الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحافة الشعبية في مصر (3):
كان انتصار وجهة النظر الوطنية انتصارًا للصحافة المصرية التي ساهمت في ذلك مساهمة تحملت أثقالها وحدها من التضييق والإنذار والتغليق، لذلك احتفلت بتعيين شريف باشا رئيسًا للنظارة احتفالًا عامًّا، فنشرت الصحف كتاب الخديوي للقناصل الذي تضمن موافقته على اللائحة الوطنية وتعيينه لشريف باشا وأبرزت في إعجاب قوله:"إن الأمة قد أجمعت على تنفيذ مقتضى هذه اللائحة ومعلوم لجنابكم أن الأمة إذا اتفقت كلمتها وإن على خلع ملك أو سلطان فلا بد من تنفيذ إرادتها وإجابة رغبتها"1.
وعلقت الجريدة بخطورة هذا التصريح وصدقه في تقدير الخديوي لقوى الأمم وسلطانها، ثم أخذت تصف حفلات الابتهاج بالحكم الوطني الجديد وترجو في إلحاح "رجوع المجلس إلى ما كان عليه من الانتظام"2.
ثم مضت الصحف بعد تأليف النظارة الشريفية تعدد مآسي حكم الوزيرين الأجنبيين وتفسح صدرها لأنصار الخديوي فنشرت للشيخ "علي الليثي منشى المعية السنية" كما جاء في تقديمها له مقالًا ضرب فيه على الخط من قدر الحكومة السابقة التي تعدت اختصاصها وسلبت من المصريين حقهم في تولي شئونهم كما حيا الوطنيين الثائرين الذين صنعوا اللائحة الجديدة، ثم مضى فرد الفضل كله إلى الخديوي وشجاعته3.
وإذا كانت الصحافة المصرية عبرت أحسن تعبير في تصير هذه الفترة من الحياة المصرية حتى أصبحت لسان الحركة الناطق وجعلت من المصريين "أمة" كما يقول الخديوي لها خلع الملوك وتولية السلاطين، فإنها لم تنس
1 التجارة في 9 أبريل عام 1879م.
2 التجارة في 30 أبريل عام 1879م.
3 الوطن في 19 أبريل عام 1879.
حقوقهم إذ أدت التزاماتها من قبل، فتحمل التجارة على الصحف المتشيعة للحكومة الأجنبية السابقة وتذكر ألوان الضيق التي ترتبت على وجود إدارتين للمطبوعات، إحداهما للصحف الفرنجية والثانية للصحف الوطنية "فإنهما على طرفي نقيض في معاملة الجرائد، تلك تطلق لها العنان ولا تعارضها فيما تقول مع كثرة وقوعها في الحكومة وافترائها الكذب على الوطن وسعيها في إفساد القلوب، والثانية تقف بالمرصاد لو ريقاتنا القائمة بخدمة الوطن وتنوير بصائر عامته وتفكيه خواطر خاصته مع صدورها عن الغيرة الصادقة والحمية الخالصة ومع صدق ولائها وحسن طاعتها وغزارة فوائدها نقول هذا وفي القلب حزازات من انقسام إدارة المطبوعات شطرين متمايزين بخلاف ما هي عليه في الدولة العثمانية وسائر الدول في العالم المتمدن ولكن لا غرابة في هذه الخلل فهو من آثار الوزارة الساقطة"1.
أحلت الصحف في عدالة المعاملة وهي ترجو هذا من وزارة الأمة على حد تعبيرها فقد فرغت من ظلم العهود السابقة وهي تعلم أن خصومها واقفون بالمرصاد للشعب وصحافته، فالأجانب وحكوماتهم لن يرضوا عن هذا النصر الشعبي الملحوظ في الموافقة على اللائحة الوطنية، والخديوي مهما يكن عطفه على هذه الحركات فهو لن يقبل انتقال السلطة من يديه، وكذلك حال خصومها من الوزراء السابقين وخاصة رياض باشا "الذي استعان بالنعمة على الكفران وجعل الجحود جزاء الإحسان فأغضب الأمة بمسلميها ونصاراها ويهودها" ثم يستقبل أديب إسحق محرر التجارة حكومة شريف استقبالًا حسنًا ويدافع عن سياستها في تحصيل المال لسد النفقات والديون، ويذكر أن الكرباج لم يعد أسلوب جبي الضرائب وأن الرئيس يجمعها "بالتشجيع على الدفع عن طريق الوطنية" ثم يطلب من المتخرصين الانزواء؛ لأن الاستقلال والحرية اللذين يشتريان بالدم والروح يمكن بذل المال للمحافظة عليهما،
1 التجارة في 15 مايو 1879م.
وهي تعرض ما قالته بعض الصحف الأجنبية في مصر شهادة منها لوطنية المصريين في دفع المتأخرات المالية عن رضاء واطمئنان1.
ولم يرض صاحبا الأهرام وصحفهما عن سياسة الخديو فيعارضاها معارضة ملؤها العنف حتى صدر الأمر بإقفال الأهرام وصدى الأهرام ومحاكمة صاحبيهما، ولكن الحكومة تعود فتجيز نشر الأهرام وتحدها2 وتأبى الرجوع عن غلق صداه3 ولم تفرح التجارة وهي خصمها العتيد لهذا الإغلاق فهو شيء لا ترضاه على كل حال لذلك كتبت تأسف على ذلك لعلمها "بما يترتب على الجرائد من الفوائد فإنها واحدة ثلاثة هي محور التهذيب نريد المدارس والجرائد والتياترات"4 ثم تعقب في العدد التالي متجهة إلى أولى الأمر آملة "من حكومتنا السنية الآخذة الآن بأسباب الشورى أن تنظر إلى الجرائد بعين الرفق ولا تمسها إلا بالتؤدة فهي "واسطة المعاملة بينها وبين الرعية فإن فنيت وهي لسان الحال فإن هيئتنا المدنية تكون خرساء لا تحسن النطق فضلًا عن البيان"5.
فالصحف المشايعة للحكومة المصرية تغار على كرامة الحكم المصري فتجادل خصومة بشدة ولو كانت صحفًا مثلها كما أنها تأبى أن ينزل بدولتها عقاب قد يؤثر عليها فيما بعد فتدافع عن الأهرام وصداه وتذكر أن إقفالهما ساءها وتذكر المسئولين بفضل الصحف وضرورة الإبقاء عليها مع أن صدى الأهرام اتخذت موقف الخصم من الخديوي وحكومته ونقدت تصرفات ولي النعم فأصدرت الحكومة أمرها بإغلاق صدى الأهرام ولكن صاحب الأهرام لا يقر السلطات على ما فعلت ولا يطيع أمرها ويمضي في جريدته يشهر
1 التجارة في 30 أبريل عام 1879م.
2 محفوظات وزارة الداخلية 11 - 2 - 946 جزء أول.
3 أغلق "صدى الأهرام" لمقالة شديدة نشرها في 10 صفر عام 1296هـ.
4 التجارة في 2 مايو عام 1879م.
5 التجارة في 3 مايو عام 1879م.
بالخديوي ويصفه بأقبح الأوصاف ويعلن بأنه صرف مائة ألف جنيه من دم الفلاح، فإذا قبض على صاحبه وأغلقت الصحيفة تدخلت القنصلية الفرنسية وكتبت في هذا الشأن خطابًا للخديوي إسماعيل1.
ثم تدخل توفيق ولي العهد، وكان شفيعًا لصاحبي الأهرام، فأجازت الحكومة بعد لأن يعوض سليم عما فاته فتأمر بمنحه ترخيصًا لصحيفة جديدة هي جريدة "الوقت" اليومية السياسية وهي لا تختلف في شكلها وموضوعها عن أخوتها السابقات2، ولم تكن الأهرام وصحفها وحدها موضع المؤاخذة من الحكومة المصرية بل كانت لها زميلات من أهمها صحيفة الوطن، وللوطن في تلك الأثناء موقف يدهش له المؤرخ، حقًّا إنها لم تكن في يوم من الأيام خصمًا لرياض باشا ذاته وإن حملت على الحكومة التي كان عضوًا فيها ووقفت منها موقف المعارضة الصريحة فكثيرًا ما قرأنا مديحها لرياض باشا في أثناء وجوده في الحكومة السابقة مع مقال في نفس العدد ضد تلك الحكومة3.
والوطن على قدر مقالاتها الوطنية في حقوق الشعب واستقلال مصر نراها تدعو إلى صرف الجيش لخدمة الزراعة ثم تطمئن الجماهير بأنه "إذا أم مصر أحد بسوء دافعت عنها انكلترا وفرنسا فإنها تعتبر تحت حمايتهما"4.
وهذا اتجاه لا يستقيم مع منطق الكفاح الذي كافحته، ثم تغير رسالتها الصحفية دون أن تكشف قناعها كشفًا يستوجب مؤآخذتها أو تعارض معارضة صريحة تبين مرماها واتجاهها الحديدين فلا تنشر مقالًا من قلم أصحابها بل تزحم معظم صفحاتها بما نشرته الصحف الخارجية في الوزارة الجديدة وخديوي مصر،
1 44/ 4 Dossier N محفوظات عابدين.
2 محفوظات وزارة الداخلية 11 - 2 - 946 جزء أول.
3 كتب توفيق حبيب مقالًا في مجلة سركيس ذكر فيه أن الوطن كانت لسان حال رياض باشا "راجع محفوظات وزارة الداخلية دوسيه رقم 4 مكرر) والواقع أنها لم تكن لسان حاله؛ لأن المثل التي دافعت عنها لا يهضمها رياض.
4 الوطن 8 مارس 19 أبريل عام 1879.
وهي أقوال بذيئة جارحة لولي الأمر ومثبطة للعزائم الوطنية، وفطنت إدارة المطبوعات إلى قصدها فوجهت إليها إنذارًا على "نشر أخبار غير صحيحة دون أن يراعي فيها الحال والزمان
…
فإن الاستمرار على هذا السير في هذا الأوان مما يكدر الخواطر ويشوش الأذهان ولا يترتب عليه منفعة لأهل الوطن كما هو الغرض الأصلي بل ينتج منه ضرر بين يسبب تعلق الأفكار بما لا يغني"1.
وليست الصحف العربية وحدها التي اضطرب موقفها هذا الاضطراب فانقسمت أحزابًا بل بينها صحف فرنجية كانت في أكثرها خصمًا للخديوي وحكومته الجديدة وفي مقدمة هذه الصحف الأجنبية في جريدة لاريفورم " Lo Reforme" فقد دأبت على تسفيه الرأي العام المصري ورواية الأخبار الكاذبة عنه وتشويه حركاته السياسية السليمة فادعت أن بعض الذوات قد أمضى اللائحة الوطنية مقابل أربعة آلاف جنيه على سبيل الرشوة، وأن غيرهم من النواب ذهبوا إلى القنصل الإنجليزي يؤكدون له بعدهم عن هذه الحركة وأن كثيرين من سراة الأقاليم وعيون مصر أبوا التوقيع على هذه اللائحة مخافة أن يعود إلى مصر استبداد إسماعيل.
وردت عليها "التجارة" ردًّا حازمًا فكذبت كل ما جاء في مقال لاريفورم وحملت عليها حملة شعواء2، ومن غريب المصادفات أن تكون مكاتبات القناصل لوزراء خارجيتهم متفقة مع المعاني التي أعلنتها الصحف الأجنبية في مصر، فنجد قول قنصل إنجلترا عن جبي الضرائب بالسوط وإسراف المديرين الذين فصلهم ولسن في جبيها واقتراض الفلاحين لتسديدها نجد هذه المعاني منشورة في تلك الصحف.
وتكاد جريدة "التجارة" أن تقف وحدها في الميدان الوطني تقارع خصوم الوطن من الأجانب والمصريين ومن صحف الأجانب والمصريين أيضًا،
1 الوطن 8 مارس و19 أبريل عام 1879م.
2 التجارة في 10 أبريل عام 1879م.
3 الكتب الزرقاء، وثيقة 156، مايو 1879م.
تكاد تكون وحدها؛ لأن زميلتها جريدة "مصر" هلكت في مقام الجهاد1، في سنة 1879 ولم نصادف جهادها لافتقارنا إلى أعدداها الضائعة، ولم يشاركها في الدفاع عن حقوق البلاد إلا قليل من الصحف في مقدمتها صحيفة "مرآة الشرق" التي دافعت عن مصر "حتى انتبه أهلها من رقدة الغفلة ونشطوا لإنقاذها من التهلكة متوافقين في الرأي متواثقين على الثبات معتمدين على الحقوق الوطنية والإنسانية"2.
وإذا كانت الصحف المصرية في عمومها قد اعتنت بالنواحي السياسية التي شغلت خاصة المصريين من السراة والأعيان وأعضاء المجالس النيابية كتفاصيل الانتخاب ولمن يكون الحق فيه من المصريين والشرقيين المقيمين في مصر3 أو الاختلاف على لائحة المسيو تريكو التي تعارض اللائحة الوطنية4 أو تفاصيل المسألة المالية التي ناقشها مناقشة العليم الخبير بأصول المال ومشاكله5.
نقول: إذا كانت الصحف اهتمت بهذه المشاكل المختلفة فإن "مرآة الشرق" كان لها اتجاه يختلف بعض الاختلاف عن هذه الصحف فقد عالجت "مرآة الشرق" المسائل الاجتماعية والسياسية في الخارج فناقشت المذاهب السياسية في روسيا "كالسوسيالست والنهيلست أي حزب المساواة والكومون أي الإباحيين"6 ثم تفصل أساليبهم وأغراضهم في أكثر من مقال، ثم تعقب على ذلك بأن ظهور مثل مذهب الكومون مرجعه ظلم الراعي للرعية، وتحمل على قيصر روسيا الظالم المستبد ثم تحمد للحكومة المصرية أنها قررت الشورى للبلاد "فجعلتنا آمنين شر الفتن والفاتنين".
1 مصر في 7 ديسمبر 1881.
2 مرآة الشرق 7 مايو عام 1879م.
3 التجارة 9 يونيو عام 1879م.
4 التجارة 6 يونيو عام 1879م.
5 الوطن 10 أبريل عام 1879م.
6 مرآة الشرق 5 مايو عام 1879م.
وتتجه في معارضتها اتجاه اقتصاديًّا وهو غريب جدًّا في ذلك الزمن، هي لا يعنيها أمر البرلمان ولا تفاصيل الانتخاب بقدر ما يعنيها أمراؤها الذين "في غفلة لا يرفعون رءوسهم عن وسائد الغرور ولا يقصرون عن تشييد القصور ولا يفيقون من سكر اللهو ونحو آلة بيد غيرنا يستعملها لمنافعه الخاصة كأن لم يكن صانع العالم قد منحنا استقلال الوجود" ثم تعاتب الإنجليز على موقفهم من مصر ولا تفوت الحملة على الفرنسيين معهم، ثم يربط محررها إبراهيم اللقاني فساد الحال في مصر بفساد "أخلاق الأمراء وولاة الأمور وجهلهم بواجباتهم وسوء تدبيرهم واختلال إدارتهم، لا يعرفون شرعًا ولا يرضون قانونًا ولا يسمعون رأيًّا ولا يقبلون نصحًا بل تعدوا الحدود وانتهكوا المحارم وثلموا الأعراض وحاربوا العدل وقاوموا الإنصاف فطغوا وبغو ونهبوا وسلبوا وفتكوا وهتكوا حبًّا في أغراضهم وكرامة لشهواتهم".
ثم يواجه الرأي العام بأهم ما ينبغي أن يلتفت إليه الرأي العام في ذلك الوقت قائلًا: "إنهم شادوا القصور وغرسوا البساتين واقتنوا الحور والولدان، وتأنقوا في المآكل وتفننوا في المشارب، وزينوا الملابس وسحبوا مطارف العجب والخيلاء وأفراد الرعية على مرأى منهم حفاة عراة يتضورون جوعًا ويتلظون ظمًا ويموتون بردًا"1.
اشتغلت الحكومة الشريفية بوضع دستور "على أحدث المبادئ العصرية" وإن لم توات ظروف إسماعيل إعلانه والعمل به2 كما عنيت الحكومة بالحالة المالية وتسديد ديونها وأصدرت المراسيم في أبريل لتكفل طمأنينة الأوربيين على أموالهم، ولكن ذلك كله لم يرضهم فطلبت الحكومتان الإنجليزية والفرنسية
1 مرآة الشرق 28 أبريل وأول مايو عام 1879م.
2 الأهرام في 13 يونيه عام 1879م.
عودة الوزيرين الأجنبيين إلى الوزارة، فرفض الخديوي ذلك وأحس الدائنون أن هناك خطرًا على أموالهم في مصر ما بقي الخديوي على رأس الدولة يشجع بذكائه وقوة إرادته الحركة الوطنية وصحافتها على مناضلة خصوم مصر في الأجانب والمصريين جميعًا.
وارتبط هذا النشاط الوطني بدفاع الصحافة عن حقوق مجلس النواب عند نظر الميزانية، وأبى بعض الصحف الفرنجية إلى الحملة على الخديو وحكومته، ولم تبد تركيا أي ميل لمعاضدة إسماعيل أو تشجيع الحركة الدستورية في مصر، وقد تجمعت كتلة من العيون والعلماء ورجال السياسة وراء إسماعيل تنصره في موقفه أمام الأوربيين، ولم تكن الصحف تؤآزره هو ذاته بل إن بعضها كمرآة الشرق دأبت على التعريض بأمراء الأسرة وحكام الأقاليم الذين عينهم إسماعيل؛ ذلك لأن الصحافة كانت تمقتهم، فقد اعتبرتهم علة شقاء مصر وبلائها وتحدثت في ذلك حديثًا مستفيضًا لما تم عزل الخديو في 26 يونيه سنة 1879.
فأما "الوطن" فقد حمدت الله على عزل الخديو ونفيه وذكرت في 5 يوليه أن الله "جلى عن الأمة الظلم والظلمة والغمة فشكرًا لله على تأديبه لعبادة ثم لطفه بهم وإزاحته للكروب عن قلوبهم" ثم تتحدث عن رحيل الخديوي وتعقب قائلة: "إن ألد أعداء هذا القطر هم الذين ألغوا لائحة ولسن وسعوا في عزله وعزل المسيو دي بلنيار بل في عزل الوزراء الوطنين أصحاب الرأي الناجح والعقل الراجح".
ثم تحمل على الأعيان والنواب الذين سنوا لائحة وطنية تغاير لائحة ولسن، تصور المصريين وهي في الحق تصور نفسها حين تزعم أنهم "ودوا أن يتخلصوا من هذا الرياق ويفك عنهم هذا الخناق غير أن نهض للحزب الوطني حسب وهمه أن يخلص البلاد من الظلم والتهلكة" ثم تتهم هؤلاء الوطنيين بأنهم "شرذمة قليلة من الناس" وأخيرًا تحمل على مجلس النواب الذي أيد اللائحة
الوطنية فكانت نتيجة تأييده عزل الخديوي وتعلق على ذلك فرحة "نعم إنها نتيجة حسنة إلا أنها رمية من غير رام".
وتنشر "مرآة الشرق" في 30 يونيه مقالًا رائع اللفظ والمعنى معًا تؤرخ به عهد إسماعيل، فهي تذكر ملكه الزاهر وبدايته الحسنة في تنوير الأذهان وخدمة البلاد، ولكنه أساء اختيار الرجال فوظف لحكومته "الأمين والخائن ووغل عليه الصادق والمائن فبادروا الزرع قبل إبّانه والثمرة قبل نضجها" ثم يذكر المحرر آثار هذا الفساد الذي أخذ عليه نظامه جميعًا وخاصة في المسائل المالية "فكان كلما تخلص من ناب ذئب وقع في مخلاب أسد، فانتهى أمره بانصداع العزمة واشتداد الأزمة" ثم يعود إلى معاونيه ورجاله مرة أخرى "ممن قدمته الصدف وأعلته الاتفاقات وهو على خشونة البداوة وقسوة الوحشية لا يرعى للقوانين حرمة ولا للعهود ذمة" ثم يفصل دور هؤلاء في تسليم البلاد للأجانب "حتى كاد يتم لهم الدست لولا بقية حمية في نفوس المتبصرين من أبناء البلاد".
ثم يعطف على توفيق الخديوي الجديد ويرجو أن تكون بطانته خيرًا من بطانة أبيه وأن يطرد الذئاب من الدولة ثم يلفت نظره إلى الإصلاح وفي مقدمته "نشر علم الحرية في الأفكار والأقوال والأعمال" ثم تتوجه إلى الدول فتثني على فرنسا التي كان لها دخل في خلع الخديوي وحالت دون استبداد انجلترا بمصر "تلك الدولة الشرهة النهمة ذات المحبة الذاتية المفرطة".
أما جريدة "التجارة" فتودع إسماعيل في آخر يونيه بغير إفراط في ذمه وإنما ترجو الله أن يعاد البناء العظيم "على أساس الشورى وقواعد الحق ودعائم الحرية" وقد ساءتها سخرية الوطن من الحزب الوطني ومن رئيس النظار شريف باشا فإذا تعطلت بعض الصحف بأمر من الحكومة الشريفية لم تواسها كما صنعت من قبل بل نشرت خبر تعطيلها في مكان ظاهر منها وعلقت الخبر قائلة: إن ذلك التعطيل "أحدث عند الفئة الوطنية سرورًا
زائدًا" ثم ذكرت في خلال سطورها أنها صحف لا تؤازر المخلصين في سياستهم1.
اهتمت الصحف الشعبية بالشئون السياسية اهتمامًا شغل معظم صفحاتها منذ الحرب الروسية التركية، ويظهر تاريخها بين هذه الفترة وبين خلع الخديو إسماعيل في نشاطها السياسي وهو نشاط يستطيع مؤرخ مصر الحديثة أن يرجع إليه ويستقصي منه أحداث البلاد وهو مطمئن إلى صدق الرواية وسلامة التصوير بعد تمحيص غير عسير، ثم خرجت الصحافة الشعبية من انزوائها بعد الحرب الروسية التركية تتحدث عن حياة الشعوب والجماعات في أوربا والشرق حديث الناقل عن صحف الغرب الباحث في أمهات الكتب والمراجع بين حين وحين، وأظهر من حمل القلم في هذا الميدان أصحاب الوطن والأهرام ثم الأفغاني وتلامذته في جرائد مصر والتجارة ومرآة الشرق وخاصة عن الشئون الشرقية التي تخصصت لها الصحيفة الأخيرة في الخبر والموضوع.
وإذا كانت السياسة قد استغرقت هذه الصحافة وشغلتها بالمسائل القانونية والفقه الدستوري فليس معنى هذا أن المسائل الاقتصادية كانت غفلا من الرعاية أو العناية، فإن الكتاب لم ينشئوا البحوث والمقالات في الأزمة المالية أو شئون الدين فحسب بل فكروا يومًا من الأيام في الشئون الاقتصادية العليا فقد رأينا فكرة المصارف فكرة رسمية أرادها محمد علي وبقيت منذ عهده حديثًا رسميًّا لا دخل للشعب فيه، بينما يظهر في عهد إسماعيل من يفكر في إنشاء مصرف وطني فتصبح الفكرة فكرة شعبية2 كان يرجى من ورائها لا سد الديون وفوائدها فقط بل خلق دعامة شعبية اقتصادية تسند حرية مصر واستقلالها، والصحف أول من نادي بها وألح فيها.
1 التجارة 7 يوليو عام 1879م.
2 التجارة في 5 و17 أبريل عام 1879م.
ولا يقف فضل الصحافة الشعبية عند هذا الحد، فهي تدعو إلى تعليم الشعب وإنشاء الجمعيات الخيرية لتحقيق هذا الغرض، وتفتح صدرها لأخبار هذه المدارس الشعبية والجمعيات الخيرية وتتحدث عنها تصف حفلاتها وتقدم للجمهور بالثناء رجالها، وتمجد جماعة مصر الفتاة وهي جماعة تكونت في نهاية عصر إسماعيل للنهضة بشئون التعليم ففتحت المدارس الليلية وتطوع شبابها لتعليم الجماهير1.
وتلاحظ الصحف الشعبية الشئون الداخلية الصغيرة فلا تغفل حادث عمدة أو مأمور يتبين لها أنه لم يؤد وظيفته أداءً حسنًا وتشير على الحكومة بجزائه وعقابه ثم تلفت نظرها إذا تداعت قنطرة أو غرقت أرض زراعية حتى تقوم الحكومة برأب الصدع وسد المياه وتعويض أصحاب الأراضي الغارقة2.
ويتولى مكاتبوها في المدن والأقاليم موافاتها بمثل هذه الأنباء برقًا وبريدًا، وبذلك أصبحت الصحافة الشعبية رقيبة على الحوادث الصغيرة كرقابتها على الحوادث الكبيرة، وقد خصصت هذه الصحف جزء منها لنشر بعض القصص المترجمة عن الكتب الأدبية الفرنجية أو نشر الكتب التاريخية ككتاب الجبرتي أو بعض الرسائل اللطيفة، وهي في ذلك تقلد الصحف الفرنجية في مصر كما أنها حفلت بالموضوعات الاجتماعية والعلمية والطبية3 والمقالات التاريخية وغيرها في علمي النفس والمنطق4 وقد جادل بعضها بعضًا في هذه المسائل العلمية.
ومن أجمل ما حفل به تاريخ هذه الصحافة أنها كانت بعيدة أشد البعد عن التعصب الديني ولم تبحث يومًا في موضوع يثير هذه الناحية التي تبرأت منها القضية المصرية في ذلك الوقت، وكان المصريين يشعرون بجانب هذه
1 التجارة في 3 أبريل عام 1879 (تقلًا عن مرآة الشرق).
2 الوطن 26 أكتوبر عام 1879م.
3 الوطن 21 نوفمبر عام 1877م.
4 الوطن 19 أكتوبر عام 1878.
الصفحة الطبية أن الزعامة الصحفية لم تكن لهم؛ لأن محرري هذه الصحف وأصحابها في أكثرهم غير مصريين وهذا في الواقع مصدر من مصادر التصدع في الوحدة الصحفية المصرية، وكذلك كانت بعض الصحف المصرية أو المتمصرة تعتمد في حياتها على القنصلية الإيطالية أو الفرنسية أو الروسية، ومن هنا ظهر هذا الخلاف العميق بين هذه الصحف على مسائل مصر العليا وهي من الوضوح بحيث كانت تستلزم وحدة الغرض والاتجاه ووحدة الميول والآراء، وهكذا أصبح جزء من الصحف يعيش مطمئنًا إلى قوة تحميه من بطش الحكومة وأصبح جزء آخر ضحية للسلطات المصرية وقانون المطبوعات لا تحميه سلطة من السلطات التي دافعت وحمت غيره من سلطان العسف والاضطهاد.
وللصحف الشعبية فضل عظيم على نشر المطابع الحرة، فقد أسس عبد الله أبو السعود أفندي مطبعة وادي النيل بحروف شديدة بحروف مطبعة بولاق ثم عاد فأعاد لها قاعدة جديدة تميزت بها1 وأنشأ صاحبا الأهرام مطبعة سنة 1875 بقيت تكبر على الزمن حتى أصبحت من أكبر مطابع مصر والشرق جميعًا، وكذلك أنشأ كاستيلي مطبعة لجريدة "الكوكب المصري" وساعد الأفغاني أديب إسحاق في تأسيس مطبعة مصر لينشر جريدته، وهيأ له فيها حروفًا من حروف المطبعة الأميرية2 ولانتشار المطابع من الأثر ما لا يمكن أن ينكر فضله في تثقيف الأمم والشعوب.
1 الهلال، ج1، السنة التاسعة، في أول مارس عام 1901، ص320.
2 الأستاذ الإمام، ج1، ص44 - 45.