الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحافة في عهد الاحتلال:
وجدت الثورة العرابية من يعيها ويأخذ على رجالها أنهم أتوا كبيرة لم تعرفها أمة من الأمم، والثورة العرابية في الواقع شيء تردد صداه في أقطار الدولة العثمانية طلبًا للدستور والحياة الحرة التي ثارت من أجلها بلاد أوربية في حوض البحر المتوسط في أوائل القرن التاسع عشر أو في أواخره، والثورة العرابية ثورة عامة في مصر لم تدفع إليها طبقة دون طبقة بل شايعها الجامدون والمجددون على السواء، وآزرها "جميع الوجهاء وأعاظم العلماء والذوات ورؤساء المذاهب المختلفة والبرنسات"1. ولم تخفق الثورة العرابية لأن أصحابها كانوا يرجون شيئًا بعيدًا أو يتمنون حدثًا جديدًا يغير طبيعة الحياة ويسيء إلى الأمم المتحضرة بل أخفقت الثورة لغموض موقف السلطنة العثمانية منها، وقدرة الأجانب على حبك الدسائس لها، وأخيرًا لضعف قادتها من حيث تفكيرهم أو قوى جيوشهم.
لم تخفق الثورة فحسب بل نكبت في رجالها فأضحوا بين قتيل ومنفي وسجين، واستلم الإنجليز أمة ذاهلة أو في شبه ذهول، ليس لها قادة فقد أخرجهم الاحتلال من الميدان فظهر الخمود على الخاصة، وبلغ الإعياء عند العامة مبلغًا مضى بهم إلى لون من التسليم والركون إلى القضاء والقدر، ولم يعد أمام المحتلين أحد يطاولهم في رأي أو يناقشهم في حساب، وأصبحت أمور مصر كلها وديعة في يد البريطانيين يتصرفون فيها على ما يشتهون.
وقد أنفق اللورد دوفرين Dufferin سفير إنجلترا في الأستانة زهاء نصف عام في مصر لينظم أمورها في ظل احتلال مؤقت، وكان أظهر ما صنعه في تمثيل الرأي العام إنشاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، أما
1مصر للمصريين، ج7، ص171 - 172 من استجواب أحمد بك رفعت.
المجلس الأول فيتكون من ثلاثين عضوًا منهم أربعة عشر عضوًا تعينهم الحكومة ومثلهم تنتخبهم الأقاليم وواحد ترسله القاهرة وآخر تختاره الإسكندرية1 ثم يضاف إلى هؤلاء وزراء الدولة وستة وأربعون عضوًا لتتكون الجمعية العمومية منهم جميعًا، وليس لهذين المجلسين من مظاهر الحياة إلا قدر لا يعتد به في عظائم الأمور، فلم يكن لهما على الحكومة سلطان، ولم يكن لرأيهما قطع في المسائل العامة فيما خلا حق الجمعية العمومية على الحكومة في إقرار الضرائب الجديدة2 ولم تكن هذه هي الحياة الدستورية أجيد رسمها" كما يقول أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني3 فلا عجب إن بقيت مصر أربعين عامًا وهي تفتقد مجلسًا نيابيًّا يعبر عن أغراضها وينطق بلسانها.
وهكذا كون الرأي العام الرسمي، أما الرأي العام الشعبي ممثلًا في الصحافة المصرية فذلك أيضًا لم يخل من عناية اللورد دوفرين، فإنه لم ينس وهو يختم نظامه الجديد ذكر حقيقة هي أصدق ما قال في أمور مصر فإنه يرى "أنه بقي فوق ذلك نظام واحد ضروري لجعل النظم التي تقدم وصفها فعالة مثمرة ذلك هو الصحافة الحرة" فالصحافة في تقرير Dufferin دوفرين نالت جانب رعايته وهو جانب واضح لا لبس فيه، ويرى بعض المؤرخين الإنجليز أن التفاتة اللورد وجدت صداها وتحققت معانيها حتى "أهمل قانون سنة 1881 إهمالًا تامًا ونالت مصر حرية صحفية لم تعرف في شمال إفريقية أو غرب آسيا".
ويكاد الباحث في تاريخ تلك الحقبة من تاريخ الصحافة المصرية يؤمن بأن إشارة اللورد دوفرين قد لقيت أذنًا مصغية، سواء كان من الإنجليز.
1 George Young. Egypt. p.150 151 London 1927
2 الرافعي: مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال، القاهرة في 1942.
3 مضابط البرلمان الإنجليزي عام 1883، مجلد 267، ص 1310.
4 مصر، رقم6، ص50، سنة 1883.
5 Young.p. 179- 180
أصحاب النفوذ الحقيقي في البلاد أو من المصريين العاملين بإرشادهم في تصريف الأمور، ويقوي هذا الاتجاه أن تقارير السير بارنج السنوية قد أغفلت شئون الصحافة، مما يدل على أن أمورها قد استقامت وأنها خلو من الأحداث التي شهدتها الثورة أو عرفها عصر إسماعيل في خاتمته، وهذا كله ليس صحيحًا على علاته.
ثم يفاجئنا اللورد كرومر في تقريره عن سنة 1903، بحديث طويل عن الصحافة المصرية استغرق من التقرير ثلاث صفحات كاملات، وهو يستهل حديثه عنها بأنها إنما أغفلها في العشرين سنة الماضية؛ لأنه لم تكن هناك حادثة ذات أهمية تتصل بشئونها، وهو يزعم أنه حرص على حريتها في تلك الفترة، مع أن الاتجاهات العامة منذ عهد الاحتلال كان توحي بالتضييق عليها، والوقوف دون حريتها المطلقة، وهو يشرح فكرة إطلاق العنان لها شرحًا تمليه الثقة التامة بضعف أثرها هو أن أخطرها، فإنه ما دام جيش الاحتلال قائمًا فلا خوف على سلطان الإنجليز منها؛ لأنه يحمي الموقف من كل تطرف صحفي.
ثم يتحدث العمد الإنجليزي عن فكرة التقنين للصحافة فيذكر أن فكرة إصدار قانون للصحافة سينتج إشكالًا نحن في غنى عنه؛ لأنه يستوجب سريان نصوصه على الصحافة الأجنبية أيضًا، وفي ذلك من المشاكل ما يجدر أن نتجنبها، وإذا اقتصر القانون على الصحافة المصرية وحدها فإن ذلك يحمل المصريين على الاحتماء بالدول الأجنبية في حالة توظيفهم في الصحافة فلا ينال منهم القانون ويصبح لغوًا لا فائدة منه، هذا مع العلم بأن معظم الدول وبريطانيا في مقدمتها لا تميل إلى سن مثل هذا القانون.
واللورد كرومر يصارح حكومته بأن الصحف المصرية مهما تنشر من حملات فلن تغير مجرى الحوادث، وأن قضاياها مهما تكثر فهي تدور في حيز ضيق يتصل بالصحف التافهة التي تتعرض للشخصيات وتلغو في الكرامات وهذه صحف يسخط عليها الرأي العام، وهي قلما تسيء إلى شخصيات ورؤساء الدول الأجنبية أو الخديوي وأسرته.
ولما كانت الصحف لا يحفل بخطرها كما يقول اللورد فإنه أبى أن يجعل شرط ظهور الجريدة حصولها على ترخيص سابق، وسياسته هذه أنتجت في رأيه نتائج مرضية، فقد سمحت لبعض الصحف بالظهور وفي أسلوبها من الشدة والعنف ما فيه غير أنه يراجعها ويجد فيها بعض الفوائد أحيانًا، وهي لم تستطع أن تكون حائلًا دون التقدم في السنوات العشرين الماضية.
واللورد كرومر يوصي الموظفين مصريين وبريطانيين بالصحف المعتدلة؛ لأنها تفيد بنقدها وبشرح بعض الأخطاء التي تتلافاها الحكومة فلا تمكن الصحف المعارضة من أن تجد أسسًا قوية في حملاتها فتأتي معارضتها واهية لا أثر لها، وقد طالع بنفسه بعض هذه الصحف فرأى أنه كان من الخطأ ألا يعرف ملاحظاتها سواء في ذلك الصحف التي أصدرتها الأفراد أو الجماعات وهو يعيب على الرسميين كراهيتهم للصحافة وتبرمهم بكل معارضة، ثم يخطئ وجهة نظر القائلين بفرض قانون الصحافة؛ لأن من قانون العقوبات ما يغني عن سن تشريع جديد1.
ويجدر بمؤرخ الصحافة المصرية في تلك الحقبة أن يصور موقف السلطات قبل مناقشة اللورد كرومر فيما ذهبت إليه أقواله عن الصحافة المصرية، فالخديوي توفيق لم تكن له صحف ذات أهمية ولم يسع هو إلى خلق هذه الصحف بل كان موقفه موقفًا سلبيًّا وهو موقف سليم على أية حال، أما تركيا فكان لها بالطبع صحف تميل إليها أو تعمل لها بإيعاز من مختار باشا ممثل السلطان في مصر، فكان يدفع لبعض الصحف ألفًا وخمسمائة جنيه لكل منها2 وكان لفرنسا صحف كثيرة تناوئ الاحتلال وتحمل عليه، وهذه تعنيها مصالح فرنسا قبل أن تعنيها شيء آخر، وكان للمصريين بعض الصحف المعتدلة وتعتمد أهمها على رعاية القنصلية الفرنسية أيضًا ولم يفكر الاحتلال في أول الأمر في إنشاء صحف خاصة به بل كان الاحتلاليون وعلى رأسهم العميد البريطاني يعنون بالتمكين للاحتلال
1 Blue Books 1903 p.81-82
2 Blunt: My Diaries p. 167
بنشر الدعاية له في الخارج وفي انجلترا خاصة، فقد تدخلت بعض الجهات في شئون مصر تدخلًا أساء إلى اللورد كرومر في سياسته العامة1 فلم يكن بدل له ولأنصاره من الدعوة لسياسته ونشاطه فعين الفرد ملنر سكرتير مستر جوشن " Goschen" في وظيفة بوازرة المالية المصرية، وكانت وظيفته في الواقع لتنظيم الدعاية في صحافة إنجلترا تأييدًا للاحتلال وسياسته في مصر، وكان ملنر أفضل رجل لهذه الدعاية؛ لأنه من الأحرار وله في صحافتها وشائج صلة وقربى، وكان هذا الداعية يستكتب الموظفين الإنجليز المقالات للصحف والمجلات الشهرية الأوربية عامة والإنجليزية خاصة2.
فالعناية الإنجليزية بالصحافة بدأت في صحافة أوربا، أما في مصر فيختلف الواقع مع ما جاء في تقرير كرومر سنة 1903، فالحكومة المصرية قد عاملت الصحف معاملة فيها من القسوة ما ينقض أقوال العميد البريطاني، والحكومة المصرية هنا تمثل الرغبات الإنجليزية ولا تجيز شيئًا لا يرضاه الإنجليز، فهي إن قست على الصحف المصرية فذلك رجع الصدى ليس غير، وقد ألغى الاحتلال بعد أسبوع بعض الصحف الوطنية منها جريدتا "الزمان" و"السفير" وكان إلغاء الأولى "من قبيل الاستصواب" وإلغاء الثانية مبنيًا على "أن صاحبها من ضمن أنصار عرابي".
وإذا أغلقت الصحف المعارضة وهو شيء طبعي ما دام سلطان الاحتلال أناخ على جوانب الحكومة جميعًا فإن الغريب حقًّا أن تضيق الحكومة بكاتب من الأجانب يبدي رأيًّا لا يتصل بالسياسة وهو موظف يقدر حدود الوظيفة والتزامات الموظفين إذا تحدثوا أو كتبوا، فقد أذاعت نظارة الداخلية عقب الاحتلال أمرًا قالت فيه "قد عثر في جريدة "الإجبشيان جازيت" على مقالة تتعلق بمواد التعويضات عن الأضرار التي لحقت بسكان القطر المصري من جراء الحوادث الأخيرة وعلم أن محررها هو المسيو فورين بإشكشاف الجمرك
1 Gromer Modern Egypt. V.I. p. 435
2 Blunt W.S. My Diaries
بالإسكندرية، وأنه وإن كانت المقالة خالية من العبارات المخلة بشأن الحكومة إلا أنه لا يجوز لمستخدمي الحكومة جميعًا أن يكاتبوا الجرائد1" ولعل سبب ذلك الضيق بالصحيفة الإنجليزية وبمن يكتب فيها أن أخذت جانب العرابيين وهو موقف دفع له بلنت بسخاء2.
يسجل اللورد كرومر في تقريره أن الصحافة المصرية قطعت عشرين عامًا بعد الاحتلال من غير تاريخ، وهو تسجيل ينقضه بلاغ الحكومة الذي يحاسب صحف "الوطن" و"إسكندرية" و"مرآة الشرق" و"البرهان" و"الأهرام" على بعض المقالات النقد التي وجهتها للاحتلال، ثم يزاوج البريطانيون بين الصحافة المصرية والصحافة الأجنبية في المعاملة فينذرون جريدتهم "الإجبشيان جازيت" ويغرموها عشرين جنيهًا لأنها تجاوزت حدودها فيما نشرته من مقالات في يومي 9 و11 أغسطس سنة "1883"3.
وينقض تاريخ الأهرام أيضًا ما ذهب إليه كرومر، حقًّا إنها بدأت بعودتها إلى الظهور في 29 سبتمبر "1882"4 حاملة على "العاصي عرابي ورفاقه البغاة" مادحة أنصار الخديوي "كسعادتلو سلطان باشا"5 ناشرة صورة رائعة في صدرها للجنرال السير ولسلي قائد الحملة الإنجليزية على مصر مؤرخة حياته في معظم الصحفة الأولى، وهو في مقدمة الصور التي نشرت في الأهرام فيما نعلم6، ومجمل القول إنها بدأت لينة للاحتلال ورجاله وإن حفلت صفحاتها
1 مصر للمصريين، ج6، ص242 - 243.
2 التاريخ السري، ص332.
3 الأهرام 18 أغسطس عام 1883.
4 قضى قومسيون التعويضات الدولية المصرية المنعقد بالإسكندرية في يوليو عام 1883 لسليم بك تقلا بمبلغ 190 ألف فرنك تعويضًا عن الخسائر التي لحقته خلال الثورة العرابية وذلك بحكم رقم 5979 "راجع الوقائع المصرية في 20 أغسطس" عام 1883".
5 الأهرام 3 أكتوبر عام 1882،
6 الأهرام 5 أكتوبر عام 1883.
خلال عام 1882 بآراء الصحف الإنجليزية والفرنسية في المسألة المصرية، وجعلت يوم الخميس وقفًا على أخبار مصر الداخلية.
بيد أن "الأهرام" تحمل علم الجهاد وحدها منذ بدأت سنة 1884، فتودع العام المنصرم "وداعًا لا يمازحه أسف ولا يقابله كدر بل هو واقف إزاءه وقوف ضعيف سلبه خصمه متاعه يستعطفه فلا يحنو ويستصرخه فلا يعي" ويبدو في هذا المقال الانحراف عن الاحتلال ودعاته ثم تعقب على ذلك بنشر مآسي مصر وإن لم يصدر ذلك من محررها، فهي تنتقي أقوال الصحف الإنجليزية التي برمت بالسياسة البريطانية في مصر فتقول على لسان "ذي استاندارد""يلوح أن حالة مصر في الحاضر أسوأ منها يوم تولى الإنجليز إدارة السياسة المصرية عقب موقعة التل الكبير وولوج العساكر الإنجليزية عاصمة القطر".
ثم تحدث في حياة أزمة السودان وانهيار الحكم المصري فيه فتلقى الأهرام بدولها في أمره وحوادثه وتعرض المسألة السودانية والأزمة التي أعقبتها وتصف خيبة الأمل التي لحقت جيوش مصر بأنها من صنع الإنجليز، وتتحدث عن نصيحتهم بتركه، ومعنى النصيحة كما نشرتها الأهرام أن تقبلها مصر "دون حدوث تردد أو إجراء جدال بالإطلاق طالما أن جيش الاحتلال مستقر في البلاد المصرية".
والأهرام لا تعجبها هذه النصيحة الإنجليزية لأن الوطني الشريف في رأيها لا يوقع أمرًا بإخلاء السودان، لذلك اعتزلت الوزارة الحكم، ويعلق بشارة في اليوم التالي على موقف الحكومة الشريفية شاكرًا لها خطتها المحمودة وموقفها الوطني المشرف ثم يعطف الكاتب على موقف مجلس الشورى والجمعية العمومية اللذين يشهدان تلك الحوادث وهما عليها سكوت1، وتنعي الأهرام على من وافق على إخلائه أشد النعي وتنشر أحاديث أمراء الألوية بالجيش مبينة
1 الأهرام في 2 و3 و8 يناير عام 1884.
من هذه الأحاديث أخطاء الحكومة وإهمالها في الحرب1 ثم تذكر المحاربين المصريين الذين ضحوا بأرواحهم "تخليدًا لذكر مصرنا العزيزة"2 وبذلك تولت الأهرام التنفيس عن المصريين، وكان حوادث السودان من مواقفها المشرفة، وهي حوادث أكبرتها في عين التاريخ عن المجلسين برجالهما وذواتهما.
فإذا فرغت الأهرام من المسألة السودانية ووقعت استقالة ثابت باشا وزير الداخلية نتيجة لتعيين المستر " Glifford Lloyd" وكيلًا للداخلية في 15 يناير عام "1884"3 وتحرجت الأمور بين الوزير والوكيل حتى اضطر الأول إلى الاستقالة؛ لأنه لم يعد في وسعه "المحافظة على شرف المصلحة"4 شرحت الجريدة هذه الأزمة وأعلنت أنها من صنع الإنجليز وأنهم أصحابهم ودعاتها، ثم تعلق على الموضوع تعليقًا وطنيًا انفردت به وحدها.
ويسافر مدير الجريدة إلى انجلترا وتأخذ الأهرام في نشر رسائله المتصلة وأحاديثه المتباينة عن مصر وشئونها، وكان من أهم الأحاديث التي نشرتها الأهرام حديث مديرها في أول يونيه 1884 مع ريفرز ولسن عن حالة مصر، فإذا سأله Wilson عن حال البلاد أجابه "بأنها سيئة بفعال أبناء جلدته" ويجيبه عن سوال يتصل بالأسباب التي تحول دون تأليف وزارة يكون من أعضائها رياض باشا وشريف باشا بأن ذلك يتم "إذا كان القصد خدمة مصر لا خدمة الإنجليز" ويمضي مدير الأهرام عارضًا مساوئ الإدارة المالية الإنجليزية في مصر.
ويستقبل المصريون هذه الأحاديث المنشورة استقبالًا يضع الأهرام في مكان الزعامة من أفكارهم وآلامهم، فإذا هو تطلع عليهم في 4 أغسطس عام 1884 وفي صدرها خطاب "من علماء وذوات ونواب شورى وغيرهم
1 الأهرام في 24 يناير عام 1884.
2 الأهرام 15 فبراير عام 1884.
3 مجموعة الأوامر العالية عام 1884، ص4.
4 الأهرام، في 10مارس 1884.
في الإسكندرية يمدحون لها موقفها من مصالح مصر ويحفظون لها وفاءها لأمانيهم، وتقرن نشر هذا الكتاب بكتاب آخر من أقاليم مصر الأخرى وهو يضرب على نفس النغمة من تكريم الجريدة وأصحابها.
نالت الأهرام تقدير المصريين كما نالت بر الدولة العثمانية بها، أما فرنسا فأمر عطفها عليها معروف منذ عهد إسماعيل، وتجميل جريدة "الشعب" في تأريخها للصحافة الوطنية هذا كله في قولها عن الأهرام إن "سياستها عثمانية مصرية تدافع عن مصالح فرنسا في مصر سواء كان اقتصادية أو سياسية ولكنها لا تهمل المصلحة المصرية وهي تقر للحكومة الحسنة وتبين لها السوءة وهي أكثر الصحف المسيحية عناية بمصالح الوطنيين وأحيانًا تشتد في نقدها كأكثر الصحف الوطنية تطرفًا".
ويذكر بعض خصوم الأهرام اتصالها بفرنسا كعار لا يمكن أن تمحوه المواقف الوطنية المشرفة، وفي هذا من التجني ما لا يقبله المؤرخ العادل، فالأهرام بقيت في تاريخ مصر الحديث عشر سنوات تحمل لواء المعارضة وحدها وتحيي ميت الرجاء في نفوس المصريين، وهي التي نقلتهم من الذهول إلى يقظة مهدت للحزب الوطني وجوده، وليس يعيبها بحال أن تعجب بفرنسا أو تعمل لها مادامت "لا تهمل المصلحة الوطنية"1 ولا يضيرها هذا في التاريخ وبعض الأمم تعجب ببعضها وتعمل لها وتؤمن بمبادئها حتى لا تسلم أحيانًا من تعريض استقلالها ووجودها لخطر قريب أو بعيد، وتاريخ الأهرام في الأعوام التي تلت الاحتلال أفضل من تاريخ مجالس مصر النيابية وأعز عند المؤرخ منها، وإن مصر نفسها لم تختلف عن الأهرام في إيمانها بفرنسا وأملها فيها، وعند ذلك تتفق الأهرام ومصطفى كامل زعيم النهضة قبل الاتفاق الودي.
وإذا كان حظ الأهرام عند المصريين والسلطان والفرنسيين حظًّا موسومًا
1 الشعب في 8 مايو عام 1992.
بالتقدير والإعجاب، فإن الحكومة المصرية ومن ورائها رجال الاحتلال لا يرون فيها هذا الرأي وهي تؤرق حياتهم بما تنشره من مقالات وأحاديث، لذلك قررت الحكومة تعطيلها شهرًا "لأنها نشرت جملة مواد سياسية من شأنها خدش سلطة واعتبار الحكومة الخديوية"1 ولأسباب التعطيل نواحٍ خفية لم يتضمنها بالطبع أمر الإغلاق وأهمها رسالة مديرها من لندن المنشورة في 11 أغسطس عام 1884 فقد عرض فيها بشارة إلى أحداث مصر، وغمز الحكومة المصرية يعتبر جارحًا في تلك الأيام2 وفي ذلك تقول "العروة الوثقى" إن أسباب غلقها "نشر رسائل مدير الجريدة وهو في لندرا على ما فيها من بيان بعض مساوئ السياسة الإنجليزية على خلاف رغبة الباشا -تقصد نوبار باشا- وقيل: إن السبب نشر التشكر الذي قدم إلى المدير والمحرر من أعيان البلاد دلالة على استحسان مشرب الجريدة "استقباح سياسة الإنجليز"3.
ومهما تكن الأسباب الظاهرة والخفية فإن الأهرام عطلتها الحكومة شهرًا، وإذا لم يكن المصريون يملكون ما يحول دون تعطيلها فإن القنصلية الفرنسية أثارت ضجة خطيرة لهذا الموضوع، وتبدأ قصة هذا الكفاح ببرقية إلى الداخلية من أحد موظفيها ينبئها فيها بأنه "صار إعلان قرار بتعطيل جورنال الأهرام إلى سليم بك تقلا نفسه في صباح تاريخه الساعة 6 أفرنكي بعد توقيفه الكلي مع غلق المطبعة تعلقه والختم على بابها بختم المحافظة وتعيين اثنين بوليس غفرة على الباب المذكور، وبعد نهو ذلك حضر مندوب من قنصلاتو فرنسا وأمرنا بالخروج من محل مكتب الجورنال الذي كنا فيه لأجل تحرير المحضر فأوريناه أن مأموريتنا انتهت وانصرفنا".
ثم يبعث القنصل بكتاب إلى المحافظة يحتج على ذلك أشد الاحتجاج
1 الوقائع المصرية في 21 أغسطس عام1884.
2 محفوظات الداخلية ملف 11 - 2 - 946، ج1.
3 مجلة العروة الوثقى ص145 - 146.
ويوضح له أن عمل الحكومة كله عمل غير قانوني من جميع الوجوه وفي من الظلم ما لا يحتمله، وهو اعتداء على كرامة القنصلية الفرنسية لا يقبل معه اعتذارًا كتابيًّا أو شفهيًّا قبل أن تفتح مطبعة تقلا بحضور ممثل القنصلية، ثم يهدد المحافظ بأنه سيكتب للقنصل العام في القاهرة ليطلب الاعتذار الرسمي على إهانة السيادة القنصلية التي صدرت عن السلطات المحلية وعلى رأسها محافظ الثغر، وأرسل القنصل كتابًا مماثلًا لوزير الداخلية وإن صيغت عبارته في ألفاظ رقيقة.
ويبعث محافظ الإسكندرية ببرقية إلى ناظر الداخلية ينبئه فيها بمضمون كتاب القنصل، وأهم ما فيه احتفاظه بحقوق صاحب الأهرام وطلبه رفع الأختام في غضون نصف ساعة، بيد أن الوزير أمر المحافظ بتنفيذ التعليمات على ضوء ما أرسل إليه من رئيس النظارة، ويبدو أن القنصلية الفرنسية عجزت عن أن تحول دون تعطيل الأهرام فأوعزت إلى صاحبه بإقامة الدعوى على الحكومة أمام المحكمة المختلطة في 27 أغسطس عام "1884"1 غير أن هذا الموضوع لم يقض فيه.
هذه هي إحدى الحوادث التي أنكر اللورد كرومر وجودها حين تحدث عن الصحافة المصرية في سنة 1903 وهي أبرز حوادث الصحافة الوطنية إذ ذاك؛ لأن الأهرام2 كانت تمثل في مصر المعارضة وتمثل مع غيرها المصالح الفرنسية، وتعبر من ناحية أخرى عن سخط الباب العالي على الحالة في القطر.
1 محفوظات الداخلية ملف 11 - 2 - 946، ج1.
2 أصدر بشارة تقلا جريدة "الشرق" ورخصت له بذلك الداخلية في 21 مايو عام 1883 ثم غير اسم الشرق بالنيل في 7 مايو عام 1887، ونقلت الأهرام إلى القاهرة في أول نوفمبر عام 1899 ورفضت الداخلية إصدار الجريدة بالإسكندرية أو إصدار صحيفة فرنسية في القاهرة، ثم تغلب أصحابها على العقبة وأصدرها في الثغر باسم "الأهرام" طبعة الإسكندرية، ثم غيرت إلى صدى الأهرام "راجع الداخلية المصدر السابق".
المصري، فهي حادث من حوادث مصر البارزة، وتعطيلها لون من ألوان الضغط على الحريات العامة.
لم يذكر اللورد كرومر هذا الحادث، ولم يفصل تاريخ الوزارة النوبارية مع الصحف وهو تاريخ حافل كان تعطيل الأهرام مثلًا من أمثلته، وكان قرار هذه النظارة بمنع جريدة "العروة الوثقى" من الدخول إلى مصر مثلًا ثانيًا للضيق بالرأي الحر، فقد أصدر مجلس النظار في أول مايو عام 1884 قراره هذا "حفظًا للنظام العمومي"1 وسيأتي الحديث عنها في فصل خاص بالصحف المصرية في الخارج، ثم ألغيت الوطن في نفس السنة2؛ لأن صاحبها "نهج في جريدته منهج عدم الاستقامة المخالفة بنشر الجمل والأخبار المشوشة للأفكار والموجبة للقلق والاضطراب"3.
ومن الغريب حقًّا أن تلغي "الوطن" وهي من الصحف الموالية لرئيس الحكومة الذي أصدر الأمر بإلغائها فهي تستقبل الحكومة والاحتلال بعد الثورة العرابية استقبالًا منقطع النظر، وهي تحمل على العرابيين وإن مزجت الحملة بلون من التعصب الديني4 وهي تحمل على استبدال النفي بحكم الإعدام في قضية عرابي حملة استغرقت معظم الصفحة الأولى منها، فإذا أحست أن هذه الحملة آلمت الإنجليز وهم أصحاب الرأي في استبدال هذا الحكم اعتذرت بقولها "قد رأينا أن ندفع ما علق بأوهام البعض من أننا نددنا على انجلترا في مصر والحال أننا لم نأتِ شيئًا إدّا ولم نخرج عن الحد أبدًا ولم نستعمل حدة ولا شدة في كلامنا على نتيجة محاكمة البغاة بل إن جريدة "الوطن" دون غيرها طالما دافعت عن سياسة إنجلترا ونشرت مآثر أهلها ومكارم أخلاقهم.
ولما اشتد كرب تلك الفئة الباغية كنا نتمنى لو أتت دولة البرابرة لتنقذنا من
1 الوقائع المصرية في 15 مايو عام 1884.
2 الوقائع المصرية 12 مارس عام 1884.
3 الداخلية دوسيه رقم 4 مكرر.
4 الوطن 25 نوفمبر عام 1882.
مخالبها فما بالك بدولة بريطانيا المتمدنة المشهورة بحسن السياسة ومزيد الكياسة ودهاء الرجال وسداد الأعمال فهل يظن أن يقابل معروفها بالغمط والكفران".
كان من الغريب حقًّا أن تلغي جريدة "الوطن" وهذه هي سياستها وهي سياسة موالية أشد الولاء للإنجليز ورجالهم من المصريين، وأكبر الظن أن عقابها كان فجًّا وعلى غير أساس؛ لأنها عادت إلى الحياة بعد يومين من صدور أمر الإغلاق2، ومن الحوادث الصحفية التي أغفلها كرومر في تقريره إغلاق "مرآة الشرق" بقرار من مجلس النظار وهي من الصحف الوطنية القديمة التي طبعت بطابع الإخلاص والتضحية والمعارضة للاحتلال ورجاله وتعريب ما يقال فيهم من سوء، وكذلك ألغيت جريدة "الزمان" بقرار من مجلس النظار في 29 يوليه عام "1886"3 وأنذرت "الصادق" بقرار من وزارة الداخلية في 25 سبتمبر؛ لأنها نشرت مقالة تضمنت "كثيرًا مما يشوش الأفكار ويخدش الأذهان"4 وهذه الجريدة من الصحف المعارضة للاحتلال، وقد أنشئت بإيعاز من مختار باشا الغازي المعتمد السلطاني في مصر بعد تعطيل "مرآة الشرق" وكلتاهما من الصحف التي تربطها بتركيا وسياستها أقوى الروابط5.
هذه هي بعض حوادث الصحافة المصرية العربية في السنوات الأربع الأولى من الاحتلال البريطاني، وكانت جديرة بأن يتحدث اللورد كرومر عنها لا أن يهملها ويهمل ما جاء بعدها من الحوادث الخطيرة في حياة الصحف
1 الوطن في 9 و16 ديسمبر عام 1882.
2 الوقائع المصرية في 31 مارس 1886.
3 الوقائع المصرية في 2 أغسطس 1886.
4 مجموع الأوامر العالية عام 1886.
5 طرازي ج3، ص30.
المصرية، بيد أنه أبى تسجيل حوادثها وأخفى أزمانها عن حكومته وبرلمانه فلم يعلق عليها بحرف.
وليست الصحافة المصرية العربية وحدها التي استبد بها الاحتلال بل إن الصحافة الأجنبية في مصر عانت من ضغطه وضغط رجاله مثلما عانت الصحف المصرية الحرة، وأبرز المشاكل الصحفية لهذا العهد تعطيل جريدة "لوبوسفور إجبسيان"" Le Bospgore Egyptien" فهي صحيفة فرنسية النزعة تحتمي بالقنصلية الفرنسية، دأبت على الحط من الاحتلال وتسوئ سمعته وتتبع نقائصه ونشر فضائحه، وهي من خصوم نوبار المعارضين له، وكانت تصدر باللغتين العربية والفرنسية معًا.
وقد مضت "لوبوسفور إجبسيان" تعارض كرومر وسياسته في عنف وشدة، وهي أول من أشار إلى الخلاف بين وكيل الداخلية والنائب العام بالمحاكم الأهلية وكلاهما إنجليزي، وهي تروي نبأ هذا الخلاف كفضيحة من فضائح العصر1 ثم أذاعت منشور المهدي، وقد نشرته جريدة "الفلاح" في 15 يوليو عام 1886، الذي يتحدى فيه الحكومة المصرية ويدعو للثورة عليها، وكان نشر هذه المنشور السبب المباشر الذي من أجله قرر مجلس النظار في أبريل عام 1885 تعطيلها وإقفال مطبعتها، وأثار حادث تعطيلها وإقفال مطبعتها أزمة حادة بين الحكومة المصرية والحكومة الفرنسية، وقد وقفت الحكومة البريطانية إلى جانب مصر في أول الأمر؛ لأن عقاب الجريدة يلذ للسلطتين معًا؛ لأنها خصمهما جميعًا.
وتروي "لوبوسفور إجبسيان" مراحل الأزمة فتذكر أن الحكومة المصرية طلبت من القنصلية في 8 أبريل بعث مندوب لها ليشهد عمليتي التعطيل والإغلاق فكان رد القنصلية احتجاج قنصلها على ذلك، بيد أن الحكومة أهملت احتجاج
1 لوبوسفور إجبسيان في 29 مارس عام 1884.
القنصل ومضت في تنفيذ قرارها وصادرت الجريدة وأقفلت المطبعة، وأراد وكيل القنصلية أن يتدخل فأهين من السلطات المصرية، فبعث القنصل العام لفرنسا في مصر إلى حكومته بمضمون ما حدث، ولما كانت هذه هي المرة الثانية التي تهان فرنسا فيها، فقد هددت بقطع العلاقات مع الحكومة المصرية إذا لم تعتذر الحكومة وتعيد الجريدة والمطبعة إلى الحياة.
ورأى الإنجليز المسئولون في مصر أن الأزمة قد بلغت حدًّا قد يؤثر في علاقات فرنسا وإنجلترا فتخلوا عن مصر ونصحوا لها بحل الموقف مهما يكن الثمن، ففتحت المطبعة بدون قيد ولا شرط، وذهب نوبار باشا بملابسه الرسمية إلى معتمد فرنسا وقدم اعتذاره رسميًّا في 3 مايو عام 1885 وعادت الجريدة إلى الظهور في 2 مايو من السنة المذكورة1.
وقد صدر كتاب أصفر يحتوي على المحادثات التي دارت بين الحكومات الثلاث2 وخسرت مصر بذلك الموقف خسارة أدبية لم تهم الإنجليز في شيء، غير أن هذه الأزمة التي حدثت بين الحكومات الثلاث قَوَّتْ ساعد الأهرام، فإن فرنسا قد كسبت المعركة وخسرتها الحكومة المصرية ومن ورائها المحتلون، ونحن نعني بالأهرام وحدها في تاريخ صحافة ذلك العهد؛ لأنها الجريدة الوحيدة التي عارضت في أسلوب عف وناقشت خصومها في عبارات مهذبة، مع أنه كان بجانبها صحفيون "من أهل اللهجة العربية" ينشرون صحفهم وبعضها معارض غير أنها صحف كما تقول الحكومة ويصدقها الواقع تعلم "الفحش والبذاء المفسدون لأخلاق العامة"3.
قوى انتصار فرنسا في الأزمة الصحفية السابقة جريدة الأهرام، فاشتدت معارضتها وحملت على الإنجليز وسياستهم في جميع أعدادها، وإذا نسي
1 لوبوسفور إجبسيان 21 مايو عام 1885.
2 مجلة الشباب، عدد 6 عام 1936.
3 الأهرام في 31 أكتوبر عام 1884.
المجلسان النيابيان وظيفتهما اللينة التي يجوز فيها لفت النظر أو إبداء الرغبة، فإن الأهرام لم تقف عند المعارضة الودية بل دعت إلى الجلاء وألحت فيه، وهي تؤرخ للسياسة الإنجليزية في مصر التي بدأ منذ سنة 1840 بإثارة أوربا على محمد علي باشا ثم "نراها قد احتلت مصر" وتحمل على إنجلترا وتصفها بأقبح الأوصاف فهي عندها أمة "كل يوم في شأن وكل ساعة في خطة" أما وعودها بالجلاء عن مصر فهي مواعيد عرقوب "فإنا على ذلك لا نرى إنجلترا تفي وعدًا ولا تحفظ عهدًا".
ولا تَمسّكُ بالعهد الذي وعدت
…
إلا كما يمسك الماءَ الغرابيلُ1
وهي تعني أشد العناية بمؤتمر الأستانة، وكان وظيفة هذا المؤتمر التفكير في أمثل الطرق لحل المسألة المصرية، وهي تعرض التيارات المختلفة بين الدول وصحافتها المتباينة ثم تعلق في اتزان وعمق على ما يدور هنا وهناك2.
وكانت الأهرام أكثر الصحف انتشارًا؛ لأنها كانت الجريدة الوطنية الوحيدة كما يؤيد ذلك محمد فريد بك رئيس الحزب الوطني3 وكان يقرؤها الرأي العام النابه في خاصته والرأي العام القارئ في مجموعة المتعلمين، وقد أصبحت دعامة من دعامات حرية الفكر، فلا غرو أن أثرت معانيها في أعضاء مجلس شورى القوانين فقد بقي هؤلاء الأعضاء في موقف سلبي زهاء عشرة أعوام منذ أنشئ مجلسهم، بيد أنهم برموا بالمستشار الإنجليزي فرفضوا ميزانية عام 1893؛ لأنه لم يعرضها قبل الموعد المحدد لظهورها بوقت كافٍ، وهذا موقف جديد بالنسبة لهذا المجلس4 والأهرام تزكي هذه اللفتة الجديدة وتحذر الأعضاء من الشراك التي تنصب لهم في الخفاء5 فإذا بهم يظهرون
1 الأهرام في 2 يناير عام 1887.
2 الأهرام في 12 مايو وأول يوليو و13 يوليو عام 1887.
3 نقلًا عن Jeune Turc في 16 يناير عام 1910.
4 الرافعي: مصطفى كامل، ص347 - 352.
5 الأهرام في شهري نوفمبر وديسمبر عام 1893.
استياءهم من اتصال العميد البريطاني ببعضهم ثم يرفضون اعتمادهم نفقات جيش الاحتلال، وهو أول موقف كريم عرف لهذا المجلس، وقد ساء الصحافة الإنجليزية هذا الموقف وساءها انضمام رياض باشا إلى الأعضاء وإعلانه مشاركة الحكومة للمجلس فيما ذهب إليه عن الجلاء1.
وتنشر الأهرام هذه المواقف الجديدة في حياة مجلس الشورى وتمتدح أعضاءه ثم تفسح صدرها للمصريين الذين آن لهم أن يتنفسوا ويخرجوا من يأسهم وقنوطهم فقد فقدوا الحرية والاستقلال معًا، وانحلت المقاومة الأهلية وأصبح الاحتلال مهيمنًا على مرافق الحياة العامة ومصالح الدولة ووزاراتها جميعًا، وليس في ميدان المعارضة جريدة ذات أهمية إلا "الأهرام" فكانت للمواطنين نعم السند ونعم النصير.
وفي ذلك الوقت ظهر في بيئة الوطنيين فتى له في تاريخ مصر وصحافتها الشأن الأول إذا كانت الحياة جهادًا وكفاحًا وحقًّا، واحتفلت به جريدة الأهرام وفسحت صدرها لقلمه، فكانت أهم مقالاته فيها مقالًا استغرق صفحاتها الأولى عن "الوعود الصريحة" وعود الجلاء المتكررة من الإنجليز، وهو يوجه المعارضة في عنف وشدة قلما رأى الاحتلال مثلهما في صحيفة عربية، فإن الإنجليز "بمحافظتهم على هذا الاحتلال الثقيل قد تنكروا لأعز شيء يتباهون به ويفخرون أعني بذلك الشرف البريطاني الجليل الشأن الرفيع البنيان" ثم يعقب على هذا المقال في يوم آخر بحديث جرى بينه وبين السير بارنج له خطره ومكانته كعمل صحفي، وله آثاره كعمل وطني2 وتمد الأهرام في رحابها لمصطفى كامل فقد استنكر هذا المعارض الوطني الجديد إنشاء "المحكمة المخصوصة" وهي محكمة ألفت لمحاكمة الأهالي الذين يعتدون على الجنود الإنجليز، وهي لا تتقيد بقانون العقوبات، فنشرت له احتجاجًا ناريًا
1 راجع تقرير الحكومة الذي تلاه رياض باشا في مجلس الشورى في 23 ديسمبر عام 1893.
2 الأهرام في 4 و28 يناير عام 1895.
على إنشاء هذه المحكمة بعنوان "صواعق الاحتلال"1.
ينكر اللورد كرومر هذه المواقف جميعًا؛ لأنه اختلط لنفسه خطة جديدة قد تكفل له الطمأنينة على مركز الاحتلال في مصر، فإذا كان في غير مقدوره أن يبطش بالصحف والصحفيين خوف الرأي العام الإنجليزي أو المشاكل الدولية كما حدث في موضوعي "الأهرام والبوسفور إجبسيان" فلا بأس أن تكون في مصر صحافتان، صحافة حرة مطلقة تتحدث بما تشاء كالأهرام مثلًا وبعض الصحف الصغيرة الأخرى، وصحافة أخرى حرة مطلقة أيضًا تعمل لحسابه "كالمقطم" وهو مطمئن إلى هو أن الأولى؛ لأنها عزلاء من المال ومن الأخبار يسلط عليها سيف قانون العقوبات، وهو مطمئن إلى خطر الثانية بما ينفحها هو من مال، وما تقدمه لها الدولة من إعلانات وأنباء.
وقد رأى العميد الإنجليزي أن يحارب الصحافة بالصحافة، فأوعز إلى أصحاب "المقتطف" أن ينشئوا صحيفة يومية سياسية تنافس الأهرام وتعارضها وتحمي المصالح البريطانية كما كانت الأهرام تؤيد المصالح الفرنسية، فتقدم يعقوب صروف وفارس نمر وشاهين مكاريوس إلى إدارة المطبوعات في 18 أبريل عام 1888 يرجون الترخيص لهم بإنشاء جريدة سياسية تجارية غرضها خدمة الوطن واسمها "المقطم" ويكون صدورها يوميًّا، وهم يعتمدون في طلب الترخيص وهذه "شواهد مقبولة لديكم على إخلاص نيتنا وحسن طويتنا ومراعاتنا لقوانين حكومتنا السنية"2.
ورخصت نظارة الداخلية "إدارة المطبوعات" للشركاء الثلاثة بإصدار "المقطم" في 29 أبريل عام 1888 وهم ينالون الترخيص كرعايا مصريين وفي ظل الخديوي، غير أن تاريخ المقطم في سنواته الأولى ينقض ما جاء في ترخيص أصحابه وتقول في ذلك جريدة "الشعب" وهي تؤرخ "للمقطم"
1 الأهرام 4 مارس 1895 - وقد ذكر لنا المرحوم جبرائيل تقلا باشا أن مصطفى كامل كان له حجرة خاصة في الأهرام يستقبل فيها أنصاره.
2 محفوظات وزارة الداخلية، دوسيه رقم1.
إنه "إنجليزي صرف وكل أعمال الحكومة ممدوحة لديه، وهو يترجم ويطبع تقرير المعتمد"1 ويقول محمد بك فريد: الإنجليز أنشئوه ليدعو لسياستهم2 وأعلم المستر بلنت في أوروبا "أن وزارتي الحربية والداخلية دفعتا لصحيفة المقطم مبلغًا عظيمًا من المال لتدافع عن تصرفات الإنجليز فيهما" ويقرر الأستاذ أمين عبده المحامي أن المقطم دأبت على التعرض للخديوي فأراد أن يقدمها للمحاكمة بمقتضى قانون المطبوعات الصادر في عام 1881 فأعلن كرومر أن هذا القانون قد جبه قانون العقوبات في المادة 25 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية، وهو لا يوافق على تقديم المقطم للقضاء؛ لأنه من أنصار حرية الرأي وحرية الصحافة، وأن هذه الحرية من قواعد العدالة التي جاء فيها الإنجليز إلى مصر3.
وتقول عنها "الاتحاد المصري" وهي إحدى معاصراتها في 12 سبتمبر عام 1889: "إن هذه الرقطاء تحاول الجمع بوقت واحد بين المتحالفين فهي تتزلف تارة بالمقال وتستعين بالتدليس والخداع حتى تخيل للمصريين أنها عريقة الحسب وأن بينها وبين رجال مصر قرابة ونسب".
هذا بعض ما ذكره المعاصرون من المصريين والإنجليز عن "المقطم" وسياستها وهم يقطعون بأن سياستها إنجليزية وأن دار الوكالة البريطانية حالت دون سلطان الحكومة المصرية ودون عقابها مع أن أصحابها من الرعايا المصريين، وهي خصيم للخديوي تعرض بمقامه مع أنها نشأت في "ظل الحضرة الفخيمة الخديوية" ولا عذر لنا إن أنكرنا هذه الحقائق التاريخية، فقد حفلت فعلًا بمقالات الإعجاب بالاحتلال وتقدير رجاله ونالت من الحظوة ما جعل مصالح الحكومة في خدمتها تمدها بالأخبار جليلها وتافهها، بينما حرمت الصحف الأخرى منها حتى استطاعت نشر بعض الأحكام القضائية قبل النطق بها بعدة
1 الشعب 8 مايو عام 1912.
2 جون تيرك 16 يناير عاغم 1910.
3 الشباب في 16 مارس و20 أبريل 1936.
أيام1 وهي تدافع عن أصدقاء الإنجليز المصريين كمصطفى فهمي باشا فتعرض لاستقالته وتودعه في مقال طويل كله إعجاب وثناء عليه، وهي تمزج تقديرها له بتقدير الإنجليز وسياستهم الطيبة نحو مصر2.
ولا تقف "المقطم" عند هذا الحد من موادعة أنصار الاحتلال وملاطفتهم بل تذهب إلى أكثر من ذلك فتعاود الحديث عن الحكومة الفهمية البغيضة إلى الخديوي والوطنيين، وتنشر للمصريين تهديد الإنجليز وتسخيف فكرة الوفود التي ذهبت إلى عابدين تأييدًا للخديوي، ويستشيط طلاب المدارس العالية غيظًا فيهاجمون "المقطم" وإدارتها في 20 يناير 1893 إعلانًا بسخطهم على موقفها من شعور المصريين3 والمقطم لا تثني على الإنجليز أو أصدقائهم في مصر فقط بل إن سياستها تتجه إلى مناوأة السلطان والحملة على تركيا، وهذه الحملة ركن من سياستها العامة، و"الأهرام" و"الوطن" تناوئانها، فيما ذهبت إليه وتعرضان على قرائهما هذه الحملة4 وتبينان خطرها، حتى استاء الرأي العام من المقطم وسياستها فاضطرت الحكومة إلى إنذارها في أبريل 1893 وقالت في إنذارها "قد رأينا مع الأسف أن جريدة المقطم نشرت من زمان بعض مقالات وبعض مكاتبات تمس دولتنا العلية وحيث أن الحكومة الخديوية لا تسمح بذلك مطلقًا فقد أصدرنا هذا الإنذار إلى تلك الجريدة حتى تكف عن هذه الخطة"5.
نجحت سياسة كرومر التي لم يشرحها في تقريره آنف الذكر من حيث محاربة الصحافة بالصحافة، فقد تمكنت "المقطم" من الذيوع والانتشار
1 نشرت الحكم الصادر ضد الجريدة البوسفور قبل النطق به بأسبوعين. "راجع مجلة الشباب في 16 مارس عام 1936".
2 المقطم في أول مايو عام 1893.
3 الرافعي: مصطفى كامل، ص310.
4 الأهرام والوطن في أواخر أبريل عام 1893.
5 الوقائع المصرية في 5 أبريل عام 1893.
وكانت خصمًا لا يستهان به في إخراجه وتحريره، ولم تعد "الأهرام" باتزانها و"الوطن" بتفاهة تحريرها قادرتين على مواجهة حماسة "المقطم" ففكر الوطنيون في إنشاء صحيفة وطنية يكون في مقدورها تسفيه المقطم ومحاربة الاحتلال، وساعدت الظروف الوطنيين وواتتهم بحكومة تعطف على فكرتهم فاجتمع لطيف باشا سليم الحجازي وحسن باشا عاصم وإبراهيم الهلباوي وغيرهم، واستقر رأيهم على أن يتولى حجازي باشا عرض فكرة إنشاء صحيفة على رياض باشا على أن تحارب الاحتلال وتعلن أخطاءه وتنشئ الأحداث على كراهيته.
ولم ير رئيس الحكومة مانعًا يحول دون إنشاء "المؤيد"1 فصدرت في أول ديسمبر 1889 لصاحبها الشيخ على يوسف، من أئمة الصحفيين في ذلك العصر وصاحب مجلة "الآداب" ومن تلامذة الأفغاني المؤمنين بمبادئه واتجاهاته، ومن أهم أغراض المؤيد كما تقول خطته "بث الأفكار المفيدة والتحذير الصادقة والمبادرة إلى نشر الحوادث الداخلية من باب الاعتبار والتحذير أو الترويح والتبشير، وغير تاركة شأن التجارة الداخلية والخارجية"2 وقد كانت "المؤيد" موالية لحكومة رياض عاملة على بث الأغراض التي من أجلها أنشئت في هوادة وتؤدة، وبذلك أغنت القارئ المسلم الوطني وأرضته.
أصبحت "المؤيد" مجالًا للأقلام الوطنية الناشئة في البيئة المصرية، فكان مصطفى كامل أحد كتابها المعروفين وإن لم يكن من أعضاء تحريرها، وقد ذاع أمرها واشتد ساعدها وعالجت الموضوعات المصرية والإسلامية في مقالات طويلة جدًّا قد تبلغ الصحفة الأولى جميعًا3 كما نشرت بحوثًا عن الاستعمار
1 مجلة الشباب، العدد الثامن، في 1936.
2 المؤيد في أول ديسمبر 1889.
3 المؤيد في 8 مارس عام 1893.
النمساوي في السودان1 وقد كانت "المؤيد" فريدة بين زميلاتها فيما نشرته من مقالات ضد الاستعمار أيا كان لونه أو مداه، وهي تدأب في الحملة على الأجانب كلما اتصلت ظروفهم بالمسلمين في أي مكان من الأرض اتصال الظالمين بالمظلومين، ووجدت دار الوكالة البريطانية أن ساعد هذه الصحيفة الوطنية الجديدة قد اشتد وأنها تقرأ في بلاد الشرق جميعًا، فأمرت بمنعها من دخول السودان، وحوربت بشتى الأساليب فكانت تصادر هنا وهناك دون علمها فلا تصل إلى مشتركيها2.
ثم أطلقت الصحف الموالية للإنجليز أقلامها على صحيفة الوطنيين وما يلوذ بها من صحف كجريدة "المقياس" التي كانت تطبع في مطبعة "المؤيد" وتكتب مقالاتها بوحي من صاحبه وأنصاره، وقد ذهبت "المقياس" مذهب التعصب الصريح للوطن والدين معًا فحملت على "المقطم" حملات شعواء وأساءت للمسيحيين إساءات واضحة لا لبس فيها ولا إبهام3 فنشرت "المقطم" مقالًا بعنوان "يضرمون نار التعصب وينكرون" وهي تذكر ما نشرته "المقياس" من نثر وشعر تدعو فيه أن يسل المسلمون "سيوفهم" ويقتلون "الكافرين؛ لأنهم زلزلوا صروح دين المسلمين".
وتعتبر "المقطمُ" صاحبَ "المؤيد" جاهلًا بآداب المناظرة وتحمل على مصطفى كامل؛ لأنه دعا إلى تكريم "المؤيد"؛ لأنها أقدر الصحف على الإساءة إلى "المقطم" وأصحابه، ثم تلفت الصحف الأوربية إلى ما تنشره "المؤيد" ثم تحتكم إلى الرأي العام ليحافظ "على التقاليد الخديوية المشهورة بمنع التقسيم بين الرعية" وتبين للصحف العربية خطر دعوة "المؤيد" وأذنابه من الصحف وتوجه نظر جريدة "الحقوق" إلى ذلك "لأنا لا نجد جريدة أخرى بين
الجرائد العربية التي انتصرت للمؤيد تستحق أن تذكر على مسمع أهل الفضل والأدب"1.
واهتمت الصحف الأجنبية في مصر بعد مقال "المقطم" ومثلت هذا الاهتمام "لوبروجريه إجيبسيان" التي ردت على الشيخ علي يوسف وحملت على سياسته التعصبية ولفتت نظر الحكومة إلى هذا التعصب الذي من شأنه أن يعرض الأمن للاضطراب وحياة الأوربيين للخطر؛ لأن الشيخ علي يوسف يدعو إلى أن يقوم قسم من الشعب بذبح القسم الآخر2.
وعندي أن مسألة التعصب، وإن صدرت في بعض المعاني التي نشرت في "المقياس" و"المؤيد" فإنها ليست السبب في حملة "المقطم" أو الصحف الأجنبية الأخرى، وإنما الخصومة مصدرها تفوق "المؤيد" في الدفاع عن المصالح الوطنية وقدرة أصاحبها على رد أصحاب "المقطم" وتسوئ سمعتهم وفضح الاحتلال، وتربية الجماهير تربية استقلالية بما كانت تنشره من مقالات محررها أو أنصاره من الوطنيين.
وظهرت بجانب "المؤيد" صحيفة "الأستاذ" في 23 أغسطس عام 1892 وهي للسيد عبد الله النديم، صدرت أسبوعية "علمية تهذيبية فكاهية" نصيرة للوطنيين وللخديوي عباس الثاني، وبحمل صاحبها ما ذهبنا إليه في قوله عن احتجاب صحيفته إن الجرائد الفرنجية في مصر وانجلترا حملت عليه وادعت أنه متعصب للدين عدو للأجانب، وقد برم بها اللورد كرومر فأمر بإغلاقها كما فرض على صاحبها مغادرة مصر3.
لم يحتمل الإنجليز جريدة "المؤيد" بيد أنهم لم يستطيعوا وقفها كما صنعوا بالأستاذ، فمضت قدمًا تؤرخ للصحافة المصرية كفاحها في ذلك الوقت حتى
1 المقطم في 28 سبتمبر عام 1895.
2 لوبروجريه إجيبسيان في 30 سبتمبر عام 1895.
3 مجلة الأستاذ في 13 يونيه 1893، والثورة العرابية للرافعي، ص525.
بدأت الجريدة البريطانية المصرية في فتح السودان، ووقفت "المؤيد" موقف الخصم لهذه الحملة مبينة ما فيها من خفض سلطان المصريين عليها، وقد دأبت على نشر أخبار الحملة برقًا، ومن بينها البرقيات الدائرة بين الحربية وقادة الحملة، وفيها من الأسرار ما يهز جوانب العملية الحربية الدائرة1 فقدمتها الحكومة للقضاء ولكنه برأ ساحتها وأنقذ محررها.
وظهرت المسألة المصرية من جديد باحتلال الفرنسيين "فاشودة" في جنوب السودان وهي من أملاك مصر، وتحرجت الأمور بين انجلترا وفرنسا، وظن الوطنيون المصريون أن فرنسا ستعلق إخلاء فاشودة على جلاء الإنجليز عن مصر، وفي ذلك كتبت الصحف المصرية وخطب مصطفى كامل وأعادت "الأهرام" و"الوطن" و"المؤيد" تاريخ الاحتلال البريطاني، ونشرت وعود الجلاء التي صدرت من الإنجليز المسئولين إلى سنة 1898 غير أن هذا الحادث الذي بنى عليه المصريون آمالهم قد انتهى بانسحاب مارشال من فاشودة واستيلاء كتشنر عليها، ولم توضع المسألة المصرية موضع البحث من جديد.
ومنذ حادث "فاشودة" بدأ الإنجليز يشتدون في معاملة المصريين ولا يتحرجون من إساءة الخديوي فعزلوا النائب العام المصري حين فتش منزل صديقهم السيد توفيق البكري الذي نشر قصيدة ضد عباس الثاني ونصبوا مكانه إنجليزيًّا، فقامت "المؤيد" على رأس الصحافة تحمل على هذا التصرف الذي من شأنه أن يخل بواجب المصريين نحو مليكهم الشرعي ويجعل الموظفين منهم عرضة للرفت أو عرضة لإهمال واجباتهم خوف الاحتلال وإذلاله.
لم تعد الصحافة المصرية منذ حادث فاشودة تعتمد كل الاعتماد على قوة أجنبية لترد لمصر استقلالها وتفرض على الإنجليز جلاءهم عنها، فأصبحت الصحف الوطنية تستنفر الهمم المصرية؛ لتحقيق الأماني القومية، وهي تطلب إلى المصريين أن يضعوا نصب أعينهم هذه الحقيقة الماثلة، وكان ممثل هذا
1 المؤيد في 28 يوليو عام 1896.
الرأي مصطفى كامل بما نشر من مقالات وأذاع من خطب في القاهرة والإسكندرية خاصة، فقد اعتبر هذا الزعيم الشاب أن حادث فاشودة دليل حسي على نفض فرنسا يدها من المسألة المصرية1.
واتسع أفق الحركة الوطنية في مصر والخارج، ومضى مصطفى كامل إلى أوربا وخطب هناك ونشر المقالات، وكانت وكالات الأنباء تنقلها إلى جوانب المعمورة "والأهرام" تنشرها برقًا و"المؤيد" تذيعها تفصيلًا، وقد برم الاحتلال بهذا الفتى الوطني الخطيب الكاتب فرأى تجنيده، وأذاع هافاس هذه المؤامرة وهاجت الصحف لها حتى صحيفة الحكومة شبه الرسمية وهو "لوجورنال إجيبسيان Le Journal Egyptien فقد حذرت الحكومة والاحتلال من ارتكاب هذا الإثم2 وكانت الصحف الأجنبية في مصر تكاد تجمع على تكريم مصطفى كامل فقالت "لاريفورم" في 14 أبريل 1896 في إحدى المناسبات:"إن جهاده لجدير بالفخر" ونشرت صحيفة "لوفارد الكسندري" تحية له في نفس اليوم ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا بعض صحف قليلة في مقدمتها "الإجبشيان جازيت".
أغفل اللورد كرومر في تقريره الذي صدرنا به هذا الفصل الحركة الوطنية ونصيب الصحافة فيها كأنها كم مهمل لا غناء فيه، وقد عرضنا لتاريخ "الأهرام" و"المؤيد" وشرحنا نشأة "المقطم" وسياستها العامة، ويجب أن نذكر أنه كانت هناك صحف أخرى أكثرها قليل الأهمية غير أن بعضها جديد على صحافة ذلك العهد في أسلوبه واتجاهه، ويمثل هذه الصحافة "حمارة منتبي" وهي "جريدة هزلية فكاهية انتقادية أسبوعية" كما تقول أعدادها الكثيرة، بيد أنها صحيفة غريبة تجري في غير مستقر لها معقول، وتعيش بطرق لا تقرها الصحافة الشريفة فهي تحمل على اليهود والأورام وتسب
1 هكذا كان رأيه فيما بعد، اللواء 18 أبريل عام 1904.
2 الرافعي: مصطفى كامل، ص84 - 85.
"المؤيد وصاحبه1 كما تحمل على "المقطم" ومحرريه2 وهي اتجاه كما يبدو لنا غير مفهوم، إذ الحملة على أصدقاء الاحتلال وخصومهم في اعتبارها سواء وإن لم تخل هذه المجلة من النكتة الرائعة والملاحظة العابرة واللفتة البارعة، غير أنها جعلت من أغراضها الأولى "تأهيب الإحساسات العاهرة لخدمة الهلس الشريف واستئصال الجد العنيف"3.
وقد صدر بجانب "المؤيد" والصحف الوطنية والاستعمارية الأخرى بعض الجرائد الغريبة في مشربها، غير أن هناك صحيفة لا بأس بها زاملت المؤيد والأهرام وأن لم تجر في تيارها، هي صحيفة "المنار" وقد أنشأها السيد محمد رشيد الرضي في 15 مارس عام 1898 وجعل من أهم أغراضها "الحث على تربية البنات والبنين لا الحط على الأمراء والسلاطين، على أن تجتهد جريدته في تأليف القلوب المتنافرة ووصل العلائق المنقطعة وجمع الكلمة المتفرقة وتنبيه العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران وينبوع العرفان" ثم يقول عن مذهب الصحيفة السياسي "إنها عثمانية المشرب حميدية اللهجة تحامي عن الدولة العلية بحق وتخدم مولانا السلطان الأعظم بصدق وتتحامى المطاعن الشخصية والأماديح الشعرية"4.
ويؤرخ رشيد لها في كتابه عن الأستاذ الإمام فيذكر أن الشيخ محمد عبده فرض شخصيته عليها وقرر ألا تنتمي لحزب من الأحزاب وألا ترد مجاملة الصحف لها، وأنها ينبغي أن تكون أكبر من خدمة الكبراء بل يحسن أن تستخدمهم هي، وأن الأستاذ الإمام صاحب تسميتها وقد روج لها في جميع الأوساط حتى عند الخديو نفسه5 وقد أظهر اتجاهًا وأسلوبها أنها كانت بحق
1 حمارة منيتي 19 ذي الحجة سنة 1316هـ.
2 حمارة منيتي، العدد الثاني.
3 حمارة منيتي في 23 فبراير 1897، غرة شوال 1315هـ.
4 المنار 15 مارس 1898.
5 الأستاذ الإمام، ج1، ص1003 - 1010.
صحيفة الشيخ ولسانه، ومهما يكن أمر دفاعها عن السلطان والمسلمين فإنها حرصت على تجنب الاحتلال وكفاحه، ومصدر هذا الموقف فيما نعتقد الصلات الطيبة الناشئة بين وليها محمد عبده ورجال الاحتلال في مصر.
وفي أواخر القرن التاسع عشر لم تكن للوطنيين صحيفة ذات ذكر من حيث أهميتها عند الاحتلال إلا المؤيد سواء المؤيد العربي اليومي أو المؤيد الفرنسي الأسبوعي، وهو رجع الصدى لأهم ما نشر في زميلته اليومية، وقد لوحظ على هذه الصحيفة الوطنية فتور من حيث ترحيبها بمقالات مصطفى كامل أو العناية بالمسائل العليا التي تتصل بحياة مصر، فقد حدثت اتفاقية السودان المعروفة في سنة 1899 ولم تنشر المؤيد شيئًا عنها إلا بعد اعتمادها من الطرفين المصري والإنجليزي، ويبدو غريبًا أن تهمل التحدث عنها جميع الصحف المصرية قبل التوقيع عليها، غير أن المؤيد توضع موضع المؤاخذة إن هي أهملت أمرًا كهذا الأمر وهي المعروفة بقدرتها على تسقط الخبر، وتاريخها في حادث التلغراف أشهر من أن يذكر.
ولم يرتح الوطنيون للفتور الذي خيم على جهاد "المؤيد" واللين الذي تخلل سطوره في معارضة الإنجليز والتقاعس الذي بدا من صاحبه في تأييد الوطنيين، فأعد مصطفى كامل العدة لإنشاء "اللواء" سنة 1899 ثم صدر العدد الأول من في 2 يناير سنة 1900 "أول رمضان سنة 1317هـ" ويتحدث منشئه عن الأسباب في تسميته باللواء حيث يخفق عند هذا الاسم كل قلب وتجتمع أصدق الآمال "أما خطة الجريدة فهي خدمة الوطن والإسلام بأشرف السبل وأنفعها، والسعي وراء الاتحاد والاتفاق بين المصريين وبعضهم من جهة وبين كافة المسلمين من جهة أخرى والعمل لتربية أبناء مصر أحسن تربية وطنية وترقية التجارة والصناعة .. " وهو يحدثنا عن أبواب الصحيفة وهي "المنبر العام" وباب "أوربا والإسلام" وباب "أخلاق وآداب" وباب "بريد العالمين" وفيه أخبار الخارج ثم خصص فصلًا بعنوان "آيات الوطنية"
وهو للقصص الوطنية في تاريخ الأمم والشعوب المختلفة ثم يختم الكاتب مقدمته بالدعاية للسلطان و"عزيز مصر وأميرها عباس".
ويعتبر إنشاء "اللواء" مفترقًا للطرق في صحافة مصر الوطنية إذ ذاك، فقد حمل علم الجهاد وحده تقريبًا في إيمان الواثق بحقه المؤمن بعقيدته، وستكون "اللواء" فيما بعد لسان حزب لعب في حياة مصر دورًا كبيرًا، وهي الصحيفة الوطنية التي كان نظام العمل فيها مثلًا يحتذى من حيث التحرير والإدارة، وهي الصحيفة الثانية التي استخدمت الآلة الكهربائية في طبعها، ومن أولى الصحف التي عنيت بمادتها وفسحت صدرها لجليل الأمور وخطيرها في صفحات ثمانٍ، وهي أولى الصحف المصرية التي نشرت أخبار مصر وخطب المسئولين فيها ووصفت الحفلات الكبيرة بالبرق، ومحررها أول من ألف الشركات الكبرى للصحافة بالتزاماتها القانونية كما يحدث في أوربا عادة1.
وإذا صح ما نشرته جريدة "الإكسبريس" في 23 أكتوبر سنة 1915 عن مالية "اللواء" فإنه كان أغنى الصحف المصرية فيما خلا "المقطم" و"الأهرام" فقد قدرت موارده من هنا وهناك بثمانية وثمانين ألف جنيه مصري وهو مبلغ فيما نعلم قادر على تقديم الصحيفة بين زميلاتها خير تقديم، بجانب رأس مالها من الوطنية الصحيحة وحرارة كاتبها وشيعته من الوطنيين المعروفين" وقد أردف مصطفى كامل "باللواء" صحيفة شهرية تشتمل على خلاصة لأطيب ما أذيع في "اللواء" اليومية من رأي أو مقال2.
ولا يؤخذ على "اللواء" في نشأتها الأولى إلا حماستها الدافقة لتركيا وخلافتها؛ وذلك لاعتقاد المحرر بأن الخلافة في الدولة العلية يقوى بها الدين الإسلامي، وهو يرى أن فصل السلطتين المدنية والدينية يقضي عليهما معًا3 وذلك رأي قد أنكره التاريخ وينقضه كيان كثير من الأمم التي فازت بالخير عندما تم فصل هاتين السلطتين.
1 الشعب في 8 عام 1912.
2 أصدر محرر "اللواء" وهو طالب مجلة "المدرسة" في 18 فبراير عام 1893.
3 اللواء في 4 يناير 1900.
وقد اتجه اللواء اتجاهًا آخر قد لا يتفق معه كثيرون من أبناء جيلنا الحالي الذي لا يؤمن برجعية المرأة ويحب لها التصرف في الشئون تصرف الرجال أو يعتدل فيرجو لها بعض الحقوق التي أبتها "اللواء" في مقالاتها الاجتماعية بين آن وآن، وأظهر هذه المقالات الرجعية صحيفة نشرها محمود سلامة الأديب المعروف وفيها يدعو إلى الحجاب والحجاب الثقيل، ويعيب على جيله نشاطه في خصومة الحجاب وتجاوزه إلى حرية يراها مسيئة إلى حياة الأمم والشعوب1.
وبجانب هاتين الناحيتين اللتين أبدينا فيهما بعض الملاحظات العابرة نذكر صفحات "للواء" لم تكن معروفة ولا معهودة بين معظم صحافة ذلك العهد، فقد شغل "اللواء" صفحاته بأمور التعليم والتعليم الشعبي الذي ينبغي أن يقوم على أكتاف الشعب ليحس أثره الشعب نفسه فتتحقق أغراضه في الحرية والاستقلال، وقد استطاع مصطفى كامل أن يجعل من هذا الموضوع علما يجتمع عنده الوطنيون على اختلاف مذاهبهم وتباين حماستهم، فشرعوا ينشئون المدارس ويفكرون في جامعة مصرية تنشئ الشباب تنشئة يعجز أمامها الاحتلال إذا طلب السلامة أو أبى الجلاء.
ثم أراد اللواء أن يظهر مشاعر المصريين ويوقظهم من غفوتهم فدعا إلى الاحتفال بالعيد المئوي لولاية محمد علي مصر، وهو يدعو هذه الدعوة فيرضي القصر وصاحبه، ولا تستطيع قوى الاحتلال أن تحول بين المصريين وبين الاحتفال بذكرى جد الوالي الشرعي على البلاد، ويقصد "اللواء" بهذه الدعوة أن يستعيد التاريخ المصري الحديث وفيه من المعاني الوطنية ما يوقظ إحساس الأمة مهما عليها الغفلة أن انقطع بها الرجاء2.
1 اللواء في 15 مارس 1900.
2 اللواء في 3 فبراير 1901.
وقد استقبلت الصحف الأجنبية هذه الدعوة استقبالًا حسنًا، وحيث بعضها الفكرة كما صنعت جريدة "لاريفورم"1 فإذا تم الاحتفال وخطب فيه مصطفى كامل، كتب خليل مطران يصفه في "الأهرام" وصفًا هو من روائع الأدب والإنشاء، ووصفت "البصير" الحفل ونشرت خطاب محرر اللواء وتحدثت "لوفارد الكسندي" مرتين عن الاحتفال، إحداهما بعنوان "مصر للمصريين" وكذلك شاركت مصر في هذا الاحتفال جريدة "لاريفورم والكورييري إجيزيانو" واحتفلت بالفكرة وصاحبها أحسن احتفاء ثم لم تجد "الإجيبشيان جازيت" بدًّا من الاشتراك في هذا الموضوع بيد أنها كانت في حديثها متحفظة أشد التحفظ2 هذا فضلًا عما تكلف به "اللواء" من نشر الخطاب وجميع التعليقات وصدى الاحتفال في جميع الجهات.
لقد اشتركت الصحف في العيد المئوي وساهم فيه المصريون وقصدوا مكان الاحتفال بالإسكندرية من أعماق الريف وأبعد القرى في السودان، وحضره كثيرون من العظماء في مقدمتهم الأمير محمد إبراهيم الذي كان من خطبائه3 وقد هز هذا الاحتفال عواطف المصريين وبين لهم واجبهم في سبيل الحرية والاستقلال، وكان مصطفى كامل يدعو في جريدته إلى الصناعات الوطنية والمدارس الصناعية ويمجد جمعية العروة الوثقى؛ لأنها تفكر هذا التفكير السليم وهو يعتبر أن الاهتمام بالصناعات يخلق "روح الصناعة في البلاد، وهو بلا مراء أسمى خدمة تقدم إليها وأكبر سعادة تجهز لرجال الغد"4.
1 الرافعي: مصطفى كامل ص159 - 160.
2 راجع الأهرام في 14 مايو 1902، والبصير في 23 مايو، ولوفار في 22، و23 مايو، والكروييري والإجبشيان جازيت في 22 مايو من نفس السنة المذكورة.
3 الرافعي: مصطفى كامل، ص159 وما بعدها.
4 اللواء في 20 أكتوبر 1900.
وكان محرر "اللواء" يتخذ من سير المجاهدين العاملين عظة وعبرة، وهو دائب التحدث عن عظماء المصريين وهو يرى أن "لا شيء يرفع مقام الوطنية في البلاد مثل إحياء ذكرى الرجال الذين أخلصوا في خدمتها وقضوا أعمارهم في العمل لإعلاء شأنها وتحقيق آمالها، ولا شيء يميت الوطن والوطنية مثل تمكن داء النسيان في أمة وجهلها لتاريخها وعدم تقديرها للرجال المجاهدين في خدمتها" وهو لا يعني من مقالاته الناحية الإنشائية أو الفائدة العابرة، بل هو يعاتب مواطنيه في عنف إذ "بليت هذه الأمة المصرية العزيزة بذلك الداء العضال، فتراها لا تذكر الرجال إلا إذا كانوا القابضين على أزمة أمورها أو المحركين لحركة العامة فيها، فليس للمصائب في نفوس أبنائها أثر يبقى؛ وليس كذلك للعظمة الماضية بقية باقية في الأفئدة والضمائر، فلا غرابة إذا كان ذلك سببًا من أسباب تأخرها وعلة من علل انحطاطها"1.
أنتج توجيه اللواء أثره في إيقاظ الشعور العام من حيث تقدير الوطن والإحساس بحقوقه المهضومة في الداخل والخارج، وبدأت في الصحف المصرية نغمة الكراهية للأجانب ولكل ما هو أجنبي وإن كان "للواء" أخف الصحف أسلوبًا في هذا التيار، ويبدو أن حرب تركيا واليونان، وحرب إيطاليا للحبشة واستبداد المستعمر في تونس ترك أثرًا سيئًا في نفوس المصريين فوق ما يلاقيه المواطنون فعلًا من اضطهاد الاحتلال وتغلغل الأجانب في كل ميدان وقد أغضب مصطفى كامل من قبل اليونان وصحفها في مصر بالرغم من الصلاة القديمة ربطت المصريين باليونان.
وقد أساءت جريدة "الكورييري إجيزيانو II Gorriere Egiziano في لفظ أو تعبير وهي تتعرض لمسائل مصر العامة فتحدتها "المؤيد" في مقال عن "الإيطاليين في مصر" وإخوانهم في إيطاليا، في سخرية لاذعة وعبارات قاسية، وقد ردت الكورييري على المؤيد ردًّا يماثل ما جاء في مقالته من
1 اللواء 10 مارس 1901.
عنف وقسوة1 وتناقلت الصحف الأجنبية في مصر مقالتها بالتحبيذ وشاركتها في شعورها نحو المصريين، ويذكر "المؤيد" أن أنهرها قد "فاضت بأنواع العدوانات والسفاهات ضدهم وضد المصريين كافة وضد الإسلام والمسلمين عمومًا وذهبت كل مذهب في المطاعن والشتائم".
ويخيل إلى الباحث أن أمر الخلاف قد انحسم بهذا المقال، غير أن المؤيد تطلع علينا بمقال لعله المقال الوحيد الذي أسف فيه صاحبه، فقد حملت على الأجانب ثم اتجهت إلى "أمة الطليان أخس الأمم وأدناها وأسمجها وأسفلها" وهو يسخر من تاريخ هذه الأمة التي زهت به صحف مصر الإيطالية، وتعقد مقارنة بين تاريخ إيطاليا وتاريخ مصر الذي يرد إلى أصلين عظيمين فإما أن تنسب إلى المصريين القدماء وتاريخهم أقدم من الرومانيين، وإما إلى العرب وفضلهم على الأوربيين لا يعادله ولا يدانيه مدان".
ومهما يكن من أمر هذه الأزمة بين المصريين وصحافتهم فإن "المؤيد" كانت في طليعة الصحف المصرية التي دافعت عن مصر أحر دفاع، وشاركتها الصحف الأخرى الصغيرة بأسلوبها العامي ولفتات ذهنها الساخرة الماجنة، ومن أطرف ما لوحظ على هذا الجدال أن مصر الفرعونية ذكرت بالخير خلال النقاش وهي لفتة تعمدت الصحافة المصرية جميعًا أن تنكرها في كل جهادها منذ الاحتلال البريطاني وحرصت ألا تؤلم الباب العالي بتقوية الصلات بين مصر التركية الإسلامية وبين مصر الوثنية الفرعونية.
وبينما تقود المؤيد حملة المعارضة على الأجانب كان مصطفى كامل يستعيد في اللواء فكرة الحرية والدستور وهي مطالب ما كانت الصحف تطالب بها من قبل حيث كان اتجاهها العام إلى الجلاء ورجاء تحقيقه والإلحاح في الاستقلال أولًا وقبل كل شيء، وقد أهملت اللواء المجلسين التشريعيين ودعت إلى حياة دستورية صحيحة ترد غوائل الاحتلال وعوامل الاستبداد بالسيطرة
1 المؤيد في 8 سبتمبر 1091، والكورييري في 10منه.
على الشئون العامة، وكان هذا دأبها منذ أنشئت ودأب صاحبها في خطبه العامة، وفي خلال الكفاح الذي رفعت علمه "اللواء" حدث "الاتفاق الودي"" Entente Cordiale بين إنجلترا وفرنسا في 8 أبريل عام 1904، وكان صدمة للمصريين؛ لأن مادته الأولى نصت على أن إنجلترا "ليس في نيتها تغيير الحالة السياسية لمصر" وتعهدت الحكومة الفرنسية من جانبها بأن لا تعرقل عمل انجلترا في هذه البلاد، فبدأت بذلك صفحة جديدة في تاريخ الصحافة المصرية.