الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحافة بعد الاتفاق الودي:
أصبح الاتفاق الودي في سنة 1904 عاملًا من العوامل الأساسية في تغيير الاتجاهات الصحفية وتنكب أصحاب الأقلام فيها عن سياستهم الأولى، فقد كانت نتيجة هذا الاتفاق فنور الحماسة الوطنية في نفوس الكثيرين، وقد فترت معها شدة معظم الصحف الوطنية "فالمؤيد" لانت سياسته و"الأهرام" التزمت جانب الحياد إلى حين، ولم تمض في سياستها الأولى إلا "اللواء" فقد أبت إلا أن تبلغ بهذه الأزمة القاسية ذروتها من حيث الجهاد الرائع واستكمال عناصر الوطنية وتوحيدها في نفوس المصريين، فبدأ مصطفى كامل يغذي في المصريين وطنيتهم ويحاول بمقالاته أن يحتفظ بحماستهم بالرغم من الخيانة الفرنسية للأماني المصرية، وذلك في وقت هزت الصدمة كبار الرجال وأذلت أعناقهم كما يقول، واتجه مصطفى كامل في لوائه اتجاهًا جديدًا، فالأمم الأوربية جميعًا، سواء في استعمارها، وهذه حقيقة -كما يقول- يجب أن يعرفها المصريون وتستلزم منهم الاعتماد على أنفسهم، وبولندة وأيرلندة أحسن مثلين لهم في الكفاح والحرص عليه1.
ولعل الفترة التي سبقت الاتفاق الودي كانت تحمل سيرة المؤيد واللواء معًا وكان "اللواء" على الجهد المبذول في تحريره وإخراجه لا يستطيع بلوغ ما كان عليه "المؤيد" من الذيوع والانتشار، فالمؤيد صحيفة إسلامية قديمة لها خطرها وقدرها في حياة المصريين والشرقيين جميعًا، وظهور "اللواء" لم يحد من نشاط "المؤيد" أو يحول دون قدره في نفوس الجماهير؛ لأنه لم يشبه
1 اللواء في 18 أبريل و25مايو سنة 1904، وفي العدد الأخير حملة على رياض باشا؛ لأنه مدح كرومر في احتفال مدرسة محمد علي الصناعية.
الشوائب ولم تؤخذ عليه المآخذ غير أن صاحب "المؤيد" انحرف بعض الشيء واستطاع الاحتلال أن ضمه إلى جانبه واحتفى به الإنجليز يوم زار بلادهم وقال في عاصمتهم كلمته المشهورة "إن لوندرة كعبة المصريين السياسية" ففقد بذلك جزءًا كبيرًا من عطف المصريين والأتراك معًا، وبدأت صحيفته تهوى وأخذ "اللواء" يتقدم عليها، ثم جاء الاتفاق الودي فكان فاصلًا في تاريخه إذ كان موقفه منه موقفًا هينًا فاترًا.
وكانت خاتمة "المؤيد" كمنازع لجريدة "اللواء" ومنافس له، واضحة بعد قضية صاحبه المشهورة بقضية الزوجية، وهي قضية عامة كان للعنصر الشخصي جانب كبير فيها وكان للسياسة جانب آخر، كما كان للحياة الاجتماعية أثر في تكييفها وتحليلها، ونال الصحافة منها في الدوائر الشعبية والرسمية حظ موفور، أما العنصر الشخصي في هذه القضية التي شغلت مصر وصحافتها فهو أن الشيخ علي يوسف رأي أن يتزوج ابنة السيد عبد الخالق شيخ السادات الوفائية، ورأت السيدة هذا الرأي، فانعقد عزمهما على إتمام هذا الزواج دون علم شيخ السادات الذي عراض الفكرة أشد المعارضة، وتم العقد كما يقضي بذلك الشرع، غير أن والد العروس أبى الواقع وثار عليه فأقام الدعوى أمام المحكمة الشرعية ليحال بين ابنته وبين زوجها؛ لأنها دونها في النسب والحسب ولأنه يمتهن مهنة لا يكرم بها صاحبها1.
هذا هو ملخص القضية التي أصبحت قضية عامة، وكانت معظم الصحف المصرية والرأي العام في جانب شيخ السادات، وكان اللورد كرومر والحكومة المصرية في جانب الشيخ علي يوسف، وهي صورة مناقضة لقضية "التلغراف" الصحفية المشهورة، وحاولت الحكومة أن تحول دون فصل الزوجين وتنفيذ قرار القاضي، وكاد قاضي القضاة يثير أزمة حادة في دوائر القضاء، ويقف القضايا الشرعية جميعًا ويغلق أبواب المحكمة لولا أن الحكومة نزلت عند أمره وحالت بين الزوج وزوجته إلى أن يفصل في القضية2.
1 يقصد مهنة الصحافة، وهي اليوم أشرف مهنة ولها كليات ومعاهد.
2 الشباب، العدد الثالث في 1936.
هذه القضية مزاج غريب من الحياة الاجتماعية والسياسية فإن حادث الزواج وأسلوبه فضيحة في نظر الرأي العام إذ ذاك بل هو فضيحة في نظر الرأي العام في أيامنا الحالية وإن كانت شرائط العقد قد تمت على الصورة التي يقرها الشرع والدين، ولم تجرؤ صحيفة عربية من الصحف الموالية للاحتلال على الدفاع عن الأسلوب الذي اتبعه الشيخ في قرانه من ابن السادات، ولم تتدخل صحف الأقباط في هذا الموضوع؛ لأن له بالدين الإسلامي أوثق الصلات، ولم تناقش صحيفة من الصحف مسألة الحسب والنسب التي تنزل بكفاءة رجل له مكانه في مصر؛ لأنه يحاول القربى من حسيب نسيب.
ويروي المؤرخ في موقف بعض الصحف الإسلامية في هذا القضية بعض الهنات التي كان يجب أن تتنزه عنها، فهي أولًا قضية خاصة لا يليق أن تكون مثارًا للمجادلة على صفحات الجرائد، ثم هي قضية صحفي ينبغي لزملائه أن يحترموا من أجل المهنة كرامته، ثم إن الصحافة باعت في سوق نافقة فكسبت رضاء الرأي العام ولم تفكر في رأي حر تذيعه خشية سخط الجماهير، وليست بصحافة تلك التي تهاب سخط الجماهير، وهي بموقفها هذا قد سمحت للسلطات القضائية برأي فيها مهما يكن أمره فهو رأي يسوؤها وهو أهم ما يعنينا في تاريخ هذه القضية.
فيذكر محامي السيد الشيخ السادات أن "الصحافة لا تشرف إلا بشرف استعمالها" وهذا تقرير صحيح لولا أن المحامي يعتبرها مع ذلك حرفة دنيئة. ويقول: "أليست عبارة عن الجاسوسية العامة وهي معدة للإشاعة وكشف الأستار وهذا أمر منهي عنه شرعًا فضلًا عن نشرها الإعلان عن الخمر وأمكنة اللهو" هذا رأي محامي السادات وهو رأي يسوء الصحف جميعًا فهي عنده "حرفة دنيئة" مهما يعتذر عنها بشرف الصحفي وعلو همته؛ لأن الصحف عامة تشترك فيما نهى عنه الشرع وهو إذاعة الأخبار وإشاعتها بين الناس، وهي في أكثرها تنشر إعلان الخمر وأخبار الملاهي ومنتدياتها، وفي هذا من الاتهام الصريح ما كان يحمل بالصحافة المصرية أن تتكاتف على
رده مهما تختلف نزعاتها السياسية واتجاهاتها العامة حتى لا تعطي المحكمة بعد المحامي فرصة لتأييد وجهة نظر المدعي وحط قدر الصحافة.
فإذا دافع الشيخ علي ومحاميه عن مهنته وعن علمه ردته المحكمة في ذلك جميعًا فهي ترى "أن صناعة التحرير لا تنهش دليلًا على العلم" ثم تقول عن الصحافة "وحيث إن حرفة الصحافة التي نسبها المدعي لنفسه قسمان، قسم يبحث في علوم وفنون مخصوصة وهي المجلات غير اليومية وهذه شرفها يشرف ما تبحث فيه وغزارته وهذه الصحافة لا يدعيها الشيخ علي لنفسه، وقسم لا يختص بموضوع مخصوص وهي الجرائد اليومية ووظيفتها إرشاد من تتكون منهم المملكة من الأفراد والعائلات والهيئة الاجتماعية والحكومة فهي معدة للإرشاد العام، وهذه الصحافة جليلة جدًّا لها أثرها في رقي المملكة من ناحيتها الداخلية والخارجية ويجب أن يتوافر في صاحبها أعلى أنواع الثقافة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية كما يجب أن يكون على قدر من شرف النفس ونبل الضمير وأن يكون من أشد الناس محافظة على الكمالات والآداب حتى يمكنه أن ينفع بنصحه وأن يجمع الناس إلى رأيه فضلًا عن وجوب علمه بالسياسة الداخلية والخارجية" إلى أن تقول: "ولكن المدعي عليه لا يمكن أن يدعي لنفسه هذه الصحافة أيضًا، ذلك لتقلبه في المبادئ لغير سبب وتعرضه للشخصيات في ثوب المصالح العامة وسكوته عن بعض ما يلزم الكلام فيه لأغراض بعض من يهمه رضاؤهم، ولا نريد أن نعدد له ما فعل وكفى بهذه القضية وحدها دليلًا على ذلك، وعلى ذلك فالمدعي عليه ليس مشتغلًا بالصحافة قائمًا بها وإنما هو يشتغل بشيء يشبهها لأغراضه ملبسًا له ثوب الإرشاد والمصلحة العامة وهذا اشتغال بأخس الحرف وأدنئها، وعلى ذلك لا يكون محترفًا الصحافة وإنما هو يحترف حرفة أخرى دنيئة"1.
وقد حكمت المحكمة بعد صحة العقد، مع أن الشيخ السادات كان على
1 المقطم في 11 أغسطس 1904.
صلات طيبة بزوجها الشيخ علي يوسف، وعلى علم برغبة الرجل في الزواج من ابنته، وقبل في ذلك هداياه، وهي إيماءة بالرضا عن هذه الرغبة والاستعداد لتنفيذها، ولم يرجع عنها الشيخ السادات إلا بعد أن سعى دعاة السوء بينه وبين الشيخ علي، فكانت هذه القضية وكان هذا الحكم الذي استمد بهاءه من التقاليد دون الدين وأصاخ بالسمع إلى تهليل العامة، ولم يقم وزنًا لرأي النخبة المنتقاة من خاصة الناس.
ومهما يكن من أمر هذا الحكم فإن الصحافة خسرت فيه؛ لأن اتهام قطب من أقطابها بجهله السياسة الداخلية والخارجية كفيل وحده بأن يسقط كثيرًا من الصحف والصحفيين في ذلك الوقت، وهو حكم لا يتصل بالشرع؛ لأن الغرض ظاهر فيه، وكأن الأفندي قاضي القضاة والخديوي معه والتقاليد من حولهما قد تكاتفت على إصداره في هذه الصورة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن السياسة وحدها كانت مسيطرة على الموقف جميعه.
أما الصحف المصرية -عربية وفرنجية- فقد تباين موقفها من هذه القضية فحرصت معظم صحف الأقباط على عدم الخوض في هذا الموضوع فيما خلا مصر والمقطم فأما "مصر" فقد ساءها قرار محامي السادات في الصحافة، فهي ترى أن "ما قاله الشيخ الفندي وكيل السادات تعريضًا بالصحافة وحسبانها من المهن الدنيئة المضرة، فقول لا يصدر إلا عن الجاهلين الأغبياء الذين لا يدركون ولا يفهمون". وأما "المقطم" فقد حرصت على نشر تفاصيل القضية دون أن يعلق الكاتب على اتهام المحامي والمحكمة الصحافة بأسوأ ما تتهم به حرفة من الحرف ثم وقفت "المنار" الصحيفة العربية إلى جانب صاحب "المؤيد" في قضيته، وأما "الإجبشيان جازيت" صحيفة المعتمد البريطاني فتمدح الشيخ علي يوسف على الرغم مما بينهما من خلاف ثم تذكر أنه "قل أن يوجد بين الصحفيين من يستطيع الوقوف إلى جانب صاحب "المؤيد" ولا يوجد ذو مسكة من العقل لا يضع علي يوسف في أعلى طبقة من طبقات رجال الصحافة، فإنه تمكن بالجد والاجتهاد والمثابرة من إيصال
جريدته إلى درجة "التيمس" لا في العالم العربي فقط بل في جميع العالم الإسلامي1" ثم نحت هذا النحو جريدة "ذا إجبشيان مورننج نيوز" " The Egyptian Morning News".
عرضنا لتقرير كرومر سنة 1903 وحديثه عن الصحافة وبينا مقدار ما فيه من غبن لها منذ احتل الإنجليز مصر إلى السنة التي بدأ اللورد كرومر يذكرها في تقاريره، وقد وضح لنا أن "الأهرام" تولت المعارضة زهاء عشرة أعوام وشرحنا كيف نشأ "المقطم" خصيمًا لجريدة الأهرام، ثم ذكرنا الأسباب التي من أجلها أسس "المؤيد" والدواعي التي صدر من أجلها "اللواء" بعد انحراف صحيفة الشيخ علي يوسف، ويرى المؤرخ لهذه الصحافة أن القصر بقي بعيدًا عنها في مرحلتها الأولى وأن الوطنيين دون الخديوي توفيق هم أصحاب الفكرة في إنشاء الصحف الوطنية، وأن اللورد كرومر ابتدع سياسة الحكم بالصحافة، وقد عني العميد البريطاني أشد العناية بهذه السياسة بعد تولية عباس الثاني أريكة الخديوية، وكان شابًّا شديد التطلع إلى استقلال بلاده وجلاء الإنجليز عنها، ومواقفه في أوائل عهده من الاحتلال ورجاله أشهر من أن تذكر، فلا غرابة في اتفاق مزاجي الخديوي ومصطفى كامل وهو مزاج شابين يرجوان هدفًا واحدًا مهما تتباين الدوافع والأسباب.
ساعد كرومر بعض الصحف وقدم لها من التأييد ما هيأ لها فرصة التقدم والبقاء وعلى رأس هذه الصحف جريدة "المقطم"، وساعد الخديوي عباس بعض الصحف وقدم لها من المال والجاه ما هيأ لها فرصة الذيوع والانتشار، وفي مقدمة هذه الصحف جريدة "اللواء" ولا يعنينا ما ذهب إليه بعض الصحفيين وهم يؤرخون للصحافة الإسلامية من أن الخديوي دفع للواء مبلغ خمسة عشر ألف جنيه2 وهو زعم إن صح لا يعني إلا تدعيم الصحيفة
1 راجع المؤيد في أيام 2 أغسطس، والمقطم في 27 يوليو و1 و4 و11أغسطس وما بعدها والمؤيد في 9 أغسطس والإجبشيان جازيت في 8 أغسطس من سنة 1904.
2 جريدة الإكسبريس في 23 أكتوبر عام 1915.
الوطنية وهو عمل يشكر عليه من كان في مقدوره البذل والعطاء في سبيل الاستقلال والجلاء.
وقد نشأ عن ذلك كفاح بين الصحف بعضه ظاهر وبعضه خفي، أما كفاح العلن فقد تولته "المقطم" و"اللواء" وأما الكفاح وهو أقل شهرة في تاريخ الصحافة المصرية فكان بين بعض الصحف الصغيرة من الجانبين، وهي صحف أبي كرومر أن يصدر لها قانونًا؛ لأن هذا القانون يفيد الخديوي الذي يعاديه بعضها في غير تحفظ وفي غير احتياط، وهو لا يملك ردعها مع أن اسمه ومكانته فوق التهم والمهاترات، ولا يضير الاحتلال في شيء أن تهاجمه هذه الصحف؛ لأن نقده والحملة عليه شيء طبعي وفي تنفيس عن الشعور العام وفي ذلك صمام الأمان.
وكان الشيخ محمد عبده هدفًا لصحف الخديوي وكان يلي في ذلك الوقت وظيفة الإفتاء، وقد أفتى حينئذ بجواز أكل المنخنقة فحملت عليه الصحف وكان أشدها حملة جريدة "الظاهر" لمحمد أبي شادي بك المحامي المصري المعروف، ومضت تقذع في الشيخ الإمام وتطالب بعزله من منصب الإفتاء، وذلك لأمور أخرى لم يأت ذكرها في أسباب هذه الحملة وإن فصلها يوسف طلعت باشا صاحب جريدة "الراوي" اليومية في تقريره إلى السلطان، فقد ذكر عن هذا الموضوع أن "الخديوي بعد أن رأى نفسه عاجزًا عن عزل المفتي الذي يعارض مساعديه في الأزهر والأوقاف شرع في معاكسته بأمرين، أحدهما الاستعانة بمولانا الخليفة الأعظم على عزله بحجة أنه أفتى بما يخالف الشرع، وثانيهما إنشاء جريدة اسمها "الظاهر" لأجل إسقاط نفوذه الديني وإضعاف حزبه المؤلف من طائفة العلماء ومن أكثر رجال الحكومة1.
وقد أسفت "الظاهر" في الحملة على الشيخ محمد عبده خاصة وخصوم الخديوي عامة مع أنها ادعت "أن دستور الجرائد في حياتها الأدبية هو قانون
1 الأستاذ الإمام، ج1، ص564.
الأخلاق العمومية والآداب الاجتماعية"1 وتولى هذه المهمة الشيخ محمد الشربتلي وهو خصم للإمام من قديم، ادعى عليه الدعاوى في تدريسه في الأزهر وسجن من أجل ذلك، ولكنه عاد إلى "الظاهر، وتولى فيه تقبيح الشيخ والزراية به، ومع أن "الظاهر" لم تكن كثيرة الانتشار إلا أن الصحف الوطنية روعها ما فعلت إحداها من أذى للشيخ محمد عبده فردت عليها جميعًا فيما عدا "اللواء" وبينت الغرض والضغينة في حملتها، وشرحت السبب الصحيح للحملة ودافعت عن الإمام وإفتائه دون أن تذكر اسمها تحقيرًا لشأنها، وسلبتها الحكومة بعض امتيازاتها كالامتياز الخاص بنشر الإعلانات القضائية.
ومن الصحف الصغيرة التي شكا الجمهور منها صحيفة "الحمارة" وهي من خصوم الشيخ محمد عبده وقد فاقت زميلاتها جميعًا في بذاءة الحملة عليه، فنشرت للشيخ صورة ماجنة فصورته بين جماعة من نساء الفرنجة في وضع لا يليق وذلك تسويئًا وتهوينًا لقدره كمفتٍ للديار المصرية، وقد قبضت النيابة على صاحبها وقضت المحكمة بسجنه2.
وقد أهاج العقلاء أمر هذه الصحف التي عاشت من نهش الأعراض وفرضت الأتاوات على بعض الناس يؤدونها على ما تحب وإلا جرحت كراماتهم، وقد اهتمت بهذا الأمر الجمعية العمومية فذكر أمين بك الشمسي في إحدى جلساتها أن "أسافل الناس يقدمون على إنشاء الجرائد وقد ملئوا الدنيا سفاهة وتعديًا على الأعراض، على أن الجرائد هي مرشد الأمة والحكومة، والمطبوعات هي ركن من أركان العمران"، ثم اقترح على الجمعية "أن تطلب من الحكومة الاتفاق مع وكلاء الدول على سن قانون عمومي للمطبوعات يقي الناس من هذه الفوضى" وتحدث الشيخ محمد عبده في هذا الموضوع وضم اقتراحه إلى اقتراح زميله3.
1 الظاهر 12 نوفمبر 1903.
2 الأستاذ الإمام، ج1، ص564 عن قصة "الظاهر" وصفحة 669 عن قصة الحمارة.
3 محضر الجمعية في 26 مارس 1902.
وفي سنة 1904 أعاد مجلس الشورى القوانين الكرة في هذا الموضوع وطالب بنفس ما طالبت به الجمعية العمومية في سنة "1903"1 غير أن اللورد كرومر لم يوافق على رأي الجمعية العمومية أو مجلس شورى القوانين، وتضمن تقريره عن سنة 1904 هذا الرأي وإن شارك المجلسين فيما ذهبا إليه من حيث السخط على هذه الصحف الحقيرة، وهو يريد أن يحتاط لصحافته الكبرى فلا يقبل إصدار تشريع يستغله الخديوي في القضاء على ألسنة الاحتلال لذلك يزعم العميد الإنجليزي أن الذين يدفعون لهذه الصحف خوف التشهير لو امتنعوا عن البذل لها لاستحال على هذه الصحف البقاء، ثم إن قانون العقوبات كما يقول اللورد قد تضمن مادتين جديدتين هما المادة "282" والمادة "283" وهما كفيلتان بردع من لا يرتدع وقد تبلغ العقوبة أحيانًا السجن ثلاثة أعوام ثم يعدد كرومر الصحف الثمان التي تخصصت لابتزاز الأموال والتشهير بذوي المقامات والكل على جميع الموائد، ويذكر أن بعضها قد عوقب على تبذله ثم يقول:"يجب أن لا يظن أن هذه الصحف عنوان للصحافة المصرية فإنها جميعًا قليلة الأهمية وإنها في أساسها إما صحف هزلية أو ساخرة"2 وبالرغم مما يؤخذ على هذه الصحف مما دعا إلى الضيق بها من كل الجهات فإنها تمثل النكتة المصرية الرائعة والسخرية اللازعة وتعيد مجد أبي نظارة وصاحبها يعقوب بن صنوع.
لم تظهر السياسة الإنجليزية نحو الصحافة إلا في تقرير كرومر عن مصر سنة 1906 فقد كان فيها واضحًا كل الوضوع مع أن الصحافة المصرية لم تنل من اهتمامه في سنة 1905 إلا ستة أسطر3 وهو يبدأ حديثه عن حرية الصحافة بأنه كان دائمًا في جانب هذه الحرية، وهو هنا لا يميل إلى ترديد النغم السابق من حيث تقديره لها، فالصحف المصرية في اعتقاده لا تعبر عن الرأي العام
1 مجموعة محاضر جلسات مجلس الشورى القوانين في شهر يونيه 1904.
2 Blue Books 1904 p. 59- 60
3 المصدر السابق ص13 عام 1905.
لما امتلأت به من حشو وما حفلت به من العبارات النابية، وهو يذكر أن بعض كبراء مصر يرى رأيه هذا فأضعفت الصحف بذلك حجة أنصارها المدافعين عنها وعلى رأس هؤلاء الكبراء الخديوي عباس الثاني، وأنه نفسه أصبح يميل إلى وصع شيء من القيود لهذه الحرية المطلقة التي منحتها الصحف حفظًا للنظام وعناية بمستقبل الاحتلال في مصر، وهو يبني أحكامه الجديدة على الصحافة المصرية من قراءته المتصلة للمعارضة منها وهي صحف فارغة لا تجد فيها بحثًا ذا قيمة في المالية أو التعليم أو أعمال القضاء لذلك كانت سوءاتها بالنسبة للمصريين أكثر من حسناتها، هذا على حين أن الصحف الأجنبية في مصر لها كما يقول، مكانها الرفيع من حيث مادتها وأسلوبها المعتدل الرصين1.
وبذلك لم يعد كرومر نصيرًا للصحافة المصرية بعد أن كان يستفيد منها ويتحمس للدفاع عنها بحرارة في سنة 1903 وهو يلتمس اليوم لخصومها المعاذير، وهو في الواقع خصومها في تلك السنة؛ ذلك لأن مصطفى كامل زلزل سلطانه عقب حادث دنشواي في 13 يونيه سنة 1906 إذ قاد الحملة عليه زهاء شهرين كما كتب في صحف أوربا، وكان من نتائج مقالاته في "الفيجارو Figaro" في 11 يوليه سنة 1906 أن عزل كرومر من منصبه.
برم اللورد كرومر بالصحف المصرية بعد حادث دنشواي، وهو السبب المباشر لسخطه عليها، غير أنه استعاد من غير شك المشاكل التي خلقتها له الصحف المصرية في الأعوام الأخيرة، فكل عمل قصده الاحتلال منذ استقالة رياض من رياسة الوزارة أصبح حديث العامة قبل الخاصة من جراء انتشار الصحف الوطنية، وقد استطاع أن يتخلص من معظم هذه الصحف ويستميل معظم الصحفيين الوطنيين إليه ولم يبق في ميدان الصحف المعارضة أهم من "اللواء".
1 المصدر السابق ص8 و9 عام 1906.
حقًّا لم يستمر الود بين الخديوي ومحرر "اللواء" طويلًا، إذ ظهرت عليه علامات اليأس بعد حادث فاشودة والاتفاق الودي1 وبذلك أصبحت "اللواء" وأنصارها وحدهم في الميدان، وقد تعرض الخديوي نفسه لعتاب "اللواء" يوم حضر عرض الجيش البريطاني في نوفمبر سنة 1904 واعتذرت المعية بأن تلك الحادثة تمت بمجرد المصادفة المحضة، غير أن تلك الحادثة تكررت في العام التالي، وفي نفس الشهر، فكتبت "اللواء" تعلق على موقف الخديو وتسخر قائلة:"وإذا كان من الصعب تحميل "المصادفة" مسئولية هذا الحادث مرتين فمن المرجح أن المعية لا تنشر بلاغًا في هذا العام وتفضل السكوت على الكلام" ولم يستطع الخديوي أن يتحمل مهاجمة "اللواء" له في السنة التالية فأبى حضور العرض في سنة 1906 وعلقت جريدة "الإمبريالي" الإيطالية قائلة: "ولعل سمو الخديو أراد بإطالة إقامته في الإسكندرية العدول عن الخطة التي اتبعها سنة 1904 فهل فازت الصحافة الوطنية بنصائحها واحتجاجاتها؟ "2.
وقد لاحظ اللورد كرومر أن "اللواء" تتعقبه بالتفصيل والتفسير في كل خطوة من خطواته، فقد اعتزم اللورد زيارة الأقاليم في فبراير سنة 1905 والاتصال بالجماهير وبحثه المسائل العامة معهم وإلقاء النصح للأعيان والعمد، فحمل "اللواء" حملة شديدة على ذلك التصرف ثم مضى في اليوم التالي يتحسر على ما آل إليه حال مصر حتى أصبح المعتمد البريطاني يجول في أرجائها كأنه "صاحب الحل والعقد والأمر والنهي الذي لا يعارض في شيء"3 وقد أنتجت حملة "اللواء" المتصلة حماسة بين المصريين كراهية شديدة للاحتلال البريطاني، وظهرت تلك الكراهية واضحة بين العامة قبل الخاصة في مشكلة العقبة بين تركيا وإنجلترا في سنة 1906، ومما يؤثر عن
1 مصطفى كامل للرافعي، ص330 - 332.
2 مصطفى كامل للرافعي، ص186 - 187.
3 اللواء 6 و7فبراير 1905.
هذه المشكلة إعلان المؤيد لميولها الإنجليزية، فقد انحازت إلى جانب الإنجليز كما انحازت اللواء إلى جانب الأتراك، ومما يؤسف له أن البلاد افتقدت صحيفة تبحث مكان مصر وحقها من هذه المشكلة.
عرضنا لبعض الأحداث التي دعت اللورد كرومر إلى التبرم بالصحافة وحريتها وأهمها من غير شك الحملة الصحفية في اللواء عقب محاكمة دنشواي، وقد أنتجت المحاكمة حملة صحيفة في الخارج لفتت الإنجليز إلى سوء السياسة التي يمثلها معتمدها في مصر مما ترتب عليه عزل كرومر في أبريل سنة 1907، ويبدو أن عزل كرومر فتح صفحة جديدة في تاريخ الصحافة المصرية، وهي صفحة كتب معظمها "اللواء" وصحفه، وهي مدرسة في صحافتنا جديدة، وكتب أقلها بقية الصحف المعاصرة بزعامة المدرسة القديمة ممثلة في المؤيد.
وقد أسس صاحب "اللواء" شركة مساهمة لإصدار جريدتين أوربيتين في مصر بعد حادث دنشواي في نوفمبر سنة 1906، وعندي أن إنشاء هاتين الصحيفتين من أبرز خدمات مصطفى كامل للقضية الوطنية؛ لأن إنشاء الصحيفتين ليس شيئًا بجانب ما نشر فيهما من المعاني التي كان يعز عرضها على الأجانب في مصر، ثم إنه استطاع أن ينال موافقة جريدة "لوفيجارو" على أن تأذن للجريدة الفرنسية الوطنية بنشر مقالات بيير لوتي " Pierre Loti" عن مصر على أن يكون نشرها في الجريدتين في يوم واحد، وهو عمل صحفي نادر المثال في ذلك الوقت، كما أنه رأى أن يعد لصحفه بيئة صالحة فأوفد أحد محرري "اللواء" إلى باريس ليتلقى علومه الصحفية نظرًا وعملًا في مدارسها وصحفها الكبرى1.
ويحسن بمن يؤرخ للصحافة المصرية في تلك الفترة أن يعرض للتيارات الصحفية المختلفة منذ عزل كرومر وبدء جورست سياسته الودية مع الخديوي
1 الرافعي: مصطفى كامل، ص418.
ليستقيم تأريخ الصحافة في هذا العهد الجديد ونصبح على بينة من عموميات هذا التاريخ، فقد استقبل جورست صحافة من أهمها "اللواء" و"الأهرام" و"المقطم" و"المؤيد" وهي صحف معروفة النزعة، وقد بينا مذهبها من حيث اتصالها بالحركة الوطنية أو الاحتلال، وكان بجانبها صحف أخرى من أظهرها "المحروسة" وهي صحيفة تميل إلى الخديو وتخالف "المؤيد" وتحمل على "المقطم" ومع ذلك فهي تلين للاحتلال، ثم "الوطن" وقد أعادها إلى الوجود جندي إبراهيم بك في سنة "1906"1 وهي من أصدقاء العميد البريطاني وفي خصومة مستمرة مع المسلمين، وتميزت "مصر" بقبطيتها وميلها إلى الاحتلال ومعارضتها كل فكرة دستورية، ولها هي و"الوطن" تاريخ حافل في الخلاف الديني الذي سنعرض له فيما بعد ثم "البصير" وهي جريدة تجارية لا رأي لها وإن مدحت الحكومة كلما نال الأقباط خير من مصر وأخيرًا "الجريدة" وهي صحيفة المعتدلين، غير عشرات من الصحف والمجلات الأخرى التي لا يؤثر إنكارها في مجريات الحوادث.
و"الجريدة" هي أحدث الصحف المهمة التي نشرت في العهد الجديد، وقد قيل: إن كرومر أوعز بإنشائها وإنه أوحى بالدعاية لها في الأقاليم بين الذوات والأعيان2 وهذه واقعة يعوزها التأييد والبرهان، وقد ساهم في رأسمالها كثير من عيون المصريين في مقدمتهم محمد باشا سليمان وحسن باشا عبد الرازق وإبراهيم باشا عبده وغيرهم، وإذا كان سليمان باشا وعبد الرازق باشا في علاقات طيبة مع الاحتلال فليس معنى هذا أنهم يعدون له بوقًا يضاف إلى أبواقه السابقات، وآية ذلك أن "الجريدة" خلت من الدعاية للاحتلال والمحتلين وكان لها بعض المواقف التي تزين الصحافة الوطنية من حيث التفكير الوطني واعتدال المزاج فيه، ومجمل القول فيها إنها صحيفة بعض الأعيان وبعض المفكرين أيضًا.
1 محفوظات الداخلية دوسيه رقم 4 مكرر.
2 الشعب في 8 مايو 1912.
وقد صدرت "الجريدة" في سنة 1907 برأس مال قدره عشرون ألف جنيه1 وقد سدت بوجودها فراغًا كان شاغرًا في بيئة الصحافة والصحفيين، فقد خلت الجريدة من المطاعن الشخصية وتأنق محررها أحمد لطفي السيد في اختيار عباراته ومعانيه، وعنه سمى الخديوي "صاحب السلطة الشرعية" وقيل عن ممثل إنجلترا في مصر "صاحب السلطة الفعلية" وقد اختارت "الجريدة" فئة من الكتاب النابهين للعمل فيها وبحث المسائل الأدبية والعلمية والموضوعات الاقتصادية والزراعية، وذكرت أصدق الأخبار وقبلت انتقاد الناقدين، وهي على صلة طيبة بجميع المصالح ولم تخاصم صحيفة من الصحف أو تسيء إلى فرد متعمدة.
وقد ظهرت "الجريدة" عقب حادثة العقبة بعد أن انقسمت الصحف إلى قسمين، بعضها انحاز إلى الإنجليز وأكثرها مال إلى تركيا ولم تحظ حقوق مصر من إحداها، فصدرت "الجريدة" صحيفة مصرية خالصة، وذكرت في عددها الأول المادة الثالثة من قانون شركتها وهي تؤكد أنها "مصرية بحتة غرضها الدفاع عن الصوالح المصرية على اختلاف أنواعها وإرشاد الأمة بأسرها إلى منافع الحيوية الصحيحة ونشر ما فيه من فائدة مادية أو أدبية ونقد كل عمل له مساس من أية جهة كانت بتلك المنافع والصوالح سواء كان ذلك العمل عامًا أو خاصًّا مهما كان مصدره ومهما كانت صفة القائم أو الآمر به، وببيان صالح ذلك العمل من فاسده، وقول الحق في الحالتين حتى بهذا يتكون رأي عام قائم على أساس متين من صدق النظر وحسن التفكير يقول قوله بلسانها ولا تنطق هي إلا عنه، لا فرق في ذلك بين الأديان ولا تمييز بين الأجناس، هذا مع نبذ الشخصيات وعدم الخوض في المنازعات الدينية
1 المصدر السابق.
المحضة وأن لا تؤجر في غرض وأن لا تستخدم لأحد مع التزام الاعتدال في جميع الأحوال.
هذه هي خطة "الجريدة" وقد حققت في تاريخها أكثر ما ذكرته المادة الثالثة من قانون شركتها، وكان هذه الصحيفة ترجمان حزب الأمة ولسانه وهو حزب يرى اللورد لويد أن يتكون من جماعة المفكرين بعيدي النظر والذين كان اتجاهم إلى كسب التقدم الدستوري بطرق معتدلة1 ولم تكن "الجريدة" في يوم من الأيام تقر رأيًّا تركيًّا أو تزعم للدولة العلية الكياسة وبعد النظر وسلامة الفكرة، وهي صفات كانت تؤمن بها معظم الصحف المصرية، بل اختطت دون الصحف الوطنية خطة الملاحظة على ما تصنع تركية ونقدها بين حين وآخر، وهي تدعو إلى تحقيق الأماني الوطنية باتفاق يحدث بين الاحتلال وبين أعيان المصريين وحدهم؛ لأنهم أصحاب المصالح الحقيقية وتدعو إلى الرضاء بكل ما يكسبه الوطنيون من هذا الاحتلال حتى تتوافر الكفايات للحكم الذاتي.
وإذا كانت "الجريدة" قد أصبحت صحيفة المعتدلين فقد استمر "اللواء" لسان عامة الناس والمتطرفين منهم خاصة، وقد زاد قدره في عيون المواطنين إذ استطاع صاحبه بقلمه في مصر والخارج عزل عميد الاحتلال بعد أربعة وعشرين عامًا من الكفاح المتصل، ولم تتغير خطته بعد عزل كرومر وتعيين "إلدون جورست"" Eldon Gorst" مكانه بل إنه التزاماته كانت أخطر في ذلك العهد من جميع العهود السابقة فقد جاء العميد الجديد بسياسة لينة نحو القصر لا نحو مصر، فتغير الخديوي وتبدلت أساليبه الوطنية فكان بالأمس يدافع عن الحركة الوطنية ويخطئ خصومها علانية في أحاديث صحفية وينكر تعصبها الديني ويرى أن شعبه "طيب بفطرته نزيه مجد ومعتدل متسامح"2
1 Lloyd: Egypt Since Cromer. V.I.p. 50
2 من حديثه مع مكاتب "الطان""راجع الرافعي: محمد فريد، ص65 - 66".
غير أنه يعود فيذكر لمكاتب "الديلي تلجراف" في مايو سنة 1907 أنه لا يعمل ضد الاحتلال ويبين له أن المعتمد البريطاني لا يستطيع حكم مصر وحده، وأنه مستعد للتعاون معه وأنه لا فائدة للمصريين من استبدال احتلال باحتلال، وأن الاحتلال البريطاني خير من أي احتلال آخر1 ويأبى "اللواء" على هذا الخصم الجديد ما ذهب إليه فيضيف إلى أعدائه عدوًّا خطير الشأن بيد أنه يشرع في مخاصمته فورًا فإن الشعب المصري "لا يقبل مطلقًا أن يكون حكم مصر بيد سمو الخديوي بمفرده أو بيد المعتمد البريطاني أو بيد الاثنين معًا، بل يطلب أن يكون حكم هذا الوطن العزيز بيد النابغين والصادقين من أبنائه وأن تكون نظامات الحكومة دستورية ونيابية" ثم يقول في موضع آخر متحدثًا عن الخديوي "فهو إن قال كلمة في صالح الحركة الوطنية خدم نفسه وعرضه واستمال أمته إليه وإن عمل ضدها أضر بنفسه وبعرشه ونفر أمته منه ولكنه في الحالتين لا يستطيع الإضرار بهذه النهضة؛ لأنها نهضة المطالبين بالحياة والوجود ومثل هذه النهضة لا يضرها إنسان مهما كان قويًّا أو عظيمًا"2.
لقيت الصحافة بعد تغيير كرومر شيئًا من العنت والضيق لحقاها جميعًا سواء في ذلك صحف الاحتلال وصحف الاستقلال إذ لم يعد للإنجليز حظ في حرية الصحافة والتمكين لها، وقبض الخديوي يده عن مساعدة الصحافة الوطنية فقد انتفقت الأسباب التي تدعو إلى ذلك كله، وهي الخصومة القديمة بين صاحب السلطة الشرعية وصاحب السلطة الفعلية وأصبح الطرفان لا تعوزهما قوة من القوى لتحقيق أغراضهما، وكذلك اتفقت السلطات الأجنبية في هذا الرأي مع السلطتين الرسميتين في مصر وخاصة بعد الاتفاق الودي سنة 1904 فلم يعد لحماية القنصلية الفرنسية أثر في الحيلولة دون بطش العميد أو الخديوي بالصحف اللائذة بها.
1 الرافعي: مصطفى كامل، ص333.
2 الرافعي: محمد فريد، ص65 - 66.
3 اللواء في 26 و27 مايو 1907.
وكانت الصحف الصديقة للاحتلال أول ضحايا سياسة الوفاق الجديدة في سنة 1907 فقد اتهمت "المقطم والوطن والشرق" مأمور مركز كرموز بأن يقبل الرشوة لقضاء حاجة الناس وحملت عليه في بضع مقالات ضمنتها رأيها في أن المصريين لا يصلحون لوظائف المأمورين، وأن هذه الوظيفة جديرة بعدالة الإنجليز، وقدمت هذه الصحف للنيابة العمومية، ولم تحل العلاقات القديمة بينها وبين دار الوكالة البريطانية دون محاكمتها والحكم عليها، وقد علقت "المقطم" على الحكم زاعمة أنها حملة أحكم تدبيرها للقضاء عليها واستغاثت بالصحف الأجنبية في مصر لتؤازرها ولتدفع الظلم الواقع عليها1 وقد أنكرت النيابة أنها لسان من ألسنة الأمة وقطعت بأن أخبارها غير صحيحة وتعوزها الأدلة والبراهين وأنه لا يجوز لها أن تتعرض للشخصيات وتسيء بالسب إلى الموظفين العموميين.
لم تفتر الحركة الوطنية بعد وفاة مصطفى كامل في مطلع سنة 1908 بل بقي تاريخها في الجهاد متصلًا في كل ناحية من نواحي الحياة المصرية ومن ورائها كتلة من الوطنيين المصريين ممثلة في الحزب الوطني الذي ضم عنصري الأمة وقضت وحدته على الخلافات المذهبية التي طالما عير بها المصريون في مصر والخارج وكانت سببًا من الأسباب انتحلته الدول للتدخل في شئون مصر قبيل الاحتلال والتمكين لهذا الاحتلال بعد وقوعه، وقد غذى هذه الحركة نجاح الحركة الدستورية في تركية في يولية سنة 1908 وإن كان نجاحها في تركية جاء متأخرًا بعد أن انفصمت العلاقات الودية بين الخديوي والحزب الوطني ولم يكن هذا النجاح في تركية شيئًا لا يعني المصريين بل شد أزرهم وقوى فكرة الحكومة الدستورية في مصر، وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا للصلات الأدبية والمادية بين التابع والمتبوع، فقد كان الكثيرون يرون مزاج البلدين واحدًا فلا غرو أن اشتد ساعد الدستوريين في مصر ومضت الصحافة المصرية تطالب بالدستور وامتلأت صفحاتها بالحديث عنه.
1 الشباب، العدد الخامس عام 1936.
والصحافة المصرية ليست حديثة عهد بهذا الموضوع فقد عنيت به منذ رياسة مصطفى كامل للحزب الوطنين وقد كان لأثر مقالاتها صدى في الجمعية العمومية في شهر مارس سنة 1907 وحيث طالبت هذه الهيئة النيابية بإنشاء مجلس نيابي واضطرت الحكومة الفهمية إلى الرد عليها "بأن الوقت لم يحن لتشكيل مجلس نواب يرجى منه النفع العام الذي ينتظر من المجالس النيابية ولكنها تشتغل الآن في توسيع اختصاص مجالس المديريات"1.
والصحف الوطنية هي التي أذاعت هذا الموضوع وعالجته مرارًا ودعت إلى تحرير العرائض للخديوي وساهم في توقيعها بعض السيدات والآنسات، وهذه ظاهرة جديدة في حياة الأمة المصرية لم تكن معروفة من قبل2.
واضطر السير جورست أن يوضح سياسة الاحتلال في هذه الحركة الخطيرة، فهو يعلم أن الخديوي لا يرضى عن حياة الشورى حتى لا تكف يده عن السلطة، وسياسة الاحتلال قد سمحت له بها في قدر كان جرمه زهاء خمسة عشر عامًا، ويعلم أن وجود حكومة دستورية تسلب الاحتلال سلطانه أمر يخالف السياسة الإنجليزية في ذلك الوقت، فتحدث إلى "المقطم" في أكتوبر قائلًا:"إن ما حدث في تركيا ليس له أقل دخل في مسألة استعداد المصريين للحكم الذاتي" ثم قال: "إن مصر حاصلة على دستور الآن وأعني به الدستور الذي يتضمنه قانونها النظامي الصادر سنة 1883، أما إذا كان المقصود من هذه الصيحة في طلب الدستور إنشاء حكومة نيابية بإطلاق المعنى كما هي الحال في إنجلترا وفي بلدان أخرى أوربية فليس عندي على ذلك إلا جواب واحد وهو أن الشروط اللازمة لإدارة البلاد بموجب نظام مثل هذا النظام غير متوافرة الآن والتفكير في إدخال تغيير يحدث انقلابًا كهذا الانقلاب ضرب من الحماقة والجنون" ثم دعا جورست المصريين إلى
1 محفوظات الجمعية العمومية لدور العقاد سنة 1907، وثيقة رقم7.
2 اللواء في 26 فبراير 1908.
مساعدة بريطانيا في توسيع اختصاص مجالس المديريات والمجالس المحلية1.
وقد عادى جورست فكرة الدستور عن طريق الصحافة فجعل الموضوع كله على صفحاتها، فشرعت "اللواء" تفند الرأي الإنجليزي وتحمل عليه حملة كان لها أبعد الأثر في الجهات الرسمية والنيابية2 فاجتمع مجلس شورى القوانين في 31 أكتوبر عام 1908، وأثيرت مسألة المجلس النيابي في الجلسة ورأى بعض الأعضاء تأجيل النظر في هذا الموضوع إلى ديسمبر، وكان على خلاف هذا الرأي عشرة من أعضاء المجلس سماهم اللواء "العشرة الكرام" وكان من رأيهم المطالبة فورًا بإنشاء مجلس نيابي على أحدث النظم الدستورية في أوربا3.
وغذت الصحف الوطنية هذه الحركة ونشرت البرقيات المختلفة في هذا الصدد، ثم مضت تدعو إلى الفكرة الدستورية كل يوم، ولما اجتمع مجلس شورى القوانين في ديسمبر ذكر "اللواء" أعضاءه ما وعدوا به من النظر في أمر الحكومة النيابية، فأصدر المجلس قرارًا "يطلب من حكومة الجناب العالي إعداد مشروع قانون يمنح الأمة حق الاشتراك الفعلي مع الحكومة في إدارة أمورها الداخلية وتدبير شئونها المحلية وأن يكون رأيه تقريريًّا في مشروعات القوانين واللوائح التي تطبق على الأهالي وفي تقرير الضرائب والرسوم بحيث لا يكون لهذا القانون تأثير على نصوص المعاهدات الدولية والامتيازات القنصلية والدين العمومي وأحكام قانون لجنة التصفية وما يتعلق بالأوربيين من المصالح والحقوق الواجبة الاحترام ولا على وركو الأستانة ولا على كل ما ارتبطت به الحكومة من التعهدات والاتفاقيات وبعد إعدادها هذا القانون يبعث به إلى مجلس شورى القوانين لإبداء رأيه فيه وهذا عملًا بالمادتين 18 و19 من القانون النظامي"4.
1 المقطم في 22 أكتوبر 1908.
2 اللواء في 26 فبراير، و11 أبريل، وشهر سبتمبر 1908.
3 اللواء في شهر أكتوبر و1 و2نوفمبر 1908.
4 مجموعة محاضر جلسات مجلس شورى القوانين في 1908.
وكان هذا القرار الصادر من مجلس شورى القوانين حديث الصحف عامة والوطنية خاصة ولم ترفضه واحدة منها وإن اختلفت في التعليق عليه، وكان اللواء أول ما عنى به واهتم له ودعا إلى تحقيقه وإن كان في نظرها لا يحقق جميع الأماني الدستورية.
ومهما يكن الإخفاق الذي أصاب هذه الحركة فإن الصحافة المصرية جعلت الفكرة الدستورية غاية من الغايات الوطنية، وفرضت إيحاءها على المجالس النيابية المصرية وصورت بمقالاتها الحكم القائم في نظر الناس حكمًا غير عادل، وجعلت الجماهير تفكر في أشياء معنوية لم تكن تعني بها بجانب عنايتها بحياتها المادية اليومي، ولم يعد الجلاء وحده الغاية الأولى والأخيرة بل أصبحت فكرة الحياة الدستورية ملازمة للجلاء في ذلك الوقت وبعد ذلك الوقت بسنوات.
وقد برم جورست بالحالة التي خلقتها الصحافة الوطنية، فهو يتحدث في تقريره عن مجلس الشورى في سنتي 1908 و1909 حديثًا ملؤه الحنق على معارضة هذا المجلس معارضة "تحشو بها أعمدتها الصحافة الوطنية المعادية للحكومة" ويقول عن خطر هذه الصحافة في موضع آخر "وموطن الضعف في المجلس الآن هو السهولة التي يلقاها المتطرفون في اقتياد معظم الأعضاء وتضليلهم وشدة اهتمام جميع الأعضاء باجتناب الطعن فيهم في الصحف العربية واتهامهم بضعف الوطنية وهذا الطعن يصيب كل من يؤيد اقتراحات الحكومة ولو تأييدًا ضعيفًا"1.
ثم استقالت عقب هذا وزارة مصطفى فهمي باشا وهي وزارة بقيت موالية للإنجليز زهاء ثلاثة عشر عامًا ولم تكن حريصة على ود الخديوي في يوم الأيام، فكان طبيعيًّا أن تنقذه منها سياسة الوفاق الجديدة، وقد ولى الوزارة بطرس باشا غالي2، وحمل عليها "اللواء" بعد ولايتها شئون مصر
1 Blue Books. 1908- 1909
2 الوقائع المصرية 14 نوفمبر 1908.
بثلاثة أيام في مقال عنيف، وأكد أنها جاءت تشيع البقية الباقية من الحرية إلى مدفنها وأنها وزارة الوفاق الذي تم على حساب المصالح المصرية1.
توجس الوطنيون شرًّا من هذه الوزارة الجديدة بيد أن ذلك لم يعق صحفهم عن مهاجمتها ومهاجمة الاحتلال في كل مناسبة من المناسبات، ونال الخديوي من معارضتها هذه كثير من التهم القاسية التي بدت لينة في ملاحظات عن العلاقات الجديدة بين جورست والسراي2 ثم تطورت إلى اتهام صريح للخديوي بأنه يحابي الاحتلال على حساب مصر في سبيل مصالحه الخاصة3 وهناك أسباب أخرى دفعت إلى هذه الشدة الصحفية على جورست والخديوي والحكومة مصدرها فيما نعتقد أن شئون الدولة العليا ألقيت إلى مسيحي وهو أمر تبرم به غلاة المسلمين إذ ذاك4، وزاد "اللواء" حدة أن الشيخ عبد العزيز جاويش تولى تحريره منذ 3 مايو سنة 1908 فحمل على دانلوب في المعارف ثم حمل على الحكم الإنجليزي في السودان وسمى القضاء على الثورة هناك "دنشواي أخرى" ثم عاود النشر في هذا الموضوع مستخفًا بتكذيب الحربية لمقاله الأول5 وانتهى به الأمر إلى القضاء ومع ذلك فقد استمر في مقالاته الحادة يهجو بأسلوبه القاسي جميع الجهات، وامتازت عبارات بالإنشاء الحماسي الذي يلهب النفوس ويثير الهمم في مصر أو في غيرها من البلاد الإسلامية.
ويعتبر اللورد لويد أن تفكير الحكومة في تقييد حرية الصحافة مصدره كتابات الشيخ القاسية في اللواء6 إذ رأى المسئولون أن قانون العقوبات
1 اللواء 17 نوفمبر 1908.
2 اللواء في 11 أبريل 1908 ثم لوجورنال دي كير في 8 أبريل 1908.
3 الشباب 6 أبريل 1936.
4 الوطن 23 مارس 1910 وفيها تفصيل لهذا الرأي.
5 اللواء في 28 و31 مايو 1908.
6 LLOYD V.I، p. 88- 89
وإن كانت له آثاره على الصحف الصغيرة الماجنة إلا أنه لم يستطع أن يحد من تطرف الصحافة الوطنية الكبرى وهي تعارض معارضة لا تشوبها شائبة، لذلك قررت الحكومة العودة إلى قانون المطبوعات الصادر في سنة 1881 وأعادته فعلًا في 25 مارس سنة 1909 وتقدمت به إلى الرأي العام مبينة الأسباب التي من أجلها قررت معاملة الصحف بمقتضاه.
بينت الحكومة وجهة نظرها قائلة: "إن الحكومة لم تنفذ منذ عام 1894 قانون المطبوعات الصادر في 26 نوفمبر سنة 1881 وحيث إن الجمعية العمومية طالبت من الحكومة في 26 مارس سنة 1902 ردع الجرائد عن تجاوزها الحدود وعن الفوضى التي وصلت إليها وأرسل إليها مجلس شورى القوانين طلبًا مثل هذا في 30 يونيه سنة 1904 وحيث إن عدم تنفيذ قانون المطبوعات لم يزد هذه الجرائد إلا تماديًا في التطرف والخروج عن الحد حتى أدى ذلك بشكوى الناس بلسان الجمعية العمومية ومجلس شورى القوانين من هذه الحالة التي أضرت بمصالح البلاد ضررًا بليغًا فقد قرر مجلس النظار ما يأتي:
يعمل بأحكام قانون المطبوعات فيما يتعلق بنشر الجرائد في القطر المصري1.
هذه هي الأسباب التي سوغت بها الحكومة عودة قانون المطبوعات القديم وكان أمر هذه العودة خطيرًا من حيث حرية الرأي التي لم تكفلها سلطة من السلطات، فاحتج الحزب الوطني على ذلك رسميًّا2 وظهرت بعض وسائل الاحتجاج الأخرى على هذا القانون في 26 مارس سنة 1909 وأخذت "اللواء" تعلق عليه وعلى العمل به تعليق الخبير العارف بالتشريع وأضراره معتمدة على أقوال الشراح والمقننين3 بجانب إثارة الشعور العام على هذا التشريع وخاصة مقالها في 31 مارس الذي دعت فيه المصريين إلى الاحتجاج حتى تشعر الحكومة بمدى السخط العام على تصرفاتها إزاء الصحافة وهي
1 الوقائع المصرية 27 مارس 1909.
2 الرافعي: محمد فريد، ص107 - 108.
3 اللواء في 29 و30 و31 مارس 1909.
الحصن الوحيد للوطنيين، وقد شاركت "اللواء" الصحف المصرية الأخرى في الشعور نحو هذا القانون إلا صحيفتا "الوطن" و"مصر"، ويؤرخ لهذه الحقبة قرياقص ميخائيل في كتابه "أقباط ومسلمون تحت الحكم البريطاني"1 بأن المقصود من هذا القانون كان كبت العنف الذي جرت عليه الصحف الوطنية في علاجها للمسائل السياسية وغيرها من المسائل العامة ثم يذكر أن الصحافة القبطية استقبلته محيية له كعامل من عوامل تهدئة حدة الصحف وعنفها.
وقانون المطبوعات هذا قانون أبتر؛ لأنه لا يسري إلا على المصريين أو المتمتعين بالجنسية المصرية؛ لأن محاكمتها الأجانب مهما تكن مخالفتهم أو جرائمهم تتبع أحكام دولهم وقوانينها ولا تملك مصر إذ ذاك فرض قانونها عليهم لتمتعهم بالامتيازات الأجنبية منذ عدة قرون، فأصحاب الصحف من الأجانب في مأمن من هذا القانون وليس هنا مجال نقده، وإنما تحضرنا بعض الملاحظات على تسويغ الحكومة الرجوع إليه، فهي تدعي أن الجمعية العمومية ومجلس شورى القوانين قد هالهما إسفاف الصحف وتجاوزها الحدود وتماديها في التطرف، والمجلسان النيابيان لم يشيرا قط إلى الحد من حرية الصحافة بحال وإن أشارا إلى الصحف التي تنهش الأعراض وتخوض في الكرامات، والصحفيين الذين ينالون طعامهم على كل الموائد دون رعاية لخلق، أو عرف، وقانون 1881 إنما تعيده الحكومة لتطبقه على "اللواء" وما يناصره من الصحف، ولم يطلب المجلسان العودة إلى هذا القانون بل طلبًا "سن قانون جديد" وفرق بين الطلبين؛ لأن سن قانون يقتضي عرضه عليهما، ومهما يكن رأيهما استشاريًّا فلن يكون في عنف قانون الثورة العرابية.
ومجمل القول في هذا القانون إنه طبق على مدى واسع وعلى الصحف المعارضة خاصة، فقد كتب الشيخ عبد العزيز جاويش في "اللواء" مقالًا عن ذكرى دنشواي2 واعتبرت النيابة المقال سبًّا في رئيس الحكومة
1 أقباط ومسلمون، ص98.
2 اللواء في 28 يونيو 1909.
لحياته من وجهة نظر معارضة تهون من شأنه في عيون الناس، وقضى الاستئناف بسجن الشيخ1 ثم أخذ "اللواء" بنشر مقالات عن حادث "نجرا" وهو طالب قتل كبيرًا من رجال الإنجليز السابقين في الهند، وكانت أخطر هذه المقالات المقالة الرابعة2 حتى اعتبرتها الحكومة تحريضًا على القتل السياسي وإعجابًا به3 وكانت قضية الشيخ جاويش أولى حوادث الصحف الوطنية من حيث تعرضها لقانون المطبوعات، وقد اختلفت في شأنها الصحف المصرية المتباينة، فكان معظم الصحف من عربية وفرنجية في جانب اللواء إلا "الإجبشيان جازيت" وجريدة "المقطم" وخاصة الأخيرة فقد ذكرى في قضية الشيخ تفاصيل ما سيجري في المحكمة وما سينطق به القضاء، وقد صح ذلك وجاء الحكم مطابقًا تمام المطابقة للمقدمات التي أذاعتها المقطم في صفحاتها4.
ومن الصحف التي راحت ضحية لقانون المطبوعات جريدة "القطر المصري"؛ ذلك لأن صاحبها نقل عن إحدى صحف الأستانة مقالًا لم يعجب المحرر فأخذ يفند ما فيه وينقد رأي كاتبه ويعارض اتجاهه غير أن الحكومة رأت في نشر المقال ما يمس النظام والأمن العام فأمرت بإغلاق صحيفة القطر المصري دون النظر إلى ما علق به الصحفي المصري وهو قمين بأن ينقذ صحيفته من سوء الظن وإن لم يعفها في نظر الحكومة من سوء التقدير5.
لم يحل قانون المطبوعات بالرغم من شدته دون عنف الصحف الوطنية، فكان كلما استبد القانون بها اشتدت هي في المعارضة، وأصدق ما يجري على هذه الحقيقة مشروع مد امتياز قناة السويس وهو مشروع شغل الرأي العام
1 الرافعي: محمد فريد، ص112 - 113.
2 اللواء في 17 أغسطس ثم في 10 و11 و20 يوليه في 7 و19 أغسطس عام 1909.
3 اللواء 5 أغسطس 1909.
4 الشباب، العدد الثامن.
5 الرافعي: محمد فريد، ص128.
المصري في نهاية عام 1909 وأوائل عام 1910 وكانت الحكومة تأمل في موافقة السلطات التشريعية على هذا الموضوع، غير أن "اللواء" أحس الاتجاه فبدأ محمد بك فريد يهاجم المشروع ابتداء من أواخر أكتوبر مهاجمة عنيفة مؤيدة بالحجج والأسانيد ونقلت عنه معظم الصحف المصرية عربية وفرنجية.
كان الناس ينظرون في أول الأمر إلى فكرة مد امتياز قناة السويس نظرة مادية خالصة فكانت المناقشة تدور حول ما تنتفع به مصر من الناحية المالية، وكان هذا هو اتجاه الصحف في نظرتها إلى الموضوع غير أن محمد فريد بك نشر في اللواء مقالًا ممتعًا تحت عنوان "مسألة قناة السويس -اعتبارات سياسية"1 وكان هذا المقال حجر الزاوية في رفض المشروع فيما بعد إذ نقل الكاتب الفكرة من البحث المالي إلى الناحيتين الأدبية والمعنوية وعلاقة ذلك بكرامة الوطن وحقوقه، وبهذا المقال وبغيره مما نشر في "اللواء" والصحف الأخرى رفض مشروع مد امتياز القناة وانتصرت الصحافة في أعظم معركة اهتمت لها الحكومة اهتمامًا منقطع النظير، واعتبر ذلك الرفض من وجهة النظر العامة أول انتصار وطني على الاحتلال منذ وجد في مصر ولم يفد دفاع الصحف الموالية للإنجليز أو المتحدثة باسمهم في إنقاذ فكرة المشروع.
وفي أثناء مناقشة هذه الفكرة حدث أن اغتال إبراهيم ناصف الورداني رئيس الحكومة بطرس غالي في 20 فبراير سنة 1910 لأسباب ذكرها القاتل بأنها تعود إلى تاريخ بطرس باشا ومواقفه من الحركة الوطنية وأساليبه في تناول الحكم، ويذكر الورداني أن الذي دفعه إلى هذا الجرم أن رئيس الحكومة قد وقع اتفاقية السودان سنة 1889 ثم رأس المحكمة المخصوصة في قضية دنشواي، وفي وزارته صدر قانون المطبوعات ووزراؤه أكثر الوزراء تحمسًا لتنفيذ مد امتياز قناة السويس2 وكان لهذا الحادث أثر كبير جدًّا في تضييق حرية القول
1 اللواء ابتداء من 25 أكتوبر 1909 ثم 1910.
2 الرافعي: محمد فريد، ص171.
والكتابة، كما كان له أثر خطير في انفصام وحدة الأمة بعدئذ، وقد أجمعت الصحف والحزب الوطني على استنكار هذه الحادثة، ومع ذلك فإن "الإجبشيان جازيت" ردت أصول الحادث وفروعه إلى اللواء1 وهو تهول في ذلك وتكبر وتمضي في أثناء محاكمة الورداني تكرر وتعيد في ذلك، وتترجم بعض مقالاته جريدة "المقطم" وشاركتها صحيفتا "المؤيد" و"الوطن" في الحملة على الحزب الوطني وإلقاء التبعة على مقالاته التي هاجت الناس وطوحت بإحساساتهم حتى خرج منهم هذا المجرم الشنيع.
وقد صدر بمقتل بطرس غالي ثلاثة قوانين كان مجلس الشورى قد أبى أن يقرها من قبل2 ويقضي الأول منها بإخراج الجنايات والجنح التي تقع بواسطة المطبوعات من اختصاص قضاة التحقيق والمحاكم الجزئية ويحيلها كأنها جنايات عادية ارتكبت ضد القانون على محاكم الجنايات التي ليس لها محلفون وليس لحكمها استئناف، والقانون الثاني يتعلق بنظام المدارس وهو يعاقب بالطرد من المدرسة كل طالب يشترك في مظاهرات في داخل مدرسته أو خارجها أو يكتب في الصحف أو يمدها بأخبار أو يقوم لها بعمل ما، ويعاقب القانون الثالث ما يقع من الاتفاقات "الجنائية" بين شخص فأكثر بالحبس مددًا مختلفة، والاتفاق الجنائي يتضمن كل ألوان التآمر والجمعيات السرية3.
وبالرغم من صدور هذه القوانين مضت "اللواء" في معارضتها للحكومة والاحتلال وإن تحاشت اللفظ الشديد، ولم يعفها الحذر أو التلطف في العبارة من المؤاخذة كلما تعقبت سياسة الاحتلال بالملاحظة والنقد، فنشرت مقالًا بعنوان "الزراعة والصناعة في عهد الاحتلال بين مصر والهند" وهو من أمتع
1 الإجبشيان جازيت 21 فبراير 1901.
2 العلم في 21 مايو 1910.
3 الإجبشيان جازيت 30 مايو و2 يونيه 1910.
البحوث التي اعتمد فيها كاتبها على الأرقام والمقارنة قبل اعتماده على شيء آخر وهو من المقالات الممتعة التي تزين تاريخ الصحافة المصرية وتوضح كفايتها ونضجها1 غير أن الحكومة لم يرضها هذا البحث ولم تقر هذا التوجيه فاعتبرت "اللواء" قد خرجت "عن حد الاعتدال واستعملت عبارات من شأنها إهاجة الخواطر بالطعن على أعمال الحكومة تحت ستار إسناد هذه الأعمال إلى الأمة الإنجليزية ونسبتها إلى كثير من المعايب التي تمس كرامتها" ثم قضت بإنذار "اللواء" في أكتوبر للمرة الثانية.
رأت "اللواء" في هذا الإنذار تعنتًا لا نظير له فأقامت الدعوى على الحكومة بشأن إنذارها2 وشغل هذا الإنذار الصحف المصرية جميعًا، فحملت عليه جريدة "العلم"3 بالطبع؛ لأنها الصحيفة الثانية للحزب الوطني وسخرت منه "البلاغ المصري" ومن المعاني التي انطوت عليه4 وأبت "الجريدة" أن تقره في أسلوبها الرفيع المعروفة به5 ورأيت "المؤيد" أن ما جاء بالإنذار سخيف وأنكرت على المقالة التي أنذرت من أجلها "اللواء" أي خروج على النظام6 ورأت رأيها هذا جريدة "وادي النيل"7.
وعلقت جريدة "البصير" بالأسكندرية على هذا الموضوع راجية أن يتسع صدر الحكومة للصحف وأن تقلل من مؤاخدتها له على الصغائر التي لا تضر
1 اللواء في 18 أكتوبر 1910.
2 محفوظات إدارة المطبوعات دوسيه رقم5.
3 العلم في 25 أكتوبر عام 1910.
4 البلاغ المصري في 25 أكتوبر 1910.
5 الجريدة في 26 و27 أكتوبر 1910.
6 وادي النيل في 17 أكتوبر.
بالمصلحة العامة1 ومضت "المقطم" تطعن في الحزب الوطني وصحفه2 وتزعم أنه حزب ثوري يعرض بالجناب الخديوي ويختزن السلاح توطئة لثورة يفجرها في البلاد3 ولم ترض معظم الصحف الأجنبية في مصرعه هذا الإنذار فحملت عليه حملة تتفاوت بين الشدة واللين4.
ثم حدث خلاف بين ورثة "اللواء" والحزب الوطني وعين يوسف بك المويلحي حارسًا قضائيًّا، ولهذا الخلاف أصول أرخت لها الوثائق في إدارة المطبوعات وبينت الكفاح الذي دار حول الصحيفة بين القصر والحزب الوطني فقد أوحت المعية إلى الحارس القضائي أن يتدخل في توجيه سياسة الجريدة وأبى زعيم الحزب هذا التدخل وترك "اللواء" وبقي الكفاح متصلًا حتى انتهى الأمر بتوقيع الحجز على آلات الجريدة وخسرت الحركة الوطنية أعظم ألسنتها وأقدمها5 ثم قررت اللجنة الإدارية للحزب الوطني في أول مارس سنة 1910 نشر جريدة "العلم" برأسمال قدره خمسة آلاف جنيه زيدت إلى أحد عشر ألف جنيه، وهي شركة غير تجارية ولا أمل فيها لربح شخصي إذ تقرر أن تضاف الأرباح إلى رأس المال، وقد قام مكاتبو "اللواء" ومراسلوه القدامى بالدعوة "للعلم" في المدن والأقاليم وتعريف الناس على أنه لسان الحزب الوطني ثم عين للجريدة مندوب في الأستانة يمدها بالأنباء الخارجية وهو أحد المتهمين في قضية الورداني.
1 اللواء في 26 أكتوبر 1910.
2 المقطم في 26 و29 أكتوبر 1910.
3 اللواء في 27 أكتوبر 1910.
4 الإجبشيان جازيت في 25 أكتوبر، وجورنال دي كير ولابورص إجبسيان في 26 و30 أكتوبر ولاريفورم في 31 منه.
5 محفوظات المطبوعات، دوسيه رقم5.
ولما لم تفلح الحكومة في القضاء على حركة الحزب الوطني بالقضاء على "اللواء" أنذرت "العلم" ثم استبدلت بالإنذار التعطيل لمدة شهرين في 20 مارس سنة 1910 حتى تتخلص من نقده ومعارضته في أثناء نظر مشروع القناة في الجمعية العمومية وخلال محاكمة المتهمين في قضية الورداني، وذلك بناء على إشارة الوكالة البريطانية، ومع أن صحف "مصر الفتاة" و"المؤيد" كتبت موضوعات مماثلة وأشد لهجة من "العلم" دون أن تنذر أو تغلق1 فنشر الحزب الوطني جريدة "الاعتدال" ثم "الشعب" ثم "العدل" إلى أن عاد "العلم" إلى الظهور في 20 مايو سنة 1910.
وقد شاب هذه الحركات الصحفية الحرة نزعة لم يعرفها مؤرخ الصحافة المصرية في تاريخها جميعًا وتنزهت عنها الصحافة الوطنية في أدق مواقفها مع بذل الجهد لإثارتها في الثورة العرابية أو خلال حركة مصطفى كامل، وهذه النزعة هي المشكلة القبطية الإسلامية التي أثارتها عدة عوامل بعد وفاة زعيم الحزب الوطني في سنة 1908 فقد بدأت الصحف الإسلامية، و"المؤيد" و"الجريدة" خاصة، ترد في شهر مايو من تلك السنة على جرائد الأقباط التي بدأت تبحث في أمر الوظائف والموظفين وعدالة القسمة فيها بين النصارى والمسلمين، ووقفت "الوطن" لكليهما وحملت عليهما في عنف وشدة2.
ومع أن مقالات "المؤيد" و"الجريدة" خلت من هذا العنف الذي نشرته "الوطن" فإن الوطن اعتبرت الحديث في أمر الوظائف والموظفين شيئًا يستوجب هذا العنف فاضطر "اللواء" إلى النزول في الميدان ونشر الشيخ جاويش مقالًا عنيفًا جدًّا ردًّا على ما جاء بمقال "الوطن" وهو يرد على هذه اللهجة العنيفة بعنف يماثلها ويزيد عليها في أسلوبه المأثور عنه3 وقد أدى
1 محفوظات وزارة الداخلية دوسيه العلم رقم 168.
2 الوطن في 15 يونيه سنة 1908.
3 اللواء في 17 يونيه 1908.
هذا النقاش الصحفي إلى خصومة عنيفة بين المسلمين والأقباط كان صداها في تلك البرقيات التي أرسلت من المسلمين إلى ناظر الداخلية ليحاكم صاحب "الوطن"، كما أرسلت برقيات مماثلة من الأقباط يحتجون على عبارات "اللواء":"بإحساسات مجروحة يلتمسون من عطو فتلو أفندم ناظر الداخلية وجناب المعتمد البريطاني بسرعة ملافاة الأمر قبل استفحاله" وكاد الأمر يستفحل حقًّا فقد دعا الأقباط إلى اجتماع بحديقة الأزبكية كادت تحدث فيه فتنة، وذهب كثيرون إلى المفوضية الفرنسية يشكون الشيخ جاويش على اعتباره من رعايا فرنسا التونسيين1.
وقد استطاع الحزب الوطني أن يرأب الصدع ويقف هذا التيار بمجهود العقلاء والحريصين على وحدة البلاد، غير أن السياسة الإنجليزية ما فتئت تخلق المنازعات بين العنصرين، وأظهر ما صنعته في هذا الميدان تعيين بطرس غالي باشا للنظارة، وتتحمل "الوطن" و"مصر" خاصة وزر العودة إلى الموضوع كما تتحمله أيضًا الصحافة الوطنية الإسلامية، فقد كان اتجاهها إسلاميًّا محضًا، حتى الصحف التي صدرت معارضة للحركة الوطنية وموالية أشد الموالاة للاحتلال جعلت من أسس حياتها الأولى الناحية الإسلامية، وقدر أن يكون على رأس الصحفيين الوطنيين رجل متحمس كعبد العزيز جاويش وصل السياسة بالدين وجعل للدين أثرًا في السياسة العامة، وقد أعقب فترة الهدوء بين العنصرين مقتل بطرس باشا فأثار هذا الحادث أوار النار من جديد.
ونحن نقرر في جزم أن بعض الصحف المسيحية تتحمل أكبر قسط من المسئولية في استئناف هذا الموضوع، فقد عادت "الوطن" إلى التحدث فيه تحت عنوان "هنا وهناك"2 وأخذت تسب اللواء "المرذول جريدة حزب الخراب والشر" ثم تستعيد ما نشر في صحيفته في ظروف مماثلة، ومع أن
1 محفوظات الداخلية دوسييه رقم5.
2 الوطن في 23 مارس 1910.
أسلوب محرر "الوطن" بدأ في إثارة الأزمة لينًا ورفيقًا إلا أنه أعاد الكرة بعد بضعة أيام مشيرًا من طرف خفي إلى تخوف الأقباط من الدستور؛ لأن معنى الحياة في ظل الدستور كما يرى الكاتب "أن تصبح البلاد وحكومتها في قبضة قواد الحركة الحالية بلا سلطة فعلية من الجناب العالي ولا رقابة حقيقة من الدولة العلية"1، ومن مقالاتها الخطيرة التي زادت الخلاف حدة الفصول التي نشرتها حاملة على الحكومة والشيخ جاويش والتي استعدت فيها الإنجليز على الشيخ "عدو الإنجليز والأوربيين عامة وعدو الأقباط وعدو السوريين وعدو عقلاء المصريين" كما نشرت تعليقًا على فض الجمعية العمومية وهي تظهر خصومتها للدستور ثم نشرت مقالًا توقع فيه بين الخديوي ورجال الحزب الوطني2.
ومنذ بدأت الصحافة المسيحية تقحم المسألة الدينية في سياستها استفحل الخلاف بين المسلمين والأقباط، وأرسل الآخرون إلى لندن في يونيه 1910 قرياقص ميخائيل كممثل للصحافة القبطية في مصر وكداعية لأغراض الأقباط هناك، وقد استقبلته الصحافة الإنجليزية وأحزابها استقبالًا عظيمًا، ونشرت إحدى وعشرون صحيفة المقالات الطويلة في موضوع الخلاف الديني في مصر وبدأت حملة الصحف الإنجليزية في 20 سبتمبر سنة 1910 واستمرت إلى 23 سبتمبر سنة "1911"3 واهتمت الصحف المصرية الإسلامية والصحف القبطية والأجنبية في مصر بهذا الموضوع اهتمامًا جعل المسألة الوطنية في المرتبة الثانية، واشتركت "المؤيد" و"الجريدة" و"اللواء" و"العلم" و"الأهالي" من الناحية الإسلامية، و"الوطن" و"مصر" من الناحية القبطية، اشتركت
1 الوطن في 13 أبريل 1910.
2 الوطن في 5 و11 و16 أبريل.
3 أقباط ومسلمون، ص104 - 134.
جميعها في هذا الموضوع، وأكثر ما في هذه المشكلة غرابة موقف الإنجليز ثم موقف جريدتي "الأهالي" و"المقطم".
ولقد كان معروفًا أن أكثر الصحف الفرنجية في مصر تناصر الأقباط في حركتهم، وكان معروفًا أيضًا أن الصحف المصرية الإسلامية جميعًا وبلا استثناء تجادلهم بالعنف وتحمل عليهم أشد الحملات، أما الإنجليز فموقفهم غريب حقًّا فصحاتهم في مصر وإنجلترا تزيد لهيب هذا الخلاف إذ يذيع روتر في 26 يناير سنة 1911 حديثًا للسير جورست بأن "الأقباط والمسلمين يعيشون في سلام لو تركوا وحدهم"1 وتقول "التيمس" عن جريدة "الوطن""إن لهجتها مازالت شديدة ومهيجة منذ إعدام الورداني" ثم تعقب على إنذار الحكومة للوطن "وأهم من مسألة إنذار "الوطن" اغتنام الأقباط هذه الفرصة لبسط شكاواهم للرأي العام وللحكومة البريطانية نفسها" ثم تعلق على مطالبة الأقباط بوظائف المديرين "إن القدرة على معاملة الناس التي هي صفة من صفات الحاكم الإداري الضرورية ولا سيما في المديريات لم تكن يومًا من الأيام من الصفات القوية للأقباط"2 وفي موقف جورست والتيمس ما يغري بالحكم بأن الإنجليز الرسميين كانوا في جانب الحركة الإسلامية، وهذا في الواقع لون من السياسة لم يفت مؤرخي ذلك الزمن فعلقوا عليه بالملاحظة والتفنيد.
أما جريدة "الأهالي" لصاحبها عبد القادر حمزة فكانت صحيفة معتدلة لم تخل من حملة جريدة "الشعب" عليها3 ومع أنها صحيفة شبه رسمية وشديدة الصلة برئيس الحكومة وأول من دعا إلى عقد مؤتمر للمسلمين إلا أنها كانت تعالج الخلاف برفق4 حتى أن الوطن ذكرتها وهي تهاجم الصحف الإسلامية
1 الأهالي في 2 فبراير 1910 و18 يناير 1911.
2 المصدر السابق.
3 الوطن في 23 مارس 1910.
4 أقباط ومسلمون، ص32.
جميعًا "لو أن الصحف الإسلامية كلها تجادلنا بالتي هي أحسن على طريقة "الأهالي" الغراء لما سمع الناس بذكر التعصب والانقسام ولا كان في القطر صوتان متنافران بل كان المصريون كلهم حزبًا وطنيًّا واحدًا له غاية في واحدة هي ترقية مصر وبنيها والاستقلال التام"1.
أما "المقطم" فكانت أقل الصحف اشتراكًا في هذه المعمعة، وحين كانت الصحف الأخرى في سعير هذا الخلاف كان "المقطم" يملأ صفحاته بالمسائل الخارجية وأهمها "مجلس المبعوثان" لمندوبه الخاص في الأستانة، وقلما كانت "المقطم" تنشر برقيات الأقباط ومؤتمريهم، وقد دعت إلى السلامة ونصحت الفريقين بها، ولم تلق بدلوها في الموضوع وقالت في إحدى مقالاتها عن تحاشيها الخوض في هذا الخلاف "إن كان يمكن أن يعد كلام جريدة اليوم من فضة، فسكوتها يعد من ذهب وجواهر كريمة لا محالة" ثم تذكر في يوم آخر أخبار "المؤتمر المصري" وتمدح سياسته وأمانيه2.
ثم أنتج الخلاف الصحفي المؤتمرين القبطي والمصري، فأما الأول فقد أعرضت عنه الحكومة ودار الوكالة البريطانية وأعلن البطريرك أنه لا يمثل الطائفة في شيء وتبعه رءوسها وعيونها فمثل المؤتمر بذلك فئة صغيرة ثائرة، وأما المؤتمر الإسلامي فقد رأسه رياض باشا وأكبرته الصحف الوطنية جميعًا وباركت قراراته وفيها يرفض أكثر ما طالب به الحزب القبطي الصغير3.
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف الصحفي فقد خسرت فيه مصر أكثر مما كسبت طائفتاها، فإن المسائل الوطنية العليا أصبحت في المرتبة الثانية بالنسبة للخلاف الديني، وخرج الاحتلال من ذلك سليمًا فلم تقحمه الصحف في الموضوع لا الإسلامية منها ولا القبطية، وانتهى المؤتمران إلى قرارات اتخذت
1 الوطن في 4 يناير 1911.
2 المقطم 8 و13 مارس 1911.
3 اللواء في 4 و9 مارس 1911 وما بعدهما.
لم يشر واحد منها إلى احتجاج على احتلال أو مطالبة بدستور، غير أن هذا الخلاف قد ترك لنا ثروة أدبية طيبة، فقد أنتج الأدباء والشعراء روائع الأدب وبدائع الشعر في تأييد وجهات النظر المتباينة، وترك لنا كتبًا عربية وفرنجية1 أرخت الخلاف ومصادره ونتائجه.
ومع أن الخلاف كان شديدًا جدًّا بين صحافة العنصرين فإن إنذار الوطن قد ساء الصحف جميعًا، وهو موقف نادر بين تلك الصحف وغريب في مثل هذا الوقت، ويجمل هذا مكاتب "التيمس" في 17 يناير سنة 1911، بقوله:"وقد أحدثت هذه الحادثة حركة كبيرة في الصحافة المصرية من وطنية وأجنبية ولعل السبب في ذلك أن أسخط الصحافة عام على قانون المطبوعات؛ لأن جرائد مصر مهما تباينت مبادئها واختلفت مذاهبها تتفق على انتقاد هذا القانون وتقييد حرية الصحافة به"2، والأصل في هذا الإنذار أن "الوطن" نشرت مقالات عارضت فيها قرار الحكومة القاضي بطبع بعض الكتب العربية القديمة، ودارت في ذلك مناقشات حادة بين "الوطن" والصحف الإسلامية.
وكان من حزب الجريدة القبطية "ذا إجبشيان جازيت" لسان الجالية البريطانية، وكذلك اتخذت جانبها "لابورص إجبسيان La Bourse Egyptienne لسان الجالية الفرنسية، وسمت إنذار الحكومة للوطن عودًا إلى القرون الوسطى ولا يجوز أن ينعقد مجلس النظار لمثل هذا في القرن العشرين، وسار على هذا النهج معظم الصحف الأجنبية مواسية "للوطن" في محنتها "كلاريفورم" و"ليجبت" نصيرة المسلمين كما يسميها قرياقص في كتابه3 وانتصرت لها أيضًا الصحف الإسلامية وعلى رأسها "اللواء" بالرغم من أن الإنذار كان نتيجة لخلاف بينها وبين "الوطن"، غير أن "اللواء" تحتج على الحكومة وتأبى عليها التدخل في شئون الصحافة ولو كان تدخلًا ينصر الصحف الإسلامية
1 راجع الوطن في 8 أبريل 1910 ومحفوظات الداخلية دوسيه رقم4.
2 نقلًا عن الأهالي في 17 يناير 1911.
3 أقباط ومسلمون ص100 - 102.
ما يدعو إلى انحراف الوطنيين عن جهادهم الرئيسي في سبيل الاستقلال والدستور ظن "العلم" أن تعيين كتشنر بعد وفاة جورست سيبدل الموقف؛ لأن في خلق هذا العسكري ما لا يحتمل الملاينة والملاطفة نحو القصر وبطانته، ومن ثم تعود الوحدة إلى أصلها والكفاح إلى ذروته فمضى يحمل على الحكومة والإنجليز حملات شعواء أهمها مقالته التي نسب فيها إلى الحكومة نكايتها بتركية في الحرب الطرابلسية وحمل الاحتلال مسئولية هذه القصة1 فطلب اللورد كتشنر إغلاق "العلم" نهائيًّا ووقف صحف الحزب الوطني جميعًا كما تقول "المحروسة"2 ولم تنف محفوظات الداخلية رواية هذه الجريدة غير أن الخديوي وحكومته توسطًا في الأمر فأصدرت الوزارة قرارًا بتعطيل "العلم" شهورًا ثلاثة "لسلوكها مسلك الطعن في الحكومة" بما يحمل الناس على كراهيتها3 فأصدر الحزب الوطني في 20 ديسمبر سنة 1911 جريدة "الشعب" لسانًا له بعد تعطيل "العلم".
وأصبحت "الشعب" و"اللواء" -وإن اختلفتا فيما بينهما- الجريدتين المتطرفتين في ذلك الوقت، فأما "اللواء" فقد أصدرت الوزارة أمرًا بتعطيلها نهائيًّا بحجة أنها عينت محررًا مسئولًا دون أن تحصل على إذن بذلك؛ ولأن بعض رجالها والقائمين بأمرها قد صدرت عليهم أحكام قضائية عقابًا لهم على أمور موجبة للاضطراب ومخلة بالأمن العام4، وليست هذه هي الحجة الصحيحة فقد عرفنا لجريدة "اللواء" معارضتها العنيفة طوال حياتها غير أن أكثر ما ضايق حكومة ذلك الوقت نشرها مقالًا لمحمد فريد بك في العدد 3847 خص فيه بالذكر إنشاء الدولة لصندوق التوفير واعتبره حيلة لجمع أموال الفلاحين ليستثمرها الإنجليز في البنك الأهلي، ثم حمل على الحكومة؛ لأنها عرقلت
1 العلم في 18 ديسمبر 1911.
2 المحروسة في 23 ديسمبر 1911.
3 محمد فريد للرافعي، ص286.
4 محفوظات إدارة المطبوعات دوسيه 11 - 2 - 1860.
مشروع النقابات الزراعية حتى لا يعرف الفلاح لذة الاتحاد فيطالب بحقوقه المسلوبة، وذلك بإيحاء من الاحتلال ورجاله الذين حاباهم المسئولون هم والتليان وآثرتهم على تركيا في جميع المواقف الأخيرة1.
ومضت الوزارة في تنفيذ سياسة الشدة مع الحزب الوطني فررت في 7 نوفمبر سنة 1912 تعطيل جريدة "العلم" -وكانت قد عادة إلى الظهور- تعطيلًا نهائيًّا؛ لأنها نشرت مقالات في اليوم السابق على التعطيل لمحمد فريد بك عن الحرب البلقانية وما أصاب تركيا فيها من الهزائم، وقد حمل الكاتب الصدر الأعظم مسئولية ما انتهى إليه أمر الحكومة التركية من فساد، ورأت الوزارة المصرية أن الكاتب يحمل على صديق الإنجليز في الأستانة فأمرت بوقف الجريدة وقالت في سبب ذلك، "وحيث إن هذه المقالة التي ختمت بالطعن الشديد في ولاة الأمور العثمانيين الذي ألقى عليهم تبعة ما أصاب الجيش العثماني إنم هي مقالة من شأنها إثارة خواطر المسلمين وإيغار صدورهم نحو ولاة الأمور المذكورين في هذه الظروف التي تستلزم الهدوء والسكينة وحيث إن هذه الجريدة اعتادت نشر ما يكدر صفو الراحة العمومية فضلًا عن أنها لسان حزب اتخذ رئيسه لنفسه خطة التهييج وحيث إنه سبق صدور قرارين بتعطيل هذه الجريدة مرتين الأولى لمدة شهرين بتاريخ 19 مارس سنة 1910 والثانية لمدة ثلاثة شهور بتاريخ 19 ديسمبر سنة 1911 فلهذه الأسباب ومحافظة على النظام العام تقفل جريدة "العلم" التي تصدر بالقاهرة من تاريخه"2.
وقد أظهر تعطيل "العلم" الخصومة العنيفة التي كانت بينها وبين بعض صحف مصر في ذلك الوقت، وهي خصومة انتهى أمرها بقرار التعطيل، غير أن وداع معاصراتها لها رسم للمؤرخ صورة لمذهب الصحف واتجاهها
1 محفوظات إدارة المطبوعات، دوسيه رقم5، وهذا المقال حوكم من أجله محمد فريد غيابيًّا وحكم عليه بالسجن سنة مع الشغل.
2 نقلًا عن الرقيب في 8 نوفمبر 1912.
من حيث وزنها للمعارضة النزيهة والخصومة الشريفة، فأما موقف "الأهرام" فكان موقف الآسف المقدر للجريدة تاريخها وكفاحها1 وكذلك كان رأي جريدة "وادي النيل"2 وأخذت جريدة "الإكسبريس" على الحكومة هذا العنف في تعطيل "العلم" وخاصة أنها صحيفة الرأي في بلد في أشد الحاجة إلى الصحف المعارضة لافتقاده المجالس النيابية، واعتبرت تعطيل "العلم" لذلك، وهي صحيفة الحزب الوطني، ضررًا على الحكومة ورجالها قبل أن يكون ضررًا على الشعب نفسه"3.
ثم صدرت "المقطم" بمقال طويل علقت فيه على تعطيل "العلم" معلنة كراهيتها لقانون المطبوعات، غير أنها ترى أن إحياء القانون مصدره تصرفات محمد فريد بك وعبد العزيز جاويش، وهو توازن بين كراهيتها لهذا القانون وبين تعطيل "العلم" فتميل إلى احتماله إذا كان تلك آثاره4 ثم تشيعها "الوطن" بقولها: إنها "أكثر جرائد القطر المصري انتشارًا؛ لأنها لسان الحزب الوطني وكان بعض الدوائر تحسب له حسابًا وتسرع إلى إجابة مطالبه في كثير من الأحيان".
ثم تعلق على قرار التعطيل "ولكن العلم بطر وأسرف في الذم وبالغ في إسراف العداء لسمو الأمير وحكومته" وتوضح موقف الاحتلال بقولها أن اللورد كتشنر "السياسي الفطن والبطل المغوار أطال زمان الصبر والتساهل أيضًا"5 وتذهب إلى هذا الرأي أيضًا جريدة "الرقيب" فتقرر أن الإغلاق كان عقب مقال لمحمد فريد بك الذي كان "شرًّا على الحزب وصحفه في "الظعن والإقامة"6 ولم يجر في هذا الاتجاه من الصحف الأجنبية إلا جريدة
1 الأهرام 8 نوفمبر 1912.
2 وادي النيل في 9 نوفمبر، والإكسبريس في 10 نوفمبر، والمقطم في 7 نوفمبر 1912.
3 المصدر السابق.
4 المصدر نفسه.
5 الوطن في 8 نوفمبر 1912.
6 الرقيب في 8 نوفمبر 1912.
" La Finance Egyptienne"1 و"الإجبشين ميل" التي رحبت بتعطيل "العلم" واعتبرت ذلك "إشارة إلى نهاية عهد من آلم العهود في تاريخ مصر الحديث"2.
ومنذ أواخر سنة 1912 أصبحت جريدة "الشعب" لسان حال الحزب الوطني، وتولى رياسة تحريرها أمين الرافعي بك وهو من خيرة صحفيي الحزب الوطني ورجال الصحافة المعدودين، وقد وقفت جريدة "الشعب" عن الصدور في 27 نوفمبر عام 1914 احتجاجًا على رقابة الحكومة العنيفة للصحافة المصرية، ومنذ اعتبار "الشعب" لسانًا للوطنيين إلى يوم احتجاجها وهي في كفاح مستمر مع الحكومة التي هددت بتعطيلها إذا نشرت مقالات محمد فريد التي كان يرسلها من أوربا.
ولم تقوَ الصحف الوطنية المهمة على أداء وظيفتها منذ سفرت الحكومة في محاربة الصحافة حربًا لا هوادة فيها، وتقرر ذلك جريدة "الشعب" فتؤكد أن إرهاب قانون المطبوعات ضيق على الصحف فأخذت خوفًا منه تصور الرأي العام صورة مشوهة كما أنه جعل الصحافة الإسلامية في تناقص وزاد في الجرائد القبطية3، وكان من أهم الصحف الوطنية الباقية جريدة "المؤيد" التي اتجهت إلى المسألة العثمانية منذ أصبحت شركة مساهمة5 ومضت تنشر المقالات عن المسألة الشرقية بقلم السيد رشيد رضا6 وقد وقف محررها قلمه
1 لافينانس إجيبسيان 9 نوفمبر 1912.
2 الإجبشيان جازيت 7 نوفمبر 1912.
3 الرافعي: محمد فريد، ص340.
4 أغلقت ست صحف ولم ينشأ على نقاضها إلا صحيفتان هما "الرقيب والإقدام""راجع الشعب في 8 مايو 1912".
5 المؤيد في 27 مارس 1909.
6 المؤيد في سنة 1911 وخاصة مقالته في 18 أكتوبر وقد ترجمتها الصحف الفرنجية.
على الحملة على المسيحيين في الجيش العثماني بعد حرب البلغار1 وأخيرًا تنحى عنها الشيخ علي يوسف في سنة 1913 بعد أن عين شيخًا للسادة الوفائية وبيعت أدوات "المؤيد" وختم تاريخه الحافل في 17 أبريل عام "1916"2 ولم تبلغ مصر الحرب العظمى حتى كان صحف الأحزاب الثلاثة قد تعطلت إما بفعل الحكومة كما هو ظاهر من ختام حياة "الشعب" أو بتنحي رجالها عنها كما حدث في "المؤيد" أو لاضطراب في ماليتها وإيثار محرريها وظائف الحكومة كما دلت عليه حال "الجريدة" إذ ذاك، ولم تعش الصحف الأخرى وأهمها "الأهرام" و"المقطم" في القاهرة "والأهالي" و"البصير" في الإسكندرية إلا بما اصطنعت من مسايرة الظروف حتى مرت الحرب العظمى وبدأ التاريخ يخط صفحة جديدة في حياة الصحافة المصرية.
ويجدر بمن يؤرخ للصحافة المصرية منذ الاحتلال إلى قيام الحرب العظمى أن يذكر بعض السمات العامة التي اتسمت بها صحافة ذلك العهد، وهي صحافة استكملت أسباب النضج من حيث الشكل والموضوع معًا، فقد مكن لها اختلاف السلطات على تناول الحكم فأصبحت صحافة أصيلة تمثل حزبًا من الأحزاب أو رأيًّا من الآراء، غير أن أساطين الرجال العاملين فيها كانوا جميعًا من أبناء المدرسة القديمة، حديثي السن منهم أو الطاعنين فيها، الدارسين للثقافة الغربية أو العالمين بآداب العرب وعلومهم وحدها، فقد كان مصطفى كامل وعلي يوسف وغيرهم فيما خلا محرري "الجريدة" و"الأهرام" يربطون بين حرية مصر واستقلالها وحرية تركيا وآمالها، تغلب على اتجاهاتهم وميولهم النزعة الدينية.
وقد يكون الأسلوب السياسي وحده هو الذي جعل مصطفى كامل يظهر بهذه الصورة التي شرحناها، أما غيره من الصحفيين ورجال الرأي الذين
1 المؤيد في 5 نوفمبر و6 ديسمبر 1912.
2 محفوظات إدارة المطبوعات، دوسيه رقم3 مكرر.
عملوا على توثيق الروابط المصرية التركية فكانت تلك عقيدتهم التي أخذت على مداركهم كل تفكير أو تحليل أو تقدير، بيد أنهم خلقوا في جو الصحافة جديدًا لم يكن معروفًا من قبل ذلك وهو نشر الصحف عن طريق الشركات والجماعات "كاللواء والمؤيد والعلم والجريدة" في وضع يشبه كثيرًا ما اتبع في كبريات الصحف الأوربية، وارتبط هذا بإنشاء الأحزاب، فأضحت أهم الصحف تلك الصحف الحزبية التي تمثل الفكرة أوضح تمثيل، وقد انتشر أثرها على الجماهير في مصر فتحزبوا لها واعتبروها مرآة لهم فيها آمالهم وأحلامهم، وكانت الصحف الحزبية تقرأ في العالم العربي في العالم الإسلامي، وتستقبل في العالمين استقبالًا حسنًا، كما تولت بعض الهيئات إصدار الصحف كما صنع الأزهر في مجلته الغنية بالبحوث الأخلاقية والموضوعات الدينية.
وشهد ذلك العهد الصحافة المصورة، الهازلة منها والجادة، حافلة بصور الحوادث والأشخاص معلقة على أحداث مصر السياسية والاجتماعية شعرًا ونثرًا وزجلًا، غنية بالنكتة الرائعة والسخرية اللاذعة، ويؤثر عن هذا العهد جديد في العاملين في الصحافة فقد ألقيت شئونها منذ أنشئت في مصر إلى الرجال وحدهم وقلما كانت تطالعنا سيدة بمقال أو حديث، إلى أن نزلت إلى ميدانها المصريات فأنشأن أربع عشرة مجلة نسائية في مصر والإسكندرية وفي ذلك إيماءة إلى تغير الأحوال وتخلص الجيل من تزمته.
وللصحافة المصرية في ذلك العهد أثر غير منكور في إحياء اللغة العربية وآدابها في شعب يتحدث سادته اللغات الأجنبية ويفرض المحتل لغته عليه ويقدمها على سائر اللغات فيجعلها ضمن أدوات حكمه في الدواوين والمدارس بجانب المعاهد الأجنبية المختلفة التي جعلت اللغة العربية في المحل الثاني أو الثالث، وقد استطاعت اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية أن تنتزع من اللغة التركية سيطرتها الأولى ولم تملك القضاء على اللغة العربية التي أحيتها وقوتها الصحافة بانتشارها ومجادلاتها في المسائل السياسية والاجتماعية والدينية وهي مسائل اتصلت بكل موضوع سواء في الأدب أو العلوم أو القانون، ولم تعد الصحافة كما كانت من قبل ذيلًا لأفراد يمثلون فكرة من الأفكار فهي تحمل على الإنجليز كما تحمل
على الخديوي، وأخذت الجهات الرسمية جميعًا تترضاها وتتوخى محاسنتها بالتأييد الأدبي أو المادي أو تحاربها بالقوانين واستبدادها.
ويعتبر عهد عباس الثاني أعظم عهود الصحافة المصرية في تاريخها إلى الحرب العظمى؛ لأن مناصرته لها ولرجالها نشأ عنها نشاط أدبي منقطع النظير، فإلى عهده يرجع سجال الصحف في الآداب والاجتماعيات، وفي عصره عرف شوقي وحافظ وغيرهما من الشعراء والناثرين، وبل من بينهم من كان في معيته وركابه ومن عاش في عطفه وبره ونشرت له الصحف أفضل المقالات وأروع القصائد، وفي عصره نشأت فئة من الشباب كان لها في الميدان الصحفي بعد الحرب أبعد الأثر وهؤلاء من تلامذة صحف عباس الثاني وطلابها المجدين.
وكان الصحف المصرية تنحرف عن الجادة بين آن وآخر في ذلك العهد انحرافًا يعطل القضية المصرية، فكانت تشغل أحيانًا بالمسائل الشخصية كقضية الزوجية أو قضية القبط والمسلمين، وتنشر من التعبيرات في مساجلاتها الحزبية ما أثر في جيلنا، وكان هذه المهاترات الصحفية من أقبح ما ورث عن جيل الاحتلال.
وقد نجحت الصحافة المصرية في علاج الصدمة التي لقيتها مصر من الاحتلال، فقد ردت الأمن إلى النفوس وخرجت بالناس إلى الوجود وعلمتهم أن الهزيمة تاريخ لا ينبغي أن يعيشوا في أعطافه، وأن الاحتلال شيء لا ترضاه الشعوب الحرة، وأن ما فشلت فيه القوة الحزبية تستطيعه القوة المعنوية الكامنة في الأمة المصرية، وأن الحياة ليست ملك الأرض والتفنن في الطعام بل هي شيء أغلى من الأرض والطعام، وأن إصلاحات الإنجليز رد للحقوق إلى أصحابها وليست عملًا يفرض الاحتلال أو يمكن له، فآمن الناس بأنه شيء بغيض، ورأوا أن نظمه وأدواته عمل رجعي لا يحتمل، حتى فكر الإنجليز آخر الأمر في تغيير الأساليب القديمة وإنشاء الجمعية التشريعية خطوة لما بعدها وكان الأمل عريضًا في نجاح للصحافة أبعد من هذا لولا أن الحرب العظمى عاجلت المصريين فحدت من نشاط الأقلام، وختمت جهاد الصحافة على الصورة التي شرحناها بعد ثلاثين سنة من الجهاد.