الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحافة المصرية من عام 1940 إلى عام 1952:
تعتبر هذه الفترة من تاريخ الصحافة المصرية أزهى الفترات التي عاشتها صحافتنا فقد كانت تعيش في ظل الأحكام العرفية معظم هذه الحقبة في أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم عدة سنوات أخرى خلال حرب فلسطين.
وبالرغم من الرقابة العنيفة التي فرضت على هذه الصحافة بمقتضى الأحكام العرفية، واستغلال جميع الأحزاب لهذه الرقابة التي كبتت كل رأي وحاربت كل فكر، فإن الصحفيين عاشوا أحداث تلك الأيام مجاهدين أبطالًا، وكافحوا طغيان الحاكم بلباقة مكنتهم من تسجيل عورات النظام، وكشف المستور من سوآته، وبيان وجه الحق في المسائل العامة التي كانت تهز أعصاب المواطنين وتؤرق حياتهم في تلك الأيام.
وكانت هناك نحو مائة جريدة ومجلة معظمها تصدر باللغة العربية، وظهرت في تلك الأيام وقبيلها بقليل دور جديدة للنشر ومؤسسات صحفية مصرية خالصة في مقدمتها المصري وأخبار اليوم، لتنافس صحافة الشاميين المتمصرين، كالأهرام والمقطم ودار الهلال وغيرها، وجاءت صحافة المصريين بجديد في الفن الصحفي لم يعرف في الصحف الأخرى.
وكانت "المصري" التي آل مصيرها آخر الأمر إلى محمود أبو الفتح وأسرته قد نضجت مفاهيمها الصحفية في الأربعينات متأثرة بالصحافة الإنجليزية كماظهرت "أخبار اليوم" بفنها الصحفي الجديد متأثرة بالصحافة الأمريكية، وبدت المصري وكأنها لسان الوفد وهو أكبر الأحزاب المصرية وصاحب الجهاد الكبير من أجل الاستقلال والديمقراطية أكثر من ثلاثين عامًا، وكان يجري في فلك سياسة المصري صحف وفدية أخرى أكثر تطرفًا وإن لم تبلغ
مكانة المصري في الإخراج والتحرير أو في الانتشار أو التأثير في الرأي العام1.
وكانت أخبار اليوم على رأس الصحف المعارضة للوفد، وكان يجري في فلكها أيضًا صحف أخرى لم تستطع جميعها أن تنال من الوفد شيئًا، فانكمشت أو احتجت وبقيت أخبار اليوم في ميدان المعارضة بفنها الصحفي الجديد، وموضوعاتها المثيرة وقدرة صاحبيها مصطفى وعلي أمين على جذب القراء بما كانت تعالج من أمور الساعة أو تنشر من الأخبار الخطيرة ما عز على الصحف الأخرى الحصول عليها أو منافستها في ذلك الميدان2.
وكانت هناك الصحف القديمة كالأهرام التي صدرت في سنة 1876 وهي صحيفة وقور عاصرت حياة مصر، وكانت إلى جانب نهضة البلاد معظم تاريخها، وبلغت حد التطرف في ثورة 1919 ثم التزمت الحيدة في الشئون السياسية بعد ذلك، حتى بدت صورة من جريدة التايمز اللندنية فلا تنشر خبرًا يشوبه الشك أو تعالج حدثًا إلا من الناحية الموضوعية، كما أخذت على نفسها أن تكون اللسان الرسمي للحكومة المصرية -حكومة أي حزب- وإن لم يمنع ذلك من فتح صدرها وصفحاتها للمعارضة بين آن وآخر.
1 يراجع في تاريخ جريدة المصري رسالة الماجستير التي وضعتها سهير إسكندر راغب فهمي في فترة من حياة الجريدة، ولم تطبع بعد وكذلك رسالة الدكتوراة التي وضعتها الدكتورة مهما محمد كامل الطرابيشي "دور الصحافة المصرية في التمهيد لثورة 23 يوليو 1942 - 1952" وهي لم تطبع بعد، وهاتان الرسالتان بحثان شائقان وممتازان لمن يعني بمثل الدراسات.
2 يرجع في تاريخ أخبار اليوم إلى كتاب "شارع الصحافة" لمي شاهين وكتاب ثورة في الصحافة للدكتور سامي عزيز وكتاب وسائل الاتصال -نشأتها وتطورها للدكتور خليل صابات، ففي هذه الكتب دراسات ممتعة عما كان للصحيفة من مواقف سياسية واجتماعية، فضلًا عن بيان الجديد الذي أدخله صاحباها على الصحافة المصرية من فنون الإخراج والعرض وغير ذلك مما أطلقوا عليه الفن الصحفي.
وكانت "المقطم" الصحيفة الشامية الثانية التي صدرت منذ أكثر من ثمانين عامًا في حجر الإنجليز، ومضت لسانًا لهم بالحق والباطل، ومطية لكل حكومة تحكم البلاد.
وكانت هناك صحف ومجلات أخرى معظمها ألسنة لأحزاب الأقلية تعالج الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية كالبلاغ والسياسة والدستور والكتلة وغيرها وإن لم تبلغ إحداها شأو ما ذكرنا من صحف، كما ظهرت إبان الفترة التي نعرض لها في هذا الفصل صحف تمثل المذاهب الاجتماعية الجديدة، كالاشتراكية والشيوعية وفي مقدمتها صحف أحمد حسين وهي مصر الفتاة والاشتراكية والشعب الجديد والصرخة والضياء والثغر.
كما ظهرت في عهد الحكومة الوفدية الأخيرة "1950 - 1952" أخطر الصحف اليسارية، ومنها: الملايين، والجمهور العربي، والفجر الجديد، وكانت حرية الصحافة في ذلك الوقت قد بلغت عصرها الذهبي، إذ رفعت الحكومة عن كاهل الصحف الرقابة وألغت الأحكام العرفية، ولم تصادر صحيفة إلا بحكم قضائي، ولم تمنع صحيفة من الصدور، وكانت تراخيص الصحف تمنح بلا عائق بالرغم من علم الحكومة بأن جميع الصحف الجديدة تمثل جبهة تعارضها وتتحداها، وتهاجمها في قسوة وعنف وفي شيء من التجني أحيانًا.
وكانت تلك الصحف الشيوعية أو اليسارية لا تؤثر في الكتلة الشعبية الضخمة التي تدين بالولاء لحزب الوفد، وإنما كان تأثيرها واضحًا وملموسًا في بعض بيئات المتعلمين، وكانت صحفًا لا ينكر فضلها في علاج المشاكل الاقتصادية والدفاع عن العامل والفلاح، ومهاجمة الحكومة والملك والإنجليز بعنف منقطع النظير، وفي شجاعة دفعتها إلى المطالبة بثورة تطيح بالنظام، الأمر الذي عرض أصحابها للمحاكمة التي أنصفها فيها القضاء، وقد شاركها في المطالبة بإصلاح حال الكادحين بعض صحف الحكومة الوفدية كالمصري،
وبعض الصحف المعارضة كأخبار اليوم التي دأبت على نشر المقالات النارية أيام الأحكام العرفية وبعدها1.
وبرز في تلك الفترة نشاط ملحوظ في صفوف الجماعات الإسلامية التي بلغت أوجها في جماعة الإخوان المسلمين وهي جماعة قادها مدرس من الإسماعيلية، وكان خطيبًا مفوهًا وعالمًا في شئون الدين، واستهوت دعوته كثيرًا من الشباب، واستقطب شخصيات لها تاريخ، وكان ظهور الإخوان المسلمين ضرورة تاريخية وحتمية لظهور الشيوعيين والاشتراكيين، إلا أن الدعوة الإسلامية الجديدة هددت الأحزاب جميعًا فحاربتها الأحزاب جميعًا، وإن كان الوفد أقل الأحزاب كراهية لها وأقلها حربًا عليها، وكان للإخوان صحف ومنشورات ومقر معروف، فحوربوا في صحفهم واضطهدهم الحزب السعدي خاصة اضطهادًا شديدًا حين شارك في الحكم بعد وزارة الوفد التي أقيلت سنة 1944، فقام شاب من الإخوان بقتل رئيس الحكومة أحمد ماهر في حرم البرلمان، وقام آخر بقتل خليفته محمود فهمي النقراشي في وزارة الداخلية، وقيل إن خليفة النقراشي وثالث الرؤساء السعديين إبراهيم عبد الهادي انتقم لسابقيه فأعد للشيخ حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين كمينًا أمام مبنى جمعية الشبان المسلمين فقتله بعض ضباط الأمن أمام المبنى وفروا هاربين.
ناقشت الصحف المصرية في تلك الأيام المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بشكل ملحوظ، وفي دراسات ممتعة عميقة وموضوعية أيضًا، وشهدت تلك الصحف أقلامًا قوية مستنيرة، وبحوثًا شائقة عن كل موقع في الحياة المصرية يشغل بال المفكرين، وتتجه جميعًا إلى علاج اليأس الذي رنا على حياة العمال والفلاحين وضرورة رفع المعاناة عن هذه الطبقات الكادحة بفرض الضرائب على القادرين، وذهبت بعض الأقلام إلى ضرورة توزيع الأرض على الفلاحين معلنة شعار "الأرض لمن يفلحها" وهي دعوة شيوعية خفف
1 أخبار اليوم في 30 يونيو 1945 و9 سبتمبر 1950 و9 فبراير 1952.
من خطرها اتجاه المسئولين في مجلس الشيوخ والنواب إلى تحديد الملكية بخمسين فدانًا وهي دعوة اشتراكية، وكلتا الدعوتين خبت جذوتهما بعد حين، ولكن إلى حين.
وقد استجابت الحكومات المتعاقبة من سنة 1940 إلى سنة 1952 إلى تحقيق كثير من الأهداف والقوانين التي دعت إليها الصحف ومحرروها، سواء من كتابها أو من المصاحفين1 الذين كانت لهم مقالات وبحوث غاية في الدقة والامتياز.
وكانت حكومة الوفد من 1952 - 1944 أو حكومته من 1950 - 1952 أكثر الحكومات استجابة للتيارات الجديدة، بل كانت القوانين التي صدرت لصالح العمال والفلاحين في فترتي حكم هذا الحزب من برامجه وأهدافه، وبذلك بشرت بها صحفه قبل أية صحيفة أخرى وخاصة جريدة المصري، بالإضافة إلى حدث خطير تم خلال حكم الوفد في ذلك الوقت، وهو مجانية التعليم التي تقررت لأبناء الشعب الذين أعجزهم الفقر عن ارتشاف مناهل العلم التي كانت وقفًا على الأغنياء أو القادرين من الطبقة الوسطى.
وقد تميز تاريخ الصحافة المصرية فيما بين سنوات 1940و 1952 بأحداث سياسية خطية شغلت الصحافة والرأي العام طوال هذه الفترة، ولفتت الانتباه إلى مصائر الوطن الذي تعرض بهذه الأحداث السياسية الخطيرة إلى هزات فكرية جديدة.
وكان من الأحداث التي استغرقت جهد الصحافة والصحفيين ومواقع السلطة والبرلمان بمجلسيه -الشيوخ والنواب- قضية 4 فبراير والكتاب الأسود وحرب فلسطين ومشروع القانون الذي تقدم به إلى مجلس النواب اسطفان باسيلي عضو مجلس الشعب الحالي وإلغاء معاهدة 1936.
1 المصاحف من يكتب للصحيفة من الخارج سواء بتكليف منها أو من عندياته مثل الأستاذ مصطفى مرعي الذي نشر في تلك الصحف مقالات نارية ضد النظام وضد الأوضاع السياسية والاقتصادية.
وكانت أخطر الأحداث حادث الدبابات التي حاصرت الملك في قصر عابدين في 4 فبراير 1942 لتفرض عليه أحد حلين، إما أن يتنازل عن العرش أو يدعو مصطفى النحاس إلى تولي شئون الحكم.
وقد شغلت قضية 4 فبراير المؤرخين في السنين الأربعين الأخيرة، وقد اختلفوا في أمرها أشد الاختلاف، وقد اعتبرها معظمهم عورة في جبين حزب الوفد، وقرر بعضهم أن الوفد انتهى تاريخه بهذا الحادث، وكان هذا رأي جميع أحزاب الأقليات كالأحرار الدستوريين والسعديين والحزب الوطني ومعظم الصحف المعارضة، وسجل هذا الرأي محمد حسين هيكل باشا في كتاب له، وأعلنته مذكرات إبراهيم باشا عبد الهادي التي كتبها وقام بنشرها الصحفي محمد علي أبو طالب في مجلة روز اليوسف، وفيها يروى عن عبد الهادي أنه يرى أن حادث 4 فبراير كانت نتيجة مؤامرة بين السفير الإنجليزي والنحاس باشا وأمين عثمان باشا1 وإن لم يغمط النحاس حقه حين قرر أنه مثال للوطنية والأمانة والطهارة.
لقد كان النحاس باشا بعد إقالته في 30 ديسمبر 1937 مبعدًا عن الحكم بعد تزوير الانتخابات التي أجرتها أحزاب الأقلية في سنة 1938 وبلغ فساد الحكم ذروته إذ ذاك وانتشرت موجة من الاغتيالات لكثير من الشخصيات المصرية، وأصبح الملك يسوس الملك كملك ورئيس وزراء.
وقد رجعنا في قضية 4 فبراير إلى مصادرها الأصلية مستعينين بالوثائق الإنجليزية الرسمية التي كان محظورًا النقل عنها حتى انتهت مدة حبسها عن الباحثين، وأصبحت في متناول أي إنسان، وبذلك أمكن بيان وجه الحق في هذه القضية.
1 روز اليوسف 16/ 8/ 1982.
ولما كانت الحرب العظمى الثانية قد أعلنت فقد فرضت الأحكام العرفية وتمكن الملك نتيجة لذلك من العبث بالدستور على نحو ليس له نظير أو مثيل، واستطاعت حكوماته المتتالية أن تفرض الرأي الواحد وتقضي على الحريات فالصحف تخضع للرقابة والرقيب والاجتماعات العامة محظورة، والمعتقلات، للأحرار فتحت أبوابها على مصاريعها، والعبث بقوت الشعب فرصة للإثراء وبيع الرتب والألقاب تجارة رابحة.
واندلعت الحرب العظمى الثانية وعلى رأس الحكومة علي ماهر تؤيده أحزاب الأقلية، ويندفع الرجل في مؤازرة الحلفاء، فيلبي طلبات القيادة الإنجليزية، بل يتحسس رغباتها فيؤديها طواعية بلا سؤال، فإذا بدأت ألمانيا في انتصاراتها الخرافية على الإنجليز وحلفائهم، قلب لهم ظهر المجن، فكان ألمانيا أكثر من الألمان، كما انحاز الملك إلى إيطاليا حليفة برلين، فكان إيطاليا أكثر من الطليان.
في الوقت الذي كان أعداء الدستور والحريات لا شاغل لهم إلا التكالب على كراسي الحكم وانتهاز فرصة الأحكام العرفية لكسب الحرام، كان النحاس يطالب الحكومة الإنجليزية في مذكرة قدمها لها بالجلاء التام عن مصر والسودان عقب الحرب، وحق مصر في الاشتراك في مفاوضات الصلح لترعى بحضورها مصالح بلاده، ويحتج في الوقت نفسه على إعلان الأحكام العرفية في مصر في الوقت الذي تخوض إنجلترا الحرب دون إعلان هذه الأحكام في بلادها.
وخطب النحاس في الناس متحديًّا الأحكام العرفية1 حاملًا على الإنجليز "الذين يحاربون عن الديمقراطية في بلادهم ويدأبون على العمل ضد الديمقراطية في مصر، ولا ريب أنه إذا لم تكن الديمقراطية واحدة في كل البلاد التي تناصرها فليست إذن هي فكرة يدافع عنها ومبدأ يناضل من أجله بل تكون هي والديكتاتورية سواء .. ".
1 راجع خطبة النحاس باشا في 3 أغسطس 1941.
وقد بلغ الفساد ذروته حتى شح القوت في الأسواق، وهاجم الشعب المخابز والمطاحن وسارت المظاهرات تهتف بسقوط الإنجليز وتدعو "روميل" أن يتقدم لينقذ البلاد1.
ووجد الإنجليز أن سكوتهم على انحياز الملك للإيطاليين، ونشاط على ماهر في بث الدعاية للألمان، وقيام القصر بترتيب المظاهرات المعادية لهم، وجدوا أنه لا بد أن يغامروا بعزل الملك ثم تأليف حكومة قوية تفرض الأمن والنظام، فتقدموا إلى الملك بإنذار في 4 فبراير 1942 يطلبون تأليف وزارة "ائتلافية" بزعامة مصطفى النحاس.
لقد كان حسين سري قبيل أزمة 4 فبراير مباشرة رئيسًا لمجلس الوزراء، وكان الرجل صنيعة من صنائع الإنجليز، وما كان يبرم أمرًا أو يقضي في شأن إلا بالرجوع إليهم أولًا، وكانت علاقته متوترة بالملك حتى إنه ذهب إلى السفير يشكوه ويطلب إليه في 20 يناير 1942 أن يتعاونا "لتأديب هذا الصبي وتخويفه بين آن وآخر".
وقد اجتمع رئيس الوزارة حسين سري أول فبراير 1942 بالسفير واتفقا على أن يقدم استقالته وأن يطلب السفير من الملك أن تؤلف "وزارة ائتلافية" برئاسة النحاس باشا ويقول السفير في كتابه "وتناقشنا معًا في ترتيب هذا الموضوع"2 وإذن فقد بدأ التدبير لحادث 4 فبراير بين حسين سري والسير لامبسون السفير البريطاني، لا بين السفير وبين النحاس وأمين عثمان.
لقد كان النحاس في قنا عندما بدأت الأزمة، يزور ضريح سيدي
1 كان روميل قائد قوات المحور في شمال إفريقية قد تقدم فبلغ مشارف الإسكندرية ووقفه الإنجليز عند العلمين التي حدثت فيها معركة مروعة بعد عدة شهور رد فيها الإنجليز قوات المحور على أعقابها.
The Killearn Diaries 1934- 1942
2 فصل سنة 1942 طبعة 1972.
عبد الرحيم القناوي رضي الله عنه، فاستدعاه الملك ليؤلف "وزارة ائتلافية" وهو طلب كيلرن سفير إنجلترا في مصر، ولم يطلب السفير وزارة وفدية برياسة النحاس بل طلب وزارة يرأسها النحاس أو يباركها وتتألف من جميع الأحزاب.
أما عن نصيب أمين عثمان من هذه المؤامرة فقد دحضتها برقية السفير لوزير خارجيته حين سجل فيها أنه "من محاسن الصدف أن أمين عثمان باشا طلب مقابلتي هذا الصباح، وكنت قد امتنعت عن مقابلته خلال الشهور الثلاثة الماضية منعًا لأي شائعات عن تدبير مؤامرات مع السفارة أما الآن فالوضع قد تغير وخاصة أنه موضع ثقة النحاس"1.
أما عن نصيب النحاس في هذه القضية، فننشر نص المذكرة التي كتبها وكيل الخارجية الإنجليزية إلى وزيره إيدن عقب حادث تطويق الدبابات الإنجليزية لقصر عابدين في يوم 4 فبراير 1942.
قال وكيل الخارجية في مذكرته "على أن لدي تنبيهًا خطيرًا أود أن أقدمه وأعتقد أنه ربما يغطي نقطة سوف تكلفنا كثيرًا في المستقبل وهو أنه لم يحدث في أي وقت خلال الأزمة سواء فيما يتعلق بتعيين الوزارة الجديدة أو خلع الملك المحتمل، أن السير لامبسون قد دخل في اتصال شخصي مع النحاس، والنتيجة المترتبة على ذلك هي أنه لن يكون متاحًا للنحاس أن ينكر فقط علانية "وهو سوف يفعل ذلك بكل تأكيد" بأنه مدين لتأييدنا بأي شيء أو أنه ملتزم نحونا بأي التزام وإنما نحن في الحقيقة لا نملك شيئًا نشهره في وجهه عندما تقع الأزمة المقبلة"2.
1 من وثائق وزارة الخارجية البريطانية الوثيقة رقم 416 في فبراير 1942 الساعة 6.35 بعد الظهر.
2 F. O. 371 31 671 74 a EGYPT وقد ترجم هذه الوثيقة الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه تطور الحركة الوطنية في مصر ج2، ص215.
إنما يحذر وكيل الخارجية الإنجليزية وزيره بأن انتهاء الأزمة لا يعني بحال انتهاء المشاكل، فقد ولى الحكم رجل لا يستطيعون تجريحه أو التشهير به في مشكلة 4 فبراير؛ لأنه كان بعيدًا عنها تمامًا، وهو رجل عنيد ينتظر أن يؤرق حياتهم بالمطالب، وأنه يجب أن نتهيأ للقائه "في الأزمة المقبلة".
ونروي فصول تلك المأساة فنذكر أن النحاس عاد من قنا وذهب للقاء الملك فوجد عنده زعماء الأحزاب الأخرى وبعض المستوزرين من بطانته وشرحوا له سبب الاجتماع وقصة الإنذار البريطاني بضرورة تأليف وزارة ائتلافية برياسته، وألح زعماء الأحزاب عليه ومعهم الملك، بأن يوافق على تأليف تلك الوزارة حتى تتفادى البلاد نتائج الإنذار البريطاني، ويصان عرش مصر فلا تتقاذفه الأنواء.
ورفض النحاس أمرين، الأول الإنذار البريطاني ووقع مع زعماء الأقلية رفض ذلك الإنذار، والثاني تأليف وزارة ائتلافية؛ لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وهو لا يريد أن يعيد مأساة الوزارة الائتلافية سنة 1928 التي انسل منها المؤتلفون وزيرًا بعد وزير واتخذها الملك فؤاد تكأه لإقالة وزارته "نظرًا لتصدع الائتلاف".
ونقل الملك إلى السفير الموقف، فما كان من الأخير إلا أن حاصر قصر عابدين بالدبابات، وهدد بخلع الملك إن لم تؤلف وزارة برياسة النحاس.
ومن هذه الصورة الدقيقة التي سجلناها يبدو واضحًا تمامًا أن النحاس كان خالي الذهن مما رتبه السفير، فلو كانت متآمرًا فما كان يمكن أن يرفض تأليف الوزارة الائتلافية وهو متفق بشأنها مع السفير، أو كان قد اتفق مع السفير على أن تكون الوزارة وفدية لا شريك لحزب فيها ..
ثم ماذا؟
ذعر الملك فعاد ودعا الزعماء على عجل وعلى رأسهم مصطفى النحاس
وألح على الزعيم أن يؤلف وزارة وفدية فرفض مرة ومرة، وعندئذ رجاه الملك أن ينقذه واستحلفه بوطنيته وشجاعته، فقبل الرجل تأليف الوزارة وكتب إلى الملك يقول:"إنكم قد أعربتم بلسانكم الكريم المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة عن ثقتكم في وطنية هذا الضعيف وإنكاره لذاته، مؤكدين أن هاتين الصفتين الكريمتين اللتين شاء فضلكم أن تسندوهما إلي تقتضيان علي أن أتقدم لإنقاذ الموقف"1.
وخرج زعماء الأقليات يعلنون أن النحاس خائن؛ لأنه قبل الوزارة لينقذ العرش والبلاد.
عندما ألح أولئك الزعماء على النحاس في حضرة الملك أن يؤلف من الوفد ومنهم وزارة كان ذلك عملًا وطنيًّا يضاف للنحاس من أمجاد، فإذا رفض وألف وزارة وحده كان ذلك خيانة للبلاد.
وحتى يحفظ النحاس حق البلاد ويصون استقلالها وجه إلى السفير رسالة يطلب فيها أن تقطع إنجلترا على نفسها عهدًا رسميًّا يمحو الإساءة التي وجهتها لمصر في إنذار 4 فبراير، وأنه يرفض هذا الإنذار ويعلن أنه قبل تأليف الوزارة من الملك بما له من حقوق دستورية، وبما تستمتع به مصر في استقلال تام في جميع شئونها، ورد عليه السفير بالتعهد المطلوب متضمنًا الاعتذار عما تم في غيبة الدستور والحريات.
ونختم هذه القصة بوثيقة لعل فيها فصل الخطاب.
لقد ألفت الدولة من ثلاث سنوات لجنة لتسجيل التاريخ، وأعدت اللجنة تقارير شتى عن مسائل كثيرة كان من بينها تقرير عن 4 فبراير، وقد انتهت اللهجة فيه إلى تبرئة الوفد من هذه القضية وسجلت رأيها في هذا مدعمًا بما عندها من بيانات، وطبعت من التقرير عدة نسخ تسملت السلطات بعضها.
1 زعيم مصر الخالد مصطفى النحاس للمستشار محمد سعد الدين ص162
ثم شغل الرأي العام بالكتاب الأسود الذي أصدره مكرم باشا عبيد بعد إقالته من عضوية الوفد المصري، وبعد الخطأ الذي ارتكبه الوفديون بفصله من مجلس النواب مع بضعة أفراد من حوارييه، وأصبح هذا الخطأ سابقة دستورية خطيرة استغلتها حكومات ما بعد الثورة.
ولم يكن في هذا الكتاب ما يشين الوفد والوفديين إلا إسرافهم في ترقية الموظفين الوفديين إلى مراكز أعلى بحيث ضج سائر موظفي الدولة من تلك الاستثناءات التي أهدرت حقوقهم، أما ما جاء عن الفساد الذي تعرض له الكتاب الأسود، فلم يكن كله صحيحًا، ومع أن السلطان في كل عهد لا يخلو من بطانة سوء، وهذا ما أخذ على الوفد إذ كانت في بطانته جماعة استغلت الحزب وحكومته، وهو أمر ما كان ينبغي أن يتاح فيه لمثل هؤلاء المستغلين أن يعبثوا في الأرض فسادًا؛ لأن الوفد يمثل الأغلبية الساحقة من شعب مصر فهو لمصر كلها، لهذا كان استغلال النفوذ الذي حدث إبان حكمه يبدو ضخمًا وكبيرًا بقدر ما كان الوفد ضخمًا وكبيرًا، وهو في الحق دون ما شهد المعاصرون من فساد الأحزاب الأخرى التي كانت ترى السلطان مغنمًا، ولا يعنيها بعد ذلك شيء.
ثم تجيء قضية الأسلحة الفاسدة التي كانت سببًا في هزيمة 1948 كما كانت تقول وتزعم الصحف والمجلات المعارضة للملك إذ ذاك، والصحيح أن صفقات الأسلحة الفاسدة التي تم شراؤها لحساب السراي ومن يلوذ بالسراي من ضباط خربى الذمة قد تمت صفقاتها بعد حرب فلسطين وإعلان الهدنة بين البلاد العربية وعلى رأسها مصر وبين إسرائيل، وفي ذلك صدر حكم من محكمة الجنايات في سنة 1954 برئاسة المستشار كامل البهنساوي، الذي جاء في حيثياته أن الأسلحة الفاسدة اشتريت بعد توقف الحرب بين مصر وإسرائيل.
وقد جاء الوفديون إلى الحكم سنة 1950 بأغلبية ساحقة في الانتخابات
الحرة النزيهة التي أجراها حسين سري باشا وهو محسوب على الشخصيات التي تكره الوفد، وقد رأس عدة وزارات لأحزاب الأقلية التي تناهض الوفد والوفديين، وقد كان لنتيجة ذلك الانتخاب ضجة عالمية، لأن العالم بما قرأ وسمع من الصحف المعارضة للوفد والتي بشرت على مدى ست سنوات بأنه كحزب سياسي قد انتهى أمره بعد حادث 4 فبراير، أذهلته نتيجة الانتخاب التي ردت للنحاس باشا اعتباره، وبينت أنه لا يزال ضمير الأمة وقائدها.
وما أن تألفت الحكومة الوفدية حتى ألغت الأحكام العرفية وأطلقت الحريات، فانطلقت الصحف التي تمثل المذاهب الاجتماعية الحديثة تنشر أعنف المقالات ضد النظام وضد الملك وبطانته وضد الرأسمالية مطالبة بتغيير جذري في النظم والقوانين، حاملة -ومعها الصحف الوفدية- على الاحتلال والإنجليز وخاصة بعد قطع المفاوضات التي كان يجريها وزير الخارجية الوفدي مع الحكومة البريطانية لتعديل المعاهدة وإجلاء الإنجليز عن منطقة القنال.
ومن المعارك السياسية العنيفة التي شهدتها البلاد إذ ذاك موقف الصحف جميعًا وعلى رأسها جريدة المصري وأخبار اليوم وروز اليوسف من القانون الذي تقدم بمشروعه اسطفان باسيلي أحد النواب الوفديين مستهدفًا حماية الملك من نقد تصرفاته المشينة والمعيبة.
ويذكر لجريدة المصري في قضية مشروع هذا القانون السبق في معارضته، فقد تكتل النواب الشبان من الوفديين وفي مقدمتهم الدكتور عزيز فهمي ضد هذا المشروع وكان والده إذ ذاك رئيسًا لمجلس النواب، وكاد الوفد أن يتصدع من عنف الهجوم والنقد الشديد لموقف الحكومة من هذا المشروع واختفت المصري وكان يرأس تحريرها في ذلك الوقت أحمد أبو الفتح، بنشر كل ما صدر عن الشبان الوفديين في المجلس بشأن ذلك القانون، كما كانت لرئيس التحرير مقالات من نار فلم يجد صاحب المشروع أمامه
إلا أن يسحب مشروعه لتقف حملة الوفديين على حكومة الوفديين.
ونختم هذا الفصل من تاريخ الصحافة المصرية بموقف عظيم وقفته الصحف والحكومة والأحزاب المعارضة معها، وهو إلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية التي وقعتها جبهة وطنية مع الإنجليز في سنة 1936.
وقد ألهب شعور المصريين ما صدر من بيانات عن وزير الخارجية الوفدي الذي حمل حملة شعواء على الإنجليز بمناسبة قطع المفاوضات التي أبى الإنجليز أن ينصتوا فيها بالمودة لطلبات المصريين التي كان أهمها الجلاء عن قناة السويس، فقامت المظاهرات الصاخبة في أغسطس 1952 وهو الشهر الذي وقعت فيه المعاهدة المذكورة.
وفي 8 أكتوبر 1951 اجتمع مجلسا البرلمان "النواب والشيوخ" على هيئة مؤتمر، وألقى النحاس باشا رئيس الوزراء بيانًا مستفيضًا عن سياسة الحكومة بشأن معاهدة 1936، ثم أعلن إلغاء هذه المعاهدة كما ألغى اتفاقتي 19 يناير و10 يوليو 1899 الخاصتين بإدارة السودان، ثم نادى بملك مصر ملكًا على مصر والسودان، وختم النحاس بيانه بل قل أحسن الله إليه فختم تاريخه حين قال:"من أجل مصر أبرمت معاهدة 1936 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها".
وعقب هذا البيان تألفت جماعات مسلحة قاد بعضها ضباط من الجيش أخذت تهاجم معسكرات البريطانيين في منطقة القنال حتى أضجت مضاجعهم وانضمت الحكومة إلى الثوار، وبدا ذلك واضحًا فيما قامت به وزارة الشئون الاجتماعية التي تدعت العمال الذين في خدمة المحتل في القناة إلى الانسحاب من مواقعهم ثم عينتهم في الوزارة، وقد لبى العمال هذه الدعوة وافتقد الإنجليز هذه الدعامة القومية التي كانت تيسر لهم البقاء في القنال.
وفقد الإنجليز أعصابهم وطلبوا من المسئولين المصريين في الإسماعيلية إخلاء المحافظة، فرفضوا ووقف جنود الشرطة يذودون عن بناء المحافظة
بأسلحتهم المتخلفة أمام أقوى قوة ضاربة في تلك الأيام، ولم يتم للإنجليز غرضهم إلا على أشلاء جنود الشرطة الأبطال.
وفجأة في 26 يناير شبت الحرائق في مدينة القاهرة، وتقاعس حيدر باشا وكان على رأس الجيش عن معاونة الحكومة بإنزال الجيش لوقف الفوضى في العاصمة، فإذا جاء المساء كانت القاهرة تشتعل، ولبى الملك طلب الإنجليز فأقال وزارة الوفد بعد أن أعلنت الأحكام العرفية، وأخذ في تأليف وزارات هزيلة، فجاءت وزارة تلو الوزارة حتى حدثت حركة الجيش في ليل 23 يوليو 1952.