المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الصحافة الشعبية في مصر (1): - تطور الصحافة المصرية ١٧٩٨ - ١٩٨١

[إبراهيم عبده]

الفصل: ‌الصحافة الشعبية في مصر (1):

‌الصحافة الشعبية في مصر (1):

نشأت الصحافة الشعبية في مصر نشأة غريبة عنها، إذ تولى زمامها رجل دخيل في عهد سعيد باشا، وقد دعت ميول الوالي الجديد في سياسته الداخلية إلى نشر هذه الصحيفة، وهي الميول المعروفة عنه، المأثورة عن أيامه، فقد خول سعيد الفلاح حتى الملكية العقارية للأراضي الزراعية، وسن لذلك قانونًا مشهورًا باللائحة السعيدية1 ثم وجد الوالي شعبًا ينوء بالضرائب، وعليه التزامات حربية ثقيلة أساءت إلى النشاط الزراعي، فعين الضرائب وربطها وألغى المكوس والجمارك الداخلية، ثم خفف الخدمة العسكرية وحفظ للجيش نقاوته من العناصر الأجنبية واحتفظ بطابعه الوطني2 ثم ألغى الوالي متأخرات الضرائب3 ومحا فريضة العين واستبدل بها نقدًا بعد إلغاء نظام الاحتكار4 ويعتبر بره بالفلاح انقلابًا اجتماعيًّا خطيرًا. فقد نال كما رأينا حق الملكية العقارية وأجيزت ملكية الحاصلات ومنح سلطة التصرف في بيعها وتقدير ثمنها، ولهذا أثره العميق في شعب كان ولا يزال ملك الأرض عنده غايته الأولى والأخيرة، فهدأت نفوس الفلاحين واستقرت أمورهم بعد أن كانت حياتهم لا تستقر على حال من القلق، يهربون من قرية إلى قرية أو من القرى إلى الصحراء خوف الإذلال والكرباج.

وقد استعان سعيد بالمصريين بدلًا عن الأتراك وفي وظائف الدولة ودوائر أعماله5 كما حارب بعنف الأرستقراطية التركية التي كانت تسيطر في الجيش

1جرجس بك حنين: الأطيان والضرائب، ص388.

2 Sabry، La Genese de L Esprit Natioal. d Egypt. p،13

3 مرو مصر المعاصرة 64.

4 الرافعي: عصر إسماعيل، ج1، ص26.

5 صبرى: كتابه السابق، ص14.

ص: 55

والإدارة، وأسس مجالس لبحث المشروعات التي تعود على البلاد بالفائدة، وأنشأ الوزارات المختلفة1 كما أنشأ شركات الملاحة، ومد خطًّا حديديًّا، وأشاع بين المدن أسلاك البرق الحديثة، وشرع في شق قنال السويس كما شق غيرها من القنوات الداخلية2.

لم تكن هناك حروب كحروب محمد علي تفرق بين الأسرة وعائلها أو تقتضي تجنيد الأفراد السنين الطوال، وكانت سبل المعيشة هينة لينة حتى على أفقر الناس وأكثرهم إملاقًا، وفي هذا العهد قامت الحرب الأهلية في أمريكا فحالت دون استثمار قطنها وأفادت مصر من ذلك فائدة عظيمة، وبلغ ثمن قطنها ثلاثة أمثال الثمن القديم3.

فهذه السياسة المشربة بروح العطف من الوالي، وهذا الرعد -مهما يكن حكم التاريخ فيه- قد أنعش حياة المصريين الأدبية والمادية، وإلى جانب هذه اللغتات من الوالي سعيد يجب أن يذكر أن الموافقة على امتياز قناة السويس في سنة 1854 كان عملًا لايقره السلطان، إذ لم تؤخذ فيه مشورته، وهو عمل فيه من استقلال الرأي وحرية العمل ما يزلزل قواعد التبعية للدولة العثمانية.

حقًّا لم يكن هناك رأي عام بالمعنى المفهوم ليحس هذه السياسة العليا، وإن كان هناك موجة من الرضاء والاطمئنان إلى العيش في ظل هذا الوالي، لذلك ساءت سياسة سعيد الداخلية والخارجية الدولة العثمانية، كما ساءت الأتراك في مصر وملأت قلوبهم حقدًا عليه، فكان خصومه أحرص منه على مخاطبة الشعب المصري عن طريق الصحف، فقد أحس الباب العالي أن هيبته في نفوس المصريين قد هون من شأنها سعيد الذي لفت المصريين إلى جوانب من الحياة رضية لم يعتادوها من قبل ومن شأنها أن تصرفهم إلى حب واليهم والركون إليه، وهذا مما يهدد مكانة الدولة العلية في مصر.

1 Brehier، L، Egypte 1798- 1900 p156- 158

2 المصدر السابق، ص158 - 159.

3 تاريخ المسألة المصرية لروذشتين تعريب العبادي وبدران، الطبعة الثانية، ص4.

ص: 56

ولم يفكر سعيد في دعم سياسته العامة بتجديد الوقائع والعمل على انتشارها كما فعل أبوه من قبله أو خلفه من بعده، وكذلك لم توح الساعة لفرد من الأفراد بأن يأخذ على عاتقه هذه المهمة، فبقيت الدوائر الرسمية والشعبية خلوًا من صحيفة قد تفيد في الدعاية أو تشير برأي فيما يصنع الوالي أو تبين مواضع الخطأ والصواب في سياسته، ولكن الحكومة التركية على جهلها بقيم الصحافة ومعاييرها لم تفوت الفرصة، فأرسلت إسكندر أفندي شلهوب إلى مصر فأصدر مجلة السلطنة " Alsultana" وهي صحيفة أسبوعية كان الغرض من إصدارها باللغة العربية أن تلفت المصريين إلى واجباتهم نحو الباب العالي وماله عليهم من حقوق1، ثم تذيع من وقت لآخر الأخطاء التي تركبها الحكومة المصرية2 وهي أخبار في رأي الدولة تبين للمصريين أنهم منساقون إلى أمور خطيرة، كما أن من غايات هذه المجلة أن تنال من هيبة الأسرة العلوية في أسلوب ملتو لا يسيء إساءة علنية.

هذه هي الصحيفة التي يعتبرها البعض الصحيفة الشعبية الأولى التي تشهدها البلاد، وعندي أنها صحيفة شبه رسميه كواد النيل وإن لم تنسب للحكومة المصرية، غير أن بما أكده المعاصرون في كتبهم كانت صحيفة شبه رسمية لحكومة السلطان التركي، ومن حق مصدرها أن ينشرها في أي بلد من بلاد السلطنة ما دام ينتسب بالرعوية إلى السلطان كما تفيد اللوائح والقوانين السارية في الدولة العلية وممتلكاتها إذ ذاك، ولكنها ليست صحيفة مصرية لا من كتابها ولا في اتجاهها وأغراضها، ومهما يكن أمر هذه الصحيفة فقد أخفقت ولم تبلغ القصد الذي أرادته، إذ إن الناس في ذلك الوقت لم يكونوا على قدر من التعليم يسمح لها بالبقاء أو الرواج، فلم يعد لشلهوب ولا لجريدته أي أثر في تفكيرهم فاحتجبت بعد بضعة أعداد3.

1 Munier. La Presse En Egypte. p. 1-2

2 Clement Huart "La Litterature Arabe" Paris 1902. p.482

3 Ramadan. Evolution de Legislation de La Presse En Egypte p.8

ص: 57

ومنذ صدرت مجلة السلطنة في سنة 1857 لم تشهد مصر صحيفة أخرى مماثلة إلا بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ، فقد رأينا الوالي الجديد يهتم بالصحف الرسمية اهتمامه المأثور، ثم يهتم بالصحف في خارج مصر، وخاصة في باريس والأستانة، فيدفع لها من ماله، ويبسط لها يده كل البسط1؛ ذلك لأن إسماعيل وُوجِهَ في أول حكمه باتفاقية القناة التي عقدها سلفه فأراد تعديلها، وقام وزيره نوبار بحملة موفقة في فرنسا وفي صحفها ضد الاتفاقية، انتهت بتعديل كثير من الشروط المجحفة2.

ثم كانت له حاجات عند السلطان في وراثة العرش فَرَشا رجال دولته وصحفيي الأستانة، فرنجة وأتراكًا3 وأخذ بره هذا بالصحف والصحفيين ينتقل من باريس إلى عاصمة الدولة ثم مر ببلاد الشرق الأدنى، وأخيرًا وضح أثره في صحافته الرسمية على الصورة التي شرحناها في فصل سابق.

تولى إسماعيل حكم مصر والناس يرون شئونهم العامة والخاصة ملكًا لحاكمهم أو من يوليه أمورهم، وكان شقاؤهم أو سعادتهم موكلين إلى عدله أو ظلمه وليس لأحد منهم رأي بيديه أو إرادة يتقدم بها لعلم ما، وكانوا بعيدين عن معرفة حال الأمم الأخرى سواء كانت إسلامية أو أوربية، ومع كثرة بعوث محمد علي لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات الأسفار والبعوث العلمية.

ومع أن هذا الرأي صحيح من حيث انطباقه على صدر حكم الخديوي فإن إسماعيل أسس لهم مع ذلك مجلسًا تشريعيًّا في سنة 1866 هو مجلس شورى النواب الذي شغل إنشاؤه الصحف الأجنبية4 وكان من حق هذا المجلس أن يعلم حالة المصريين وأن يقرر فيها القرارات وهي في الواقع لا ترفع إلى

1 محفوظات عابدين Doss. 44- 1

2 راجع محفوظات عابدين في الوثائق الفرنجية والتركية والعربية وهي أكثر من أن تعد.

3 كرابيتس: إسماعيل المفترى عليه، ترجمة صروف، ص53.

4 Douin. His. du Regime du Khed. Ismail. T. 1p. 597

ص: 58

الخديوي على أنها قرارات بل تقدم إليه على أنها رغبات له أن يفصل فيها بالرفض والقبول.

وهذا المجلس لا يستطيع بحكم لائحته أن يؤثر تأثيرًا فعليًّا في اتجاهات الحكومة والتزاماتها1؛ وذلك لأن حاكم مصر في ذلك الوقت وإن كان قد عمل على نهضة بلاده إلا أنه عاش فيما يختص بالحكم ونظمه بوحي من عصور الحكومات المطلقة، لذلك لم توحِ اللائحة ولا الوالي ولا نفسية الأعضاء بأن يجرؤ المجلس على فهم وظيفة النيابة كما هي الحال في أوربا، فبقي أداة طيعة لحاكم مصر لا يقوى على معارضته أو لعله لم يعرف بعد كيف يأخذ المعارضة.

ذكرنا هذه الإلمامة بشئون مصر العامة، ثم أشرنا إلى مجلس شورى النواب؛ لأنه حدث جديد غير معروف في مصر، هو شيء يتصل بأبهة الملك وتقليد أوربا فكان غريبًا حتى على عقول أعضائه "أولئك العمد الذين يأتون في بلادهم ويختمون على لوائح لا يعرفون ما فيها بل ولم يعرفوا ما عزى إليهم من الأقوال"2. وإذا كان المفروض أن يكون في مصر مجلس للشورى يجتمع وينفض على هذا النحو فإن الصحافة الرسمية لا يجوز أن تكون معبرًا عن هذا المجلس الشعبي، ومن هنا بدأ إسماعيل يرى وجوب إنشاء صحيفة شعبية تمثل المجلس أو اتجاه هذا المجلس أو تساير الفكرة في وجود هذا المجلس فأوحى إلى أبي السعود أفندي بأن يصدر جريدة "وادي النيل".

قد يظن بعض المؤرخين أن جريدة وادي النيل صحيفة شعبية بالمعنى المفهوم ففيليب دي طرازي يذكر في كتابه أنها "مجلة سياسية علمية أدبية أنشأها سنة 1866 عبد الله أبو السعود ناظر المدرسة الكلية التي أسسها محمد على الكبير في القاهرة وهي أول صحيفة عربية تناولت مثل المباحث التي كانت تنشرها في القطر المصري وصدرت مرتين في الأسبوع، وعباراتها صحيحة

1 الرافعي في كتابه "عصر إسماعيل"، ج2، ص92 وما بعدها.

2 الوطن في ديسمبر عام 1878م.

ص: 59

وأفكارها سليمة، وساعدها الخديو إسماعيل؛ لأنها كانت تخدم أفكاره بإخلاص واعتدال دون أن تتعرض للمسائل الدينية"1.

فالفكرة إذن في إنشاء هذه الصحيفة هي خدمة الخديوي بإخلاص وتحقيق سياسته في اعتدال، وما كان يمكن أن تمثل جريدة "وادي النيل" الصحافة الشعبية في غير هذا الحيز الضيق من الحرية؛ ذلك لأن صاحبها موظف في الحكومة له مآثر وخدمات في الصحافة الرسمية، وهو من تلامذة رفاعة رافع رأس هذه الصحافة2 فلا غرو إن أوحى إليه إسماعيل بإصدار وادي النيل، فذكرت الوقائع المصرية خبر إنشائها في محلياتها3، وحيتها إحدى الصحف الفرنسية المعاصرة في مدينة الإسكندرية قائلة:"قد حدثت صحيفة مصرية جديدة بمدينة القاهرة تسمى وادي النيل، وقد أوضح منشئها وناظرها أبو السعود أفندي فيما أورده من بيان الغرض المقصود بإنشاءها أنه التزم بأن ينشر فيها الأخبار النافعة للديار المصرية سواء كانت ترد من أوربا أو من الأقاليم المصرية"4.

ويبدو من العددين النادرين اللذين حصلنا عليهما5 أن وادي النيل محاولة لا بأس بها كأول صحيفة وطنية في مصر، وقد ازدحمت معظم صفحاتها بأخبار الخديو ورجال حكومته، ولولا أنها أعلنت شعبيتها لظن متصفحها أنها صحيفة رسمية، فهي صورة للوقائع في تفكيرها واتجاهها، يعرف أسلوبها الأدبي رواية الخبر ويتعلق محررها بالسجع، فهي تحاكي الوقائع وتخطو على أثرها في الشكل والموضوع معًا.

1 تاريخ الصحافة العربية، ج1، ص96.

2 راجع "أعلام الصحافة العربية" للمؤلف.

3 الوقائع المصرية في 23 ربيع الأول عام 1284هـ.

4 هذا الخبر منقول عن ذيل العدد العاشر من وادي النيل ومعه خبر مماثل تحدثت فيه جريدة حديقة الأخبار ببيروت عن صحيفة أبي السعود.

5 هما العددان 10، 11 وهما يدلان على أن الصحيفة صدرت عام 1867 لا عام 1866 كما روت ذلك معظم كتب التاريخ.

ص: 60

وكانت جريدة "وادي النيل"1 دارًا واسعة للنشر، إذ تولت مطبعتها في حي باب الشعرية نشر "جريدة أركان حرب الجيش المصري" وهي صحيفة رسمية كانت تصدرها الدولة -كما ذكرنا من قبل- لضباطها حافلة بأمتع البحوث والموضوعات، كما أن "روضة الأخبار" كانت تطبع في مطابع وادي النيل، هذا إلى جانب الكتب الكثيرة التي نشرت فيها.

وأبو السعود أفندي صحفينا الأول في صحافة مصر الشعبية شاعر مبدع يصوغ القوافي، وناثر مفتن يجيد البيان، ومترجم من عيون المترجمين في عهده لم تستغن عنه صحيفة شعبية أو رسمية، كاتبًا لها أو مترجمًا لفصولها، وهو في صحيفته قد جعل الصحافة المصرية في مفترق الطرق، إذ عند صحيفته خلصت تلك الصحافة من رسميتها وبدأت تتجه إلى هذا اللون الحر من الصحافة التي نعرفها اليوم.

ويعتبر جهد أبي السعود الصحفي محاولة لا بأس بها فصحيفته أو صحيفة وطنية شعبية في مصر، وقد زحم معظم صفحاتها بأخبار الخديوي ورجال حكومته وتولى فيها مناقشة ما اعتادت نشره جريدة "الجوائب" التي كانت يصدرها في الأستانة زعيم الصحافة العربية في ذلك العصر الأديب أحمد فارس الشدياق صاحب المؤلفات الممتعة في الأدب والتاريخ والاجتماع، وكان خلافهما واتفاقهما في المسائل الأدبية والمباحث العلمية خير ما في صحافة الشرق الأدنى خلال تلك الفترة من تاريخ الصحافة العربية.

وكان الخديوي إسماعيل يؤثر صحيفة وادي النيل وصاحبها بالعطف والرضاء، فهي لسانه عند خاصة دولته من قرائها الذي وجدوا فيها متاعًا ولذة، ووجدوا فيها أيضًا جديدًا من شئون الصحافة كأخبارها الطريفة الصادقة التي أمر الخديوي بأن تنشر فيها، ولذلك كان قدرها محفوظًا عند الناس لعلمهم بصلات صاحبها وقربه من ذوي السلطان، وقد عاونتها الحكومة بالمال أيضًا.

1 محفوظات عابدين وثيقة رقم 211 معية تركي في 2 جمادي الثانية عام 1289هـ.

ص: 61

فخصصت لها في إحدى السنوات إعانة قدرها ثمانية وعشرون ألف قرش.

وقد سار على درب أبي السعود أفندي كاتبان معروفان في عصر إسماعيل بعلو الهمة وواسع الدراسة، والدراسة الغربية بالذات، وهما إبراهيم المويلحي وعثمان جلال1 فأنشئا مجلة "نزهة الأفكار" صحيفة سياسية أسبوعية، وكانا جديدين حقًّا على الصحافة المعاصرة في سنة 1869 فصدرت جريدتهما غريبة عن الوسط الصحفي، بعيدة عما يقره الخديوي من آراء، فلم يحتمل هذا التجديد في الرأي والمعاني، فهو يريد صحافة حرة ولكن بمقدار، وهذان شابان قد غرتهما مظاهر التجديد الذي أخذ يدب في الحياة المصرية فظنا أن لقلميهما حرية الكتابة على ما يهويان، لكن إسماعيل، بإيعاز من ناظر حربيته، أمر بمصادرة الصحيفة بعد عددها الثاني2.

بدأت الصحافة الحرة في مصر، لا هي شعبية ولا هي رسمية في جريدة وادي النيل، ثم تخلصت من رسميتها ومضت على سجيتها شعبية حرة في نزهة الأفكار، ووقف دون تقدمها حكم مطلق لا يحول دون بطشه بحرية الرأي حائل، غير أن هذه الصحافة على قلتها قد غيرت من القول المشاع بأن الصحف المصرية بدأت في كنف أهل لبنان وبجهد أبناء الشام، فهاتان الصحيفتان ومحرروهما -من علمنا- قد ردتا هذا الرأى وأبطلتا هذا الزعم وأوضحتا أن نشأة الصحافة الشعبية في مصر كانت بأيد مصرية خالصة.

لم يكن إسماعيل في أول الأمر يريد صحافة تعبر عن مصر أكثر مما كان يعبر عنها مجلس شورى النواب، يريدها صحافة موالية في جيدها حبل من رقابته ما بقيت يدها ممدودة لنعمته، صحافة هادئة تكون في خدمته لتستحق عطفه

1 راجع عنهما "أعلام الصحافة العربية" للمؤلف؛ والحلبي في تكوين الصحف في العالم صفحة 61، والإسلام والتجديد في مصر ص22، والمنار ج22، ص710، والرافعي عصر إسماعيل، ج1، ص272.

2 الرافعي: عصر إسماعيل، ج2، 263.

ص: 62

عليها واحتفاءه بها، وقد كان له أبلغ الأثر في نهضتها، ومساعداته الأدبية والمادية للقائمين عليها غير منكورة، وقد فتح صدره وصدر بلاده للصحفيين الشاميين بعد أن جربت الصحافة المصرية بجهد المصريين وأقلامهم، فأقبل هؤلاء على اصطناع القلم واتخذوا الصحافة حرفة لهم حتى كان أكثر أصحاب الصحف من أهل الشام والبلاد المجاورة لها1 كصابونجي والنحلة، وحموي وشعاع الكوكب، وتقلا والأهرام.

وكان لبعض هذه الصحف مواقف كريمة أخذت فيها جانب الخديوي ودافعت عن استقلال مصر، فقد بدأت العلاقات بينه وبين السلطان حين استوزر نوبار باشا وكلفه الدفاع عن وجهة نظر مصر في بعض المسائل المصرية في أوربا فاتصل نوبار بالحكومة الأوربية وتحدث معها في أمر إنشاء المحاكم المختلطة فأذاعت السفارة العثمانية في صحف فرنسا أنها تحذر المسئولين وعامة الناس من معاملة شخص يسمى نوبار باشا ويدعي لنفسه لقب وزير الخارجية المصري؛ لأن مصر كلها ليس لها صفة دولية ولا حق لها في تعاقد دولي، فكان أن ردت الصحف المصرية على السفارة التركية وأخذت تناقشها الرأي وتؤكد حق مصر في مصالحها الخاصة؛ لأن مصر لا يمكن أن تنزل إلى مكان الولايات العثمانية الأخرى وقد سبق لها أن أمضت عقد قنال السويس دون تدخل تركيا أو وصايتها2.

ولما كانت الصحافة الشعبية في نشأتها الأولى يقوم على تحريرها جماعة من الشاميين، وهي حقيقة تاريخية لا ينكرها أحد، لذلك وجب علينا أن نبحث -قبل التأريخ لهذه الصحافة- إلى أي مدى بلغت هذه الحقيقة التاريخية من التقدير والاعتبار؟ فلويس شيخو يقرر: "أنه كان للسوريين في هذه الحركة نصيب عظيم حتى كان أكثر تلك المنشورات ومنشئيها من أهل سورية وزاد

1 راجع تاريخ جريدة الأهرام للمؤلف، طبعة المعارف، سنة 1950م.

2 Douin. His. du Regime du Khed. lsmail T. 1 P.72.

ص: 63

عددهم في مصر بعد ضغط الدولة العثمانية على المطبوعات حتى أناف على ثلثي الكتبة المصريين فتقدموا على غيرهم بما عرفوا به من النشاط والتفنن والحق يقال: إن أكبر مجلات القطر المصري كالمقتطف وأعظم جرائده كالأهرام كان يحررها السوريون"1.

وهذا القول على ما فيه من صدق لا يخلو من المبالغة، فالسوريون حقًّا كان لهم في مصر فضل على فني التمثيل والصحافة، وكان نشاطهم ملحوظًا في هذين الفنين وله عند المؤرخ واجب التقدير، ولكن ليس معنى هذا أن الصحافة المصرية ما كان لها أن تظهر وتستوي لولا وفود هؤلاء إلى مصر، فقد ظهرت جريدتا وادي النيل ونزهة الأفكار في الشق الأول من حكم إسماعيل قبل ظهور أي جريدة سورية في مصر بعدة سنوات، فإن مصر وحدها هي التي هيأت للسوريين هذه الفرصة، فقد كان واليها يشترك بمئات النسخ ويقوم موظفو حكومته بمساعدة هذه الصحف في تحصيل اشتراكاتها من الأهالي ومن بينهم من فرضت عليه هذه الاشتراكات مع جهله بالقراءة والكتابة2.

وللخديوي في هذا تاريخ معروف أثبتته الوثائق فقد كان حفيًّا بالصحف المصرية على اختلاف جنسيات أصحابها وتباين أغراضها، وقد أمد بعضها بإعانات مالية كبيرة، فاهتمام الحاكم المصري بالصحافة قد سمح للسوريين بأن يجدوا مجال النشاط والعمل ممهدًا في مصر.

ولا يمكن لمؤرخ الصحافة المصرية أن يغفل من حسابه في بحث هذه الحقيقة التاريخية الكتاب الوافدين على مصر أو المقيمين فيها من أبنائها المصريين، أولئك الذين ملئوا صحف المتمصرين وجالوا فيها بأقلامهم وألقوا إليها بما امتازت به عقولهم من عمق وفهم كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأبي السعود أفندي وغيرهم ممن له في كل صحيفة من صحفهم ذكر سواء كانت جادة في

1 لويس شيخو، ص67.

2 المصدر السابق، ص131.

ص: 64

وظنيتها أو هازلت في رسالتها، ولولا هذه البيئة الحرة لما استطاعوا إلى النجاح سبيلًا.

وإلى جانب هذه الحقيقة يجب أن نذكر أن الحرية -حرية القول والكتابة- قد عزت في بلاد الدولة العثمانية جميعًا حيث ضغطت الحكومة على المطبوعات وطبقت قوانينها العنيفة التي أفلتت منها مصر بتشجيع واليها وإهماله لها، وقد استطاعت صحف الشاميين وغيرهم أن تعيش وتتقدم بمعاضدة بعض الدول الأجنبية ماديًا وأدبيًا مهما لقيت من عنت الحاكم أحيانًا فقد كانت لتدخل قناصل الدول في مصر وحمايتهم لهذه الصحف أثر كبير في بقائها ونجاحها، وهذه ميزة لم تتحقق للمصريين إلا في النادر من أصحاب الصحف الشعبية الأولى.

فالبيئة المصرية، والبيئة المصرية وحدها من بلاد السلطنة هي التي كانت تتمتع بحرية منقطعة النظير لا توجد في سوريا ولبنان، والطبيعة المصرية والتفكير المصري سمحا بوجود صحافة تقرأ لأن النهضة المصرية كانت أوسع مدى مما عليه بلاد الشرق جميعًا، وظروف الحياة المصرية بخديوها وأزماتها، واضطراب الأفكار فيها تجديد في شتى الميادين، كل أولئك جعل مصر تحتمل في سعة آدابًا وصحفًا وسياسة، وقد فرضت شخصيتها المعنوية المتميزة وجودها على الدولة العلية مستمدة هذا الوجود من تاريخ حافل وذكريات يحسب لها في مقومات الشعوب ألف حساب، وقد ثبت أن الصحف الوطنية الخالصة التي ظهرت بجانب الصحف الشامية في مصر لم تكن أقل منها نضجًا أو أثرًا في نفوس الناس وتهذيب الرأي العام وأن مصر "لو لم يكن في ربوعها الحرية وفي أمرائها الأريحية والتنشيط"1 كما يقول شيخو لما قصدها فرد من هنا أو هناك.

ومجمل القول إن مصر كانت في ذلك العهد أمة لها رأي عام مهما يكن

1 لويس شيخو، ج2، ص131.

ص: 65

أمره فقد كان يفرض وجود صحافة بدأت لينة ثم تطورت من أحداث الزمن.

والصحفيون السوريون مهما يقض التاريخ في مكانتهم من الصحافة المصرية لم يكونوا شرًّا على البلاد فقد أخصب جهدهم وآتى أكله في الأرض الطيبة التي تغذيهم طبيعتها وتسموا بهم إلى وضع كانوا فيه أكرم الأمثال.

وقد سمح إسماعيل بوجود الصحافة الشعبية للمصريين والشاميين والأجانب على السواء وأجاز لبعضها البقاء وأغلق من تجاوزت حدودها، ولم يكن في النصف الأول من حكمه يسمح بصحافة لا تماثل في اتجاهها وتفكيرها الوقائع المصرية، فأباح لمحمد أنسي بن عبد الله أبي المسعود في سنة 1875 نشر جريدته "روضة الأخبار" في القاهرة على أن تنشر ثلاث مرات في الأسبوع وهي على مثال الجريدة الرسمية، وقد تخصصت للسياسة والعلم والأدب والزراعة والتجارة وأعانها الخديوي بالمال1 وأذن لها بنقل أخبارها من الوقائع المصرية وترجمة موضوعاتها من جريدة ليفانت هيرالد2 Leveant Herald التي تصدر في القسطنطينية وتعمل لحساب الخديوي ثم هي تشغل صفحاتها جميعًا بمدح ولي النعم وإن بحثت قليلًا في الشئون الدولية3 وترجمت بعض الكتب التي ألفت عن مصر.

وفي نفس هذه السنة يتقدم سليم تقلا، وهو شامي ناثر وله حظ في قرض الشعر4 "يلتمس التصريح إليه بإنشاء مطبعة تسمى "الأهرام" كائنة بجهة المنشية بالإسكندرية يطبع فيها جريدة تسمى الأهرام تشتمل على

1 محفوظات عابدين وثيقة رقم 115 في 21 ذي الحجة عام 1291هـ.

2 لقيت هذه الصحيفة من مساعدات الخديوي ووكيله أبراهام بك في القسطنطينية تأييدًا قويًّا، راجع محفوظات عابدين في سنة 1871م وما بعدها، وكذلك كرابيس في كتابه إسماعيل المفترى عليه وكان لمحررها دلال غريب على الخديوي فزار مصر وهيأ الخديوي قطارًا خاصًّا لنقله إلى القاهرة "محفوظات عابدين وثيقة رقم 190 ص56 دفتر 1949 غير رسمي".

3 روضة الأخبار في 27 يونيو عام 1875م.

4 لويس شيخو، ج2، ص131 - 133.

ص: 66

التلغرافات والمواد التجارية والعلمية وكذا بعض الكتب كمقامات الحريرى وبعض ما يتعلق بالصرف والنحو واللغة والطب والرياضيات والأشياء التاريخية والحكمة والنوادر والأشعار والقصص الأدبية وما يماثل ذلك من الأشياء الجائز طبعها" وقد رخصت الخارجية بإنشاء جريدة الأهرام1 على ألا يتعرض صاحبها "للدخول مطلقًا في المواد البولوتيقية وامتثاله لقانون المطبوعات" وصدر الأمر لمحافظ الإسكندرية "بعدم المعارضة للخواجة المذكور في إنشاء المطبعة المحكي عنها"2.

وقد مثلت روضة الأخبار وجريدة الأهرام الحقبة الثانية من حياة الصحافة الشعبية، وهي حقبة تتميز بالهدوء الداخلي الذي لم تتعقد أثناءه الأحوال المادية كل التعقيد، كانت الأولى صحيفة الخديوي من غير شك وهي تؤرخ الحياة المصرية من وجهة النظر الرسمية في تلك الفترة، وكانت الثانية تمثل اتجاهًا آخر فهي جريدة وطنية غير أن تعطي فرنسا ومثلها مكانًا طيبًا3 وأشاعت عند قرائها هذه المثل في كل عدد من أعدادها تقريبًا، ويلمح قارئ الأهرام في نشأتها الأولى شيئًا من الضيق والتبرم بالسياسة الإنجليزية4 وقد عنيت بالأخبار الداخلية العادية التي لا توحي باتجاه سياسى خاص وإن ازدحمت بالمقالات الاجتماعية وهي مقالات استقبلها الخاصة في مصر بمزيد التقدير والإعجاب5.

1 صدر كتاب عن تاريخ جريدة الأهرام للمؤلف سنة 1951م وطبعته الثانية 1962.

2 محفوظات وزارة الداخلية، قلم المحفوظات 11 - 2 - 946 الجزء الأول، وهذه الوثائق محفوظة اليوم في مصلحة الاستعلامات التابعة لوزارة الثقافة والإعلام.

3 مونييه: الصحافة في مصر، ص6.

4 Martin Hartmann: The Arabic Press of Egypt p.53

5 صبري في كتابه السابق، ص110.

ص: 67

تختم روضة الأخبار والأهرام1 الحلقة الثانية من نشاط الصحافة الشعبية، كانت الحلقة الأولى تجربة غير ناضجة تولي شئونها المصريون وحدهم فماتت إحدى الصحف وهي وادي النيل لعوامل يقتضيها الفن الصحفي وكانت خلوًا منه، كجدة الأخبار وهي في أخبارها رجع الصدى للصحيفة الرسمية فلم تغر الناس بشرائها أو التعلق بها، وقضت "نزهة الأفكار"؛ لأنها تجاوزت الغرض من ظهورها ورأت الحكومة أن البحوث التي تطرقها أبعد مما تحتملها الظروف السياسة والاجتماعية في سنة 1869، ومع أن روضة الأخبار سبقت صحيفة الأهرام في الظهور ولقيت من عطف الخديوي وبره الشيء الكثير، وحفلت بالموضوعات الأدبية وترجم لها أبو السعود أفندي، فإن نشاطها حده الجهل بفنون الصحافة، وحدته هذه الرسمية التي طغت على صفحاتها، ولم يسلم من هذه الأزمة المتوالية للصحافة الشعبية غير جريدة الأهرام فهي شيء جديد حقًّا بما حملت من برقيات الأنباء الخارجية التي زخرت بها

1 ظهرت صحف قليلة الأهمية بجانب هاتين الصحيفتين منها "شعاع الكوكب" لسليم حموي في سنة 1876م، وأغلقت بأمر الحكومة وأصدرت الأهرام في 9 سبتمبر سنة 1876 "صدى الأهرام" وهي تشبه الأهرام من حيث الموضوع وأصغر منها حجمًا وهي "يومية للتجارة والحوادث والإعلانات" وقد احتفظت مكتبة طلعت حرب باشا ببنك مصر بتسع نسخ منها، وأصدر صاحب الأهرام في نفس السنة مجلة "المنارة" نصف شهرية "بهيئة كتاب وتبحث عن الأمور التجارية والصناعية والزراعية والإخبارية والطبية والكيماوية""راجع محفوظات وزارة الداخلية، قلم المحفوظات 11 - 4 - 946 الجزء الأول" وقد تأخر صدورها إلى سنة 1878 حيث قالت جريدة الوطن في العدد الخامس عشر: "قد سرنا ما بلغنا من أن صاحب جريدة الأهرام قصد أن ينشر جريدة علمية تسمى المنارة فنهنئ حضرته على هذا المشروع الحسن".

ولا ندري أبقي أمر هذه المجلة مشروعًا حسنًا أم وضع موضع التنفيذ لأننا بحثنا عن هذا المجلة فلم نجد لها أثرًا.

ويظهر أن صاحب الأهرام أصدر في سنة 1876 جريدة أخرى من غير إذن ولم يذكر اسمها. وقال فيها محافظ الإسكندرية لناظر الحقانية والخارجية في كتابه إن صاحب الأهرام دأب على نشر جرنال "تلحيق للجرنال المذكور" بدون إذن يطلب إليه منع ذلك.

"محفوظات وزارة الداخلية -قلم المحفوظات، 11 - 2 - 949 جزء أول".

ص: 68

والموضوعات الأدبية والاجتماعية الطريفة التي ساهم في كثير منها شيوخ الكتابة في ذلك العصر كالشيخ محمد عبده1.

ولم تكن الحكومة راضية كل الرضا عن الأهرام وسياستها في سنة 1876 فلفتت نظر محررها إلى أنها كثيرًا ما خرجت عن جادة الصواب، إلا أن محرر الأهرام كان لبقًا في دفاعه إذ أكد لمدير المطبوعات أنه فيما يتعلق بالأخبار الداخلية فإنه ينقلها عن الوقائع والمونيتور وكلتاهما رسمية "أما المقالات السياسية فإنما ينقلها عن الجورنالات الشهيرة الحالية من التعصب والمقبولة من الحكومة كالليفانت هرالد والفارد الكسندرى" ثم هو يؤكد انقياده للحكومة ويذكر مدائحه لها ودفاعه عما تنشره الجرائد التي تطبع في لندن"2.

ومن كتاب صاحب الأهرام نتبين مقدار الحرية التي منحتها الصحافة الشعبية، فصاحب الأهرام يكاد يكون لسانًا للحكومة وهو مع ذلك لم ينج من المؤاخذة على ما نشر من أنباء حرصت الحكومة على عدم إفشائها في الصحف العربية، لذلك تنذر الحكومة سليم تقلا أفندي بأنه محظور عليه نشر الأخبار والمقالات السياسية بما في ذلك النقل عن الصحف الأجنبية سواء كانت حكومية أو غير حكومية ثم تحرمه حتى من التعليق على الأخبار العادية في الإسكندرية وإلا تعرضت صحيفته ومطبعته للعقوبة الشديدة3.

وفي هذا الجو من التضييق على حرية القلم تخطت الأهرام جميع العقبات بلباقة فاقت نزهة الأفكار وباجتهاد لم تبلغه وادي النيل وبذكاء أعوز روضة الأفكار وبحس صحفي نزل بصاحبيها يومًا إلى مرتبة العمال وصفافي الحروف لتصدر صحيفتهما في موعدها ولا تختفي عن قرائها4.

1 الأهرام في 2 سبتمبر سنة 1876م.

2 محفوظات وزارة الداخلية 11 - 2 - 946 جزء أول، من سليم تقلا إلى عز تلو مدير قلم المطبوعات الأفخم، الإسكندرية عام 1876م.

3 محفوظات وزارة الداخلية 11 - 2 - 946 جزء أول في 6 ديسمبر عام 1876م.

4 جورجي زيدان: مشاهير الشرق، ج2، ص101، طبعة سنة 1903م.

"من كلام تقلا بك إلى جورجي زيدان".

ص: 69