المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الصحافة الشعبية في مصر (2): - تطور الصحافة المصرية ١٧٩٨ - ١٩٨١

[إبراهيم عبده]

الفصل: ‌الصحافة الشعبية في مصر (2):

‌الصحافة الشعبية في مصر (2):

لقد رأينا كيف ظهرت الصحافة الشعبية في مصر أول ما ظهرت، مماثلة من حيث الشكل والموضوع للصحافة الرسمية المعاصرة لها، معينة بتافه الأخبار ناشرة لقديم الأدب المحفوظ في بطون الكتب، وكل ما كان يدور بين السلطات المصرية العليا وبين الدولة العلية أو دول أوربا كان باطنه أكثر من ظاهره، وكان ما يباح نشره من المسائل المهمة يستوجب رقابة الحكومة ويخضع لوحيها، ولم تكن حالة مصر الاجتماعية والسياسية حتى سنة 1876 تسمح بأكثر من هذه الصحف وأهمها صحيفة الأهرام، فقد فقدت الصحافة الشعبية منذ إنشائها حتى تلك السنة أهم عناصر الشعبية فيها، وهي إبداء الملاحظة وإسداء النصح، والنقد والمعارضة إذا استوجبت الظروف ذلك.

لم يكن في الحياة المصرية رأي عام في تلك الفترة من حكم عاهلها إسماعيل، فقد عاشت مصر في عهد محمد علي كما تعيش القرية في كنف شيخ محنك ذكي أرسل البعوث إلى أوربا فعاد معظمها وتولى مصالح الدولة ودواوينها، وبدأت تتكون في مصر طبقة وسطى لم يظهر أثرها في عهده، وبدأت هذه الطبقة تتفوق في الصناعة والزراعة ومنازل الحرب وبيوت العلم في عهد سعيد وخلال حكم إسماعيل، وانتقلت مقاليد الأمور في عمومها من الأتراك إلى المصريين، وأيقظت هذه الطبقة البلاد يقظة سريعة موفقة، ولم يكن ينقصها إلا التنظيم وشيء من الشجاعة لتستقيم لها الأمور، غير أن الخديوي وإن كانت هذه الطبقة أهم أدوات حكمه أبى أن يرفع أحد عقيرته بنقد الحكومة أو معارضتها وإلا كان نصيبه العقاب الشديد.

ص: 71

وفي هذه اللحظة قامت الحرب التركية الروسية وكان لها آثار بعيدة المدى على تفكير الناس واتجاه الصحافة الشعبية، فقد كانت هذه الحرب أول مسألة خارجية اهتم بها المصريون؛ لأنها تتصل بأمر الدولة صاحبة السيطرة عليهم وهي في كفاح مع دول أخرى، وكان الأجانب في مصر يتناولون الصحافة الأوربية الواردة من الخارج وفيها من تفاصيل الحرب ودقة الأخبار ما يخرى بقراءتها، وهؤلاء الأجانب أصحاب مصالح عند خاصة المصريين وعامتهم فكانوا يتحدثون إليهم بهذه التفاصيل.

ولم تجد الصحف الشعبية بدًا من إرواء ظمأ قرائها بنشر تفاصيل هذه الحرب، فقلدت الصحافة الغربية وانطلقت في إيراد الحوادث ونشرها، وظهر من بين السطور ميلها إلى ما كانت تأتي به العساكر الروسية من ضروب الشجاعة، كما ظهر ازدراؤها لما كان ينسب إلى الجنود العثمانية من التهاون، واختلفت الناس في أمر هذه الصحف واستقبلوها بين منفر ومحبذ، وقد نشأ عن هذه الحرب، أن استحدثت صحف لنشر أخبارها، ونشطت هذه الصحف الجديدة في رواية الأخبار والتعليق عليها ومعارضة الصحف القديمة في الرأي والمذهب حول هذه الحرب، واشتدت المنافسة بينها، وكان المجادلات الصحفية في ذلك الوقت أول حدث في تاريخ الصحافة الشعبية، وبذلك تغير الاتجاه الصحفي التقليدي في الاقتصار على تافه الأخبار وعنها.

وأهم ما أثر عن هذه الحرب1 أنها لفتت الصحف المصرية إلى الدول

1 لقد أثرت هذه الحرب على الصحافة الأوربية نفسها، فبدا واضحًا للناس عمل المراسلين الخصوصيين إبان تلك الحرب، واشترك عشرات من الصحفيين في تسقط أخبارها وسط الميدان، وكان ذلك حدثًا جديدًا على حياة الصحف التي لم توظف مراسيلهما مدنيين وحربيين على نطاق واسع قبل تلك الحرب، كما أن الصحف المصورة كمجلة lllustrated London استفادت في تطور فن الرسم والتصوير في أثناء المواقع الحربية بما أدخلته من جديد في هذا الفن بمناسبة الحرب الدائرة بن الروس والأتراك وهي حرب شبه عالمية اشتركت فيها أكثر من دولة.

ص: 72

الأجنبية وخاصة ما كان متصلًا بالسلطان والدولة العثمانية، فأخذت تنشر عن أحوال الأمم الأخرى التفاصيل الغريبة وتشرح سيرتها السياسية والاجتماعية والمالية وتقارنها بما عليه مصر من سوء الأحوال1 وقد أخذت جريدة الوطن2 وهي من آثار تلك الحرب تملأ صفحاتها الكبيرة بأنبائها شارحة تاريخ الروس وجغرافية بلادهم باحثة أسباب الحرب مشيرة إلى موقف الروس من الدويلات العثمانية في أوربا الشرقية وأحقية هذه الشعوب بالحرية التي تسعدها والدستور الذي تلح في طلبه والمذاهب السياسية الجديدة التي تقف تركيا دون تحقيقها، وقد أصبحت جريدة الوطن سجلًا لأطوار الحرب الروسية التركية بما نشرت من مقالات عن أسباب الحرب وأدوارها وختامها والمعاهدات التي تمت في نهايتها3 وهي بحوث تدل على منتهى العمق والفهم، وقد أثرت هذه الحرب في الأخبار الداخلية فقلت في صفحاتها قلة ملحوظة.

ومما أثر عن هذه الحرب أيضًا جريدة "مصر" لأديب إسحاق فقد صدرت في 30 يوليه سنة 1877 ويبدو من العددين النادرين اللذين حصلنا عليهما أن عنايتها بالحرب الروسية التركية قد مالت فيها إلى جانب السلطان وهي في أحدهما تتحدث عن الحرب وأطوارها وأمل روسيا في "الحيادة" من الدول وموقف الباب العالي من ذلك كله ثم تذكر في ثانيهما خيبة الأمل التي لاحقت جنود الخليفة وتصور هذه الخيبة في ألم وحسرة4.

ولم تكن الأهرام أقل حماسة لأخبار هذه الحرب، فقد انتهزت هذه الحرية التي أباحتها الحكومة وأخذت تندد بآثار الحرب في مصر ثم مضت تدعو المواطنين إلى مساعدة جرحاها من المصريين، وفي هذه المقالات تنشر

1 تاريخ الأستاذ الإمام، ج1، ص37 - 38.

2 صاحبها ميخائيل عبد السيد ومديرها جرجس ميلاد.

3 الوطن في نهاية عام 1877 وأوائل عام 1878 وخاصة العدد السادس عشر.

4 جريدة مصر، العدد 3 والعدد 18.

ص: 73

أعنف الأحاديث عن الظلم والظالمين وحكم الفرد وآثاره حتى تنبهت الحكومة إلى أن هذه الأحاديث تتجه إليها مباشرة ولا تتعلق بالحرب وظروفها فقط1 فأنذرت الأهرام وهو الإنذار الوحيد في غضون هذه الحرب، واستكتبتها الحكومة تعهدًا بألا "تدرج المواد الموجبة لتهييج الأفكار الأهلية عن أحوال الحرب الحاضرة"2.

وإذا رجعنا صحف ذلك العهد، رسمية أو شعبية تبين لنا أن جرائد مصر بأسرها شغلت بالحرب الروسية التركية، فقد طغت أنباؤها على جميع الأنباء الداخلية والخارجية، وكانت الأهرام ضمن الصحف التي وقفت إلى جانب السلطان، تؤازره بالمقال، وتؤيده بالأخبار السارة عن مواقف جنوده في بعض المواقع، كما أنها ذهبت إلى أبعد من ذلك فأنشأ بشارة تقلا مجلة صغير سماها "حقيقة الأخبار" كان يجمع فيها ترجمة وافية للبرقيات التي تتلقاها دار الأهرام عن الحرب الروسية التركية، ولا تستطيع استيعابها صحف الدار الأخرى، وكان ربح المجلة يذهب قسمة عادلة بين دار الأهرام ومساعدة الجنود العثمانيين3.

ويبدو أن الجهات الرسمية في مصر لم تحاول من ناحيتها عرقلة هذه النهضة الصحفية فغضت الطرف عما نشر من آراء أو أذيع من أخبار تمس الدولة العلية وإخفاقها في تلك الحرب؛ وذلك لأن الحرب الروسية التركية تتصل بمصر من حيث التزاماتها أمام السلطان، فقد طلبت الحكومة التركية مساهمة مصر في هذه الحرب، وقد ذكر الخديوي في مقالته الخديوية لمجلس شورى النواب في 30 أبريل سنة 1878، أنه على استعداد لتقديم الجنود ومساعدة السلطان بيد أنه عقب على ذلك في براعة بأن هذه المساعدة معلقة بحال الميزانية ومرتبطة أيضًا

1 الأهرام عدد 73 عام 1877 وما بعده.

2 محفوظات الداخلية 11 - 2 - 946 جزء أول.

3 جريدة الأهرام، تاريخ مصر في خمس وسبعين سنة، للمؤلف، ص81.

ص: 74

برعاية الدين العام1 ومعنى ذلك أن الخديوي لم يكن متحمسًا غاية التحمس لاشتراك مصر في هذه الحرب؛ لأن المساعدة المطلقة مرهونة بحال الميزانية، وميزانية مصر لم تكن تحتمل الاشتراك في الحرب ثم إن ارتباط مصر برعاية الدين العام معناه اقتصار المساعدة على صورة ضيقة جدًّا فلم تشترك إلا ببضعة آلاف من الجنود لم تتجاوز ستة آلاف جندي، وهذا عدد يسير جدًّا إذا علمنا أن سكان البلاد في ذلك الوقت كانوا ستة ملايين نفس.

فلا غرو إذن أنْ كان موقف الحكومة المصرية مما كانت تنشره الوطن وغيرها موقفًا سلبيًّا بل موقفًا فيه من التشجيع ما سمح لهذه الصحف بالحديث في أمور "بوليتيقية" من فضل في تطور هذه الصحف ونقلها إلى جو من الحرية فحسب بل كان لها فضل آخر وهو أن هذه الصحف أخذت على عاتقها وظيفة الدفاع عن الشئون المصرية الدولية وبذلك شاركت الصحافة المصرية الحكومة فيما كانت تختص به الحكومة نفسها، فقد أنتجت الحرب الروسية التركية صلح سان استيفانو بين الدولتين ثم مؤتمر برلين وما ترتب على ذلك من تضحية المساءلة المصرية من غير مبرر، واقتسام الإشراف على مالية مصر بين فرنسا وانجلترا2.

1 Egyptian Despatch from the consulate general of the U.S. 30 may 1877 N 173

2 عقد صلح تركيا وروسيا بمقتضى معاهدة سان استيفانو فلم توافق انجلترا على هذا الصلح وأمرت أسطولها بالتقدم إلى الدردنيل كما أرسلت جنودًا إلى مالطة ثم انتهى الأمر بموافقة روسيا على عقد مؤتمر برلين وقد اتفقت انجلترا سرًّا مع روسيا ضد تركيا على حين اتفقت مع الأخيرة على أن تتنازل لها عن قبرص، وأعلن سلسبوري أن ليس بينه وبين الدولتين أي اتفاق سري ولكن صحافة انجلترا تذيع اتفاق قبرص، وهنا يهدد سفير فرنسا بالانسحاب من المؤتمر فيضطر الإنجليز إلى ترضية فرنسا بمسائل خاصة بتونس ومنها أيضًا حق الإشراف على المالية المصرية مناصفة "راجع صفحة 875 My Diaries"

ص: 75

ولم تقف المطامع الأوربية في مصر عند فرنسا أو انجلترا بل تجاوزتهما إلى روسيا التي طلبت رهن خراج مصر لتسدد منه تركيا غرامة الحرب بعد هزيمتها، وهنا تبدأ الصحافة الشعبية وظيفتها الجديدة فتشرح قصة الحرب مرة أخرى، وتعلق جريدة الوطن على ذلك لافتة الأنظار إلى مطمع الدول الأوربية في المصريين وخاصة انجلترا، ثم تحمل في شيء من العنف على الحكومة الإنجليزية وعلى The Standard الصحيفة التي تمثلها في ذلك الوقت، وتشير إلى النيات السيئة التي تنويها إنجلترا لمصر، فإن الصحف الإنجليزية دعت خلال الحرب إلى احتلال البلاد حتى تحول القوات البريطانية دون تغلغل الروس إلى قناة السويس1.

كانت الحرب الروسية التركية حجر الزاوية في تطور الصحافة الشعبية إلى صحافة حرة، فقد شبت عن الطوق ورأت شئون مصر تسير في اتجاه فيه غبن شديد على البلاد، وقد أثار وجود الأفغاني في مصر قبيل الحرب التركية الروسية وفي أثنائها تيارًا من التفكير الحر، إذ تتلمذ له الكثيرون من طلاب العلم والمتعطشين إلى الآراء الجديدة، وكان حديثه "ينير العقل ويطهر العقيدة ويذهب بالنفس إلى معالي الأمور ويستلف الفكر إلى النظر في الشئون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها، وكان طلاب العلم ينتقلون بما يكتبونه على تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالون إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر وتنبهت عقول وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصًا القاهرة"2.

ولم يقف حظ الحياة الفكرية من فضل هذا الرجل عند حديثه الحلو ومحاضراته الممتعة لطلاب العلم ورواده من خاصة الناس فإن له على الصحافة الشعبية فضلًا يعادل فضل الحرب الروسية التركية، فهو الذي أوحى ليعقوب بن صنوع بإصدار مجلة "أبو نظارة" أقدم الصحف الهزلية المصورة في

1 الوطن في 9 مارس عام 1878.

2 الأستاذ الإمام، ج1، ص37.

ص: 76

الشرق1 وهي الذي اقترح على أديب إسحاق إنشاء جريدة "مصر" في القاهرة2، ويرجع إلى الأفغاني فضل السعي في إخراج جريدة "مرآة الشرق" فقد توسط لصاحبها هنا وهناك حتى منح الترخيص بها3.

ولم يكن للأفغاني فضل الإيحاء والإشارة بإنشاء هذه الصحف وحدها بل كانت له فيها المقالات الممتعة كحديثه عن "الحكومات الشرقية وأنواعها" ومقالته عن "روح البيان في الإنكليز والأفغان" وكان يمهرها باسمه تارة وتارة تحت حجاب اسم مصنوع مثل: "مظهر بن وضاح" ومن أهم مقالاته فيها حملته على الإنجليز تلك الحملة التي ترجمتها صحفهم4، وكذلك كانت التجارة مجالًا لتلامذته كالأستاذ الإمام5، وكانت هذه الصحيفة تذكر الأفغاني وتنقلاته في أسلوب غريب فتسميه "سيدنا فهرست كتاب الكمال وفذلكة حساب الجلال أستاذنا الأجل الفيلسوف الأكبر السيد جمال الدين الأفغاني"6 وقد لقيت التجارة حتفها على يديه فقد ملأها بالمقالات الثورية ابتداء من عددها السادس عشر ثم زعمت في خبر من أخبارها أن الأمة وكلت إليه السفارة بينها وبين الخديوي وكان هذا الخبر سبب تعطيلها الحقيقي7.

عرضنا لأثر الحرب الروسية التركية في الصحف الشعبية وأوضحنا سهم الأفغاني في نقلها إلى مصاف الرأي، وهذان عاملان لهما خطرهما في

1 طرازي، ج2، ص283.

2 مشاهير الشرق، ج2، ص70.

3 صاحبها سليم عنحوري ولكنه تخلى عنها لإبراهيم اللقاني لمرضه وعودته إلى وطنه وهو من الشاميين تلاميذ الأفغاني، وساعده فيها إسكندر نحاس كمدير لها وسعيد البستاني كمترجمها الأول، وكتب فيها محمد عبده والشيخ علي يوسف، وهي لسان الحزب الوطني في نهاية عصر إسماعيل "راجع مرآة الشرق في 24 يوليو عام 1879 كونها لسان الحزم الوطني والتجارة في 21 أبريل عام 1879 عن تغيير صاحبها".

4 الأستاذ الإمام، ج1، ص39 - 41، ص45.

5 التجارة في 17 يونيه عام 1879م.

6 التجارة في 19 مايو عام 1879 وصاحب التجارة هو أديب إسحاق.

"راجع أعلام الصحافة العربية للمؤلف".

7 تاريخ الأستاذ الإمام، ج1، ص47، 48، من ترجمة سليم عنحوري للأفغاني.

ص: 77

تاريخ الصحافة الشعبية وتطورها، وقد ظهرت بجانبها بعض العوامل التي لا تقل عنها أهمية ومصدرها الحالة في مصر نفسها، فقد جهد الخديوي من ناحيته في تهيئة الأفكار بما جدد في حياة مصر الأدبية والمادية مما كان له أثره الواضح فيما بعد، وأنتجت محاولات الخديوي الإصلاحية نتيجتها المرتقبة، فإذا الناس متبرمون لم تغنهم إصلاحاته ولم تحتمل طبيعتهم الرضية مساوئ بطانته، فهو يعمل على إسعادهم في ناحية وتعمل بطانته على إفقارهم في ناحية أخرى، وأقرب الأمثلة ما ذكره قنصل الولايات المتحدة في تقرير له وهو يتحدث عن الإصلاحات التي أدخلها الخديو في مصر، ويعقب على ذلك بحديث عن الأرض وتوزيعها وكيف استولى البعض على أكثر من خمسها وكيف كان هذا الخمس يفوق الأخماس الأربعة الباقية من حيث الجودة ومن حيث عناية الحكومة بإروائها موقعها وتسخير الناس لخدمتها1.

والخديوي يستدين ويصبح دينه خطرًا على الكيان المصري في نهاية عام 1875 وأوائل عام 1876، إذ إن هذا الدين أجاز للدولة الأوربية حق التدخل في شئون مصر، ثم يشعر بالضيق المالي فتضيع أسهم قناة السويس في صفقة خاسرة، ويستقدم بعثة كيف الإنجليزية لتفحص مالية البلاد ثم تتوقف الحكومة عن أداء أقساط الديون، وقد لاحقتها الأزمة من جميع جوانبها الأمر الذي ترتب عليه إنشاء صندوق الدين2 وتدخل الأجانب في الشئون الداخلية.

لم يفد إنشاء صندوق الدين أو مشروع توحيد الديون في مايو عام "1876"3 أو إنشاء مجلس أعلى للمالية نصفه من الأجانب4 لم يفد كل هذا

1 Despatch N 272 December 30. 1878. vol. 15. p 78

2 فيليب جلاد: القاموس العام للإدارة والقضاء عام 1900، ج2، ص144.

3 نفس المصدر والجزء، ص 133.

4 نفس المصدر، ص151.

ص: 78

في وقف تدخل الأجانب تدخلًا مباشرًا في شئون مصر الداخلية بل ساعد ذلك على هذا التدخل حتى أصبحت حياة مصر المالية تحت رقابة مشتركة من الإنجليز والفرنسيين، ثم تراءى لهؤلاء أن يؤلفوا لجنة للتحقيق في 27 يناير سنة 1878، وكان من أظهر رجالها ريفرز ولسن Rivers Wilson أحد الوكيلين1 وينتهي أمر هذه الأزمات المالية المتلاحقة بإنشاء مجلس النظار لأول مرة في تاريخ مصر، وتحققت بذلك فكرة المسئولية الوزارية في الحكومة المصرية، بيد أن هذه اللفتة يشوبها وجود وزيرين أجنبيين في مجلس النظار أحدهما إنجليزي للمالية والثاني فرنسي للأشغال2.

كانت هذه التطورات في حياة مصر الداخلية امتحانًا لصحافتها ومحكًّا لنضجها وكفايتها، فقد استفتحت الوزارة المختلطة أعمالها الأولى بإخطار رسمي لجميع الصحف التي "تتضمن الاعتراض بحالة خارجة عن حدود وظائفهم على مسلك الهيئة الحاضرة"3 ولم يكن قد بدا بعد من الصحف اعتراض على الهيئة الحاضرة بل إن "الوطن" وهي صحيفة حرة في ذلك الوقت، استقبلت الحكومة النوبارية استقبالًا حسنًا وأثنت على رجالها ثناءً طيبًا على اعتبار أنها وزارة مسئولة لا تظلم ولا تقضي بغير ما يوحي به القانون وخاصة المسائل التي تتصل بالمال وجباية الضرائب4.

وقد انتهزت الصحف تعيين الوزارة الجديدة فأخذت تشرح مساوئ العهد القديم في تقريره "ضرائب غير مقررة ولا جائزة ولا مبررة" وتذكر موظفيه الذين أثروا من فقر الفلاح ونهبه حتى "أصبحوا من أهل اليسار والثروة والعقار وصارت في حيازتهم أخصب الأطيان"، ثم تتجه إلى ولسن

1 الرافعي: عصر إسماعيل، ج2، ص82.

2 لومونيتور إجبسيان 3 أغسطس 1878.

3 التجارة 8 يناير 1879.

4 الوطن في 21 أغسطس عام 1877 وعدد 44 في سبتمبر عام 1878.

ص: 79

واضعة بين يديه آمال الفلاح في القضاء على المفاسد والمفسدين1 وتعقب في موضع آخر بعد نشر تقرير ولسن عن الخلل المالي حاملة أشد الحملة على الحكم المطلق الذي كان يلزم الفلاح بالضرائب الفادحة ومع ذلك كانت خزانة الدولة خالية الوفاض "بينما زادت عقارات الدائرة وبلغت مليون فدان"2.

وكان تشجيع الصحف الشعبية للوزيرين الأجنبيين ظاهرًا جدًّا حينما دافعت عن تعيينهما دفاعًا شديدًا لما طلبت إيطاليا أن يكون لها في الغنيمة وزير، فقد شرحت خدمات الوزارة المختلطة في ارتفاع الأوراق المالية واستلام الموظفين رواتبهم والتمكن من عقد القروض الجديدة بفائدة ضئيلة وإن لم تفوت الشكوى من الموظفين الأجانب ورواتبهم المرتفعة.

فالصحافة الشعبية إذن لم تستقبل تعيين الوزارة استقبالًا سيئًا، وكان ذلك بعض واجباتها ما دامت شئون الحكم ألقيت إلى الأجانب، ولكنه سالمت العهد الجديد لعله ينقذ مصر من العهد القديم ويقضي على المساوئ التي أساءت إلى الفلاح والموظف، وأساءت إلى كثير من المرافق العامة والخاصة، وقد راضت الحكومة نفسها على أن تمنح الصحف بعض الحرية حتى تستيطع أن تفهم المآسي التي لقيها الشعب، ولا يعنيها في أول الأمر بعض الملاحظات التي تبديها الصحافة في عنف كحملتها على مدير السكة الحديد الإنجليزي، أو مقالاتها في الحالة المالية وماهية "الحكومة المطلقة والمظالم الحاصلة والوزارة الشورية"3.

ولم يضغط الخديوي على الصحف الشعبية خلال الحرب الروسية التركية ما بقيت ملتزمة مدحه والثناء عليه وكل ما شغلت به صفحاتها لم يمسسه من قريب، فإذا حد التدخل الأجنبي سلطان الخديوي فسح المجال لهذه الصحف

1 الوطن في 21 سبتمبر عام 1878.

2 الوطن في 9 أكتوبر عام 1878.

3 الوطن في 12 أكتوبر و2 نوفمبر، 16 نوفمبر عام 1878م.

ص: 80

فتفست عما في صدرها ونشرت مساوئ الحكم قبل سنة 1878 ولم تتحرج كما رأينا من مسالمة الحكومة المشتركة وتحيتها، واستطاعت أن تقول ما حالت دون قوله السلطة المطلقة فيما مضى ثم قلدت الهيئات المختلفة الصحافة في الشكوى وإذاعة الفضائح بالمذكرات والمنشورات وأهمها مذكرة التجار الأجانب في الإسكندرية التي أرسلوها إلى قناصل الدول ناعتين العهد السابق في تصرفاته المالية بأقبح الأوصاف1.

كادت ظاهرة الإعجاب بالحكم الجديد تستغرق صفحات الأهرام والوطن وغيرهما من الصحف المعاصرة التي لم تبلغ قدرهما من الذيوع والانتشار، غير أن هذه الصحف رأت بعض المآخذ في الوزارة النوبارية فبدأت تلفت إليها النظر في هدوء، فذكرت الوطن ما يجري على ألسنة الناس من أن المستر ولسن سيعين موظفين إنجليزيين وسيقتدي به "دوبلنيار الفرنساوي" وأن ذلك سيحرم أبناء الوطن المتعلمين حقًّا إجازة لهم تعليمهم وثقافتهم2 ثم تشتد بعض الشيء فترى جريدة التجارة أن حرمان المصريين حقهم في الوظائف بربرية أوربية لا يجوز السكوت عليها؛ لأن القوم "نازعونا الأرض المحبولة بدم آبائنا" وأصبحوا أمراء في بلادنا وهي إمارة "الأجير وملكية المستعير وتأصيل الدخيل ولا لوم عليهم في ذلك ولا تثريب، فإن من لا يصون ماله يعلم الناس سرقته" ثم تهاجم الصحف الفرنجية "المطبوعة تحت سمائنا"؛ لأنها لامت الوزير الفرنسي حين استخدم المصريين في المسائل الهندسية، وتذكر لها أن عهد الاستبداد وتقييد حركة الكتابة قد انتهى، وأن الآراء الحرة والفكرة الناضجة ليست وقفًا على الفرنجة دون المصريين.

وقد ظنت الحكومة الجديدة أن تنفيس الصحف عن نفسها بذكر مساوئ العهد السابق وملاحظة شئون التوظف في المصالح المصرية ورمي ولسن بالجهل

1 وثيقة رقم 136، ص145 Blue Books 1878.

2 الوطن في 30 نوفمبر عام 1878م.

ص: 81

في الأمور المالية1 هو غاية ما تصبو إليه الصحف المصرية، بيد أن الصحافة المصرية كانت قد بلغت من القوة ونضج الرأي واستقامة التفكير ما جعلها تبحث في أعمق من المسائل التي عالجتها، فقد كانت فكرة الشورى تأخذ عليها حياتها وجهادها فبدأت تنشر المقالات في أن المسئولية الوزارية تكون عبثًا على الصورة التي تألفت بمقتضاها الوزارة المختلطة فأمام من تكون هذه الوزارة مسئولة إذا لم يكن هناك مجلس للنواب؟ وهو يكون أهم شيء في مصر، كما أنه أهم شيء في الممالك المتمدنة وإذا كان مجلس النواب لازمًا في بلاد أوربا فهو ألزم لنا نحن المصريين؛ لأن وزارتنا مختلطة من وطنيين وأوربيين والأوربيون لا بد أن يقدموا مصالح بلدهم وأرباب الديون على مصالح الوطنيين، ثم تأخذ الصحيفة في معالجة أمر تكوينه وحقوقه والتزاماته ثم تذكر في مقال آخر الأهمية التي تعلقها على انعقاد هيئة تشريعية تسأل أمامها الوزارة إذ إنه "لا يخفى أن قوة المملكة وغناها لا يقوم إلا بانتظام مجالس شوراها"2.

فإذا دعت الحكومة مجلس شورى النواب إلى الانعقاد استبشرت الصحافة بهذه الخطوة وأملت في أن يضرب المثل على حيويته حتى يحس الناس وجوده، وتحدثت عن أعضائه بأنه قوم "لا تأخذهم في الحق لومة لائم مع العلم بواجباتهم وحقوق الأمة وما بها من الآلام وبودهم لو افتدوا الإصلاح بدمائهم"3.

فإذا تم انعقاد المجلس في 2 يناير 1879 تشجعت الصحف بوجوده وانتقلت إلى معارضة الحكومة في سفور وفي غير تحفظ، فحملت على ريفرز ولسن الذي لبس مسوح الرهبان حتى تمنت البلاد وجوده على ماليتها فلما تحقق له ذلك ألزم الفلاح بدفع الأموال المتأخرة في السنوات الثلاث

1 التجارة 8 فبراير عام 1878م وفي 10 أبريل و15 يناير 1879م.

2 الوطن في 21ديسمبر و28 ديسمبر 1878م.

3 التجارة في 23 ديسمبر عام 1878م.

ص: 82

الماضية "مع غرق الأراضي وشرقها فإذا لم يرض الفلاح بدفع هذه الأموال المتأخرة ألزموه أولًا ببيع أرزاقه ومحصولاته ثم بيع مواشيه وأطيانه وجميع عقاراته، بل زاد على ذلك بأن أمر بالاستعانة بالقساوة القديمة" وعلقت على ذلك بأن السياسة القديمة لا تتفق مع حملات ولسن في تقريره عن العهد القديم ثم تفصل ظلمه وجوره "في رفت المستخدمين المشهورين بالخدمات الصادقة ثم تعلق آمالها على مجلس شورى النواب في رفع المظالم جميعًا.

والصحافة تشجع مجلس النواب وتعضده كما شجعها وجوده فهي تذكر أنباءه كأهم ما يعني المصريين من أخبار فتنشر المقالة الخديوية والرد عليها، وتبرز بعض النواحي في هذا الرد وتشير إلى الجمل القوية فيه مثل مخاطبة الخديوي بأنهم "نواب الأمة المصرية ووكلاؤها المدافعون عن حقوقها الطالبون لمصلحتها" ثم يتحدث الكاتب عن مجلس النواب، "وهو السبب الموجب لنوال الحرية وهو الباعث الحقيقي على بث المساواة في الحقوق" ثم يذكر مجلس النظار المسئول أمام الأمة ويشير المحرر إلى جملة مهمة صدرت من مجلس النواب إلى الخديوي على اعتباره ملكًا لمصر المستقلة "ونعلن من صميم الفؤاد سرورنا وكمال ابتهاجنا بما تشرفت به مسامعنا من خطاب جلالتكم" ثم يقرر المحرر أن مقال الخديوي ورد النواب أوجد جوًّا من الثقة وأحيا آمال هذه الأمة التي لا تزال راجية أن تنال شرفها التليد "الذي شهدت به التواريخ وأنبأت به الآثار"1.

وإن هذه التحية التي يلقاها مجلس النواب من الصحافة الشعبية لا تحملها على التهاون في أمور البلاد إذا قصر المجلس في واجب من واجباته فهي تبث شكواها لظلم الموظفين الوطنيين وخاصة في السكة الحديدية، وتبدى دهشتها من انصراف المجلس عن بحث مثل هذه الحالة فقد "كان بودنا أن مجلس شورى النواب الذي انعقد وضربت له المدافع أن يكون عن الوطن خير مدافع".

1 الوطن في 4 و11 يناير عام 1879م.

ص: 83

وهي إذا سخرت من المجلس والمدافع التي أطلقت له، تأبى أن يهين أحد هذا المجلس وخاصة إذا صدرت الإهانة من أحد الوزيرين الأجنبيين فتقول عن موقف ولسن من الأعضاء أنه لم "يعرض عليهم قضية كلية ولا جزئية فكأنه يظن أنه ليس من الأكياس أو أنهم ليسوا من الناس بل إنهم كالأنعام أو أنهم بكم كالأصنام" ثم تتجه إلى الأعضاء وتشجعهم قائلة "ففي هذا المقام الصعب الممتطي الزلق المرتقي يجب على الأعضاء التزام الخدامة، وارتفاع الأخطار لا يكون غالبًا إلا باقتحام الأخطار" ثم تحمل على الوزيرين الأجنبيين لأنهما تواطآ على الازدراء بالمجلس1.

وتمضي الصحف في تهيئة الأفكار وتفتيق الأذهان وتنشر بين آن وآن اقتراحات النواب أو لوائحهم كما تسميها، فتذيع مع التقدير والتشجيع اقتراح محمود بك العطار وعبد السلام بك المويلحي بإلغاء الضرائب القديمة دفعة واحدة وفرض ضرائب جديدة لا ترهق الفلاح، ولكن رئيس الحكومة لا يعترف بحق النواب في ذلك ولا يرفضه أيضًا، وتعرض جريدة التجارة هذه الحالة في أسلوب عنيف وحجة قوية وتذكر في شيء من الفخر بأن هذا البيان بيان النائبين علم الناس "أن في السويداء رجالًا سودتهم نفوسهم فلا تسام خسفًا ولا تضام عسفًا"2.

ثم تعالج الصحف أسلوب ولسن في الحكم وطرائقه في التفريق بين طبقات الأمة وبذر عوامل الفتنة بينها بتفضيله قومًا على قوم، هو يبسط السوط لجبي الضرائب من الفلاح وهو عار تقتله المسغبة ثم يأذن "بصرف شهرين للعلماء الكرام وعجب للعلماء في موقفهم؛ "لأنهم لم يراعوا إلا أنفسهم ولم يسألوا إلا إجراء أرزاقهم خاصة، وكان العهد بهم أن يؤثروا الغير على

1 الوطن في 25 يناير وأول فبراير عام 1879م.

2 التجارة في 3 و 11 يناير عام 1879.

ص: 84

أنفسهم ولو كان بهم خصاصة لوقوفهم موقف الرئاسة والإمامة وعلمهم بأن الذين لهم أرزاق متأخرة في الرزنامة هم ما بين يتيم وأيم وزمن ومقعد وغيرهم ممن لا يستطيعون حراكًا لإصابة الرزق من غير هذا الباب"1.

في مثل هذا الأسلوب القوي عالجت الصحافة المصرية شئون مصر متخطية جميع الصعاب الرسمية من إنذار وتعطيل مؤقت، فتحدثت عن مساوئ البطانة الخيديوية والوزارة النوبارية معًا، وهاجمت الأجانب ووزيريهما وشجعت مجلس النواب وأتاحت له فرصة الظهور ومدت رجاله بالرأي السديد الموفق وناقشت أموره الفقهية كواجب انتخاب رئيسه لا تعيينه وحقه في فرض الضرائب والمسئولية الوزارية2 كما بحثت في وجوب فرض الضرائب على الأجانب وخاصة الوزيرين اللذين يتقاضيان ستة آلاف جنيه في السنة من شعب يتشدقون بإفلاسه، غير فصولها الأخرى في المسائل المالية الدقيقة كالدين الموحد والثقة المالية والنقد.

ومهما يكن قضاء المؤرخين في الوزارة النوبارية التي ضمت وزيرين أجنبيين فإنها صاحبة فضل على الصحافة وهو فضل غير مباشر، قد تولى نوبار النظارة طبقًا لمرسوم 28 أغسطس سنة 1878 وهي أول وزارة في تاريخ مصر الحديث تحملت المسئولية الوزارية، والمسئولية الوزارية تستوجب الحذر أحيانًا وتفرض سعة الصدر فتعامل الصحافة "بالرفق والتلطيف وحسن البيان" كما تقول جريدة التجارة وخاصة أن الوزارات ضمت ناظرين أجنبيين وهي صدمة وطنية أحس أثرها العامة والخاصة على السواء، فقد كان المعروف أن الوزارة برمتها جاءت لتفض الأزمة المالية يعني جاءت لتحمي مصالح الأجانب وترد إليهم أموالهم بشتى الطرق.

ولم يقف سلطان الوزيرين عند هذا الحد بل تدخلا في شئون الدولة جميعًا

1 التجارة في 18 مارس عام 1879م.

2 الوطن في 11 يناير.

ص: 85

فبدأت الصحافة تصور هذا التدخل بمقالات سياسية ذكرنا طرفًا منها وكان لها أبعد الأثر في أعضاء مجلس شورى النواب، فنشط أعضاؤه وأخذوا على عاتقهم مهام لم تبحها لائحة المجلس الأولى ولكنهم تشجعوا بعد أن رأوا في الصحف قوة تنصرهم وتدفعهم وتحميهم فقد كانت لهم "في هذه الأيام بمنزلة المصابيح في ظلمات الأحوال"1.

ثم أدت هذه الوزارة بأزماتها مع الموظفين ومشاكلها مع ضباط الجيش2 إلى اتفاق بين الصحافة والخديوي لم يكن مكتوبًا أو منصوصًا عليه ولكنه كان اتفاق مصلحة مشتركة اقتضتها الظروف القاسية على الطرفين، فالحكومة تشجع الصحف على إظهار ظلم بطانة الخديوي ثم تشجع الفلاحين والسراة على كتابة العرائض فيما أصابهم من غبن على يديها3 ويستقبل ريفرز ولسن هذا كله استقبالًا حسنًا ثم لا تخرج الحكومة من ورطه إلا وتقع في أخرى ويتقلب الحال وتبدأ الطبقات شكواها من العهد الجديد الذي ساوى العهد القديم في الظلم وزاد عليه أنه جرح الكرامة المصرية بتعيين وزيرين أجنبيين في بلد مستقل، وكان من أظهر الطبقات ضيقًا وتبرمًا ضباط الجيش الذين أحيلوا إلى المعاش فهؤلاء مثلوا المصريين جميعًا بالظلم الذي وقع عليهم والثورة التي قاموا بها، وأثر عن هذه الحركة تيارات خفية وعلنية بين المشايخ والأعيان وبين الخديو، وقامت الصحافة تمثل هذه الحياة الثائرة الحكومة والأوضاع المعمول بها فتذكر علو همة الضباط الثائرين وعدالة مطالبهم4 ثم تلح في وجوب اتفاق الحكومة والشعب على إنشاء برلمان مسئول يجعل غايته أن تكون مصر للمصريين وحدهم5.

1 التجارة في 5 فبراير 1879م.

2 الرافعي: عصر إسماعيل، ح2، ص201 - 207.

3 التجارة في 2 يناير عام 1879م وقد نشرت عريضة عن بني سويف عما فيه الناس من ظلم.

4 التجارة 8 13 مارس عام 1879م.

5 التيمس 16 و28 أبريل عام 1879م.

ص: 86

لم تفلح الحكومة المصرية برئيسها نوبار باشا ووزيريها الأجنبيين في توجيه حياة المصريين إذ أصبحت حالهم أسوأ مما كانت قبل تولية الحكومة النوبارية أمور البلاد، وضج البرلمان الإنجليزي نفسه وصور المصريين في عهد هذه الحكومة بأنهم أصبحوا بسياستها "مجرد أشباح"1 وشاركته في ذلك الصحافة الإنجليزية وعلى رأسها التيمس إذ تقول: "إن مجلس النظار يستبد بالأمر دون رئيس الحكومة الذي منح حكم بلاده، والإدارة تنتقل شيئًا فشيئًا إلى أيدي الأوربيين والمناصب العالية مغلقة في وجوه المصريين، مع أن مصر مهما بلغت بها الحال ملك للمصريين2.

هذا حكم الإنجليز على الموقف وهم أصحابه فلا عجب أن وزعت المنشورات ضد الحكومة وأعضائها3 واشتدت الصحف شدة لم يعهدها النظار فكتبت التجارة مقالًا عنيفًا ضد ولسن لإغفاله مجلس شورى النواب فعطلت خمسة عشر يومًا واستقبلت أمر التعطيل بإصرار على المعارضة "فإن التجارة تحسب حب الوطن دينًا والمدافعة عنه جهادًا فإن عاشت فيه فهي سعيدة وإن ماتت فهي شهيدة ولقد أتاها الله النعمتين وأتاح لها الحسنيين فعاشت به وماتت عليه وستبعث بعد أسبوعين رافلة في ثوب الشهادة مزينة بحلي السعادة على رغم أنوف حاسديها الذين أولو كلامنا إلى ما لم نقصد وحاولوا إطفاء نور الحق ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المبطلون"4.

لم تستطع الحكومة النوبارية أن تواجه الحالة فاضطرت إلى الاستقالة وتولى توفيق باشا ولي العهد رياستها وأبقى الوزيرين الأجنبيين في مكانهما القديم، وزاد سلطانهما بما منحا من حق الفيتو على قرارات مجلس النظار5

1 مضابط البرلمان الإنجليزي، المجلد 244 عام 1879، ص838 - 841.

2 التيمس في 3 مارس عام 1879م.

3 الأستاذ الإمام، ج1، ص238.

4 التجارة في 13 فبراير عام 1879م.

5 Livre Jaune 1879- 1879. p. 166

ص: 87

بيد أن بنيان الحكم بقي متصدعًا بالرغم من ولاية توفيق لرئاسة الحكومة.

وقد استقبل مجلس شورى النواب الوزارة الجديدة أشد معارضة مما كان فرأت الحكومة أن تفض هذا المجلس، وكان في وسعها أن تصنع ذلك دون أن يحس الرأي العام ما صنعت، ولكن الصحف تفوت عليها هذا الغرض وتهاجمها وتنصر النواب، وتشجعهم وتعلن موقف المويلحي عضو المجلس من عطو فتلو رياض باشا الذي حضر إلى المجلس ليفضه حتى إذا ذكر الوزير شكره للخدمات التي قام بها المجلس ذكرت الوطن موقف المويلحي الذي انبرى للوزير محتجًا بأنه لا معنى لتشكرات الحكومة فإنهم -أي النواب- لم يبدوا مأثرة تنشر ولم يفعلوا شيئًا يستحقون عليه الشكر والامتنان وأنهم مصممون على دوام انعقاد المجلس إلى آخر هذا الحوار البديع بين النائب والوزير.

وقد أخذت الجريدة تعلق على ذلك كله وهي تلتمس للنواب مخرجًا من الحرج الذي دفعتهم إليه الحكومة، هذا الحرج الذي يحرمهم مواجهة ناخبيهم والتحدث إليهم فهم لم يفعلوا شيئًا حقًّا ولم يقوموا بواجبهم المفروض عليهم أداؤه، والجريدة ترى من واجبها أن تذيع على الناس ذلك الموقف "ليشهدوا المعركة بين الاستبداد والحرية" وليس هذا فقط بل هي تحرض بقية الهيئات الأخرى على معاضدة النواب وتشجيعهم وتدفع الجماهير إلى شد أزرهم ذاكرة أن مجلس النواب المصري يهزأ منه الحكومة وتراه لا يعادل مجلس نواب البلغار مع الفارق الكبير بين البلدين وبين الشعبين وبين موارد كليهما ثم تطالب بتنقيح قانون المجلس القديم إن كان له قانون كما تقول هي، على أن يراعي في وضع قانونه ظروف الزمان والمكان كما ألحت في إطلاق حرية الصحافة وسن قانون لها ينظم أمورها1.

لم تستطع حكومة ولي العهد أن تواجه الحملة الصحفية بحزم مع أن الحكومة جمعت أصحاب "الجرانيل" وأكدت عليهم "بعدم درج شيء

1 الوطن في 5 أبريل عام 1879م.

ص: 88

في جرانيلهم مما يتعلق بمجلس الشورى والأجانب1. وليست الصحافة وحدها التي زلزلت الحكومة وطوحت بها، بل للخد ونفسه دخل في ذلك، ولمجلس شورى النواب نصيب غير منكور "فلم يعد هزؤء فقد أظهر أعضاؤه أدلة كثيرة على وجودهم واستقلالهم" كما تقول التيمس2، ولم يمهل بعض أعضاء المجلس والأعيان الوزارة فأخذوا يحضون الجماهير على السخط على الحكومة فدعى بسقوط رياض وغيره من الوزراء في المساجد والجوامع3 ثم اجتمعوا على هيئة "جمعية وطنية" ووضعوا مشروع تسوية مالية4 وطالبوا بتعديل نظام مجلس شورى النواب على غرار المجالس الأوربية5 وأقر الخديوي وجهة نظر الوطنيين ودعا شريف باشا إلى تأليف حكومة وطنية جديدة6.

1 الرافعي: عصر إسماعيل، ص213.

2 التيمس في 15 أبريل عام 1879م.

3 وثيقة رقم 105 ص65 " Blue Books 1879".

4 قال كاتب التجارة في العاصمة في 5 أبريل 1879 بعد أن تحدث عن الجمعية التي انعقدت في منزل راغب باشا "وبلغني أن جماعة من التجار وغيرهم وفيهم حضرة الفاضل أمين أفندي شميل نزعت بهم غيرتهم إلى تقرير أمر يحاولون به تخليص الوطن من أسر الدين في ظرف ثمانية وعشرين سنة وهو أنهم يفتتحون بنكًا وطنيًا يكون رأس ماله أربعة عشر مليونًا من الجنيهات تجمع من سار أفراد الأمة على أقساط ثلاثة أو أربعة".

ويقول في 17 أبريل ستكون إدارة البنك وطنية وسيعدل بنك انجلترا ويفوق بنك فرنسا بستة ملايين ومن فوائده:

أ- توطين الدين العام وبذلك تتقوى القراطيس المالية في السوق.

ب- حصول الحكومة والبنك على كوبنات عشرة ملايين من غير مقابلة.

ج- انتظام تجارة البلاد وزراعتها فيقبل الأهالي على المشروعات والشركات النافعة.

د- استهلاك مقدار وافر من ديون الحكومة وبذلك تتخلص البلاد من الاستعباد الأجنبي، ولمخترع الفكرة كما تقول التجارة مقالات أخرى سياسية واقتصادية هنا وهناك وهو أمين أفندي شميل.

5 التجارة في 27 أبريل عام 1879م.

6 الوقائع المصرية في 13 أبريل عام 1879م.

ص: 89