المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الصحافة المصرية بين الحربين العالميتين: - تطور الصحافة المصرية ١٧٩٨ - ١٩٨١

[إبراهيم عبده]

الفصل: ‌الصحافة المصرية بين الحربين العالميتين:

‌الصحافة المصرية بين الحربين العالميتين:

اعتبرت مصر تحت الحماية البريطانية في الحرب العظمى منذ 2 نوفمبر عام "1914"1 فلم تعد الصحافة المصرية قادرة على أداء وظيفتها إذ خضعت لرقابة الرقيب، ثم أعلنت الهدنة وأخذ المصريون يطالبون بحقهم في الحياة الحرة المستقلة، وأثر عن هذه المطالبة بحقوق مصر أن تألف الوفد المصري برياسة سعد زغلول باشا وكيل الجمعية التشريعية المنتخب، وكان موقف الصحافة المصرية إذ ذاك موقفًا حرجًا دقيقًا، غير أن أمين الرافعي استطاع في وقت الضيق الذي نزل بصحافة مصر أن يصدر صحيفة "الأخبار" في 22 فبراير سنة 1920 وهي أهم وأخطر صحف ذلك العهد من حيث تحريرها أو تعبيرها عن الأماني المصرية، وصاحبها رجل حنكته التجربة الصحفية وله في تاريخ الصحافة المصرية مواقف قلما وقف إلى جانبه فيها صحفي من الصحفيين المعارضين، وقد قطع حياته الصحفية مثلًا من أمثلتها الرائعة سواء كانت قبل الحرب العظمى أو بعدها.

وقد حملت "الأخبار" لواء الفكرة الوطنية، زاملتها "الأهرام" بعد وصول لجنة ملنر في 7 ديسمبر سنة 1919، فخرجت عن تحفظها ومضت قدمًا إلى الجانب المصري تعبر عن الأماني المصرية أحسن تعبير، وقد أطلقت حرية الصحافة بالرغم من القيود الرسمية المفروضة عليها، وأكبر الظن أن بعثة ملنر " Milner" داخلًا في تقرير هذه الحرية التي بدونها يعز على هذه البعثة فهم الموقف على حقيقته، وقد أشار تقرير ملنر إلى

1 الوقائع المصرية "عدد خاص" في 2 نوفمبر عام 1914.

ص: 209

ذلك كله1 ثم صدرت جريدة "الاستقلال" لمحمود عزمي في مايو عام 1921 وحرر فيها طه حسين، وكان الصحيفة خالية من العنف الذي أثر عن جريدة "الأخبار" ثم نقل امتيازها فيما بعد إلى جبرائيل تقلا صاحب "الأهرام" وقد ظهرت الاستقلال في فترة الخلاف فيها بين الوطنيين على مسائل تتصل بالمفاوضات.

ومنذ اختلاف الوطنيين على تفاصيل الحركة الوطنية، وتوزع طرائق النظر إلى الأهداف العليا، بدأ المصريون يؤلفون الأحزاب والشيع، فكان هناك الوفد المصري بزعامة سعد زغلول وكان كثير من أعضائه أعضاء في حزب الأمة القديم، ونشأ حزب الأحرار الدستوريين من بعض أعضاء هذا الوفد، وأصدر هذا الحزب جريدة "السياسة" في 30 أكتوبر سنة 1922 ورأس تحريرها محمد حسين هيكل، وهي من أنضج الصحف المصرية من حيث دراستها للمباحث الداخلية والمسائل الخارجية، وقد حرر فيها نخبة من الكتاب المصريين كطه حسين ومحمد عزمي وتوفيق دياب وغيرهم.

وعن جريدة "السياسة" تؤثر نشأة التجديد في حياتنا الاجتماعية، فقد دافعت عن المرأة وجعلت موضوعها حديثًا يشغل بعض صفحاتها، كما أفردت لها بين آن وآن صحيفة مصورة تعني بمسائلها المختلفة، وعن هذه الجريدة عرف التهكم السياسي إن صح التعبير، في مقالات الدكتور طه حسين، كمنا ظهر النقد البرلماني عندما أصبحت الحياة الدستورية حقيقة واقعة، وكان صاحب هذا الباب الجديد في الصحافة المصرية الدكتور محمود عزمي، عدا الأبواب الأخرى التي حفلت بها، فقد عنيت بالقصة وموضوعها، وخصصت بين الفينة والفينة صفحة للشئون الزراعية ومسائلها المتباينة، وبهذا وبغيره كانت "السياسة" من أولى الصحف التي عرفت كيف تشغل المفكرين المصريين بمناهجها الجديدة.

1 Report of the Special Mission to Egypt، December 9، 1920

ص: 210

وقد أخذت لجنة الثلاثين في وضع الدستور عقب تصريح فبراير 1922 وهو الدستور الذي كان معمولًا به قبل يوليو سنة 1952 والذي رضيته الأحزاب جميعًا وإن كان الوفديون قد حملوا عليه إذ ذاك، ولم يرض عن بعض مواده كثير من الأحرار الدستوريين، ولم تعجب بعض مواده الأخرى المحافظين والجامدين، وكان الصحافة المصرية تمثل هذه الاتجاهات جميعًا، وقد منحت من الحرية، -بالرغم من الأحكام العرفية- ما مكنها من شرح هذه المسائل الدستورية ونقدها، ولعل مسألة الدستور كان أهم الموضوعات التي حظيت ببحث الصحافة ورجالها منذ ثورة سنة 1919.

وإذا كانت "السياسة" جريدة الأحرار الدستوريين ولسانهم المعبر عنهم، فإن الوفد لم تكن له صحف رسمية بل كان له صحف وفدية من أهمها جريدة "البلاغ" لصاحبها عبد القادرة حمزة "باشا فيما بعد" وقد صدرت في سنة 1923 "جريدة يومية سياسية أدبية تجارية" تتمثل بكلمات لسعد زغلول وتحمل على السياسة الإنجليزية في مصر وتمثل التطرف السياسي، وساهم في تحريرها الأستاذ عباس محمود العقاد أحد رجال الأدب المجودين، وأحد طلائع المدرسة الصحفية الحديثة، وقد جعل للناحية الأدبية في كتاباته حظًّا موفورًا، ونشر فيها محمد نجيب الغرابلي بعض القصائد في المناسبات العامة.

ويجب أن يذكر لعبد القادر حمزة نصيبه الموفور في نهضة الصحافة المصرية، فقد كان من القلائل الذين انخرطوا في هذه المهنة من أهل العلم والمعرفة، فهو من الطلائع التي تخرجت في كلية الحقوق سنة 1903، وكان على صلة قريبة من النشاط الصحفي في أثناء الدرس والطلب فكتب "للجريدة" عدة مقالات، ونشأت بينه وبين محررها أحمد لطفي السيد علاقات من الود والتقدير، فقد كشفت مقالاته عن مواهب يعتز بها وتبشر بخير في العالم الصحفي لهذا الشاب وهو في مطالع العمر وعلى عتبات الجهاد.

وبعد أن أمضى عبد القادر حمزة عدة سنوات محاميًا ومحررًا في صحيفة "الجريدة" تولى رئاسة تحرير جريدة "الأهالي" في الإسكندرية، وكانت

ص: 211

تصدر هذه الجريدة شركة أسسها جماعة من أعيان المصريين باسم "شركة النشر الأهلية" برعاية سعيد باشا، وقد سئل لطفي السيد فيمن يرشحه لتحرير "الأهالي" فأشار على المسئولين في الشركة باختيار عبد القادر حمزة وبين لهم قدر الرجل واستعداده، وأحالهم في هذه التزكية على نشاطه السابق في "الجريدة" وتفوقه الملحوظ في ترجمة أمهات القصص الفرنسية لمجلة مسامرات الشعب سنة 1909 فقد كان عبد القادر حمزة من البواكير التي عنيت بنقل الثقافة الأوربية للغة العربية، وله في ذلك نصيب موفور.

وقد صدرت الأهالي في الإسكندرية في 19 أكتوبر سنة 1910، واستمرت تصدر في الثغر إلى منتصف سنة 1921، ثم انتقلت إلى القاهرة وصدر العدد الأول في العاصمة في 13 سبتمبر سنة 1912 والحركة الوطنية على أشدها وميدان الجهاد فيه منفسح لكل مواطن قادر على التضحية والجهاد، وكان "الأهالي" لسانًا مدويًا من ألسنة سعد زغلول هز أركان الاحتلال وأرق مضاجع الإنجليز، فصدرت الأوامر بتعطيل "الأهالي" ستة أشهر، وكان ذلك في 8 نوفمبر 1921 وتنفيذًا للوائح المعمول بها في ظل الأحكام العسكرية المفروضة على البلاد إذ ذاك.

وبعد هذا التعطيل لم يكن في استطاعة الأستاذ عبد القادر حمزة أن يحصل على ترخيص بصحيفة أخرى، لأن مانع الترخيص -هو الحكومة- هو الذي منع الأهالي من الصدور، فتحايل صحفينا على بث أفكاره ودعوته بالكتابة في صحيفة "المحروسة" وقد تنبهت الحكومة إلى تحايله هذا، فأصدرت أمرها بإغلاق "المحروسة" إلى أجل غير مسمى، واعتقل هذا القلم حتى انتهت فترة تعطيل "الأهالي" فعاود نشرها فياضة الحس، قوية التعبير عن الأماني الوطنية، ولم تر الحكومة بدًّا من إغلاقها بعد صدور ثلاثة أعداد منها، وكان ذلك خاتم الجهاد لصحيفة "الأهالي" فدخلت سيرتها في ذمة التاريخ، وبقي صاحبها في الميدان يصول ويجول في غيرها من الصحف الوطنيات.

ص: 212

وقد أخذت الحكومة تتعب عبد القادر حمزة وقلمه، وهو يحاول استئجار صحف لينشر فيها رأيه ويعبر فيها عن رسالة الوفد، غير أن أصحاب الصحف خشوا على صحفهم فأحجموا عن معاونته، ولما لم يكن في مقدوره أن يستصدر ترخيصًا بصحيفة أخرى، استنبط فكرة تبعده عن سيطرة إدارة المطبوعات، فحاول أن يحقق رسالته في نشرات غير دورية لا تخضع لقانون المطبوعات، ووضع في ذلك أول نشرة في يونيه سنة 1922 تحت عنوان "نداء الحرية" وعلمت الحكومة بذلك فأوفدت عيونها فجمعت من المطبعة هذه النشرة التي كانت تتهيأ للصدور، وأحرقوها فاضطر إلى التماس صحيفة سيارة، وحصل على ذلك باستئجار جريدة "الأفكار" ومضى يكتب فيها عدة شهور حتى 16 يناير سنة 1923.

في ذلك الوقت كانت الأمور قد تغيرت، وبدأت الحياة السياسية تميل إلى الهدوء والاستقرار، وبدا في الجو يعاون أمثال هذا القلم على مناقشة المسائل في اتزان، فاستصدر صحفينا ترخيصًا بإصدار البلاغ اليومية التي مضت تؤدي رسالتها إلى الأيام الأولى من قيام ثورة 1952، وقد صدر العدد الأول منها في 28 يناير 1923، ويبدو أن صاحب البلاغ كان متفائلًا بالعهد وأصحابه فإنهم لم يحتملوا هذا القلم العف، وهو قلم "موضوعي" إن صح التعبير، ولكنه واضح ومن شأنه أن يهز أركان الاستبداد والاستعمار بوضع النقط على الحروف كما يقولون، لذلك لم يطق أصحاب الشأن البلاغ وصاحبه فصدر الأمر بإغلاق الجريدة واعتقال صاحبها في 6 مارس 1923 فإذا أخلى سبيله بعد قليل، وعز عليه إصدار البلاغ من جديد استأجر جريدة "الرشيد" وحررها ابتداء من 20 مايو 1923 إلى أن أذن للبلاغ بالعودة إلى الظهور، فصدرت مرة أخرى في أربعة صفحات في 18 يونيه 1923، ومنذ ذلك اليوم أخذت البلاغ تتطور شكلًا وموضوعًا، ولولا الحرب الكبرى الماضية التي حدت النشاط الصحفي، ووقفت اتساعه لكانت "البلاغ" من كبريات الصحف الحزبية العالمية.

ص: 213

وقد كانت دار البلاغ تصدر نسخة أسبوعية لها من 26 نوفمبر 1926 باسم "البلاغ الأسبوعي" زخرت بخيرة أقلام الجيل، وهي صحيفة مصورة في أربعين صفحة، وبذلك ورثت دار البلاغ عدة صحف وبرزت في نشاطها سواء كان أدبيًّا أو سياسيًّا أو اقتصاديًّا، وأصبح البلاغ سجلًا للحركة الوطنية له قدره في تاريخ هذه الحقبة من جهاد المصريين، وبجانب خطته السياسية فهو معنى بالاقتصاد والآداب والفنون، ومشارك في إنعاش النهضة النسائية بما خصص لها في الربع القرن الأخير من صفحات، ومن يعد إلى البلاغ يجد عناصر الصحيفة تكاد تتوازن، وتكاد تبلغ ما يرجوه المنصف لها من النضج والاستواء.

ثم صدرت جريدة "كوكب الشرق" صحيفة وفدية في 21 سبتمبر 1924 فآخت "البلاغ" في اتجاهها الحزبي وأعلن صاحبها أحمد حافظ عوض يوم صدورها خطة صحيفته بأن شعارها سيكون "كما كان شعار الصحف التي سعدت بتحريرها والانتساب إليها، العمل المتواصل لتحقيق الأمنية الوطنية العظمى، ألا وهي استقلال مصر والسودان استقلالًا تامًّا وصحيحًا، وستبقى هذه الغاية نصب أعيننا إلى أن نفوز بها أو نموت دونها، ولنا مع هذه الغاية الوطنية المصرية أغراض وغايات أخرى يجب أن تكون لها عندنا أهمية عظمى وتلك الأغراض وهاتيك الغايات هو العمل الدائم على شد أواصر الرابطة الإسلامية خصوصًا، والشرقية عمومًا" والوسيلة إلى ذلك كما يقول: "نشر العلوم والمعارف العربية وآثار المدنية الإسلامية والاحتفاظ بالمميزات الشرقية".

ولكن الكاتب يفاجئ العالم الإسلامي باتجاه جديد لا يتفق مطلقًا مع مدرستيه الصحفية والسياسية القديمتين اللتين نشأ فيهما، فهو يذهب إلى قطع الروابط الإسلامية "ذلك المذهب البالي الذي كان يدعو إليه بعض الزعماء في الأزمان الماضية على قاعدة أن الإسلام لا وطن له وأن بلاد المسلمين كلها وطن واحد وأمة واحدة" ويدلل على فساد هذا الرأي بأن لكل بلد شرقي سياسة وظروفًا خاصة.

ص: 214

وصاحب "كوكب الشرق" له سيرة صحفية قديمة، أهلته لها قدرته الملحوظة في اللغتين العربية والإنجليزية، واستعداده الواضح لهذه المهنة التي تتطلب من صاحبها الدأب والقدرة على الأداء والجرأة في الحق، وخاصة في العهد الذي انضوى فيه تحت لوائها، وهو عهد حافل بألوان الاضطهاد والكفاح للقضاء على هذا الاضطهاد، وقد بدأ عمله الصحفي مترجمًا في مجلة الموسوعات، وهي من أوسع المجلات انتشارًا في ذلك الزمان، ولم يقتصر عمله فيها على الترجمة فقط بل ساهم في أبواب تحريرها الأخرى، وأنشأ البحوث المختلفة في الأدب والعلوم والاجتماع.

وقد استرعى ما طرقه من موضوعات انتباه الشيخ علي يوسف صاحب "المؤيد" فضمه إلى هيئة التحرير في صحيفته، وعلى صفحات "المؤيد" برز اسم حافظ عوض لامعًا بما كانت تمتاز به مقالاته الوطنية من حرارة، وما تفرد به أسلوبه من الروعة والبلاغة وسلامة العبارة، وكانت "المؤيد" في ذلك الوقت صحيفة تمنح محرريها شهرة عالمية، إذ كان أوسع الصحف المصرية انتشارًا وأعظمها نفوذًا، كما كانت ميدانًا يتبارى فيه أدباء الأمة وعلماؤها، كالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول وعبد الكريم سلمان وحفني ناصف، والسيد توفيق البكري، وكانت تعالج الموضوعات الشرقية والإسلامية والمصرية، وكانت بذلك موضعًا للثقة عند قراء العربية في مشارق الأرض ومغاربها.

ثم اختلف حافظ عوض مع الشيخ علي يوسف، فتكاتف وصديقه محمد مسعود بك على إصدار جريدة "المنبر" وهنا تجلت خبرته الصحفية، وشاركه في تحريرها فترة من الزمن صادق عنبر الأديب المصري والصحفي المعروف، ثم أصدر إلى جانب "المنبر" صحيفة هزلية كاريكاتورية باسم "ها. ها. ها" ثم غير اسمها باسم "خيال الظل" وقد كان هو صاحب أفكارها والمشير برسومها والمعلق عليها بما أثر عنه من خفة ظل أحسها قراء الصحف العربية منذ نشأته حتى انتهى المطاف به في جريدة كوكب الشرق.

ص: 215

ولم يقف نشاط المترجم عند الصحف يصدرها، ويجدد في مناحيها، ويبسط عليها من روحه الجديد في جميع جوانبها، بل ساهم مع المساهمين في الدعوة لتصفية العلاقات المصرية الإنجليزية، واضطره هذا إلى التغيب عن صحيفتيه فترة اعتراهما فيها اضمحلال عجزت قدرة صاحبهما البارعة عن إقالتهما من عثرتهما فعاد إلى الصحافة وانتظم في سلك محرري جريدة "المؤيد" من جديد.

وقد أمضى حافظ عوض عامين في "المؤيد" فكان دعامة من دعائمها القوية، وموضعًا لثقة صاحبها، ثم تقرر أن يسافر الخديوي عباس الثاني للحج إلى بيت الله الحرام، فندبته جريدة "التيمس" ليكون مراسلًا لها في حجة الخديوي تلك، وعلى صفحاتها قرأ الناس فصولًا ممتعة عن هذه الرحلة التي عرفت الإنجليز على دين المسلمين من ناحية، وأوضحت سيرة الخديوي الوطنية من ناحية أخرى، وكان لمقالاته أثر عظيم في نفسية عباس الثاني، فقربه منه وعينه في ديوانه الخديوي، ومنحه الرتب والنياشين، وتعذر على الوشاة والحاسدين أن يقصوه عن مكانه، حتى تدخل المعتمد البريطاني مهددًا متوعدًا فاستقال، وعاد ليشرف من جديد على صحيفة "المؤيد" التي أصبحت شركة مساهمة قبيل وفاة صاحبها بقليل، وبقي وده متصلًا بصاحب العرش حتى إنه صحبه في رحلته إلى الوجه البحري في سنة 1914 وسجل هذه الرحلة في "المؤيد" ثم طبعها في كتاب صادرته السلطات العسكرية الإنجليزية إبان الحرب العظمى الأولى، ولم يبق منه إلا نسخة واحدة تحتفظ به دار الكتب المصرية منذ سنة 1948.

وقد اعتقل أحمد حافظ عوض بك خلال الحرب العظمى الأولى، فلم يضيع وقته سدى، إذ عكف في أثناء الاعتقال على وضع مؤلفه الكبير عن "فتح مصر الحديث" وهو عمدة يمكن الرجوع إليه في تاريخ مصر الحديثة، ويعتبر بحق من خيرة الكتب التي نشرت في هذا التاريخ، وله بجانب هذا السفر الجليل دراسات أخرى مطبوعة أو منشورة في رسائل قصيرة أو على

ص: 216

صفحات الجرائد يمكن الاعتماد عليها في مراجعة القضية السياسية أو الحياة الاجتماعية أو الأدبية، وهي بحوث جديرة بالنظر والاعتبار.

وقد عاد المترجم إلى الصحافة مساهمًا في تحرير جريدة الأهالي لصاحبها عبد القادر حمزة باشا، وذلك قبيل إعلان الدستور، كما حرر في جريدة "المحروسة" وغيرها من الصحف، حتى استقر حياة مصر نوعًا ما، وجاءت حكومة سعد زغلول وحينئذ أصدر حافظ عوض صحيفته كوكب الشرق وفيها بلغ المترجم غايته في التحرير والإنشاء، وعلى صفحاتها برزت مواهبه في هذا الأسلوب التهكمي الذي لم يجاره فيه أحد، وقد عرفت كوكب الشرق خيرة أقلام كتاب مصر الذين انتظموا في سلك تحريرها من بينهم نخبة من الشباب المثقف، وقد لقيت صحيفته متاعب شتى من السلطات المحلية كلما اعتدى على الدستور ووقفت الحياة النيابية، ومضى معها صاحبها نهبًا لضيق الحكومات وتبرمها، حتى وقفت "كوكب الشرق" عن الصدور في السنوات الأخيرة، فكان في غيبتها خسارة كبيرة، ولكنها كتبت لصاحبها تاريخًا حافلًا في سجل الصحافة المصرية المعاصرة.

ومنذ صدور الدستور المصري في سنة 1923 انقسم المصريون شيعًا وأحزابًا، فهناك الوفد وصحافته وأهمها "البلاغ" و"كوكب الشرق" وهناك الأحرار الدستوريون وصحيفتهم "السياسة" ثم تألف حزب جديد عقب مقتل السردار في سنة 1924 وهو حزب الاتحاد وأنشأ له صحيفة لم يؤثر عنها فضل ينشر أو خطر يذكر ثم وجد حزب الشعب في سنة 1930 وأصدر صحيفة "الشعب" وزاملت في الخمول جريدة "الاتحاد" مع أن هذه الصحيفة كانت تضم أقلامًا غنية على علم وفهم إذ كان حرر فيها الأستاذ عبد القادر المازني، الأديب الشاعر الناثر الذي تفرد بين أدباء العربية بأسلوب الخاص وامتاز بأنه كان أستاذ الترجمة الأدبية الرفيعة في كل صحيفة ولجها، وفي كل مدرسة اختلف عليها يربي أجيالها.

ص: 217

وقد سعدت الصحافة المصرية بهذا الأديب النادر المثال، حيث طلق مهنة التدريس وسلك طريقها، فبدأ عمله الصحفي في جريدة "الأهالي" حين كانت تصدر في مدينة الإسكندرية ثم زامل المرحوم أمين الرافعي في تحرير جريدة "الأخبار" وظل يعمل بها ردحًا من الزمن، أثر عنه فيها جولات أدبية وسياسية ملحوظة العناية، محفوظ القدر في سجل الحركة الوطنية والأدبية على السواء.

وعلى عام 1925 اختير رئيسًا لتحرير جريدة "الاتحاد" ومضى في توجيهها عامين، كان هو كل شيء فيها، ولم تستكمل هذه الصحيفة عناصر النجاح لظروف مصر الخاصة حينئذ، لذلك تركها الأديب الكاتب واشتغل مدة أخرى في تحرير جريدة "الكشاف" إلى أن استقر به المطاف سنوات في جريدة السياسة، وتبدو آثاره الصحفية الرائعة، لا في السياسة اليومية، وإن كان له فيها جولات ممتازة، بل في السياسة الأسبوعية وهي الصحيفة الأدبية التي تغذى في أمثاله هوايتهم، ومن صفحات السياسة الأسبوعية أطل علينا إبراهيم عبد القادر المازني أستاذًا يتأثره الأدباء والمتأدبون.

ثم عاوده الحنين إلى صحيفة صديقه عبد القادر حمزة، فمضى إلى "البلاغ" يحرر فيها ستة عشر عامًا، ولم يتركها قط، واختط لنفسه خطة رائعة في معالجة المشاكل العربية والمصرية، واتجه في كتاباته اتجاهًا مستقلًا فرض على أصحاب البلاغ، وهم يمثلون حزب الوفد، أن ينحوه عن التحرير فيها، وجاءت تنحيته تنفيذًا لقرار حزبي لا حيلة لهم فيه.

ومع أنه كان يكتب في البلاغ، وفاء لصاحبه، وحفظًا لذكراه، فأنه ساهم في تحرير جريدة "الأساس" في كثير من المقالات الموضوعية التي شغلت بال الرأي العام، وكانت كتاباته جميعًا كتابات قومية لا دخل للحزبية فيها، وكذلك أمد جريدة الإخوان المسلمين بقلمه السيال، وبقي يحرر في كثير من نواحي تحريرها فصولًا ممتعة في المسائل العربية والإسلامية التي كانت تشغل بال العالم العربي، ثم اعتذر عن المضي في عمله في جريدة الإخوان

ص: 218

المسلمين حين حرقوا كتب العلم الإنجليزية، فقد اعتبر ذلك تعصبًا لا يتفق ورسالة الإسلام التي تدعو للعلم، وتدفع إليه ولو كان في الصين ..

أما ما كان للأستاذ المازني من كتب، فتلك قصة لا تروى بين سجل الصحافة المصرية، فإنه فيها علم قلما يجاريه واحد أو اثنان من كبار أدباء الجيل وعن هذه الكتب ارتشفت أجيال متصلة معينًا من الأدب لا ينضب، ولا تزال كتبه -وستبقى- جدولًا فياضًا يعيش على الزمن، ويصلح لكل زمن.

ثم أخذت الأحداث تجري على غير نظام ثابت فيومًا تتمتع الصحف بحريتها ويومًا تضطهد اضطهادًا منقطع النظير، وفي خلال ذلك صدرت جريدة "الجهاد" لمحمد توفيق دياب صحيفة وفدية للصباح ثم زاملتها جريدة "روز اليوسف" إلى أن اختلف محررو هاتين الصحيفتين الوفديتين مع المسئولين فاستعيض عنهما بجريدة "المصري" لأصحابها محمود أبو الفتح، ومحمد التابعي، وكريم ثابت وبعد سنة 1938 انفرد بها أبو الفتح وأشرف الوفد المصري على سياستها على أن تكون لسانًا له وهي أول صحيفة رسمية لهيئة الوفد منذ تكونت.

وكان بجانب هذه الصحف اليومية صور منها أسبوعية فقد أصدر الأحرار الدستوريون "السياسة الأسبوعية" في 13 مارس سنة 1926 في ست عشرة صفحة كبيرة للآداب والعلوم والتاريخ والقانون والسياسة المصرية والشرقية والدولية، كما وجدت بها صور رمزية وقسم مصور لأهم الحوادث والأشخاص ومن أمتع ما رأيناه فيها باب "في المرآة" للشيخ البشري، وسار على هذا الدرب "البلاغ" فأصدر صاحبه "البلاغ الأسبوعي" في 26نوفمبر سنة 1926 كما ذكرنا من قبل، وهو تقليد "للسياسة الأسبوعية" وكان من أهم محرريه عباس العقاد ومحمد السباعي والأستاذ صبري أبو علم أفندي والأستاذ محمود سليمان غنام أفندي في حجم أصغر من "السياسة" وإن صدر أحيانًا في ثمانٍ وعشرين صفحة ولكنه تميز بصوره الكاريكاتورية البديعة.

ص: 219

ثم صدرت في مطلع الحركة الوطنية صحيفة تأثرت أبا نظارة هي "الكشكول المصور" لسليمان فوزي وكانت "جريدة مصورة اجتماعية انتقادية" عرفها المصريون في 24 مايو عام 1921وكانت مثلًا طيبًا للصحافة الهزلية وعاصرت التطور السياسي في مصر إلى أن قضى صاحبها منذ سنوات، وعن مدرسته صدرت "روز اليوسف" و"آخر ساعة" وما إليها من المجلات المماثلة.

ولم تعمر "السياسة الأسبوعية" أو "البلاغ الأسبوعي" طويلًا، فقد احتجبتا حين طغت السياسة على مصدريهما فشغلهم النشاط فيها، فأصدر أحمد حسن الزيات في 15 يناير سنة 1933 مجلة "الرسالة" باشتراك طه حسين وأعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر وكانت خطتها "ربط القديم بالحديث ووصل الشرق بالغرب" وفي سنة 1936 أصدر الدكتور محمود عزمي صحيفة "الشباب" صحيفة مستقلة الرأي بعيدة عن الأحزاب غير أن صاحبها مزج فيها بين السياسة وألوان الثقافة الأخرى وأشرف بطابعه الخاص على أكثر فصولها وكادت هذه الصحيفة أن تملأ الفراغ مع "السياسة، والبلاغ" الأسبوعي لولا أن العقبات المالية والأحوال السياسية حالت دون استمرارها فطويت صفحاتها وشغر تاريخ الصحافة المصرية من نظير لها حتى اليوم، ثم انفردت لجنة التأليف بصحيفة خاصة بها هي مجلة "الثقافة" التي صدرت في 32 يناير عام 1939 لصاحب امتيازها أحمد أمين وذكرت أنها "تتقدم للعالم الشرقي مؤمنة بقدرتها بنفسها وبأصدقائها شاعرة بتبعيتها مقدرة لواجبها واثقة بقرائها".

وقد شهدت الصحافة المصرية قبيل ثورة 1952 ألوانًا جديدة من الصحف والمجلات فيها ابتكار، سواء اتصل هذا الابتكار بشكلها أو بتحريرها، وفيها حماس للفكرة ليس في تاريخ الصحافة المصرية نظير له؛ لأن هذا الحماس استمده أصحابه من المذاهب السياسية الحديثة كالاشتراكية مثلًا

ص: 220

وترتب على ذلك أن عرضت هذه الصحف الجديدة لأفكار وآراء لم يسمع بها الرأي العام المصري في نطاق واسع.

ومن هذه الصحف "أخبار اليوم" وهي ليست صحيفة مذهب اجتماعي، ولا تعبر عن فكرة سياسية خاصة، بل أهم ما يبدو في رسالتها مخاصمة الوفد المصري سواء كان في الحكم أو في المعارضة، بيد أنها وزميلتاها "آخر ساعة" و"آخر لحظة" تتميز بالتفوق في الفن الصحفي من حيث الإخراج والسبق الصحفي، وتلوين مادتها بكثير من الموضوعات الطريفة الجذابة، كما تمتاز بمجموعة من الأقلام القوية كأقلام محمد التابعي وصاحبها مصطفى وعلي أمين وتوفيق الحكيم وإن آثر الأخير وظائف الدولة على التحرير فيها.

ولا نستطيع أن نتعقب الصحف التي صدرت مقلدة لأخبار اليوم حتى في شكلها وحجمها فهي كثير وأقل أهمية، وليس لها في ميدان الصحافة نصيب من الأهمية والاعتبار، سواء كانت صحفًا وفدية أو خصيمة للوفد.

ومن الصحف التي برزت في تلك الأيام وتقدمت الصفوف "الجمهور المصري" و"الاشتراكية " وهما صحيفتان تمثلان اتجاهًا معينًا، وإن كانت الثانية أكثر وضوحًا في رسالتها، فهي تدعو إلى مذهب الاشتراكية وتعمل على أن يسود هذا المذهب بالطرق المشروعة، ولا يخفى علينا أن الدعوة الاشتراكية قد يضطر أحيانًا مثل هذه الصحف إلى أن تعنف في عبارة أو تعبير، الأمر الذي جعل حياتها نهبًا للمصادرة والمحاكمات المختلفة.

هذا هو التيار الجديد الذي سرى في صحافة مصر إذ ذاك، وهذا التيار يحمل في أعطافه أسماء عشرات الصحف التي لا محل لذكرها هنا بعد أن سجلناها في ثبت خاص منشور في عجز هذا الكتاب، هذا إلى كثير من الصحف الحزبية التي ظهرت، وليس في رسالتها جديد إلا الفكرة الحزبية الخالصة كصحيفة الأساس لسان حال الحزب السعدي، وهي لا تختلف عن السياسة لسان الأحرار الدستوريين والمصري الوفديين والكتلة لمؤسسها مكرم عبيد.

ص: 221

ويستطيع المؤرخ أن يلم بنشاط الصحافة المصرية في هذه الحقبة ويوضح اتجاهها جملة فقد رأينا أن الصحافة المصرية دعت إلى أن تعمل مصر لتحقيق مصالحها الخاصة ولا ترتبط بأمة من الأمم فلم تشر إلى تركية أو تتجه إلى فرنسا بل جعلت دأبها خلق رأي عام ممهد خير تمهيد يعتمد على نفسه في تحقيق آماله، لذلك كان فضل الصحافة عظيمًا في هذا الميدان، وإذا كان الصحافة الوفدية قد تكفلت بالقسط الأكبر من الحركتين الدستورية والاستقلالية وكان لها في ذلك أخطر الأثر من غير شك، فإن صحافة الأحرار الدستوريين شغلت الرأي العام بالنواحي العلمية والاجتماعي وبكل رأي حر، وأثارت حفيظة الرجعيين عليها وأبت أن يستبد هؤلاء الرجعيين بكل فكرة جديدة.

وقد أثر عنها عن رجالها أزمات لا تزال الذاكرة تحفظها، فقد أثار تعصب المحافظين نظرة قال بها عالم من العلماء هو "علي عبد الرازق" الذي انتهى في بحثه عن الخلافة إلى ضرورة فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية، واشتد النزاع بين صحافة الأحرار بين حكومة ذلك الوقت، وانتهى الأمر باستقالة الوزارة نفسها ونشأت أزمة دستورية مصرية أعقبها ائتلاف الأحرار مع الوفد، وكذلك حمت صحف الأحرار الدكتور طه حسين من الحكومات وبطشها حين نشر مؤلفه عن الشعر الجاهلي، وكاد أمر طه حسين يفصم الائتلاف بين الحزبين الرئيسين "الوفد المصري والأحرار الدستوريين" في سنة 1927.

وبهذا لفتت جريدة "السياسة" المصريين إلى مسائل لا تتصل بالأمور السياسيين وحدها كما صنعت سياسة الوفد، ولا شك أن الموضوعات التي أثارت والقضايا التي وكلت بالدفاع عنها كانت موضوعات وقضايا تترجم عن أصحاب الفكرة الحرة في مصر وهي موضوعات وقضايا قرأها الشرق الأدنى وليس يعني المؤرخ أن يرفض هذا الشرق المتزمت هذه النظريات الجديدة أو يقبلها وإنما نقرر أن الشرق الأدنى قد أحس أن جريدة "السياسة" ومحرريها يذيعون أشياء لم يعتدها المصريون من قبل.

ص: 222

وكان بجانب "السياسة" في الشق المعارض من المحاظين الشيخ رشيد رضا ومناره، فقد نجح "المنار" في شمال إفريقية وذاع أمره وانتشر في تلك الجهات انتشارًا مكن للفكرة الإسلامية، وقد دأب "المنار" على نشر الفتاوى الإسلامية التي جاءته من جزء الهند الهولندية الشرقية وأعماق إفريقية وهذا مصدر من مصادر النفوذ الأدبي المصري لم يحسه المصريون في مصر ولم يقدروه حق قدره، وبذلك لم يستطع المصلحون من الأحرار أن يحتكروا وحدة العلاقات الخارجية بل ساهم المحافظون فيها من أمثال رشيد رضا وأحمد زكي باشا.

والصحافة المصرية في تلك الأيام كانت تتميز بفضل لا شك فيه، فقد لعبت دورًا عظيمًا في إحياء الأدب العربي في الصحف اليومية والصحف الأسبوعية والشهرية، فقد حفلت هذه الدوريات بخير ما أنتج شعراء وأدباء مصر من شعر ونثر وفتحت صدرها للبحوث العلمية والأدبية ونوعت في هذه النواحي الثقافية فأشاعت القصة فيها، وأخذت عن الصحف والكتب والمجلات الغربية خير ما فيها، وهيأت بذلك للأدب العربي فرصة احتمال ما لم يكن يحتمله من المعاني الجديدة، وبرهنت على أن اللغة العربية قادرة على أداء وظيفتها بين اللغات الحية.

وللصحافة المصرية المعاصرة فضل غير منكور في تطور الصحافة في البلاد العربية المختلفة إذ اتخذتها مثلًا لها وحاولت السير على أثرها كما نقلت عنها أهم المقالات في السياسة والأدب والاجتماع، وقد احتضنت الصحافة المصرية كثيرًا من الشخصيات الموهوبة حقًّا التي أفادت في تنوير الرأي العام وتقويم آرائه، والصحافة المعاصرة هي التي أظهرت مصر بمظهر البلد الذي لا يقنع بأن يكون قلب العالم العربي بمركزه الجغرافي وحده بل إنه قلبه بالفكر، وبالاهتمام الدائم بكل جديد على الرغم من الأزمات المختلفة في حياته السياسية والاقتصادية.

ويجب أن نختص القاهرة بفضلها الصحفي قبيل الثورة، فهي أكثر

ص: 223

المدن المصرية احتفاء بالصحافة والصحفيين، وتجاوزت جرائدها مائتي جريدة عربية وأكثر من ستين صحيفة فرنجية على حين لم تبلغ صحافة الأقاليم تسعين صحيفة من بينها صحف المواني المصرية وهي قليلة إذ قيس عددها الضئيل بعدد السكان الكبير، وهذا مما يثبت قدرة القاهرة على تغذية البلاد من الناحية العقلية.

وإذا أردنا أن نعطي صورة لأنواع الصحافة المصرية المعاصرة فيجب أن نذكرها في ألوانها التي تخصصت لها، فنجد في صحف مصر كما هي الحال في جميع صحف العالم، جرائد يومية كبيرة للأخبار تظهر في الصباح والمساء، وعلى رأس هذه الصحف جريدة "الأهرام" لتاريخها القديم وتنظيمها الرائع وشهرتها في مصر وخارجها، ثم نجد بجانب "الأهرام" أو "المقطم" صحفًا تطبع لمصلحة حزب أو أحزاب مختلف وذلك لإقناع الرأي العام برأي هذه الأحزاب، وهي أحيانًا واسعة الانتشار لها أثرها في المدن والريف.

وهناك صحافة أسبوعية أو نصف شهرية ليست لها صبغة سياسية خاصة أو ثقافية خاصة، وهذه الصحف رائجة السوق مقروءة في معظم البيئات؛ لأنها تعني بالأزياء والسينما والروايات البوليسية والراديو والألعاب الرياضية وغير ذلك من النواحي التي تلذ للجمهور المصري مطالعتها، ويتجه بعض هذه الصحف إلى الشباب والبعض الآخر إلى العالم النسائي كمجلة "بنت النيل"، وهذا النوع من الصحافة المصرية لا يصدر إلا باللغة العربية وله نشاطه المعروف ولا يقل شأنًا عن الصحافة الأوربية في هذا الباب.

وإذا أغفلنا الجرائد ذات الطابع المحلي الخاص نصل إلى طائفة ليست خاصة بمصر وحدها ونعني بها المجلات الأدبية والعلمية الكبرى مثل الهلال والمتقطف والرسالة والثقافة وغيرها، ولا شك أن سهمها أعظم بكثير من سهم زميلاتها في أوربا، ويرجع ذلك إلى الأثر الملحوظ لها في النهضة الأدبية والفكرية، كما تتميز بالتنظيم الرائع في حياتها الصحفية، وتعتبر "الهلال" مثلًا طيبًا لهذا التنظيم فالهلال عبارة عن أسرة كبيرة منظمة تضم دورًا ثلاثًا

ص: 224

إذا اجتمعت لأي صحيفة كان نصيبها قطعًا الرواج والانتشار، لها هيئة تخصصت للون من التحرير، ولها مطبعة على أحدث طراز ثم لها دار للنشر والتوزيع، ولها فوق ذلك حظ موفور من تأييد جمهور الأدباء والكتاب المشهورين.

و"الهلال" كبيت للطبع والنشر يشرف على عدة مجلات من أهمها "المصور" ويعني بحياة الأبهاء "الصالونات" ويصور الحياة الاجتماعية ويمس الشئون السياسية باعتدال وكانت تصدر عن هذا البيت الصحفي مجلة "الاثنين" وهي تشبه من قريب مجلة "المصور" وتضيف القصة القصيرة إلى صفحاتها، كما خصصت جزءًا منها للسينما والمسرح والصور الكاريكاتورية، وقد أصدرت دار الهلال صحيفة " Images" باللغة الفرنسية وهي مصورة كزميلتها السابقتين وصدى لهما في بيئة الأجانب في مصر، وإذا تخصص لمجلات الهلال كتاب محترفون فإن "الهلال" نفسه لا يحرر إلا بمقالات يؤجر عليها الكتاب المعروفون في مصر والشرق العربي أو ينشر قصصًا قديمة سبق نشرها.

وإلى جانب الصحافة الأدبية التي جعلنا دار الهلال مثلًا لها في الإنتاج والإخراج توجد الصحافة الفكاهية والصحافة النسائية، أما الأولى فصحافة مصورة وهي صحافة مذهب وعقيدة وهي دائمًا إلى جانب المعارضة ومعارضتها أشد ما تكون خطرًا وأثرًا، وهي تستعمل اللهجة المصرية الخالصة، وللغة العامية حظ كبير فيها، وهنا موضع الخطر فإن استعمال بعضها للغة الغالبة في الحياة المصرية يجعل قراءتها ميسورة على جميع الناس ويصبح أثرها عميقًا في الجموع الشعبية، وهي صحف لا تروج في أوقات الهدوء السياسي، بل يغلب نشاطها وازدهارها كلما تحرجت الحياة السياسية، ويلاحظ أن اللغة العربية تغلبت على اللغة العامية في تلك الصحف.

أما الصحافة النسائية فهي أيضًا قد نشأت صحافة رأي ومذهب، وكان التفكير في إنشاء مثل هذه الصحف غريبًا على العقلية المصرية التي حجبت المرأة أجيالًا عن الحياة العامة وحالت دون تعليمها، وقد دافعت الصحف

ص: 225

المعاصرة عن حقوق الفتاة المصرية في التعليم وغيره من مظاهر الحياة الرفيعة، غير أن المرأة حاولت مرارًا أن تأخذ على عاتقها حق الدفاع عن كيانها ومهدت لها الحركة الوطنية ذلك الأمر بعد أن ساهمت بنصيب ملحوظ فيها، وقد ظهرت في عالم الصحافة النسائية "فتاة الشرق" للبيبة هاشم و"حواء الجديدة" لروز حداد، و"المصرية" لهدى شعراوي، ولكن هذه الصحف جميعًا أصابتها أزمات اقتصادية متصلة فعجزت عن الصدور ولكنها نجاحها يتمثل في الحقوق التي اكتسبتها الفتاة المصرية في التعليم وبعض وظائف الدولة، وقد ورثت مجلة "بنت النيل" لصاحبتها الدكتور درية شفيق هذه الصحف جميعًا، ومضت تؤدي رسالتها هي وزميلتها الفرنسية La Femme Nouvelle في خدمة قضايا المرأة ملحة في أن تكون لها جميع الحقوق التي للرجال وفي مقدمتها الحقوق السياسية، وهي حق الانتخاب، وحق الترشيح لعضوية المجالس النيابية، وحق تولي الوظائف العامة كمنصب الوزيرة ووكلاء الوزارة ومديري العموم، وقد تحققت هذه المطالب جميعًا بعد قيام ثورة يوليو، ولكن "بنت النيل" أغلقت حيث اختلفت صاحبتها مع النظام الناصري بعد حرب 1956.

عرضنا في هذا الفصل وفي الفصول السابقة التفاصيل التي اتصلت بنشأة الصحافة المصرية وتطورها، عرضنا لهذا التاريخ وخلصنا من هذا العرض ببضع حقائق ذكرناها في موضعها، ويجدر بنا ونحن نختم هذا البحث أن نقرر ثلاث مسائل صاحبت الحياة الصحفية في جميع مراحلها، فأول ما يؤكده لنا تاريخ هذه الصحافة أنها عاشت في أعطاف فكرتين، الحركة العربية والقومية المصرية، ولم تسبق الأولى الثانية أو تطغ عليها قط، فالصحافة الرسمية في عهد محمد علي إما صحافة لمصر وحدها أو صحافة لمصر وتركيا معًا، وكذلك كان الأمر في تلك الصحافة في عهد الخديوي إسماعيل وإن غلبت الفكرة المصرية فيها كل فكرة أخرى، ثم لاحظنا أن الصحافة الشعبية مزجت بين القومية العربية والقومية المصرية وخاصة في أواخر عهد إسماعيل وطوال حكم توفيق،

ص: 226

ويصور هذا الاتجاه أديب إسحاق وأقرانه من الصحفيين المتمصرين، ويرى الشيخ محمد عبده هذا الرأي في "العروة الوثقى" وإن جعل مصريته أكبر من عروبته، ثم هدأت هذه النعرة بعدئذ، وإن بقيت بعض الصحف المصرية واضحة الميول نحو الفكرة العربية، وخلا هذا التفكير من صحافة الحزب الوطني الذي زاوج بين الأماني المصرية والتركية وأنكر فكرة العروبة في مجهوداته؛ لأنها تتعارض مع السلطنة العثمانية، ثم عادت فكرة العروبة في الصحافة المصرية بعد الحرب العظمى غير أن القومية المصرية كانت شيئًا لا يقاوم ولا يغلبه أي معنى من المعاني الأخرى، وأصبح الصحفيون الأحرار لا يرون مصر جزءًا من البلاد العربية بل جزءًا من الشرق الأدني له الصدارة التي لا يغلبه فيها شعب من الشعوب الشرقية، وذلك لجهاده الطويل الشاق ومكانه المقدور له من الحياة الدولية العامة.

والمسألة الثانية التي تتميز بها صحافة مصر أنها عاشت صحافة رأي مذهب ويؤكد هذه الحقيقة التاريخية اتجاه التشريع الخاص بها إلى التزمت والتضييق وهذه الاضطهادات التي لقيتها منذ نشأتها إلى اليوم وهي كثيرًا ما فنيت في مذهبها وصرعت لرأيها، ولعلها من هذه الناحية تفضل صحافة بعض الدول الغربية التي سيطرت عليها تيارات خفية من الرشا وشراء الضمائر، غير أن المصاعب المالية -وهي نقطة الضعف في صحافتنا- لم تبق على كثير من الصحف الحرة التي تزين تاريخ الصحافة المصرية، وقد تبقيت صحافتنا قوة ينكرها الأجانب في مصر والخارج، وأكبر الظن أن هذه النظرة إلى الصحافة المصرية قد تغيرت بعد الثورة العرابية، وآية ذلك أن "العروة الوثقى والمؤيد" وصحف الحزب الوطني أفسدت على الإنجليز هدوءهم فمنعوا دخولهم جميعًا في السودان أو في مستعمراتهم المختلفة، وكذلك كان موقف فرنسا وإيطاليا منها في إيالاتهما المتباينة، وهي قوة لا شك في قدرها إذا علمنا أن صحافتنا المصرية تقرأ في بلاد الشرق الأدنى أكثر مما تقرأ صحافة تلك البلاد، وفي ذلك ما يؤيد قوتها ويعلن خطرها.

ص: 227

والمسألة الثالثة التي لاحظناها في الصحافة المصرية أنها بالرغم من تقدم الزمن بها، واتساع أفق النشاط أمامها صحافة تعنى بالجدل السياسي، ومصدر هذا نعتقد تسلط الروح الحزبي عليها ففقد الخبر مكانه وطغى المقال عليه، وهنا تبدو الفروق واضحة بينها وبين الصحافة الغربية التي قد تنوع في مقالها ولا تقصره على ناحية من النواحي مهما تغل في حزبيتها، بيد أنها تقدم الخبر عليه وتحله محل الصدارة من نشاطها وجهدها.

ص: 228