المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الصحافة خلال الثورة العرابية: - تطور الصحافة المصرية ١٧٩٨ - ١٩٨١

[إبراهيم عبده]

الفصل: ‌الصحافة خلال الثورة العرابية:

‌الصحافة خلال الثورة العرابية:

عزل إسماعيل وبقيت آثاره كلها، فالحكومة الشريفية قائمة بالحكم بعد تولية توفيق والأزمة المالية على ما هي عليه من الشدة والعنف والناس حيارى في أمر معاشهم مذهولون لقدرة الأجانب على خلع خديوهم، والصحافة تتولى وظيفتها فتشيع الخديو المعزول تشييعًا قاتمًا وتستقبل الخديو الجديد أحسن استقبال فتذكر للمصريين أن نفوسهم ستطيب وأن عيونهم ستقر وأنهم سيتخلصون "بذلك الطالع السعيد من شرك الاستبداد وربقة الاستعباد" وأن الوطن "سيسلم من المصائب التي حاقت به من فساد الرأي وسوء التدبير وطاعة الأغراض والشهوات، وينجو من شر فئة ألفت النفاق والتدليس وعودت التملق والتلبيس وطبعت على الخسة والدناءة وسعت في بيع الوطن بأبخس الأثمان"1.

ثم تحوط الصحف الخديوي الجديد على اختلاف نزعاتها وميولها برعاية لم يظفر بمثلها أبوه في أدق مواقفه، بيد أن هذه الرعاية يميلها الحس الصحفي الناضج العارف بواجباته الوطنية؛ فقد راوغ السلطان في إصدار فرمان التولية للخديوي توفيق فهبت الوطن بنزعتها المعتدلة ومرآة الشرق بتطرفها المعهود تدعوان معًا إلى صدور الفرمان، وتشكو معهما الصحف الأخرى هذا الإهمال الذي يبديه السلطان نحو مصر التي أدت له خدمات "تفوق طاقتها" وأن هذا الإهمال لقمين بأن يسيء إلى علاقات البلدين "ويوهن من ارتباطهما" ويهيئ سببًا للتدخل الأجنبي لا في شئون مصر وحدها بل في شئون تركيا أيضًا وهو يفتح بابًا ترجو أن يوصد فلا يضطر أمراء مصر إلى الاستنجاد بالأجانب لتقرير حقوقهم وحقوق بلادهم، ثم تطلب في حزم أن يصدر الفرمان مقررًا جميع الحقوق التي اكتسبتها مصر بفرمانات سابقة2.

1 مرآة الشرق، في 26 يونيه عام 1879م.

2 مرآة الشرق 23 يوليو عام 1879م.

ص: 103

وفي هذه الأوقات من تاريخ مصر العصيب يقف الصحفيون أقلامهم لتأكيد حقوقها كما رأينا ويشدون أزر الوطنيين المتطرفين سواء في المسائل الدستورية الداخلية أو المسائل المالية والخارجية، وتشرع صحيفتا الأهرام والوقت في معارضتهما القديمة للوزارة الشريفية، وترى حكومة شريف في آخر الأمر أن تقضي عليهما فتأمر بإغلاقهما، ولكن بعض القناصل يتوسط في أمرهما كما تقول "التجارة" ثم تعلق على خبر التعطيل والوساطة في أمرهما، بأنه موقف موجب للأسف؛ لأن صدور الأمر بإغلاق الجريدتين ليس عملًا قانونيًّا، ثم إن سرعة نقض الحكم وحل العقد ونهي الأمر على هذه الصورة غريب حقًّا.

ومجمل القول: إن وفاقًا عميقًا قد حدث بين الخديو الجديد وحكومته والصحافة المتطرفة، وكانت الصحف من ناحيتها أكثر حماية لهذا الوفاق إذ تصف الخديوي بالقداسة وحكومته وأنصارها بالوطنية ثم هي تنزه ولي الأمر عن الجنسية التركية وتعتبر ذلك شيئًا يمسه في كرامته، وهو اتجاه جديد لم نشهده في الصحافة إذا تحدثت عن الأمراء والخديويين.

وقد كان حظ الجرائد الفرنجية في مصر من هذه الحملات الصحفية الشديدة ملحوظًا، فلم تَفُتْ الصحافة الوطنية المتطرفة لجريدة أجنبية فرصة التشهير بالإدارة المصرية بل ردتها وعالجت أمرها بعنف وقوة نادرين1 كما أبرزت شهادة الصحف الأجنبية المعتدلة في الوطنيين المصريين كجريدة لاريفورم La Reforme المعروفة بانحرافها عن الحزب الوطني وتحمد لها شهادتها الطبية وتقارن بينها وبين زميلاتها الأجنبيات، فرنجيات وعربيات2.

على هذا النهج واصلت الصحافة كفاحها دون تراخ في الدفاع

1 مرآة الشرق في 7 يوليو عام 1879م.

2 التجارة في 17 يوليو عام 1879م.

ص: 104

عن مصر وحقوقها منذ نهاية عهد إسماعيل، غير أن الوفاق بينها وبين الوطنيين من ناحية وبين الخديوي توفيق من ناحية أخرى لم يطل أمره، ذلك لأن الخديوي قد أصبح مدينًا بكيانه الرسمي إلى انجلترا وفرنسا، فهو حريص على ودهما موات لقنصليهما في مصر، والقنصلان في خصومة مع الوزارة الشريفية، فلا غرو إن أبى الإصلاحات الدستورية التي رآها شريف باشا، واضطر ناظر النظار إلى الاستقالة1.

تولى الخديوي رياسة الحكومة بنفسه وألغى مجلس النظار وأعاد الرقابة الثنائية في 6 ديسمبر عام 1879 2 ثم رأى أن يقيد حركة الفكر فبدأ بطرد الأفغاني من مصر -وكان صديقين من قبل- ولكن الطرد جاء بإيعاز من قنصل إنجلترا3 ثم ألزمت الصحف جميعًا نشر خبر نفيه وادعت الحكومة "أن هناك جمعية سرية من الشبان ذوي البطش مجمعة على فساد الدين والدنيا المضر بالبرية ورئيسها شخص يدعو بجمال الدين الأفغاني؛ ثم ذكرت له أقبح الأوصاف "فأبعدت ذلك الشخص المفسد من الديار المصرية بأمر ديوان الداخلية ووجهته من طريق السويس إلى الأقطار الحجازية لإزالة هذا الفساد من البلاد"4.

ولم يحتج أحد على نفي الأفغاني هو زعيم له مقامه المقدور عند خاصة مصر ومفكريها، وكان حظه من إهمال الخاصة كحظ شريف باشا الذي استقال من أجل الدستور والحريات العامة فلم يثر من أجله أحد، وقد نشرت الصحف جميعًا أمر الداخلية بنفي الأفغاني إلا واحدة5 هي مرآة الشرق وهي دون

1 بلنت: التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر، ترجمة البلاغ، ص96.

2 الوقائع المصرية في 14و 24 أغسطس 1879م.

3 تاريخ الأستاذ الإمام، ج1، ص78.

4 التجارة في 2 سبتمبر عام 1879م.

5 الأستاذ الإمام، ج1، ص187.

ص: 105

الصحف جميعًا قد خلت من خبر النفي، وهي الصحيفة التي ذكرت الرجل أحسن الذكر وأشارت إليه صراحة وضمنا، فأمر بتعطيلها خمسة أشهر "لأنها اعتادت الدخول فيما لا يعنيها ونشرت مطالعات سخيفة مخترعة من تلقاء نفسها خرجت فيها عن حدود وظائفها"1 وهي الصحيفة الوحيدة التي عطلت عقب نفي الأفغاني وإن أنذرت معها جريدة التجارة.

لم تطل رياسة الخديوي لمجلس النظار إذ عهد بالنظارة إلى رياض باشا في 21 سبتمبر "1879"2 وكان رياض يرى الحكم البيروقراطي أحسن أداة لإنقاذ مصر في ذلك الوقت، وخصومته للتطرف في الرأي معروفة، ومن عيوبه الظاهرة أنه كان أكثر حكام مصر طاعة للقناصل، وهي طاعة جشمته المصاعب والأخطار3 وإلى رياض ينسب عهد إرهاب الصحافة، ويتصل هذا الإرهاب بنظام الرقابة الثنائية وهو نظام يجعل للرقيبين من السلطان على شئون الدولة ما يشل سلطة النظارة في جميع المرافق العامة غير الشئون المالية التي تخصص لها، ويكفي ألا يكون للخديوي حق عزلهما إلا بموافقة دولتيهما لنتبين خطر الرقيبين في حياة مصر جميعًا4.

وقد ساء الصحافة المصرية أن يخنع الخديوي ورياض باشا هذا الخنوع المشين -في رأيها- لدولتي انجلترا وفرنسا، وكان جريدة "مصر الفتاة" أول الصحف التي استهدفت للإرهاب وراحت ضحيته وهي لسان حزب بدأ يولد وحكم إسماعيل في الرمق الأخير، وهو يتكون من بعض اليهود كما يقول الشيخ محمد عبده5 بيد أنه كان من العناصر المعارضة التي احتفت بها جريدة "مرآة الشرق" وآمنت بمبادئها الجديدة ودعت لها بالتوفيق يوم

1 الوقائع المصرية 7 سبتمبر عام 1879م.

2 الوقائع المصرية 25 سبتمبر عام 1879م.

3 بلنت: التاريخ السري، ص97.

4 الرافعي: الثورة العرابية، ص41.

5 تاريخ الأستاذ الإمام ج1، ص75.

ص: 106

عزل إسماعيل1 واهتمت الصحف الأوربية بهذا الحزب وتحدثت عنه حديث البرم به الساخط عليه، وأهمها جريدة "التيمس" فذكرت أنه تقليد لحزب تركيا الفتاة وأنه جعل مبادئه صورة مطابقة لمبادئ الثورة الفرنسية من الحرية والإخاء والمساواة، وأن معظم أعضائه من أبناء الإسرئيليين الشرقيين الذين تمولوا في مصر وصاروا من كبار الأغنياء2.

وكانت الخصومة بين جريدة "مصر الفتاة"3 وبين "الوطن" خصومة مؤذية إن صح هذه التعبير، فقد عجزت الوطن عن مجادلتها فكفت عن ذلك وأعلنت أنها في قصور إذا كان الميدان الشتم والسباب4، وكانت جريدة مصر الفتاة أول الصحف التي ثارث على توسيع اختصاصات الرقيبين فأنذرت لحملتها على الحكومة بهذه المناسبة5 ثم رأت الحكومة في نفس اليوم وبإيعاز من الرقيبين أن الإنذار عقاب هين لا يليق بجرم الحملة التي قادتها الجريدة فصدر الأمر بتعطيلها تعطيلًا نهائيًا "لشرها مقالات وأخبارًا عدتها الحكومة مهيجة للخواطر والأفكار"6.

وعوقب أديب إسحاق عقابًا شديدًا لحملته الصحفية على الأجانب وعلى الرقيبين والحكومة المصرية معهما، وإصراره العنيف على ألا يتهاون في هذه الحملة، فعطلت جريدتاه "مصر" و"التجارة" بعد أن أنذرتا، وقالت الحكومة في قرار التعطيل "حيث سبق صدور الإنذارات مرارًا عديدة

1 مرآة الشرق 26 يونيو عام 1879م.

2 الوطن في 27سبتمبر عام 1879م.

3 من شعارها "البحث عن حقوق كل إنسان فاكر" ومصر للمصريين. وكانت تصدر باللغتين العربية والفرنسية ومن محرريها أديب إسحاق وقد أقامت الدعوى على الحكومة أمام المحكمة المختلطة بعد أن أغلقها رياض باش "راجع طرازي، ج3، ص57".

4 الوطن 11 أكتوبر عام 1879م.

5 لومونيتور إجبسيان 17 نوفمبر عام 1878م.

6 الوقائع المصرية 17 نوفمبر 1879.

ص: 107

وتنبهات شفاهية من إدارة المطبوعات إلى أصحاب امتياز الجرائد الأهلية عمومًا وإلى صاحب امتياز جريدتي مصر والتجارة خصوصًا بعدم خروجهم عن حدود وظائفهم ولا ينشرون ما يوجب تشويش الأفكار، صدر له آخر إنذار بأنه إذا رجع لمثل ذلك فتلغي جريدتاه بالكلية وحيث إنه بعد هذا الإنذار لم يترك مسلكه الأول لما نشره في جريدة "التجارة" نمرة 123 الصريح في أنه لا يرجع عما هو مصر عليه وحيث أن ما اعتادت على نشره هاتان الجريدتان ضرره أكثر من نفعه اقتضى الحال صدور الأمر من إدارة المطبوعات بإلغائهما مؤبدًا

"1.

ثم مضت الحكومة الرياضية في خطتها نحو الصحافة فعطلت جريدة "المحروسة"؛ وذلك لأنها تحدثت مرارًا عن الأجانب المقيمين في مصر وطالبت بفرض الضرائب عليهم ثم ذكرت أن إعفاءهم منها في عهد محمد علي أمر استوجبته الفائدة الحاصلة من وجودهم يومئذ ثم علقت على ذلك بقولها "ما من نظام أو قانون وضع في الدنيا وبقي نافذًا إلى الأبد فما كان ملائمًا على عهد محمد علي باشا صار في هذا الزمان غير ملائم2" وبهذه وبغيرها من المقالات العنيفة أتاحت للحكومة فرصة تعطيلها خمسة عشر يومًا3.

وعكفت الحكومة على الصحف الأجنبية في مصر فرأت بعضها يعطف على الأماني القومية فأنذرتها ثم عطلتها نهائيًّا كجريدة لاريفورم La Reforme وأغلقت مطبعتها بحجة أنها تنشر مقالات مثيرة للأفكار، وكذلك أنذرت جريدة "لوفارد السكندري4 Le Phare d Aexandrie" ثم أصدرت أمرها بحظر دخول جرائد النحلة وأبي نظارة وأبي صفارة والقاهرة والشرق

1 عن الوطن في 22 نوفمبر عام 1879م.

2 المحروسة 11 سبتمبر عام 1880م.

3 الوقائع المصرية في 28 ديسمبر عام 1879م.

4 لومونيتور إجبسيان في 26و27مايو 1880م.

ص: 108

إلى مصر1 وهي صحف مصرية كانت تصدر في الخارج.

كانت سياسة رياض باشا في تناول أسلوب الحكم ومن أظهر أدواته الصحافة، نقطة التحول التي بدأت في أعقابها تأخذ الثورة العرابية طريقها إلى النضج والاستواء، فقد عجز الناقمون عن التعبير عما يخالج شعورهم بعد أن أغلقت صحفهم وكممت أفواه الباقيات منها، فكان طبيعيًّا أن يلتمسوا في السر ما عجزوا عنه في العلن فنشروا في نوفمبر أول بيان سياسي لهم حملوا فيه على مساوئ الحكم الخديوي وأسلوب رياض السياسي وضياع المصالح المصرية بين استبداد الحكومة وجشع الممولين الأجانب، وطبعوا هذا المنشور من عشرين ألف نسخة عجز رئيس الحكومة عن معرفة كاتبه أو ناشره2، ثم رأى هؤلاء الناقمون من الوطنيين كشريف باشا وسلطان باشا وغيرهما أن يعبروا عن رغباتهم في صحيفة مصرية تصدر في الخارج، فأوعزوا إلى أديب إسحاق أن يصدر صحيفته في باريس لتكون لسان حالهم على أن يتكفلوا هم بتوزيعها في مصر، وكانت الصحيفة شديدة اللهجة في معارضتها، وقد استطاع خصوم رياض باشا أن يوزعوها بالرغم من سلطان رئيس الحكومة وعيونه من رجال الإدارة3.

لا يجوز لمؤرخ الصحافة المصرية في تلك الحقبة أن يسقط من حسابه حين يتحدث عن صحافتها التيارات المختلفة التي تفاعلت مع الصحافة وأنتجت حوادث الثورة العرابية وخلقت معها صحفًا أخرى هي أهم الصحف في هذا الفصل، وقد ذكرنا حادث الأفغاني ومشروع شريف باشا في وضع قانون أساسي لمجلس النواب، وشرحنا موقف مصر الفتاة والصحف المعارضة وما لقيت من العنت والإرهاب، وتحدثنا عن الرقيبين واختصاصاتهما الواسعة ويبدو أن رياضًا بعنفه والخديوي ببطانته والأجانب بمرابيهم تآزروا جميعًا على

1 الوقائع المصرية في 28 ديسمبر عام 1879.

2 John Ninet: Arabi Pacha 37

3 المصدر السابق، ص48.

ص: 109

تهيئة الفرصة لإعلان التبرم بالحالة التي شهدتها مصر إذ ذاك، فقد شكا الضباط من استئثار الترك والأرناءود بالرتب والرواتب، وشكا الخاصة من استبداد الحكومة وانصرافها عن كل فكرة دستورية وتعطيلها مجلس شورى النواب زهاء سنتين، ثم سكت العامة من ضيق العيش والضرائب المرهقة.

أجمعت الطبقات جميعًا على الشكوى واتخذ التبرم صورة عملية فثار الضباط "لتنزيل وزارة رياض باشا وجعل الحكومة دستورية"1 وطوحت الحوادث بحكومة رياض وعاد شريف باشا إلى رياسة النظارة بعد الثورة العسكرية المعروفة واستأمنه الجيش على حقوقه وأمنه الأعيان على طلباتهم وأهمها الدستور وأكد لهم شريف "أن تشكيل مجلس النواب هو الوسيلة الوحيدة لما نقصده من الإصلاح"2.

هدأت الأمور بعد اضطراب وبدأت مصر تشعر بلون من الاستقرار في عهد الوزارة الشريفية وإن زها نجم الجيش وزعيمه أحمد عرابي، فقد كان هذا الجيش ممثلًا بحق لشعور المصريين جميعًا لأنه الطبقة الوحيدة بين هيئات الحكومة التي غلبت عليها مصريتها، غير أن الزعماء العسكريين تنحوا عن الميدان مؤقتًا يراقبون الإصلاح المنشود في حذر، واستقبل الأجانب العهد الجديد استقبالًا لا بأس به، ولم يحملوا على الجيش الذي "قوى ما في مصر من رأي عام" وأملوا في أن يقضي العهد الجديد على مساوئ الحكم التي تفشت في البلاد، وطلبوا الصبر والأناة من أصحاب الديون حتى تتم الحكومة الشريفية إصلاحاتها فتصبح حقيقة واقعة لا خرافة طالما تشدق بها دعاة الاستبداد3.

وقد استقبلت الصحافة الوزارة الشريفية استقبالًا حسنًا جدًّا فقد جاءت

1 العصر الجديد في 13 سبتمبر عام 1881 وهي إحدى صحف سليم حموى.

2 الوقائع المصرية في 17 و19سبتمبر عام 1881.

3 التيمس في 10 يناير عام 1882.

ص: 110

بعد أيام مظلمة من اضطهاد الرأي وكبت اليراع، ونفست عن نفسها في أسلوب حاد كانت حدته موجهة إلى الأجانب خاصة، فقد اعتبرت الصحافة أن الضيق الذي لحقها مصدره الأجانب ورقيباهما وقناصلهم، فحملت عليهم حملة قاسية ذكرها اللورد كرومر في كتابه قائلًا:"أخذت الصحف العربية في أثناء ذلك تستثير حفيظة الأهالي على الأوربين وأسلوبهم في الحكم وتحرك العصب الديني"1.

أما الحملة على الأوربين فحقيقة تاريخية أحستها الشريفية فأخطرت الصحف بها ولفتت النظر إليها فذكرت أن "الجرنالات تعودت من مدة على الخوض في كلام يتعلق بالأجانب مع غاية الحدة وإظهار التأثر منهم والتغيظ بلا سبب ولا موجب، لا يراعون في كلامهم حالة البلاد المصرية وعلاقتها السياسية مع أنه لا يوجد في داخلية البلاد ولا في روابطها الخارجية ما يوجب اندفاع الجرائد المذكورة في هذا الطريق على وجه يوجب اضطراب الأفكار العمومية ويخدش الأذهان" ويبين الإخطار علاقة مصر بالسلطان وواجباتها نحوه، ثم يوضح حرص الحكومة على مصالح البلاد أمام الدول جميعًا، ثم تنذر الصحف "بأن لا تخرج في مقالاتها عن حد الاعتدال وألا تتعرض لشيء من الطعن والتنديد بأحد من معاهدينا لا على وجه العموم والخصوص"2.

فمهاجمة الأجانب إذن حقيقة تاريخية أقرها إنذار الحكومة للصحف، أما التعصب الديني الذي يذكره كرومر فتنكره مواقف الصحافة الوطنية خلال الثورة جميعًا، حتى إن إحداها ذكرت أنه لا يعنيها أن يكون على رأس الحكومة مسلم أو مسيحي وإنما يرضيها أيهما إذا جعل مصالح الوطن فوق كل اعتبار، وهي تسخف سقم تفكير السابقين في تعصبهم للدين "ولكننا أبناء هذا الجيل يعار علينا أن نسلك ذلك المنهج ونجعل الاختلاف في المشرب والتباين في العقيدة علة لعداوة مواطنينا الذين ليسوا على شاكلتنا في الدين

1 كرومر، ج1، ص211.

2 مصر للمصريين، ج4، ص207.

ص: 111

مع كونهم مشاركون لنا في الجنسية والوطنية، ثم إذا بقي شيء من أدران الأقدمين في نفوس العامة فعلى النبهاء الذي تنورت أفكارهم وعلموا أن ما أصاب الأقدمين من الضعف وما لحقهم من الشر مسبب عن تعصبهم للذين أن يدعوا الناس إلى ترك هذا التنابذ الذي لا خير فيه"1.

ويؤكد وجهة نظرنا في براءة الصحف من التعصب الديني أن إنذار إدارة المطبوعات لها لم يشر إلى هذا التعصب في كثير أو قليل، غير أن الحكومة أرادت وقف الحملة مهما يكلف الثمن وهي سليمة الطوية تتميز بسمة شعبيتها، وقد أصاخت لها معظم الصحف إلا جريدة "الحجاز" وهي صحيفة حديثة العهد بالحياة، فقد أنشئت سنة 1881 لصاحبها السيد سراج إبراهيم المدني، إذا استمر صاحبها في حملته على الأجانب "حيث كان يطعن في الدول الأجنبية طعنًا غير أدبي ويسقط عند الكلام في شأنها بما لا يليق وكثيرًا ما طلبناه ونبهنا عليه وشددنا في الأمر وحذرناه من الرجوع إلى مثل ذلك، فلم يرتدع ولم ينزجر ثم خالف المنشور العمومي الذي بعث به إليه وإلى جميع أصحاب الجرائد العربية إلى أن أتى في عدده الأخير بأزيد مما حذرناه منه مرارًا، فمن أجل هذا صدر قرار مجلس النظار بإلغاء جريدته لغوًا مؤبدًا"2.

والحكومة إذا حزمت أمرها في تهدئة الحالة بإغلاق الصحف المتطرفة وهي كما نعلم حكومة شعبية قد تؤاخ على مصادرة حرية الرأي بيد أنه حريصة على مصلحة مصر وإن أدى ذلك إلى تعطيل قليل من الصحف، وهي كذلك تأبى على الصحف الأجنبية في مصر أن تسيء إلى المصريين ومشاعرهم الدينية، فقد نشرت جريدة "ليجبت L Egypte في 2 أكتوبر سنة 1881 مقالًا عرضت فيه بالنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، فهاجت لذلك الصحافة المصرية ولفتت النظر إلى هذا المقال فصدر الأمر بتعطيلها3.

1 المفيد 24 أكتوبر عام 1881.

2 الوقائع المصرية 8 نوفمبر عام 1881.

3 الوقائع المصرية 29 نوفمبر عام 1881.

ص: 112

وحاول صاحبها أن يحتمي بالقنصلية الفرنسية غير أن حزم الحكومة حال دون هذا التدخل1 وذكرت المحروسة في ابتهاج شديد نبأ إغلاق جريدة "ليجبت" وموقف الحكومة المشرف من القنصل الفرنسي الذي نصح لصاحبها بمغادرة البلاد2.

بدأت الصحف بعد أن تحررت من قيودها توجه المطاعن تلو المطاعن إلى إجحاف نظام الضرائب الذي وضعته المراقبة الأوربية فأعفت الأوربيين منها وألفت العبء كله على كاهل الوطنيين، كما أنها أنحت بأشد للائمة على كثرة تعيين الفرنسيين والإنجليز في الوظائف ومنحهم المرتبات الباهظة3 وهي شكوى قديمة حديثة، ثم راحت تطلب حياة الشورى لمصر والتعليم لأبنائها، وفي ذلك يقول حسن الشمسي وهو من ضحايا العهد الماضي، إنه سينهي دور صحيفته "المفيد" حينما "يأتي يوم يقال فيه تنبه الغافل وتعلم الجاهل وغلت يد العادي وردت الحقوق لذويها وسلمت الأرض لبنيها" وهو يحدثنا عن صحيفته وهي إحدى الصحف المعبرة عن الحزب العسكري بأن ظلم المستبد حال بينه وبين التبكير في إصدار هذه الجريدة، وذكر أن الصحف الباقية "إنما سايرت الظالم وغيرها سقط في ميدان الشرف والجهاد" وأنه فضل التعطيل على النهوض في ظل الظلمة المستبدين4.

وتعتبر جريدة "المفيد" من خيرة صحف الثورة فقد دأبت على نشر افتتاحياتها عن مصر ومشاكلها في أسلوب وطني عنيف، ولصاحبها مقالات رائعة عن الاستقلال والحرية بعنوان "محاور سياسية"5 وكان طبعيًّا أن

1 الرافعي الثورة العرابية، ص161.

2 المحروسة 7 نوفمبر عام 1881.

3 أصبح عدد الموظفين الأوربيين 1325 موظفًا بلغت مرتباتهم المنتظمة 379056 جنيهًا (مصر رقم 6 - 183، ص67).

4 المفيد في 5 أكتوبر عام 1881.

5 المفيد في 12 ديسمبر عام 1881 وما بعده.

ص: 113

يعنف محرر "المفيد" في مقالاته وهو لسان جامح من ألسنة الثورة، وكان طبعيًّا أيضًا أن تتبرم به حكومة شريف؛ لأنها ترجو الهدوء والاتزان، لذلك جمعت في معاملتها للمفيد اللين والشدة معًا لترضي الوطنيين والأجانب على السواء، فعطلت "المفيد" أسبوعين فقط وبذلك أرضت الدوائر الأجنبية ثم أرضت الدوائر الوطنية بهذا العقاب الهين، ويظهر قدر "المفيد" بين صحف العصر من حزن زميلاتها على تعطيلها فقال كاتب "المحروسة":"ساءني صدور الأمر بتعطيل جريدة "المفيد" أسبوعين فإن محررها في الجريدة نير الفكر قويم المشرب لا يظهر بما يخالف المصلحة أو يخرج عن الحد .. وفي مأمولي أن "المفيد" يصدر من بعدها بمزيد الفائدة ويكون في مقدمة الجرائد الداعية إلى الوحدة الوطنية الناهية عن الإحن والعداوات المذهبية العاملة على علم بأحكام الحرية"1.

وتساهم "الأهرام" فيما شغل البلاد من أحداث دون أن تتطرف في رأي أو تتجاوز أسلوبها المأثور عنها بكلمة نابية أو تعبير شاذ، وتعالج الأمور بروية، ولا تغفل أحداث البلاد الخارجية فتنشر الكتب والمقالات الطوال عن البوسنة والهرسك وروسيا وألمانيا كما أنها تنقل رأي الغرب في الشئون المصرية وتأخذ ذلك عن الصحف الفرنسية والإنجليزية، ثم ينشر المحرر رأي الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في الحركات السابقة على تأليف الوزارة الشريفية وموقفهما الجديد "لكبح كل حركة" وهي تنذر العرابيين "وسعادتلو أحمد بك عرابي" بالذات2.

وقد عمدت "الأهرام" إلى التحدث عن أوربا وتقدمها من الناحيتين المادية والأدبية، وقابلت بينها وبين تركيا، فأفرطت في ذكر المساوئ التي

1 المحروسة في 7 نوفمبر عام 1881 وإسكندرية في 11 نوفمبر عام 1881، وكذلك أنذر مجلس النظار جريدة الوطن يوم عطل المفيد.

2 الأهرام في 8 أكتوبر عام 1881.

ص: 114

نتجت من نظم الحكم العثماني ثم نقلت عن صحف لندن، حملات على الباب العالي وفي ألفاظها ما لا يليق أن ينشر فأنذرتها الحكومة مرتين1.

وقد كان للخديو في هذا التيار الجارف من النشاط الصحفي قدر محدود، فقد أنشأ من معوض فريد في مدينة الإسكندرية مجلة أسبوعية سماها "البرهان" في سنة 1881 ويحررها الشيخ حمزة فتح الله اللغوي المصري المعروف، و"البرهان" تعلن بأنها صحيفة السراي وتفخر بذلك كل الفخر فقد "حلت صحيفة البرهان من أعتابه العليا محل القبول، وأن جنابة الفخيم -أي الخديوي- يكاد يستوعبها تلاوة" وأنه أمر بأكثر من ثلاثين نسخة اشتراكًا للمعية السنية.

والخديوي عند المحرر آية من آيات الدهر فإذا رأيته "ألفيت في محياه ما بجذب إلى التسبيح الأفواه، لا سيما إذا ترقرق ماء البشر في عزته، وتفتق نور المجد من أسرته" وإذا كانت الصحافة العربية المصرية جميعًا على اختلاف مشاربها تحبذ الشورى وتدعو لها وتأبى الظلم وتحمل على الاستبداد فإن الشيخ حمزة فتح الله يقول بغير هذا في مقال ضخم بعنوان "الشورى ومجلس النواب المصري" وذلك على أيام من افتتاح هذا المجلس: "نحن وإن كنا نعلم ما يترتب على الشورى من الفوائد العميمة والمنافع الجسيمة وما ينجم عن التفرد بالرأي من سوء العاقبة، غير أن ذلك لم يكن يمنعنا من إبداء ما نراه من الملاحظات في الأمرين كليهما، أعني الشورى والتفرد بالرأي المعروف بالاستبداد، فأما الشورى فإنها وإن كانت ممدوحة عقلًا وشرعًا بما ورد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة في غير موضع إلا أن ذلك ليس على معنى أنها واجبة حتمًا على أولي الأمر، بحيث لا تمضي بدونها بيعتهم ولا تنفذ أحكامهم؛ لأن هذا ما لا يقول به أحد، بل إن مبلغ العلم فيها أنها من الأمور التي ندبت إليها الشريعة المطهرة من قبل إتمام مكارم الأخلاق".

ثم يمضي الكاتب مبينًا وجهة نظر المعارضين للشورى "وأما الاستئناس بأن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ترك الأمة شورية فهو غلط

1 الأهرام في 12 فبراير عام 1881، والمحروسة في 14 يناير عام 1882.

ص: 115

ظاهر" ثم يستمد صورة الملوك من العصور الوسطى ويدعو لها قائلًا:

"ألا وإن الملوك ظل الله تعالى في أرضه، لا يجوز الخروج عن طاعتهم ولا البغي عليهم ولا تخاف ذمتهم ولا تنكث بيعتهم ولا ينقض عهدهم في حال من الأحوال اللهم إلا بكفر صريح لا يحتمل التأويل"1.

في هذا القلم الرجعي أيد الشيخ حمزة الرجعية المصرية في وضوح لا يقبل الشك أو التأويل، ولا يرضى الصحفيون المصريون عن هذه النغمة بل ترد جريدة "مصر" لصاحبها أديب إسحاق - وقد عاد من منفاه في باريس وأصبح ناظرًا لقلم الإنشاء والترجمة بديوان المعارف- ترد على هذه الأقلام مادحة الديمقراطية المصرية الجديدة، فقد نشر الكاتب في آخر ديسمبر سنة 1881 بمناسبة افتتاح مجلس النواب مقالًا يدل دلالة بينة على الغرض منه، وهو غرض ممزوج بتقديس والفرحة الصادقة بالعهد الجديد، ذكر مفتتحًا مقاله ببيت من الشعر:

صفحًا لصرف الدهر عن هفواته

إن كان هذا اليوم من حسناته

"كيف لا وهو حاجة النفس وأمنية القلب منذ توجه الخاطر إلى السياسة الوطنية وانصرف العزم إلى إحياء الهمم وانعقدت النية على حفظ الحقوق واتحدت الوجهة في القيام بالواجبات، وهو النشأة التي كست الوطن رداء الفتوة قشيبًا، وهو البغية التي غرست للأمة غصن الأمل رطيبًا، وهو ما رجوناه زمانًا ودافعنا الزمن فيه وتمنيناه أعوامًا وغالبنا الحدثان عليه" ..

ثم يقول: "فيا حسنه من يوم رد فائت البهاء وأحيا مائت الرجاء. وأعاد شباب الأمة، وسدل ستور النعمة، وأظهر مقاصد الأمير وأبدى مساعي الوزير، وقضى لبانات النبهاء وحقق أماني النزهاء، فلا زال مشرق الشمس مرفوع لواء الأنس، منقوشًا على صفحات الصدر بأحرف من نور على توالي الأيام والدهور".

1 البرهان في 26 مايو عام 1881، وأول ديسمبر عام 1881.

ص: 116

وأديب إسحاق يعبر في هذه المقال وفي غيره أصدق التعبير عن التيارات الفكرية التي تخالف تفكير حمزة فتح الله ومن على شاكلته، وهو يشتد على هؤلاء الرجعيين الذين يسفهون الرأي الحر كما يقسو على أبواق الأجنبيين من أصحاب الصحف العربية الذين يعيبون على الوطنيين تطرفهم "فالحزب الوطني غير متعصب إلا لوطنيته، والحزب الوطني غير معاد إلى الخائنين، يروم إحياء مصر لسكان مصر وترومون إماتتهم جميعًا يا أيها اللؤماء، ويريد أن يكون المصري في مقام الإنسان مستقلًا بوجوده متمتعًا باستقلاله فائزًا بحقوقه ناهضًا بواجباته، وتريدونه بمنزلة الحيوان يساق للحرث فإن عجز فللسلخ، ويطلب أن يكون الوطني آمنًا في داره مساويًا لجاره يستغل زرعه ويستدر ضرعه، وتلتمسون أن يكون غريبًا في آله مصادرًا بماله يطعم من يحرمه ويؤمن من يروعه ويحفظ من يضيعه ويصون من يبيعه"1.

ووسط هذه المسائل العامة التي فرغت لها الصحف المصرية لم تنس أن لها حقوقًا فأخذت تفكر في حالها وآمالها، فالمطالبة بقانون للمطبوعات ينظم أمورها من أغراض الصحافة المصرية منذ أيام إسماعيل، فلا غرو إذ تحدثت عنه اليوم وألحت في المطالبة به، وهي تختلف في شأنه، فبعضها يريده قانونًا حرًا "كمصر" وبعضها يريده صورة يرضاها الشيخ حمزة فتح الله في مقال له عن "اليراع"2 وبعضها يرجوه وفي من التضييق ما يلزم بالتزمت، وأكبر الظن أن المحرر -وهو هنا سليم النقاش صاحب "المحروسة"- لم تسعفه ثقافته الضيقة بهضم المعاني الحرة الموجودة في القانون المطلوب، فقد رأى أن يكون في التشريع ما يضطر الصحف إلى الاعتدال، وأن تراعي فيه حالة البلاد وأطوارها الأدبية والسياسية، وأن يحول القانون دون حرية الصحافة في شئون مصر الخارجية وخاصة ما اتصل بالدول الصديقة، وهو يرجو ألا يستمد القانون أصوله من القوانين المعمول به في فرنسا وانجلترا

1 مصر في 29 يناير عام 1882.

2 البرهان 10 نوفمبر عام 1881.

ص: 117

لأن عقلاء البلدين يشكون الحرية في هذين القانونين1.

ومهدت الحكومة لقانون المطبوعات بأن ضمت المطبوعات الفرنجية إلى العربية في إدارة واحدة، وتساوت بذلك الصحف جميعًا في الحقوق والالتزامات2، ثم صدر قانون المطبوعات المصري في 21 نوفمبر 1881 وهو أول تشريع للصحافة يرتب شئونها ويحدد واجباتها ويعلن حقوقها، وإلى أن يحين وقت الحديث عنه مفصلًا نذكر للتيمس كلمة قالتها فيه تجمل الرأي عنه، فهو عندها قانون شديد وهو أسخف من أن ينفذ3 وقد أشارت إلى شدته الجريدة الفرنسية الرسمية في إحدى المناسبات4 وقد أصدرت حكومة شريف قانون المطبوعات ولم تطبقه على صحيفة من الصحف العربية بالرغم من صفة التزمت والتضييق الغالبة على معظم مواجه بيد أن جريدة La Gazette Des Tribubaux كانت الجريدة الفرنجية الوحدة في مصر التي أنذرت بمقتضى هذا القانون في 7 يناير عام 1882 لخوضها في المسائل السياسية دون أن يبيح لها ترخيصًا ذلك؛ ثم لأنها "استعملت التمويهات المنطوية على سوء القصد"5، وفيما عدا هذا الإنذار بقي القانون معطلًا عن أداء وظيفته في جو مملوء بالأحداث الجسام.

مضت الحكومة الشريفية تؤدي وظيفتها أحسن الأداء، وأفسحت صدرها للملاحظة والنقد، سواء من أعضاء المجلس أو من صحافة مصر، هي لا تنذرها ولا تعطلها إلا مضطرة، وكادت تستقيم الأمور لها وتتمكن الحياة الدستورية من التأصل والاستواء لولا أن هذا النجاح لم يرض الرقيبين الأجنبيين ولم يرض قنصليهما، فإذا الأخيران يخلقان أزمة فجة غير مناسبة، فقد انتهزت الحكومتان

1 المحروسة 7 نوفمبر عام 1881.

2 المحروسة 15 نوفمبر عام 1881.

3 التيمس 8 نوفمبر عام 1881.

4 المحروسة 7 يناير عام 1882.

5 الوقائع المصرية 14 يناير عام 1882.

ص: 118

الإنجليزية والفرنسية فرصة انعقاد مجلس النواب فأرسلتا في يناير مذكرة مشتركة تعلنان فيها تأييدها للخديوي واستعدادهما لهذا التأييد بشتى المظاهر1.

وكان لهذه المذكرة أثرها البعيد في تطور الحوادث وانتقال الثورة من اليمين إلى اليسار فقد رفضتها الحكومة وبلغت القنصلين هذا الرفض2 ثم أرسلتها إلى الباب العالي مع وجهة النظر المصرية ثم نشرت "المحروسة" رأي الحكومة العثمانية الذي وجهته إلى سفير انجلترا وفرنسا وتبدى فيه "سوء الأثر الذي حصل لها من جراء هذا العمل".

وبعد أن ذكرت الجريدة محافظة الدولة على مصر وامتيازاتها وأن الشعب المصري هادئ وسعيد بحالته أبرزت كل هذه المعاني في يقول الباب العالي "وفي ظننا أن يستحيل إبداء أقل الأدلة على ما ينافي ذلك الاستشهاد أو بأي حادث داخلي متعلق بمصر يكون داعيًا لإصدار مثل هذه اللائحة المذكورة، وبناء على ذلك لا نرى شيئًا مما يقتضي باستصواب ما أجرته الدولتان من تقديم تلك اللائحة لسمو توفيق باشا"3.

وقد أخفقت المذكرة في أثرها المطلوب في مصر وتركيا، ولكن الدولتين أبتا إلا خلق المشاكل، فأرسل القنصلان بإيعاز من المراقبين الأجنبيين يطلبان الحد من سلطان البرلمان في تقرير الميزانية "ولما هو معروف عن مجلس النواب من عدم الخبرة ومن ميوله العدائية نحو العنصر الأوربي في الحكومة"4 وهو تحد ظاهر لأهم وظائف المجالس النيابية لم ترض عنه صحف مصر وحملت على إهانة النواب المصريين حملة شعواء5.

1 Livres Jaunes 1881- 1882 N. 45.

2 Livres Jaunes 1882 N.18.

3 المحروسة في 28 يناير عام 1882.

4 Livres Jaunes 1881- 1882 N. 34،38.

5 مصر والمفيد في أوائل نوفمبر عام 1882.

ص: 119

وقد اضطرت الوزارة في آخر الأمر إلى الاستقالة بعد أن رفض النواب وجهة نظرها، فقد كانت ترى وجوب عمل الميزانية بموافقة المراقبين الإنجليزي والفرنسي ورقابتهما، والنواب لا يرون هذا الرأي ولا يقرون هذا التدخل، وقد علقت "المحروسة" على الموقف برمته بأن الخديوي والنواب وعامة الناس قد اعترفوا بالدين وفوائده فليس من العدل حرمان المجلس التشريعي من أهم اختصاصاته وهي إقرار الميزانية ما دام أمر الدين فيها لن يمس1، ولكن صحف القنصليتين الفرنجيات حملت على الوطنيين وخاصة "الإجبشيان جازيت (Egyptian Gazette) حملة عنيفة تولت الصحافة الشعبية الرد عليها دون الحكومة التي شغلت بالأزمة عن كل شيء، وناقشتها وبينت مواضع الجور في عمل الدولتين وظلمهما لمصر، هذا البلد الذي يكرم الأجانب وهم يسيئون إليه، ثم عاتبت في عنف الصحف الأجنبية وعلى رأسها "الإجبشيان جازيت" التي تكيد للوطنيين وتزعم تعصبهم للدين وحملتهم على المسيحين، ونفت هذه السوءات عنهم، وأكدت بعدهم عن التعصب في أمور الدنيا أو شئون الدين2.

ثم ساهمت الصحف الأوربية في لندن وفي باريس في هذه الحملة على المصريين ومجلس نوابهم وحكومتهم فيما خلا محرر التيمس فكان رجلًا واسع الفكر ملمًا باللغات العربية وآدابها، وكان معتدل الرأي في المسائل المصرية فلم يرها كغيره من الصحفيين لا تعني غير بورصة لندن، وكثيرًا ما فتح صدر التيمس لآراء الوطنيين المصريين، غير أن هذا العطف من مستر شنري بالتيمس على الأماني المصرية لم يستمر؛ لأن مراسل هذه الجريدة وغيره من مراسلي صحف أوربا في مصر كان يستمدون أخبارهم المهمة من السير أوكلند كلفن المراقب البريطاني، وكانت وكالتا رويتر وهافاس خاضعتين لنفوذ

1 المحروسة 4 فبراير عام 1882.

2 المحروسة 7 فبراير عام 1882.

ص: 120

المراقبة الثنائية، وكل منهما تتقاضى ألف جنيه في السنة، وكانت وكالة روتر لا ترسل برقياتها إلى لندن إلا بعد إجازتها من القنصلية أو الرقيب الإنجليزي.

وقد أضر هذا الأسلوب الصحفي بالقضية المصرية في الخارج إذ وضعت -كما رأينا- الأنباء الصحفية تحت مراقبة الوكالات السياسية أو ما يشابهها، فقد كان لموظفي فرنسا وإنجلترا في مصر "السيطرة التامة على الأخبار التي يجوز أو لا يجوز إرسالها إلى لندن، وكان أجر هؤلاء المراسلين إما مالًا أو معلومات سرية لها خطرها في الفن الصحفي1 وقد اشتركت الصحف في الخارج ووكالات الأنباء في مصر والصحافة الأجنبية المصرية وممثلو الدولتين، اشترك كل أولئك في قطع الطريق على الهدوء الذي حققته حكومة شريف باشا وآزرتها بعض الأحداث الداخلية كمؤامرة الضباط الشراكسة2 وقصة الحكم عليهم3 وتطرف الصحافة المصرية، فاستقالت الوزارة الشريفية، وانتقلت مقاليد الأمور إلى الحزب العسكري وأنصاره.

وكانت الصحف قبل الحكومة البارودية الجديدة تشغل حديثها كله بشئون مصر العامة، وكانت لسانًا طيبًا للحركات الحرة ومدافعًا عظيمًا أمام الصحف الأجنبية في مصر أو في الخارج، غير أن هذا الاتجاه المحمود صحبه لون من التحزب للجنس والوطن وكان له أبعد الأثر في انحراف الصحافة الوطنية وتنكبها مثلها الرفيعة واشتباكها في معركة وزعت جهودها وفرقت شملها.

وكانت الصحف الوطنية المتطرفة تحمل على بعض المتمصرين من الصحفيين ولم تتعد الحملة في أول الأمر بعض هؤلاء الأفراد غير أنها مضت تتحدت عن المصريين والشاميين في دوائر الحكومة والصحافة وخاصة الدوائر الصحفية فقد كان معظم الصحفيين الشاميين في مقدمة العناصر الحرة يلتهبون حماسة

1 بلنت: التاريخ السري، ص116 - 117.

2 الوطن 29 أبريل عام 1882.

3 الوقائع المصرية 23 مايو عام 1882.

ص: 121

لاستقلال مصر وحياتها الدستورية، بيد أن هذه الأقلام الملتهبة خبت ثم انزوت ثم وقفت إلى جانب الخديوي علانية لما تحرج الأمر إبان الثورة العرابية، كما وقفت الصحف الوطنية أقلامها ضده وضد أسرته.

وكانت "المفيد" جريدة من جرائد الثورة العرابية بلغت حماستها غايتها في سنة 1882 وهي لا تمثل العناصر العسكرية أو المذاهب السياسية وحدها، بل حفلت صفحاتها بكثير من المقالات الاجتماعية والاقتصادية الممتعة، فهي يومًا تتحدث عن ذل المصريين المادي والأدبي1 وتكتب في يوم آخر مقالًا ثوريًّا عن الفلاح التعس "السيد في صورة العبد ورب الدار في موقف الخادم"2 وقد بلغت مكانتها الصحفية قدرًا جعل الأجانب يحسون خطرها ويلتمسون عطفها وخاصة في مشروعاتهم الاقتصادية، وقد حاولوا رشوتها لتحبذ عند العامة فكرة اقتصادية خاصة، فتأبى المفيد هذه الرشوة وتفضح أصحابها من الشرقيين والأجانب الذي نسوا في مساومتها أن "نفس الحر لا تبيع شرفها بثمن"3، ومنذ أبديت محاولة رشوتها في ذلك المشروع الاقتصادي اتخذت "المفيد" خطة جديدة نحو الشاميين في مصر، فهي تكتب المقالات تطلب من الحكومة فصلهم من وظائفهم؛ لأنهم غير خليقين بأن ينتسبوا إليها، وإذا عاتبها الشاميون من أصحاب الصحف ردت عتابهم في منطق لا يسف وفي عبارة مهذبة بيد أنها عنيفة قاسية4.

وتشتد الخصومة بين "المفيد" والصحف الثورية من ناحية وبين صحف الشام التي تصدر هناك من ناحية أخرى، وهي صحف قاسية الأسلوب زاد عنفها في أوار المعركة في مصر، وتتدخل "المحروسة" في أمر هذه الخصومة وهي آخر ما بقي في مصر من صحف الشاميين المتمصرين، وهي ترج في

1 المفيد في 14 نوفمبر عام 1881 (من مقال إبراهيم الهلباوي).

2 المفيد 23 يناير عام 1882.

3 المفيد 27 مارس 1882.

4 المفيد في 13و 23 أبريل عام 1882.

ص: 122

عبارة رقيقة أن تفصل في هذه المعركة وتقضي على هذا الخصام؛ بيد أن المفيد تتهمها بإيثار فرنسا على تونس يوم امتحن هذا البلد الشقيق بقسوة الفرنسيين وجبروتهم، ثم تأبى عليهم صفة الوطنية التي تدعيها لنفسها، فهي قد ولدت تسبح بحمد الخديوي توفيق سنة 1880 وكانت صديقة لرياض باشا في وقت كان إرهاب الصحافة ديدن الحكومة وغايتها وفي ذلك من النفاق ما لا تقبله صحيفة وطنية العقيدة حرة الفكرة.

وقد رد سليم نقاش على "المفيد" ردًّا هادئًا استغرق زهاء صفحتين ونصف صفحة من صفحات المحروسة الأربع، عرض فيه موقف صحيفته وبين فيه مواضع التجني عليها، فإنها وحدها "تجرأت أيام الاستبداد المحض ونادت بالحكومة الشورية، ووحدها بين الجرائد العربية في ذلك الحين أخذت تناصر الحزب الوطني، وهي وحدها أيضًا عارضت النفوذ الأجنبي عند خوف الإفراط فيه وهي أول جريدة صرحت بسوء إدارة بعض المصالح الأجنبية، وهي وحدها تحملت غضب المسيو دوبلينيار وتحامله عليها وقد حرمت لذلك من فوائد جمة حبًّا منها بالوطن وأهله، وكما وقفت وكم أنذرت وكم عطلت وكم حذرت .. " وإن لم تنكر إعجابها بفرنسا ومثلها العليا في الحياة1.

وتمضى "المفيد" في حملتها على الشاميين وصحافتهم وتنقل عنها الصحف الناشئة في أحضان الثورة حتى شغل هذا الموضوع حياة المصريين جميعًا، وحتى اتهمت الصحافة الشامية في مصر والشام الحكومة المصرية بأن تلك الحملة من صنعها، وأنها تدفع صاحب "المفيد" وزملاءه إلى هذه الأزمة، واضطرت الحكومة إلى تكذيب هذه التهمة وإعلان هذا التكذيب في صحيفتها الرسمية مؤكدة أنها لا تنظر إلى موظفيها إلا من حيث كفايتهم وجدارتهم2.

1 المحروسة في 11 أبريل عام 1882.

2 الوقائع المصرية 19 أبريل عام 1882.

ص: 123

ولم يكن "المفيد" موفقًا في هذه الحملة التي جاءت في وقت اشتدت فيه الخصومة بين الخديوي ووزرائه، فاضطر كثيرون من الشاميين أصحاب الصحف وأصحاب الأعمال إلى الهجرة من مصر، وساء ذلك صحيفة "الطائف" لسان حال العرابيين الرسمي فكتبت مقالًا بعنوان "المصريون والشاميون" تندد فيه بمن خلق هذه الأزمة وتسمى مهاجرة الشاميين إلى بلادهم نزوحًا سيعودون بعده "بالسلامة ليعود للمصريين الأنس بإخوانهم والفرح بسلامة بني جنسهم الذي يعز عليهم أن يروهم في روع أو اضطراب أفكار"1 غير أن حملة "المفيد" كان قد أثرت في بعض أصحاب الصحف الشامية في مصر، فاضطر صاحب الأهرام إلى الهجرة، ولم يعجب "الطائف" أن يمعن "بنو جنسها" في أمر لا يدعو إليه داع، وهو ترى هجرة صاحب الأهرام عملًا لا مبرر له وتذكر ذلك معاتبة "اختفت جريدة "الأحوال"2 لتغيب صاحبها فرارًا مما توهمه كثير من المهاجرين"3.

لم تعد الثورة تحتمل صحفًا معارضة فكانت أشد استبدادًا من حكومة رياض، فقد اضطر أديب إسحاق وهو موظف في الحكومة المصرية ومن خيرة الشاميين الذين لهم في الصحافة أثر غير منكور، اضطر إلى الانسحاب من جريدة "مصر" والتخلف عن ميدانها بعد حملة المفيد وزميلاته4 وفي شهر مارس سنة 1882 أعلنت جريدة "البرهان" وهي نصيرة الخديوي توفيق أنها عزلت الشيخ حمزة فتح الله من تحريرها5 وذلك لتحتفظ بوجودها ولا تتعرض لبطش الثورة وحكومتها، ومن الصحف التي لقيت حتفها في ذلك الوقت جريدة "الزمان" وذكرت المطبوعات أنها ارتكبت ما يخالف

1 الطائف 28 يونيه عام 1882.

2 جريدة الأحوال لصاحبها سليم تقلا ومديرها بشارة تقلا صدر العدد الأول منها في 7 يونيه عام 1882.

3 الطائف في 21 يونيه عام 1882.

4 مصر في 8 مارس 1882، راجع وداع أديب اسحق لها في هذه العدد.

5 البرهان في 30 مارس عام 1882.

ص: 124

قواعد الدين الإسلامي وأنها دأبت على المطاعن الشخصية ثم أهانت جانب الحكومة1، ولم يبق من الصحف الشامية إلا جريدة "المحروسة" فقد عاشت موالية للحكومة في الظاهر حتى تبين لها أن صاحب الجريدة يعبر عن رأي القصر ورجاله ويذيع من الأخبار ما يقلق الأمن وتضطرب له الأفكار، فأمر عرابي باشا بتعطيلها ثلاثة أشهر في يونيه سنة "1882"2.

طبقت الثورة قانون المطبوعات في شكل واسع لم يبق إلا على بعض الصحف الموالي ومن أهمها "المفيد" و"الطائف" وكانت أهم وظائف هذه الصحف الحملة على الخديوي توفيق وأسرته، وشغلت "المفيد" معظم صفحاتها بالحديث عن الخديوي السابق حديثًا هو غاية ما يمكن نشره من بذاء، فهي لا تتحدث عن شهواته في التواء بل تفصلها تفصيلًا سواء اتصل الحديث بذكر أو أنثى، وهي تنشئ هذه المقالات ولحمتها الإدعاء وسداها المبالغة التي لا تستند إلى التاريخ3 وتقرن "المفيد" الحملة على إسماعيل بالحملة على الإنجليز في أكثر من مقال، أما الخديوي توفيق فقد سفرت في الحملة عليه ونعتته بالجبان المستخذي4. ولم تعد الصحف المصرية تطرق الموضوعات الدستورية أو تناقش المسائل العامة بخبرة الدارس الحصيف بل انتهى ذلك العهد وأصبحت الصحف المصرية تحرر بأقلام مصرية خالصة، وأصبح كل أصحاب الصحف من المصريين وذلك بعد اختفاء "الأهرام" وغيرها من الجرائد في الإسكندرية والقاهرة، وبعد أن انزوى الكثيرون من الشاميين كتاب الصحف، وقد ظهرت على أنقاض الصحف الشامية صحف مصرية

1 المفيد في 17 أبريل عام 1882.

2 المحروسة في 3 يونيه عام 1882 وفيه نشرت أن الأهرام عطلت شهرًا.

3 المفيد في 27 أبريل عام 1882.

4 المفيد في 10 رمضان عام 1299هـ.

ص: 125

كثيرة "كالفسطاط"1 والسفير والنجاح2.

بيد أن هذه الصحف جميعًا لا تبلغ في مكانتها ولا في خطرها ولا في إنشائها وتحريرها ما بلغته جريدة "الطائف" التي كان يحررها كاتب حاد الطبع نابغ في الإنشاء وهو عبد الله النديم، خطيب الثورة وكاتبها غير منازع، كانت صحيفته في أول أمرها تحمل على المساوئ الاجتماعية العامة كالمواخير والحانات والمراقص التي غزت القاهرة في ظل الامتيازات وتحت حمايتها.

والنديم صحفي ممتاز كثيرًا ما نشر المقالات الرائعة في جريدتي "المحروسة" و"العصر الجديد" اللتين كان يصدرهما سليم النقاش فجاء فيهما بالمعجب والمطرب، وكنت له صحيفة أدبية رائعة تسمى "التنكيت والتبكيت" أصدرها في 6 يونيه عام 1881 في حجم كتاب عادي "صحيفة وطنية أسبوعية أدبية هزلية" وهي مجلة كما يقول:"هجوها تنكيت ومدحها تبكيت ولغتها لا تلجئك إلى قاموس الفيرزآبادى ولا تلزمك مراجعة التاريخ ولا نظر الجغرافيا" وسخريتها "نفثات صدور وزفرات يصعدها مقابلة حاضرنا بماضينا" وهي في مجموعها مقالات اجتماعية عن الحياة في مصر.

انتقلت "الطائف" من المقالات الاجتماعية الخالصة إلى الموضوعات السياسية العميقة والأخبار المهمة التي تميزت بها في عهد الثورة حتى إن معظم الجرائد المعاصرة نقلت عنها أكثر ما نشر، واحتفظت "التنكيت والتبكيت" وهي صحيفة نديم الثانية بموضوعات الأدب والاجتماع، وكان من أهم وظائف الطائف الدفاع عن الثورة ورجالها وقد احتفى بها رجال الثورة وأنصارها فاشترك لها النواب بمبالغ كبيرة وأصبحت لها لسانًا فيه من العنف والشدة ما اضطر الشيخ محمد عبده إلى تعطيلها شهرًا3 وقد اتخذ عطف الهيئات عليها

1 من محضر استجواب رفعت بك -راجع مصر للمصريين ص171 - 172.

2 حرر الشمسي جريدة "السفير" وهي أقل أهمية من المفيد وأخيرًا اختفى المفيد واستبدله الشمسي بجريدة "النجاح" في أغسطس عام 1882، من مقال الشمسي في السفير 21 أغسطس 1882.

3 تاريخ الأستاذ الإمام، ج1، ص236.

ص: 126

لونًا رسميًّا فكتب محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب في 15 ربيع الثاني عام 1299هـ إلى "داخلية ناظري عطو فتلو أفندم حضر تلري" يقول:

"حيث إن حضرة محرر الطائف أظهر ارتياحه إلى نشر محاضر المجلس وأفكار نوابه وما يتبع ذلك مما يستدعي القيام بالحقوق الوطنية، المجلس رأى أنه لا مانع من مكاتبة الداخلية لتصدر أمرها إلى إدارة المطبوعات بمعرفة هذه الصحيفة ممتازة بهذا الاختصاص ونسبتها إلى المجلس على الوجه الذي قدمه حضرة محررها المومأ إليه"1. وقد ذكرت جريدة "مصر" في 23 مارس عام 1882 أن مجلس النواب "قد اختار جريدة "الطائف" الغراء لنشر ما يروم إبداءه من الآراء والخواطر والتقارير والمحاضر فهي الآن صحيفته الشبيهة بالرسمية" ثم تقول: "وجريدة "الطائف" جديرة بهذا الاختيار فهي موصوفة بالوطنية معروفة بصدق النية، منتشرة نافذة الكلام خطيرة مرعية المقام".

ظهرت خطورة الطائف في هذه الرسمية التي حبتها إياها الحكومة دون الصحف الثورية الأخرى، فقد استطاع محررها أن يكون على بينة من شئون الدولة وأن يجد في عطفها المادي والأدبي ما يعينها على تخطي المصاعب التي تعترض الصحف عادة وتحول دون تقدمها، وهذه ميزات بجانب قدرة محررها تجعل لها مكانة خاصة بين الصحف المصرية خلال الثورة العرابية.

ولم تقتصر الطائف على "نشر محاضر المجلس وأفكار نوابه" بل صورت الأعداد القليلة التي عثرنا عليها مدى العنف في تحريرها، وأظهر ما فيها تأريخ حياة الخديوي إسماعيل في أسلوب فيه من النقمة عليه والتشفي منه ما أبعده عن التاريخ العادل، فقد بدأ المحرر فصلًا عن "الخديوي السابق" بعنوان "سلب الأملاك من الملاك" في صفحتين كاملتين من صفحات الجريدة الأربع، ثم مرض النديم وأقعده المرض عن إتمام الفصل فأرسل يعتذر عن تحرير

1 مصر للمصريين، ج1، ص248.

ص: 127

جريدته "إلا ما كان من تاريخ حضرة إسماعيل باشا فإني أتكلف بكتابته؛ لأن نشره من ضمن علاج ما بي"1، ثم انتقلت من الحملة على إسماعيل إلى الإقذاع في الخديوي توفيق في لهجة قاسية فيها تعريض بمقامه حتى أن حكومتها أمرت بتعطيلها نهائيًّا في 17 مايو عام 1882 ترضية للخديوي واعتذارًا له عما ارتكبته صحيفة الحكومة من الإساءة إلى الحاكم الشرعي2.

تحرجت الأمور في مصر قبيل الاحتلال البريطاني بثلاثة أشهر تقريبًا فتدخلت الدولتان الإنجليزية والفرنسية بمذكرة تطلبان فيها استقالة الوزارة البارودية وإبعاد عرابي وبعض خاصته عن مصر وإعادة السلطان المطلق إلى الخديوي توفيق، وقد ترتب على هذه المذكرة استقالة الوزارة وتأليف النظارة الراغبية ودخل فيها عرابي باشا وزيرًا للحربية، ثم تطورت الحوادث سراعًا وحدثت مذبحة الإسكندرية وانتقل الخديوي إلى الثغر في 19 يونيه عام 1882 واعتصم بها حتى قضى الأمر باحتلال مصر وتسليم العرابيين.

ومنذ ضربت الإسكندرية وإنحاز الخديوي إلى الإنجليز حين احتلوها أصبحت في مصر صحافتان، صحافة في القاهرة تمثلها الوقائع المصرية والطائف -وقد عادت إلى الحياة- و"النجاح" وما إليها من صحف الحزب الثوري، وصحافة في الإسكندرية يقود زمامها الشيخ حمزة فتح الله في جريدة الاعتدال يحمل فيها على عرابي ورجاله "البغاة الجهال العاصين الخليفة ونائبه"3 ويعاون فيها أديب إسحاق الموتور من العرابيين بالمقالات والمنشورات4. وبقيت صحف الثورة في القاهرة خلال الحرب العرابية فيما خلا "الطائف" فهذه قد انتقلت إلى الميدان الحربي حيث تحرر عن كثب في معسكر "كنج عثمان"

1 الطائف 6 مايو عام 1882.

2 الرافعي: الثورة العرابية، ص374.

3 مصر للمصريين، ج5، ص176 - 193.

4 نفس المصدر، ص194.

ص: 128

وكانت معظم مقالاتها لاستثارة الهمم والطعن على الخديو وانجلترا1 وعن "الطائف" نقلت صحف القاهرة أخبار الحرب وتفصيلها فضلًا عن مقالات محررها2 ثم دأبت الجريدة على إصدار ملاحق لها تذكر فيها مساوئ أنصار الخديوي، ومن هذه الملاحق الملحق الذي نشرته بعنوان "سليم وبشارة تقلا وتوفيق باشا" وهو هجو مقذع لا يليق، تحلل فيه الكاتب من أسلوبه المعروف وأسف فيه إسفافًا منقطع النظير3.

كانت الصحف الثورية خلال الحرب تتبع اتجاه الحكومة، فكان مدير المطبوعات -وهو إذ ذاك أحمد رفعت بك- يمد محرري الصحف بنبذ مما جاء في الصحف الأوربية لإبرازها إن كانت في جانب مصر وللرد عليها ومناقشتها إن كانت تخالف أغراض الثورة4 وقد تركت الصحف "تقذف الخديوي وشيعته معه نظرًا لأن "المجلس العام المنعقد بالداخلية والذي كان يضم جميع الوجهاء وأعاظم العلماء والذوات ورؤساء المذاهب المختلفة والبرنسات قرر توقيف أوامر الخديوي؛ لأنه خالف الشرع الشريف والقانون المنيف"، أما الموضوعات الأخرى التي كانت تنشرها الصحف "فإن القطر المصري كان تحت القانون العسكري وقد بلغت ذلك الجهادية للداخلية وبذلك أصبحت الصحف تحت الرقابة وأن الرقيب كان يعرض على المجلس العرفي ما ستنشره الصحف وأنه ممنوع منعًا باتًا نشر ما يشتم منه التعصب الديني أو الطعن الشخصي غير السياسي، وقد وبخ حسن أفندي الشمسي رسميًّا أمام المجلس العرفي لنشره مقالًا تعصبيًّا وطعنًا شخصيًّا وخرج بذاك من جريدة "المفيد" وأقفلت جريدته "الفسطاط" لنشرها مقالًا مماثلًا بأمر من المجلس العرفي"5.

1 مصر للمصريين، ج8، ص29 - 30 من اعترافات عرابي باشا في أثناء محاكمته.

2 مصر للمصريين ج7 ص266 من محضر استجواب حسن أفندي الشمسي.

3 ملحق الطائف في 8 شوال عام 1299هـ.

4 مصر للمصريين، ج7، ص265.

5 نفس المصدر ص171 - 172.

ص: 129

هذه كانت سياسة الحكومة نحو الصحافة في أدق مواقفها وهي مواقف على حداثة عهد المصريين بها تبين إلى أي مدى استوى تفكيرهم في علاج أمر المطبوعات، فالصحافة المصرية خلال الحرب تتبع نظمًا تماثل في طرائقها أحدث ما يتبع معها في الحروب الحديثة، كما أن الدولة قد نزهتها عن التعصب والطعن الشخصي، وعاقبت بعض الصحفيين من أنصارها حين امتنعوا عن تحقيق رغبتها، وذلك أمر لا يحدث إلا في صحافة أعرق الأمم التي تناقش عدوها موضوعيًّا دون قحة في لفظ أو تعبير.

وقد وقفت الصحف الثورية عن الظهور بعد تسليم القاهرة، ومهما يكن من أمر فإن تاريخها في الصحافة المصرية تاريخ حافل في كثرتها وفي أسلوبها المتميز بالعنف وإن غلبت عليه العبارة المشرقة والصورة البديعة، وهي صحف غنية بدراستها للمسائل السياسة دراسة علمية موفقة وإن قطعت عليها الثورة هذه الدراسة الممتعة، وقد تحدثت صحف الثورة في كل موضوع اتصل بالسياسة أو الأدب أو الاجتماع.

وقد كان التحدث في أمور الاجتماع شيئًا جديدًا لا على مصر وحدها بل على الشرق العربي كله، وكان في طليعة من عالج هذه الموضوعات الدقيقة الدكتور شبلي شميل، وله في الأهرام وغير الأهرام مقالات جديرة بالنظر قمينة بالتقدير والإعجاب.

وقد حيت الجمعيات الخيرية المختلفة إسلامية وقبطية، وساعدت بدعايتها على تقدمها، ثم نشرت القصص تباعًا وطبعت الكتب العلمية والأدبية في مطابعها وباعتها بأزهد، الأثمان، ومن أهم هذه الصحف العلمية والأدبية مجلة "المقتطف" فقد تكفلت بما كانت تقوم به صحف الدولة الرسمية التي أغلقت كروضة المدارس وما إليها فنشرت طرائف العلم والأدب والتاريخ، وكان أصحابها الثلاثة يعقوب صروف وفارس نمر وشاهين مكاريوس ينقلون إليها أروع وأفضل ما في "الكتب والجرائد العلمية والصناعية" في الغرب والشرق1

1 هكذا أذاع المقتطف في العدد 12 من السنة الثانية ص288 وكان صادقًا فيما أذاع.

ص: 130

وقد تحرت الصحف في أول الثورة الصدق في رواية أخبارها وإن انحرفت في آخرها عن هذه السمة وغليها القدح الشخصي فترة فجاء في أبواب الأدب مثالًا رائعًا يعني أصحاب البلاغة وأساطين البيان.

وجاءت صحافة الثورة بجديد غير معروف هو البرقيات الخاصة التي ازدحمت بها معظم الصحف وفي مقدمتها الأحوال والأهرام، وإلى هذه الأخيرة تنسب صحافة الأحاديث، فقد تخصص أحد أصحابها في مقابلة وزراء الدول وزعمائها في فرنسا وانجلترا والتحدث معهم عن مصر وشئونها، وتسجيل هذه الأحاديث في كتب أرسلها إلى مصر ونشرتها الأهرام على مدى الأيام، وقد روجت صحف الثورة العرابية للاقتصاد الوطني فدعت إلى إنشاء المصارف وحيت أصحاب الفكرة فيها وضربت على هذه النغمة الفينة بعد الفينة مدللة على ما للاقتصاد الوطني من أثر في استقلال الشعوب وحريات الأمم.

وهي تعالج معالجة الحصيف مشروعات الحكومة الداخلية فإذا أنشأت الدولة بنكًا زراعيًّا وهللت لتغطية أسهمه صحفها1 هاجها أسلوب تكوينه والمفيدون منه وهم "أصحاب الطين والأغنياء" ودرات المناقشة بين الصحف وأصحاب الرأي في البلاد في شأن هذا البنك فإن كانت الأحداث السياسية في تلك الفترة من حياة مصر قد وقفت أكثر الأقلام على هذه الأحداث فإن الصحافة المصرية لم تفوت البحث في شئون غير شئون السياسة، في حرية ساعد عليها استقلال رأي محرريها وعدم ارتباطهم بحزب من أحزاب الرأي على الوجه المعروف من الارتباط بين الصحف والأحزاب فيما خلا فترة الحرب ورقابة الرقيب، وهي فترة تميزت بالحزب العسكري وتحزب الصحف القاهرية له.

ص: 131