش الفرنسي، وفي ذلك يقول الجبرتي: إن "القوم كان لهم مزيد اعتناء بضبط الحوادث اليومية في جميع دواوينهم وأماكن أحكامهم، ثم يجمعون المتفرق في ملخص يرفع في سجلهم بعد أن يطبعوا منه نسخًا عديدة يوزعونها في جميع الجيش حتى لمن يكون منهم في غير المصر من قرى الأرياف فتجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير منهم .... "1.

فهدف "كورييه" إذن هو الجنود الفرنسيون أو الجالية الفرنسية التي ينبغي أن تعرف عن طريقها أخبار مصر وشئونها فقد انقطعت الصلة بين فرنسا

1 الجبرتي: عجائب الآثار، ج3، ص254.

ص: 19

وجنودها في مصر، وهذه حقيقة يعلمها قادة الحملة وأعلامها، لذلك هيئوا هذه الصحيفة لجنودهم، على أن تنشر بين آن وآن أخبار فرنسا التي تجيئها خلسة بالرغم من حصار الأسطول الإنجليزي للشواطئ المصرية1. كما أنها لم تغفل أنباء سوريا وفلسطين وأخبار أوربا مطولة أو مختصرة على أنها في هذه الأنباء جميعًا كان تخضع لامتحان من الرقابة الشديدة2. وأضافت هذه الصحيفة كثيرًا من القصص الغريبة عن مصر ترفيهًا لقرائها وتسلية لهم، وكانت إعلاناتها جميعًا بلا استثناء إعلانات تهم الفرنسيين وحدهم.

وصدرت لاديكاد إجيبسين في أول أكتوبر سنة 1798 "فانديمير سنة 7 جمهورية" وحمل العدد الأول منها افتتاحيته، وهي تقرر اتجاه الصحيفة وهدفها، فهي صحيفة علمية لدراسة شئون مصر، ونشر المسائل الخاصة بالحياة المصرية، واجتماعية وأدبية واقتصادية، وهي صحيفة المجمع العلمي المصري، ويتكون من جماعة من علماء الحملة الفرنسيين ليس بينهم مصري، فهي بمعنى أوضح وثيقة رسمية أو سجل لنشاط الحملة العلمي، تصدر في القاهرة للفرنسيين المقيمين فيها الذين تعنيهم شئون الأدب والاقتصاد أكثر مما تعنيهم شئون الحرب أو أخبار المدن والأقاليم وصور الحياة المصرية العارضة.

ويستطيع المؤرخ للصحافة المصرية أن يحكم في اطمئنان بأن الجريدتين الفرنسيتين اللتين صدرتا في القاهرة خلال الحملة الفرنسية لا تمثلان الصحافة المصرية في شيء ولا تعتبران دعامة لها، وقد شرحنا مبلغًا في تقرير هذه الحقيقة من قوة وصدق، وإنما هما صحيفتان أنشأتهما الظروف وحدها، وهي ظروف بعضها طارئ كما حدث في إصدار "لو كورييه"، وبعضها عرف عن تصميم سابق أدلته هذه الجماعة الضخمة من العلماء والأدباء والشعراء التي صحبت الحملة لتبحث وتنقب وتدرس وتقرر وتثبت هذا كله في مجلة

1 Canivet، Bull. de L lnstitut d Egypte 1909 p.15، 16

2 Charles- Roux، Bonaparte. Gouverneur d Egyte. Paris

ص: 20

حتى لا يفوت بونابرت فضل غزو الحياة المصرية بدراسة تاريخها وآثارها وأمراضها وإنتاجها كما كان يرجو غزو مصر وتثبيت العلم الفرنسي فيها، وقد نجد في الأولى وأخفق في الثانية.

ولم يحاول بونابرت إنشاء صحيفة عربية في الوقت الذي أنشأ فيه الصحيفتين الفرنجيتين، وهي أجدى عليه وعلى صحبه من جند ومدنيين وعلى فرنسا نفسها في توجيه المصريين وتعميم الحضارة الجديدة التي حملها معه إلى وادي النيل، وهو يكاد يؤمن بهذه الفكرة، فكرة الصحيفة العربية فقد جعل من المطابع العربية إحدى الوسائل التي تصله بالمصريين بما كان يذيعه من منشورات على الجماهير المصرية تلصق "في مفارق الطرق ورءوس العطف وأبواب المساجد"1.

ولم تساعده المطبعة العربية في الاتصال بالمصريين وحدهم، بل كثيرًا ما طبع لأمراء الحج وزعماء العرب وغيرهم في الشرق الأدنى المنشورات والكتب ليكفوا عن قتاله ويصلوه بالود والمعروف2 وقد كان يستطيع أن يستغنى عن هذا كله بصحيفة ينشرها في مصر فيقرؤها المصريون ويوزعها في البلاد الشرقية ويضمن بها داعية لا ينكر أثره، وأكبر الظن أن ظروفه الحربية وافتقاده المعاونين من المصريين، حال كل ذلك دون تحقيق هذه الفكرة الجميلة، فلما توالى الجنرال منو مكانه، وكان قد أشهر إسلامه وأذاعه بين المصريين خيل إليه أن أمور مصر قد استقرت له، وأن عليه أن يقارب بين أفكار المصريين والفرنسيين، وقد رأى دعاة السوء يحاولون إفساد ما يعمل له من تمكين الصلة بين الشعبين، فاستوضح من صديقه دجنت " Desgenettes" كبير أطباء الحملة أمر الاضطراب الذي يسود العلاقات المصرية الفرنسية جماعة من الفرنسيين المستشرقين وبعض العلماء المصريين، وتوظف هذه الجريدة في تنوير عقول العامة الذين يعدون الإصلاح الفرنسي في مصر

1 الجبرتي: عجائب الآثار، ج3، ص20.

2 الجبرتي: عجائب الآثار، ج3، ص49.

ص: 21

خرافة من الخرافات، فأمر منو بإصدار جريدة التنبيه " L Avertissement" في 26 نوفمبر سنة 1800 "فريمير سنة 9 جمهورية" على أن توزع في جميع أنحاء القطر المصري وفي بلاد اليمن والشام وداخل إفريقيا، وتقوم المطبعة الأهلية بنشرها، ويجيز أمور النشر فيها علماء الديوان حتى لا ينشر ما قد يفسد الغاية منها أو يسيء إلى التقاليد والعادات المتبعة في مصر، على أن يشرف على تحريرها الشيخ الخشاب أحد أعلام الأدب في ذلك الوقت وسكرتير الديوان، فتكون صحيفة إخبارية تنشر أنباء الحكومة وحوادث الديوان المصري وتذيع بعض الحوادث الأوربية والأسيوية العامة كما تعنى بالأدب والفنون والعلوم، ويكون مراقبها العام رئيس إدارة العدل في مصر.

ويعنينا من أمر هذه الجريدة أنها لو صدرت لكانت بحق أم الصحف المصرية جميعًا غير أن الأمل المعقود بظهورها لم يتحقق؛ لأن الظروف المحيطة بمصر إذ ذاك لم تسمح بإخراجها فبقي مرسوم إنشائها معطلًا ولم يعمل به1.

1 تاريخ الطباعة والصحافة خلال الحملة الفرنسية للمؤلف، ص97 - 108.

ص: 22