الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أول الآية وَلَكُمْ وفيها لطيفة: وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم..! انتهى.
وقوله تعالى يا أُولِي الْأَلْبابِ المراد به: العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف. فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعدائهم، وعلموا أنهم يطالبون بالقود، صار ذلك رادعا لهم. لأنّ العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه. فإذا خاف ذلك كان خوفه سببا للكفّ والامتناع..! إلا أنّ هذا الخوف إنما يتولّد من الفكر الذي ذكرناه، ممّن له عقل يهديه إلى هذا الفكر. فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر، لا يحصل له هذا الخوف..! فلهذا السبب خصّ الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب، ثمّ علّل ذلك بقوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي: الله تعالى بالانقياد لما شرع، فتتحامون القتل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 180]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ أي: فرض، كما استفاض في الشرع إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي أمارته وهو المرض المخوف إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالا ينبغي أن يوصي فيه، وقد أطلق في القرآن الخير وأريد به المال في آيات كثيرة: منها هذه، ومنها قوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة: 272]، ومنها: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8]، ومنها: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:
24] . إلى غيرها. وإنما سمّى المال خيرا تنبيها على معنى لطيف: وهو أنّ المال الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعا من وجه محمود..! كما أنّ في التسمية إشارة إلى كثرته، كما قال بعضهم: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طيّب..!
وقد روى ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه: أنّ عليّا رضي الله عنه دخل على رجل من قومه يعوده، فقال له: أوصي؟ فقال له عليّ: إنما قال الله إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ. إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لولدك.!
وروى الحاكم عن ابن عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا! وقال طاوس: لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا. وقال قتادة: كان يقال: ألفا فما فوقها.
ومنه يعلم أن لا تحديد للكثرة المفهومة، وأنّ مردّها للعرف لاختلاف أحوال الزمان والمكان.
ثم ذكر نائب فاعل (كتب) بعد أن اشتد التشوّف إليه، فقال الْوَصِيَّةُ وتذكير الفعل الرافع لها: إمّا لأنه أريد بالوصية الإيصاء، ولذلك ذكّر الضمير في قوله فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ وإمّا للفصل بين الفعل ونائبه، لأنّ الكلام لما طال، كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث. وقوله لِلْوالِدَيْنِ بدأ بهما لشرفهما وعظم حقّهما وَالْأَقْرَبِينَ من عداهما من جميع القرابات بِالْمَعْرُوفِ وهو ما تتقبله الأنفس ولا تجد منه تكرّها.
وفي الصحيحين «1» : أنّ سعدا قال: يا رسول الله، إنّ لي مالا ولا يرثني إلّا ابنة لي. أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: لا..! قال: فبالشطر؟ قال لا..! قال: فالثلث؟ قال الثلث، والثلث كثير، إنّك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس!
وفي صحيح البخاري «2» أن ابن عباس قال: لو أنّ الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير..!
وروى الإمام أحمد «3» عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة: سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة أنّ جدّه أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل، فشقّ ذلك على بنيه، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حنيفة: إنّي أوصيت
(1)
أخرجه البخاريّ في: الجنائز، 36- باب رثي النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة ونصه: عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي. فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة. أفأتصدق بثلثي مالي؟
قال «لا» فقلت: بالشطر؟ فقال «لا» ثم قال «الثلث، والثلث كبير (أو كثير) إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك» فقلت: يا رسول الله! أخلّف بعد أصحابي؟ قال: «إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة. ثم لعلك أن تخلّف حتى ينتفع بك أقوام ويضرّ بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم»
. لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن مات بمكة.
وأخرجه مسلم في: الوصية، حديث 5.
(2)
أخرجه البخاريّ في: الوصايا، 3- باب الوصية بالثلث. ومسلم في: الوصية، حديث 10.
(3)
أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده بالجزء الخامس صفحة 67: وهاكم الحديث بطوله بنصه: عن ذيال بن عتبة بن حنظلة قال: سمعت حنظلة بن جذيم، جدي، أن جده حنيفة قال لجذيم: اجمع لي بنيّ فإني أريد أن أوصي. فجمعهم فقال: إن أول ما أوصي أن ليتمي هذا الذي في حجري مائة من الإبل، التي كما نسميها في الجاهلية المطيبة. فقال جذيم: يا أبت! إني