الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ، هذا أمر بالإنفاق لبعض من المال. قيل هو أمر إيجاب وأنه أراد، بذلك، الإنفاق الواجب وهو الزكاة. لأنه تعالى عقبه بالوعيد بقوله: وَالْكافِرُونَ إلخ، حيث عنى بهم مانعوها كما يأتي. وقال الأصمّ وأبو عليّ:
أراد النفقة في الجهاد. وقال أبو مسلم وابن جريج: أراد الفرض والنفل. وهو المتّجه.
وقوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ هو يوم القيامة لا بَيْعٌ فِيهِ، أي فتحصلون ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب وَلا خُلَّةٌ حتى يعينكم الأخلاء. الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] ، وَلا شَفاعَةٌ حتى تتكلوا على شفعاء: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109] .
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون وإيثاره عليه للتغليظ والتهديد. كما في قوله تعالى في آخر آية الحج وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران: 97]، مكان (ومن لم يحج) وللإيذان بأن ترك الزكاة من صفات الكفار. قال تعالى:
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6- 7] . ذكره الزمخشريّ.
ويحتمل أن يكون المعنى: والكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأموال في غير مواضعها. فلا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم في أن لا تنفقوا فتضعوا أموالكم في غير مواضعها. وفي هذه الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات، قبل فواتها بهجوم ما يخشى معه الفوت، من موت أو غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ أي الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء الْقَيُّومُ الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه، وقرئ القيام والقيم.
لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ تأكيد للقيوم. أي لا يغفل عن تدبير أمر الخلق تعالى وتقدس. والسنة (كعدة) والوسن (محركة وبهاء) والوسنة شدة النوم أو أوله، أو النعاس. كذا في القاموس.
قال المهايميّ: السنة فتور يتقدم النوم. والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء دماغه من رطوبات أبخرة متصاعدة تمنع الحواس الظاهرة عن الإحساس.
فهما منقصان للحياة منافيان للقيومية، لأنهما من التغيرات المنافية لوجوب الوجود الذي للقيوم. ونفي النوم أوّلا التزاما، ثم تصريحا، ليدل كمال نفيه على ثبوت كمال ما ينافيه. ومن كمال قيوميته اختصاصه بملك العلويات والسفليات المشار إليه بقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ من الملائكة والشمس والقمر والكواكب وَما فِي الْأَرْضِ من العوالم المشاهدات. وهذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه. كقوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم: 93- 94] . مَنْ ذَا من الأنبياء والملائكة، فضلا عما ادعى الكفار شفاعته من الأصنام الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ فضلا عن أن يقاومه أو يناصبه إِلَّا بِإِذْنِهِ أي بتمكينه تحقيقا للعبودية، كما قال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم: 26] . وكقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] . وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة. كما
في حديث الشفاعة «1» : «آتي تحت العرش فأخر ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني. ثم يقال: ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع، قال:
فيحدّ لي حدّا فأدخلهم الجنة» .
قال أبو العباس بن تيمية: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون. فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله ولم يبق إلا الشفاعة. فبيّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب. فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن.
وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده. لا يبدأ
(1) أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 19- باب قوله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
ومسلم في: الإيمان، حديث 322- 326.
وهو حديث طويل وجليل وعظيم الشأن، والسعيد من ظفر به وأحاط علما بما فيه.
بالشفاعة أولا. ثم يقال له: ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع. وقال «1» له أبو هريرة: «من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: لا إله إلّا الله خالصا من قلبه»
. فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله. ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك. ولهذا أثبتت الشفاعة بإذنه في مواضع. وقد بين النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما أتاهم علمه من أمر أنفسهم وغيرهم. لأن ما بين يدي المرء يحيط به حسّه. وما علمه أيضا. فكأنه بين يدي قلبه يحيط به علمه وَما خَلْفَهُمْ وهو ما لم ينله علمهم. لأن الخلف هو ما لا يناله الحسّ. فأنبأ أنّ علمه من وراء علمهم محيط بعلمهم فيما علموا وما لم يعلموا.
أفاده الحرّاليّ. فهذه الجملة كقوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الأنعام:
73] ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ أي لا يعلمون شيئا من معلوماته إلّا بما أراد أن يعلمهم به منها على ألسنة الرسل. كما قال تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26- 27] . أي ليكون ما يطلعه عليه من علم غيبه دليلا على نبوته. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المعنيّ بالكرسيّ العلم. وذلك لدلالة قوله تعالى:
وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما أي لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السموات والأرض. وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر: 7] ، فأخبر أن علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قال ابن جرير: وقول ابن عباس هذا يدل على صحة ظاهر القرآن لما ذكر. ولأن أصل الكرسيّ العلم. ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب: كراسة. ومنه قول الراجز في صفة قانص حتى إذا ما احتازها تكرّسا يعني علم، ومنه يقال للعلماء: الكراسيّ. لأنهم المعتمد عليهم. كما يقال:
أوتاد الأرض. يعني أنهم الذي تصلح بهم الأرض. ومنه قول الشاعر:
(1)
أخرجه البخاريّ في: العلم، 33- باب الحرص على الحديث ونصه: عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد ظننت يا أبا هريرة، أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه»
.