الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحافة المصرية في الخارج:
شهدت مصر في عهد محمد علي خاصة بالصحافة الرسمية، وقد اتصل إنشاء هذه الصحافة بإنشاء النظم الجديدة، وقد تطورت الصحف الرسمية بتطور هذه النظم حتى أصبحت فيما بعد ركنًا من أركان السياسة العامة أو غرضًا من أغراض الحكم، واستطاعت هذه الصحف أن تؤدي رسالتها وتحقق الأمل فيها بحيث أضحت فوائدها تغري بالاستزادة منها في مصر وخارجها، وقد ساير إنشاء الصحف الرسمية اتساع في الإمبراطورية المصرية ليس هنا محل تفصيله، غير أن يعنينا في تلك الإمبراطورية جزيرة كريت وهي إحدى الممتلكات المصرية منذ حرب الموردة في سنة 1822، وذلك لارتباط إحدى الصحف بها، فقد شهدت كريت نشاطًا صحفيًّا ملحوظًا دون ولايات الباشا المتعددة، مصدره هذا التنظيم الرائع لحياة هذه الجزيرة وسكانها، إذ أنشأ الباشا المجالس فيها "ليتم للجزيرة رخاؤها وعمرانها فتصبح بهجة الديار وموضع حسد الأمصار وغبطة الأقطار" وهو يعني بتخير رجاله القادرين على سياسة الجزيرة وأهلها كعثمان نور الدين بك رئيس الجهادية "الخبير بأصول الإدارة الأوربية" ليشرف على تكوين المجالس المذكورة من المسلمين والمسيحيين الذين ستلقى إليهم أمور البلاد الخاصة "بالأحوال الشخصية الموافقة للشرع ودعاوي الخلق ومصالحهم" ومع أن وظيفة هذه المجالس استشارية إلا أن ذلك لم يحل دون نظر أعضائها في الأمور الإدارية وكل ما يتصل بالعرف والقانون على أن تطبق "الأصول الجزئية والكلية"1.
1 محفوظات عابدين وثائق رقم457 - 460، دفتر رقم 40 معية تركي.
وقد أنشأ الباشا هذا النظام الجديد في كريت بوحي من "الأصول المصرية" ثم رأى أن يكون لهذا النظام سجل يماثل الوقائع المصرية فبعث إلى مصطفى باشا محافظ كريت يذكر له أنه "قد تقرر طبع الوقوعات الواقعة في كريد على أن تكون جهة منها تركية العبارة وجهة منها رومية اللهجة"1 وينبئه أن حروف القسم التركي "قد أعدت إعدادًا متقنا" وسترسل إليه في أقرب الأوقات غير أن الجناب العالي يبين له المصاعب الناشئة عن هذا الموضوع وخاصة الحروف الرومية إذ إنه لم يتمكن "من إعداد حروف القسم الذي سيكتب رومى العبارة" غير أن أوصى "بابتغائها وإعدادها" وهو لا يهمله حتى يرسلها عثمان بك بل يرجو من همته "أن تبحثوا عنها وتبتغوا طائفتين من الحروف الرومية المتقنة إما من تلك الديار وإما من المورة"2.
وقد يبدو أن "وقائع كريدية" كما كانت تسمى صحيفة خاصة بكريد وليس لمصر فيها سهم عملي اللهم إلا الحاكم الذي يجمع بين البلدين، بيد أن الوثائق قد أثبتت أن حروف المطبعة التركية صنعت في مصر قطعًا وإن لم يؤكد أمر الباشا السابق أن أحد البلدين قد اختص بعمل الحروف الرومية، فقد ترك الأمر للاجتهاد في الحصول عليها من مصر أو كريد أو بلاد المورة، وبجانب إعداد المطبعة وتغذيتها بالحروف أرسل من مصر "علي أفندي جام إلى كريد لخدمة الوقائع التي ستطبع فيها" كما عين "علي أفندي الفندره لي معاونًا له لاحتياجه إليه" وهو أحد موظفي الوقائع المصرية "وقد صار أخذه من غرفة الوقائع لمعرفته أصول الطبع" ثم ربط ديوان الخديوي لهذين الموظفين الراتب الذي يستحقانه سواء من القروش أو الخبز أو اللحم أو الأرز أو السمن غير اللباس في فصول السنة المختلفة"3.
1 كان الباشا يرى تسميتها شجرة زيتون، تقويم النيل، ج2، ص372.
2 محفوظات عابدين وثيقة رقم480 دفتر 40 معية تركي في 5 ربيع الآخر 1246هـ.
3 محفوظات عابدين وثيقة رقم759 ديوان الخديوي في 8 ربيع الآخر 1246هـ.
وإذن تكون الحكومة المصرية هي التي فكرت في الوقائع الكريدية وهي التي أمدت الصحيفة والمطبعة بالموظفين المصريين الفنيين وجعلت عمالها كريد في خدمتهما معًا، وبالرجوع إلى هذه الصحيفة يمكن تقرير حقيقة تثبت الآثار المصرية فيها، فوقائع كريد صورة مطابقة للوقائع المصرية ثم هي إلى جانب نشرها أخبار الجزيرة ومجالسها نقلت عن الوقائع معظم فصولها وأنبائها، وسياستها العامة مرتبطة أشد الارتباط بسياسة الوقائع من حيث النظر إلى المسائل العليا والدعاية للوالي وأعماله، وأيد ذلك العدد الرابع والثمانون المحفوظ بدار الكتب المصرية.
بدأت الصحافة المصرية في الخارج صحافة رسمية، ولم يطل أمرها؛ لأن الولايات المتحدة أو البلاد الخاضعة لمصر لم تكن حالتها الفكرية تحتمل مثل هذه الصحف التي تقتضي دواوين ومجالس، وتقتضي حياة اجتماعية نشيطة كما كان الحال في مصر وكريد، لذلك كانت "وقائع كريدية" بداية للصحافة المصرية الرسمية في الخارج ونهاية لها أيضًا، ثم انتقلت فجأة في عهد الخديوي إسماعيل إلى صحافة متطرفة يصدرها أفراد ناقمون على الخديوي ورجال حكومته ويمثل هذه الصحافة في نشأتها يهودي مصري يقال له يعقوب بن صنوع، ويعقوب كاتب يختلف فنه عن كتاب الصحف في ذلك الوقت، فهو ناقد مر النقد، قاس في أسلوبه وحواره، لا يعرف قلمه حدودًا ولا قيودًا، تتمثل فيه طبيعة المصري إذا مزح أو سخر، وفي صحيفته سجلت الشخصية المصرية في أروع مظاهرها، وقد عرفه المصريون جميعًا في المدن وفي أعماق الريف، ولم تشهد الصحافة المصرية في مصر أو في الخارج معارضًا كيعقوب بن رافائيل صنوع "أي المتواضع".
وصنوع هذا من الإسرائيليين القليلين الذين قرءوا إلى جانب التوراة الإنجيل والقرآن، وهو من الصحفيين الذين استهوتهم الفنون فتعلم في إيطاليا الرسم والنحت والموسيقى فأجادها جميعًا وكسب بها معاشه في مصر وازدلف بها إلى قصور الأمراء والباشوات حيث علمها أولادهم، وأنشأ بثقافته صلات
وطيدة مع هذه البيوتات، ثم عمل في المسرح وأعجب به الخديوي إسماعيل فسماه يومًا كما يزعم هو "موليير مصر" وله في التمثيل مسرحيات مترجمة ومؤلفة، جادة وهازلة، وقد ضمنها الملاحظة الدقيقة والسخرية اللاذعة والبسمة الطبيعية والدمعة الصادقة، وفي أثناء عمله المسرحي وجد في مصر رأيًا عامًّا يميل إلى النضج فاتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وهما قائدا هذا الرأي، وعليه درسًا اللغة الفرنسية، وكان للأفغاني رأي في إحياء الفكرة الحرة عن طريق الصحف، فاتفق الثلاثة على إنشاء صحيفة هزلية يديرها صنوع ويحرر فيها الشيخان بين آن وآن، وفيها تنقد أعمال الخديوي وتشرح تصرفات بطانته، ثم اتخذوا لها اسم "نظارته الزرقاء".
وقد صدر العدد الأول من هذه الصحيفة في مصر سنة 1877، وهي فريدة في نوعها لا في مصر وحدها بل في بلاد الشرق جمعاء، فهي نوع من الصحف لم يعتده المصريون ولم يروا له نظيرًا من قبل، وأسلوبها في أكثره دارج يجري بأمثال المواطنين وأقوال شيوخهم، وفيها لون من التصوير "الكاريكاتير" بذل في إخراجه صنوع خلاصة ما تعلمه من فن، ولقيت صحيفته الشعبية إقبالًا غريبًا واستهوت الناس من جميع الطبقات، وبلغ عدد ما طبع من بعض أعدادها خمسة عشر ألف نسخة1.
ويذكر الدكتور محمد صبري في كتابه عن تكوين الرأي العام المصري أن جريدة صنوع شغلت قراءها عن الاستماع إلى مطرب العصر أحمد سالم حين دخل بائع الصحف، فانصرفوا عن المطرب إلى قراءة الجريدة، مع أن أحمد سالم كان يترنم بأغنية من وضع أبي نظارة عنوانها "المضطهد" لقي على غنائه لها عشرة أيام في السجن2.
1 ص6 Paul Baignieres L Egypte Satirique
2 صبري هامش ص127، 128.
La Genese De L Esprit National Egyptien
وما كان يمكن أن يحتمل إسماعيل وبطانته صحافة من هذا اللون فأغلق جريدة يعقوب وعالج أمر بقائه في مصر واستطاع أن ينال موافقة إيطاليا على نفيه -وكان صنوع محتميًا بها- فسافر أبو نظارة إلى باريس حيث أصدر جريدته بأسماء مختلفة، وقد اضطر إلى ذلك بعد أن حاربتها الحكومة المصرية وحظرت دخولها إلى مصر وحرمت المصريين قراءتها، وكان صحيفته تصدر في أول الأمر باللغة العربية ثم باللغة العربية والفرنسية وقد أصدرها مرة في ثماني لغات.
كانت جريدة "أبو نظارة" أو صحيفة مصرية في الخارج ولم تعش في مصر إلا بضعة أشهر ثم مضى بها صاحبها إلى باريس حيث ينزل كل خصيم للسلطات المصرية، وهنا استطاع صنوع أن ينتج وأن يعلن إنتاجه في صراحة المطمئن إلى فنه وعمله زهاء خمسة وثلاثين عامًّا، وقد جعل خطة صحيفته "مصر للمصريين" وكانت تباع في مصر وفي غير مصر من بلاد الشرق التي رحبت بها ومنحته حكوماتها من أجلها الأوسمة والنياشين1 وقد ردها إلى اسمها الأول يوم ولي شئون الحكم شريف باشا في عهدي إسماعيل وتوفيق فكانت صحيفته توزع في مصر دون رقيب أو حسيب مع ما حملت من المعارضة القاسية والبذيئة للخديوين في بعض الأحيان.
ويمتاز صنوع في عمله الصحفي بباريس أنه كان الكاتب والمدير ومصور الجريدة وطابعها، ولم يكن هذا الصحفي المصري خاليًا من العلم بل كان رجلًا مثقفًا "شاعرًا صادق الشاعرية" قال فيه لا جازيت دو بوردو "إنه شاعر ونظرته للأمور وإن كانت مبهمة إلا أنها عميقة" وأعجبت به " The Standard" و" The Morning Post" ومجدتا سخريته المصرية البديعة، ويقول عمدتنا في تاريخه بول دوبنيير "إن له نواحي من الضعف بيد أن فيه نواحي من الجمال الحق وصفحات سامية ذات قيمة وجديرة بأن تلفت النظر" وكان أبو النظارة
1 طرازي، تاريخ الصحافة العربية، ج2، ص285 - 286.
إلى جلب عمله الصحفي أديبًا يجيد اللغة الفرنسية إجادة تامة وخطيبًا لا يشق له غبار ومحاضرًا ساحرًا، وله محاضرات مهمة هزت الرأي العام الأوربي، وخصومته ظاهرة جدًّا للإنجليز في هذه المحاضرات1.
اضطر أو نظارة إلى تغيير اسم صحيفته ثلاث عشرة مرة بسبب الضغط الشديد الذي فرضته الحكومة المصرية على صحفه سواء قبل الاحتلال أو بعده، وقد نجح بالرغم من المراقبة في تهريب بضعة آلاف إلى مصر كما بلغت عدد النسخ المهربة مرة تسعة آلاف نسخة2 وكانت أكثر الأسماء معرفة لدى القراء "أبو نظارة زرقاء" و"أبو زمارة" و"أبو صفارة"3 وكان المحرر ينشر كثيرًا من المحاورات الزجلية الطريفة التي تصور حياة مصر وتحمل على خديوها وحكومته، يقسو فيها أسلوبه أحيانًا حتى يبلغ درجة الفحش الذي تتعفف عنه أكثر الأقلام إسفافًا.
وكان بجانب هذا ينشر لونًا من النقد الاجتماعي في أسلوب معظمه عامي دارج دعا به إلى الرحلة والاستفادة منها؛ "لأن الدنيا شهوها الفلاسفة بكتاب وقالوا اللي ما خرجش من وطنه كأنه ما قرأش إلا أول صفحة فقط"، ثم يعطف الكاتب على مصر ساخرًا من تواكل أمته التي يظلمها الظالم ويقسو بها الحاكم حتى إذا كادت تموت جوعًا كان احتجاجها "لك الحمد يارب دي إرادتك".
وهكذا يستمر في نقده اللاذع الصادق وتصويره الرائع لنفوسنا واستعدادها آخذًا على مواطنيه تلك الألفاظ التي لا تزال ترن في آذاننا، ألفاظ التواكل والضعف والاطمئنان حيث لا ينبغي الاطمئنان4 ومن أهم المحاورات ما دار
1 Baignicre. P. P 9. 18-38-106-109
2 النظارات المصرية 15 - 1 - 1880 "الواد المرق ووزيره المشخلع".
3 أسماؤها على التوالي: أبو نظارة زرقاء، رحلة أبو نظارة زرقاء، أو زمارة، أبو صفارة، الحاوي، الوطني المصري، النظارات المصرية، أبو النظارة، الثرثارة المصرية، التودد، المنصف، العالم الإسلامي.
4 العدد السابع، ص2.
"في جلسة سرية في جمعية الطراطير المشهورة بالضحك على ذقون العالم" وهي تصور مداولات نظارة ذلك العهد، وأظهر ما في هذه الجلسة حملته على المفتي واتهامه بالإثراء من الرشا، ثم يعجب لتدخل دول أوربا الصغيرة والكثيرة في شئون مصر حتى استأسد ملك إيطاليا "وهو ابن إمبارح اللي لسة ما طلعش من قشرة البيضة".
وصحف أبي نظارة وإن كانت اللغة العامية تستغرقها إلا أن بعض أعدادها لم تخل من مقالات عربية فصيحة في أسلوب مسجوع بيد أن غير ممل لأهل ذلك الزمن وخاصة العامة منهم الذين ربما لا يفهمون منه شيئًا ولكنه يرن في آذانهم فيشنفنها ويملؤهما رضاء وأمنًا، مثال ذلك رسالة "الشفعاوي المحترم". التي يتهم فيها "شيخ حارة وادي النيل" بالظلم والعدوان ويحمل عليه في مقالات متتابعة استغرقت عدد أعداد منها1، وأهم صحفه أربع، الأولى "النظارات المصرية" وهي جريدة "تاريخية علمية تحرير مصر وإسكندرية" والثانية جريدة "أبو صفارة" وهي جريدة "هزلية أسبوعية لانبساط الشبان المصرية يحفظهم رب البرية من المظالم الفرعونية منشئها محب الاستقلال والحرية" ثم جريدة "الحاوي الكاوي اللي يطلع من البحر الداوي عجايب النكت للكسلان والغاوي ويرمي الغشاش في الجب الهاوي" وأخيرًا جريدة "أبو زمارة" ولولا تغيير الاسم الذي فرضه تضييق الحكومة المصرية في دخولهاه إلى البلاد واحتيال صاحبها بهذا التغيير على تحقيق مأربه لظن القارئ أنه يقرأ صحيفة واحدة منسجمة الأفكار متسقة الصور سواء ماكان منها في المعاني أو الرسوم الكاريكاتورية البديعة.
وقد أصدر يعقوب إلى جانب صحفه الهازلة صحيفة جادة في لندن سماها "مرآة الأحوال" وهي رجع الصدى لما في صحيفته الباريسية من الحدة والعنف غير أن موضوعاتها أكثر اتزانًا من حيث الدراسة العلمية للمسائل السياسية
1 رحلة أبي نظارة زرقاء، العدد الرابع.
ومن حيث الأسلوب العربي الفصيح، وأكبر الظن أن هذه الصحيفة كانت مجالًا لأصدقائه في مصر المتبرمين من الخديوي وشيعته، ولم تعمر هذه الصحيفة طويلًا إذ وقف نشاطه على صحيفته الهزلية فكانت عليه أجدى وهو بها جدير.
كان يعقوب بن صنوع أول مصري ينشئ صحيفة حرة في الخارج، وقد ضرب المثل الطيب في نجاحه واستأثر بإعجاب المصريين، وقد بقي وحده في فرنسا إلى أن زامله أديب إسحاق في عهد الخديوي توفيق، فقد أغلقت صحيفتاه "مصر" و" التجارة"1 بقرار وزاري، وكان أديب إسحاق من أنصار شريف باشا والوطنيين خصوم رياض باشا ناظر النظارة فأوعزوا إليه بالسفر إلى فرنسا والاقتداء بيعقوب بن صنوع وكلفوه نشر صحيفته في باريس حيث تكون لسان حالهم على أنه يتكفلوا هم بتوزيعها في مصر، وقد استطاع تحقيق رغبتهم وتمكن أصدقاؤه من توزيعها بالرغم من سلطان رئيس الحكومة وعيونه من رجال
الإدارة2.
طبعت صحيفته "مصر القاهرة" في "باريس تحت سماء الحرية" لنشر "ما يعود بالنفع على البلاد العربية، وهي جزء متمم لجريدة مصر التي كان يصدرها في القاهرة من حيث الغاية والتقدير للأمور المصرية في أسلوبه الممتاز حقًّا الغني بالجمال الفني المملوء بروح الكفاح، وهو يعلن خطتها في قوله: "أروم مقاومة الباطل ونصرة الحق والمدافعة عن الشرق وآله وعن الفضل ورجاله، وأوضح معايب اللصوص الذين نسميهم اصطلاحًا "أولى الأمر" ومثالب الخونة الذين ندعوهم وهمًا "أمناء الأمة" ومفاسد الظلمة الذين نلقبهم جهلًا "ولاة النظام" ومقصدي أن أثير بقية الحمية الشرقية وأهيج فضالة الدم العربي وأرفع الغشاوة عن أعين الساذجين، وأحيي الغيرة في قلوب العارفين، ليعلم قومي أن لهم حقًّا مسلوبًا فيلتمسوه ومالًا منهوبًا فيطلبوه،
1 الوطن في 22 نوفمبر 1879.
2 John Ninet: Arabi Pacha p. 38
وليخرجوا من خطة الخسف وينبذوا عنهم كل مدلس يشتري بحقوقهم ثمنًا قليلًا، ويذيقوا الخائنين عذابًا وبيلًا، وليستصغروا الأنفس والنفائس في جنب حقوقهم وليستميتوا في مجاهدة الذين يبيعون أديانهم وأموالهم وأوطانهم وآلهم .. " إلى أن يقول:"فمن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن عاش بعد هؤلاء الشهداء فهو سعيد"1.
وتستغرق حدة المزاج هذا الأسلوب كما تظهر خطة الجريدة واضحة صريحة، فقد وقف الكتاب قلمه على إثارة "الحمية الشرقية وإهاجة فضالة الدم العربي" وهو يرى الشرق كله جزءًا واحدًا ويسمى أهله "قومي" وهي نظرة كانت تراها مصر بأسرها في ذلك الوقت وينادي بها كثير من آبائها وساستها وصحافتها، بيد أن أسلوبه هنا كان أروع وأبلغ الأساليب المصرية التي رأيناها في صحافة مصر جميعًا، فقد صدمتنا بعض صحف ذلك العصر بلفظها الحوشي وعباراتها الغريبة، ولا يقاس أسلوبها مهما يرتفع بأسلوب أديب في فرنسا، وهو أسلوب واضح لا ركاكة فيه صحيح العبارة مستقيمها.
وعلى القدر الذي تستمتع به هذه الجريدة من حيث الأسلوب والمعاني فهي تمتاز بالحرية في باريس، فقد فضت تحمل على رياض باشا حملات شديدة، قاسية، ولقيت الدول الأوربية من قلمه شدة وعنفًا دون أن يكبوا بلفظ خارج عن الأدب الصحفي وإن لم يخذله هذا القلم مرة واحدة بل روضه صاحبه على أمور ثلاثة: مهاجمة حكومة رياض والحملة على الدول الأجنبية ثم الدفاع عن القضية الشرقية، ولم يطل عهد صحيفة مصر القاهرة فقد صدرت شهرية في أول الأمر ثم أصدرها صاحبها أسبوعية، وبذلك فيها أديب من روحه وقوته بذلًا أضناه، فقد كان يحررها ويكتب صحفها جميعًا، ويكتبها بخط يده أو بخط مساعده عبد الله مراس وهو على شيء من الاستعداد
1 مصر القاهرة، العدد الأول، 1880.
الأدبي وجمال الخط، ثم يطبعها وزميله على الحجر كما كان يصنع يعقوب بن صنوع من قبل1 وقد أدى هذا الجهد المتصل إلى مرض صاحبها ثم تهيأت الظروف له بولاية شريف رياسة الحكومة فعاد إلى مصر وواصل عمله الصحفي بجانب إحدى الوظائف المهمة التي ألقيت إليه.
وقد دعا الخديوي إسماعيل صديقه إبراهيم المويلحي إلى نابولي ثم أمده بالمال لينشئ صحيفة "الخلافة" سنة 1879 تذود عنه وتدافع خصومه وتندد بالأجانب وأعمالهم في مصر2 ويمضي إبراهيم المويلحي على خطا صنوع فينشئ صحيفتي "الأنباء" و"الرجاء" في باريس وإن لم تعمر طويلًا أو يكون لهما ما كان "للخلافة" من شأن.
لم تعش إذن من الصحف في الخارج إلا صحيفة أبي نظارة، بينما كانت الأحداث في مصر تتردى والأمور فيها تزداد حرجًا وتشهد البلاد حربًا تنتهي باحتلال الإنجليز لها وإعدام بعض زعمائها وسجن البعض الآخر، وكان بين هؤلاء السجناء الشيخ محمد عبده الذي رأت المحكمة نفيه فمضى إلى سورية وبقى فيها سنتين، وكان صديقه وأستاذه السيد جمال الدين الأفغاني بعيدًا عن مصر غير أنه سافر إلى أوربا في سنة 1884 فأرسل إلى الأستاذ الإمام كتابًا يدعون فيه إلى السفر في أعقابه3 والتقى الاثنان في باريس وهناك دار بخلدهما إصدار جريدة "العروة الوثقى".
وتذكر "صحيفتنا" أن "مدير سياستها السيد جمال الدين الأفغاني ومحررها الأول الشيخ محمد بن عبده" ويبدو في افتتاحية العدد الأول أن الاتجاه الديني فيها يغلب كل اتجاه آخر "فإن رابطتهم الملية "يقصد المسلمين" أقوى من روابط الجنسية واللغة" وإذا كان الدين في العروة الوثقى له المكان الأول
1 طرازي، ج2، ص258.
2 الرافعي: عصر إسماعيل، ج1، ص272، والإسلام والتجديد في مصر ص32، والمنار، ج22، ص710.
3 تاريخ الأستاذ الإمام، ج1، ص282.
فإن محرر الجريدة لا ينسى وطنه إذ إن "الفجيعة بمصر حركت أشجانًا كانت كامنة، وجددت أحزانًا لم تكن في الحسبان وسرى الألم في أرواح المسلمين سريان الاعتقاد في مداركهم" وهو يخلص من وصف هذه الآلآم إلى تحذير الإنجليز وترويعهم "ولا نأمن أن يصير التنفس -يقصد تنفس المسلمين- زفيرًا بل نفيرًا عامًا بل يكون صرخة تمزق مسامع من أصمه الطع".
ويتحدث المحرر عن منهج الجريدة وخطتها مبينًا أنها "ستأتي" في خدمة الشرقيين على ما في الإمكان من بيان الواجبات التي كان التفريط فيها موجبًا للسقوط والضعف وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارك ما فات، والاحتراس من غوائل ما هو آت" ثم تلتفت الكتاب إلى طبعة الموسرين فيفرض على الجريدة "أن تكشف الغطاء ما استطاعت عن الشبه التي شغلت أوهام المترفرين ولبست عليهم مسالك الرشد وتزيح الوساوس التي أخذت بعقول المنعمين حتى أورثتهم اليأس من مداواة علاتهم وشفاء أدوائهم" وتعني العروة الوثقى أشد العناية بدفع ما يتهم به الغربيون الشرقيين عامة المسلمين خاصة ثم "تراعي في جميع سيرها تقوية الصلات العمومية بين الأمم وتمكين الألفة في أفرادها وتأييد المنافع المشتركة بينها والسياسات القويمة التي لا تميل إلى الحيف والإجحاف بحقوق الشرقيين".
وسياسة "العروة الوثقى" سياسة عالية إن صح التعبير، فقد أبت إلا في النادر أن تمس شخصيًّا من الأشخاص مهما يكن بينها وبينه من سخيمة أو موجدة وهي وإن اضطرت إلى الحملة على فرد من الأفراد لا تسف إسفاف زميلتها "أبي نظارة" بل تحمل في أسلوب عف ومنطق سليم، لذلك كانت العروة الوثقى إرثًا أدبيًّا لمصر لا ينكر فضله، وإن ما كتبه فيها الأفغاني والأستاذ الإمام يعتبر في ذمة التاريخ أفضل ما كتب عن مصر والسودان من وجهة النظر المصرية، وهي تمتاز بغنى تفكيرها وإخلاصها في الدفاع وصدق عاطفتها وحرارة بيانها كما تميزت بالمعاني الاجتماعية والسياسية الرفيعة، وقد أثر الزمان والمكان في الكاتبين العظيمين فكان إنتاجهما فيها خير ما عرف عنهما من إنتاج
وقد أجمع المؤرخون على أن العروة الوثقى اتخذت سياسة العنف مع إنجلترا، ونحن لا ننكر على هؤلاء المؤرخين هذه الحقيقة، فقد كان مقاصد العروة الوثقى الجامعة الإسلامية ثم الرابطة الشرقية وأخيرًا المسألتين المصرية والسوداني، وقد ذكرت الجريدة في غير موضع أن حل المسألة المصرية برمتها مرجعه أولًا إلى الدولة العثمانية صاحبة الحق الشرعي في مصر وإن كان أمر مصر يهم الدول الأوربية جميعًا خاصة فرنسا ثم روسيا التي يعتمد المصريون عليهما في تحقيق أمانيهم واستقلالهم، وهي مع ذلك ترى أن صداقة الإنجليز أمر لا بد منه لوجود قنال السويس في طريق الهند، وهي تقرر أن الإنجليز أمة طامعة بيد أنها ليست من السوء بحيث لا تجوز معها صداقة فإن الإنجليز يراعون طبيعة العمران وتطور الزمان1.
وقد أخذ على العروة الوثقى تطرفها الديني ولكنها دافعت في عددها الثامن عن وجهة نظرها وأبت أن تقر خصومها على وصفها بالتعصب الديني، فذكرت أنها بدفاعها عن المسلمين أحيانًا لا تقصد الشقاق بينهم وبين من يجاورهم من البلاد ويتفق معهم في المصالح ويشاركهم المنافع أجيالًا طويلة، وإنما غرضهما من هذه الحماسة المتدفقة تحذير الشرقيين عامة والمسلمين خاصة من الأجانب الذين يفسدون في بلادهم، وإن الجريدة إنما تخص المصريين بالذكر أولًا لأن الأجنبيين غدروا ببلادهم وأذلوا أهلها واستأثروا بجميع خيراتها2 ومحرر "العروة الوثقى" أبعد الناس عن التعصب الديني وله في المواقف المأثورة فإنه صديق لكثير من المسيحيين لا يفرق الدين بينهم في المصالح الوطنية، فقد بنى صداقة وطيدة مع أديب إسحاق ويبدو ذلك واضحًا وهو ينعاه في العروة الوثقى، وكذلك أقام علائق الود مع يعقوب بن صنوع وقد ذكرنا ذلك من قبل، وقد دافع عن بطرس باشا غالي يوم
1 تاريخ الأستاذ الإمام، ج1، ص331 - 332.
2 العروة الوثقى في 18 رجب 1301هـ، 15 مايو 1884.
طعنت فيه بعض الجرائد المصرية ونسبت إليه العصب للقبط في بعض أعماله وكان الأستاذ يومئذ منفيًّا في سوريا1.
ثم هو يعني في جريدته بالمسألة الشرقية وهي تجمع بين المسلم وغير المسلم، وكل ما كانت ترجوه العروة الوثقى إعادة الحكم الإسلامي والنظم الدينية إلى ما كانت عليه من الطهارة والعدل والكمال في عصورها الأولى بتأسيس حكومة إسلامية على قاعدة الخلافة الراشدة في الدين وما تقتضيه حالة العصر لمجد الإسلام في أمور الدنيا، ويتبع هذا إنقاذ المسلمين وغيرهم من الشرقيين من الاستعمار وذله، ومن أهم أغراض العروة الوثقى إنقاذ مصر من الاحتلال والسودان من الفوضى2.
وقد استقبلت العروة الوثقى في البلاد الإسلامية أحسن استقبال، ولا عجب في ذلك فإن لصاحبها في عالم الدين والأدب والسياسة القدر المعلى، وقد أحس خطرها الإنجليز قبل صدورها، وهاجت لفكرتها صحافتهم، وفي ذلك تقول الجريدة في العدد الخامس "عزمنا على إنشاء جريدتنا هذه فعلم بذلك بعض محرري الجرائد الفرنساوية فكتبوا عنها قبل صدورها غير مبيني لمشربها ولا كاشفين عن حقيقة سيرها فلما وقف على الخبر محررو الجرائد الإنجليزية المهمة أخذتهم الحدة، وأنذروا حكومتهم بما تؤثر هذه الجريدة في سياسة الإنجليز ونفوذها في البلاد الشرقية، وألحوا عليها أن تعد كل وسيلة لمنع الجريدة من الدخول في البلاد الهندية والبلاد المصرية بل تطرفوا فنصحوها أن تلزم الدولة العثمانية بالحجر عليها"3.
وقد نجحت فعلًا السلطات الإنجليزية في منعها من دخول الهند ومصر، أما الأخيرة فقد ذكرنا تفاصيل ذلك في فصل سابق4 وقد ذكرت خطتها
1 الأستاذ الإمام، ج1، ص289.
2 العروة الوثقى 22 جمادى الآخرة 1302هـ.
3 العروة الوثقى 10 أبريل 1884.
4 الوقائع المصرية 15 مايو 1884.
نحو مصر بهذه المناسبة قائلة "هذه جريدة قامت بالدفاع عن المصريين والاستنجاد لهم ولها سعى بل كل السعي لخيبة آمال أعدائهم ولا ترى من مشربها مدح زيد ولا القدح في عمرو فإن المقصد أعلى وأرفع من هذا، وإنما عملها سكب مياه النصح على لهب الضغائن لتتلاقى قلوب الشرقيين عمومًا على الصفاء والوداد، تلتمس من أبناء الأمم الشرقية أن يلقى سلاح التنازع بينهم ويأخذوا حذرهم وأسلحتهم لدفع الضواري التي فغرت أفواهها لالتهامهم.
وتتحدث عن السياسة الداخلية فتطلب الانصراف عنها مؤقتًا، ومن رأيها "أن الاشتغال بداخل البيت إنما يكون بعد الأمن من طروق الناهب، هذا منهاج العروة الوثقى علمه كل مطلع على ما نشر فيها من يوم نشأتها إلى الآن فكيف يخطر ببال عاقل أن شرقيًّا مسلمًا أو غير مسلم يميل لحجبها عن دياره؟
ولكننا نعلم أن حركات الآمرين في القطر المصري هذه الأيام قهرية لا يخالطها شيء من الاختيار والمدبر لرحى القهر عليهم هم عمال الإنكليز" إلى أن تقول: "ولا نريد أن نقول للإنكليز إنهم ظلموا في هذا الحكم فإن الجريدة لم يوجد فيها إلى الآن ما يزيد على ما تنشره الجرائد الوطنية والأجنبية" ثم تختم حديثها بقولها "فلا غرابة في صدور مثل هذا الجور منها غير أننا نعلن لها أن همم الرجال لا تقعدها أمثال هذه المظالم وليس يعجزنا إدخال هذه الجريدة في كل بقعة تحوطها السلطة الإنكليزية، ذلك بعزائم أولي العزم الذين قاموا بإنشاء العروة الوثقى"1.
نقلنا فقرات طويلة مما أذاعته "العروة الوثقى" بعد مصادرتها في مصر لنبين منها خطر الصحيفة من حيث نظر السلطات إليها ولنجمل فيها بعض غاياتها التي تخللت سطورها وهي تنطق بكراهيتها للتعصب وبعدها عنه، ثم توضح ترفعها عن التحدث في الشخصيات وإكبارها لنفسها من أن تسف إلى هذا الدرك، غير أن "العروة الوثقى" تتطرف في حملتها على الحكومة
1 العروة الوثقى 22 مايو 1884.
المصرية عقب القرار الخاص بمصادرتها وتدعو علانية إلى وسائل العنف وتتمنى أن يكون بين المصريين من يستطيع ولو بأقسى الوسائل إبطال هذه الصفقة ونقض هذه البيعة -وهي تقصد صفقة القرض التي كان يتفاوض فيها نوبار باشا- ويكشف لهذا الوزير "وللمغرورين أمثاله حقيقة الوطنية ويرفع الحجاب عن واجبات الملية لا حول ولا قوة إلا بالله، إن المولعين بحب الحياة يقضونها من خوف الذل في ذل ويعيشون من خوف العبودية في العبودية ويتجرعون مرارًا سكرات الموت في كل لحظة خوفًا من الموت، لا الدين يسوقهم إلى مرضاة الله ولا الحمية الوطنية تدفعهم إلى ما به فخار بني الإنسان"1.
وهذا لون من المعارضة التي قل مثيلها في أعدادها جميعًا، وقد صدر من العروة الوثقى ثمانية عشر عددًا بلغ فيها أدب الشيخ محمد عبده الذروة من حيث قوة العبارة وروعة الأسلوب ودقة المعنى، وقد أفلت في 26 ذي الحجة عام 1301 الموافق 26 أكتوبر 1884 وعاد بعدئذ الأستاذ الإمام إلى مصر وشغل بعض المراكز الكبيرة كنصب الإفتاء أو التدريس في الأزهر أو المساهمة في المجالس النيابية.
لم يعد للصحافة المصرية في أثر من في الخارج إلى صحيفة يعقوب بن صنوع ولم يكن له أي أمل في العودة إلى بلاده فكانت صحفه وثيقة اتهام له، سواء أمام الاحتلال أو الحاكم الشرعي لمصر، وقد أتيح للصحافة ورجال الرأي في مصر من الحرية ما سمح لها ولهم بالحياة والتقدم ولم يكن هناك داعٍ؛ لأن يقوم جهاد الوطنيين على صحف تصدر في الخارج.
وبعد ثمانية وعشرين عامًا من اختفاء "العروة الوثقى" اضطر محمد فريد بك رئيس الحزب الوطني وكان طريد السجن السياسي أن يكافح من أجل مصر في خارج مصر، فقد غلقت صحف الحزب الوطني جميعًا وطورد رجاله واشتدت السلطات في التضييق على حرية الرأي والكتابة، وأخيرًا نزل محمد
1 العروة الوثقى في 5 يونيو 1884.
فريد مدينة جنيف، وفي أثناء إقامته هناك تعرف ببعض الشرقيين من الأحرار الذين لقوا مثلما لقى هو من العنت والاضطهاد، فاجتمعوا جماعة واحدة في 19 ديسمبر 1912 واقترح عليهم رئيس الحزب الوطني المصري تأسيس جمعية باسم "جمعية ترقي الإسلام" وقوبل اقتراحه بالتأييد وأخذ هو يضع لائحتها التي تنظم أغراضها وتوضح اتجاهها، وكانت الغاية في إنشاء هذه الجماعة تقوية روابط التضامن بين الشعوب الإسلامية وتغذية النهضة السياسية فيها والعناية بالنواحي الاقتصادية في بلاد تلك الشعوب، واتخذت الجماعة مدينة جنيف مقرًّا لها، ثم رأت أن لا بد من صحيفة تعبر عن أغراضها وتكون لسانًا لنشاطها فأصدرت الجماعة صحيفة فرنسية باسم Bulletin de la 8ociete End Jouman Terekki- Islam (Progres de L Islam
وكان صدور هذه الصحيفة في شهر مايو من سنة 1913 وقد بحثت هذه المجلة في الشئون الشرقية عامة والعالم الإسلامي خاصة سواء ما اتصل بأمور السياسة أو الاقتصاد أو الدين، وهي من حيث اتجاهها تشبه كثيرًا مجلة "العروة الوثقى" وتمتاز عليها من حيث كثرة محرريها ومن انضم إلى إنشاء الفصول الرائعة فيها كالمستر "بلنت" صديق المصريين منذ عهد العرابيين، ومسيو بيير لوتي وكلود فارير " Claude Farrer" الأديبين الفرنسيين الكبيرين وغيرهما من كبار الأساتذة الفرنسيين، وقد ظلت الصحيفة تحمل طابعها وتذيع آراء هؤلاء الرجال حتى أقبلت الحرب العظمى فتوقفت عن الصدور، ولكن في خلال تلك الحرب أصدر محمد فريد بك في جنيف مجلة أسبوعية باللغة الفرنسية تخصصت لشئون مصر وحدها سماها Fcho de L Egypte غير أن الحكومة السويسرية رأت فيها حدة لا تتفق مع مركزها الدولي كأمة محايدة فأبت استمرارها بحدة منافاتها للحياد، ومن ثم أغلقت الجريدة بعد صدور العدد الثاني منها1:
1 الرافعي: محمد فريد، ص341، 393.
وقف نشاط الصحافة الوطنية في مصر والخارج بوقف "مجلة جمعية ترقي الإسلام" عن الصدور، ووقف النشاط في مصر بإعلان الأحكام العرفية التي حدت من الحرية الضئيلة الباقية الصحافة المصرية، ووقف النشاط في الخارج بوفاة عميد تلك الصحافة يعقوب بن صنوع سنة 1912 بعد أربع وثلاثين سنة من كفاح متصل لا يهون ثم باحتجاب صحيفة "صوت مصر" أخيرًا في سنة 1914.
واستمر النشاط الصحفي محجورًا عليه في مصر والخارج خلال الحرب العالمية الماضية ثم قامت الحركة الوطنية في مصر سنة 1919 واستمرت الصحافة بين التضييق والتيسير، ولم يكن هناك محل لصحف مصرية تصدر في أوربا وقد بدأت حياة مصر تستقر في الداخل، لولا أن مصريًّا له تاريخ في الحزب الوطني القديم أنشأ صحيفة في جنيف بعد الحرب العظمى هو الشيخ على الغاياتي.
والشيخ الغاياتي هو صاحب كتاب "وطنيتي" ولهذا الكتاب تاريخ في الحركة الوطنية قبيل الحرب العظمى فقد كان الشيخ محررًا في "اللواء" في سنة 1910 فأخرج في يوليو من السنة المذكورة ديوانًا من الشعر أسماه "وطنيتي" احتوى تأريخ شعري لحوادث مصر خلال عامين، وكتب رئيس الحزب الوطني محمد فريد ورئيس تحرير "اللواء" الشيخ عبد العزيز جاويش مقدمة لهذا الكتاب، ولم يكن في الكتاب شيء يستحق المؤاخذة ويستدعي المقاضاة؛ لأن قصائده نشرت جميعًا في الصحف السيارة غير أن في الكتاب قصيدة عن الشيخ علي يوسف وجريدته "المؤيد" حمل الشاعر عليهما فيها حملة قاسية، فنشرت "المؤيد" بضعة أنهر عن هذا الكتاب وفيها دعوة خفية إلى النيابة بالقبض على الغاياتي ومن صدر له ديوانه1 وتحقق ما دعت إليه "المؤيد" واستجابت النيابة العامة إلى الدعاء، فصادرت الكتاب ومضت تحقق مع مؤلفه وأقامت الدعوى العمومية على محمد فريد وهو في خارج مصر وعلى الشيخ
1 منبر الشرق في 6 مايو 1938.
جاويش بحجة أنهما يدعوان إلى الجرائم السياسية ويحبذان ارتكابها ويحضان على إهانة الهيئات الحكومية ثم إحالتهما إلى محكمة الجنايات فقضت عليهما جميعًا بالسجن مددًا متفاوتة1 بيد أن الشيخ الغاياتي استطاع أن يهرب من سجنه إلى الأستانة ومنها إلى جنيف حيث استوطن ذلك البلد زهاء سبع وعشرين سنة.
وأصدر الشيخ الغاياتي جريدة عربية فرنسية في جنيف سنة 1922 وهو يحدثنا بعد عودته إلى مصر عن تاريخ هذه الصحيفة التي أعوزتنا أعدادها في المكاتب العامة فيقول: "صدر العدد الأول من هذه الجريدة -اسمها بالعربية "منبر الشرق" وبالفرنسية " La Tribune d orient" في جنيف يوم الأحد 5 فبراير عام 1922 "9 جمادى الثانية 1340هـ" وعاشت هناك ما يقرب من ستة عشر عامًا، وكان بها في أول عهدها بجانب القسم الفرنسي صفحة عربية كثيرة المتاعب كبيرة النفقات ثم رأى الاكتفاء باللغة الفرنسية وهي لغة البلاد التي تصدر فيها والأوساط التي نريد مخاطبتها، وقد نمت وترعرعت وانتشرت في الشرق والغرب وبات لها ذكر حسن واسم معروف وخاصة في مركز جمعية الأمم التي عملت فيه ما استطاعت على خدمة مصر والشرق والإسلام، ويرجع الفضل في نجاحها كما يقول صاحبها إليه وإلى بعض البيوتات التجارية في جنيف التي أمدته بإعلاناتها، ثم يحمل على المصريين البخلاء ذوي المال والجاه الذين "لا يزالون مدينين لهذه الجريدة" ثم يمضي في تأريخه لها قائلًا: "وقد صدر آخر عدد من "منبر الشرق" في جنيف يوم الأربعاء 26 مايو عام 1937 "26 ربيع الأول سنة 1356هـ" وكانت خطة الجريدة كما يقول صاحبها العمل على أن يكون "الشرق للشرقيين"2 ومجمل القول في "منبر الشرق" إنها ختمت حياتها في جنيف عام 1937 وعادت إلى الظهور في القاهرة بعيدة عن جميع الأحزاب في سنة 1938.
1 المؤيد في 4 يوليو 1910.
2 منبر الشرق في 6 مايو 1937.
وفي سنة 1933 أصدر الدكتور محمود عزمي صحيفة في لندن سماها "العالم العربي The Arabic World" على أن تكون صحيفة أسبوعية غير أنه جعلها شهرية ابتداء من العدد الثاني، وقد تضمنت أعدادها المختلفة إشارة إلى اتجاهها فهي ترنو إلى تنوير الرأي العام الإنجليزي وشرح المسائل الشرقية المعقدة شرحًا مفصلًا لعل هذه البحوث تقيم علاقات من الود والصداقة بين الشعب الإنجليزي وشعوب الشرق المختلفة، وقد تناولت بعض أعدادها المسائل الاقتصادية والتجارية والاجتماعية في جميع الدول العربية، وكان لها مكاتبون في عواصم الشرق المتباينة ونشرت أحيانًا بعض القصص بأقلام مصرية أو أجنبية، وتعتبر مجلة "العالم العربي" مثالًا رائعًا للذوق السليم من حيث شكلها وإخراجها فقد حفلت بالصور الواضحة لرجال الشرق المشهورين كما احتوت أعدادها على بعض الصور الكاريكاتورية.
وقبل أن نختم هذا الفصل نسجل أنه بعد نحو خمس وأربعين سنة من صدور جريدة "العالم العربي" التي أنشأها محمود عزمي في مدينة لندن، ظهرت صحف معارضة في لندن وباريس وغيرهما من الأمصار.
ولم تسعفنا الظروف للاطلاع على هذه الصحف لنوجز سيرتها ونزن مقامها، لذلك لا أملك التأريخ لها وخاصة أنها تصدر في أيام نعيشها والحكم عليها لا يتفق وعقيدتي بأن التأريخ الصحيح الخالي من الغرض والحيدة لا يكتب وأصحابه أحياء.
وختامًا لهذا الفصل أذكر أن الصحف المصرية التي صدرت منذ ظهرت الصحف المعارضة في الخارج حتى مجلة عزمي كان معظمها يتجه اتجاهًا شرقيًّا دينيًّا وهو سمة اجتمعت عندها جميع الصحف المصرية التي صدرت في الخارج فيما خلا صحف يعقوب بن صنوع وصحيفة محمود عزمي فكانت صحفًا مصرية حقًّا بمعانيها وروحها، ولهذه الصحف أثر مشكور في تعريف الأجانب بالشرق وبمصر خاصة، وفي ذلك من الدعاية للحركة الوطنية ما قوم رأي الكثيرين من الأجانب الحاملين على مصر ورجالها، وهذه الصحف جميعًا تتفق في
الحملة على الاحتلال الإنجليزي، ولذلك أثره في تحرز الإنجليز وتحفظهم في معالجة أمور المصريين وتقدير النتائج ووزنها إذا كشفت أمور الاحتلال في الخارج، وهي صحف قادرة على الرواية الصريحة التي لا يقف دونها قانون المطبوعات في باريس أو لندن أو جنيف، وقد استطاعت هذه الصحف على قلتها وعلى اختلاف نزعاتها أن تكتب لها في تاريخ الصحافة المصرية بابًا من أفضل أبوابها وأكثرها روحًا وحياة.