الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي الآية إشعار بأنكم أحقّ بأن لا تزالوا تقاتلونهم. لأنهم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون، وأنهم على الباطل وهم مخذولون، ولا بدّ وإن طال المدى.
لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم. ومن وكل إلى نفسه ضاع. فالأمر الذي بينكم وبينهم أشدّ من الكلام. فينبغي الاستعداد له بعدّته، والتأهّب له بأهبته، فضلا عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعنا في الدين، وصدّا عن السبيل. أشار لذلك البقاعي. ثم حذّر تعالى عن الارتداد بقوله: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ وهو الإسلام. وبناء صيغة الافتعال من الردّة المؤذنة بالتكلف، إشارة إلى أنّ من باشر دين الحقّ يبعد أن يرجع عنه، فهو متكلف في ذلك فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي: بطلت جميع مساعيهم النافعة لهم، وردّت فِي الدُّنْيا- إذ يرفع الأمان عن أموالهم وأهلهم- وَالْآخِرَةِ- إذ يسقط ثوابهم فلا يجزون ثمّة بحسناتهم وَلا يقتصر عليه بل أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي: أهل النار هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون لا يموتون ولا يخرجون كسائر الكفّار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 218]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بحرمة الشهر في نفسه وجواز قتال المخرجين أهل المسجد الحرام منه وَالَّذِينَ هاجَرُوا فتركوا مكة وعشائرهم إذ أخرجوا من المسجد الحرام وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولو في الشهر الحرام للدفع عن أنفسهم أُولئِكَ وإن باشروا القتال في الشهر الحرام يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أي: جنّته على إيمانهم وهجرتهم وجهادهم. وإنما ثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجوّ للإيذان بأنهم عالمون بأنّ العمل غير موجب للأجر، وإنما هو على طريق التفضّل منه سبحانه، لا لأنّ في فوزهم اشتباها وَاللَّهُ غَفُورٌ لهتكهم حرمة الشهر رَحِيمٌ بما تجاوز عن قتالهم، مع قيام دليل الحرمة فلم يعاقبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 219]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ هذه الآية أول آية نزلت في الخمر، على ما
قاله ابن عمر والشعبيّ ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ثم نزلت الآية في المائدة.
وروى الإمام أحمد «1» وأبو داود «2» والترمذي «3» عن عمر أنّه قال- لمّا نزل تحريم الخمر: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا! فنزلت هذه الآية التي في البقرة:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
…
الآية. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة- نادى أن: لا يقربنّ الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال عمر: انتهينا انتهينا.
وحقيقة الخمر ما أسكر من كلّ شيء
روى (الشيخان) عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «4» : كل مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يد منها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة.
وأما الميسر فهو القمار- بكسر القاف- مصدر من يسر- كالموعد والمرجع من فعلهما يقال: يسرته إذا قمرته، واشتقاقه من (اليسر) لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كدّ ولا تعب، أو من (اليسار) لأنه سلب يساره.
وصفته: أنه كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام والأقلام وهي:
(الفذّ، والتوأم، والرقيب، والحلس- بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وككتف- والنافس، والمسبل- كمحسن- والمعلّى- كمعظّم-، والمنيح- كأمير، والسّفيح- بوزن ما قبله- والوغد) لكلّ واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزّئونها عشرة أجزاء (كما قاله أبو عمر) أو ثمانية وعشرين جزءا (كما قاله الأصمعيّ) وهو الأكثر، إلا ثلاثة منها وهي (المنيح والسفيح والوغد) فلا أنصباء لها. وإنما يكثر بها القداح كراهة التهمة. ولبعضهم:
(1) أخرجه أحمد في المسند. 1/ 53 حديث 378.
(2)
أخرجه أبو داود في: الأشربة، 1- باب في تحريم الخمر، حديث 3670.
(3)
أخرجه الترمذيّ في: التفسير، 5- سورة المائدة، 8- باب حدثنا عبد بن حميد.
(4)
أخرجه مسلم في: الأشربة، حديث 73. ولم يخرجه البخاريّ عن ابن عمر.
لي في الدنيا سهام
…
ليس فيهن ربيح
وأساميهن: وغد
…
وسفيح ومنيح
فللفذّ سهم- أي: فرض واحد- وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلّى سبعة يجعلونها في الرّبابة (وهي خريطة) ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج. باسم رجل رجل، قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم (بفتحتين) كذا في (الكشاف) بزيادة.
وفي (القاموس وشرحه) : (الميسر) اللعب بالقداح، أو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها. كانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزورا نسيئة ونحروه وقسموه ثمانية وعشرين قسما أو عشرة أقسام فإذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل ظهر فوز من خرج لهم ذوات الأنصباء وغرم من خرج له الغفل. وإنما سمي الجزور ميسرا لأنه يجزّأ أجزاء. وكلّ شيء جزأته فقد يسرته ويسرت الناقة جزأت لحمها، ويسر القوم الجزور أي: اجتزروها واقتسموا أجزاءها. قال سحيم بن وثيل اليربوعيّ:
أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني
…
ألم تعلموا أنّي ابن فارس زهدم
كان وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام. وقوله (ييسرونني) هو من الميسر، أي: يجزونني ويقتسمونني. وقال لبيد:
واعفف عن الجارات وامنحهنّ ميسرك السمينا! فجعل الجزور نفسه ميسرا. ونقل الصاغاني، أن الميسر النرد. وقال مجاهد:
كلّ شيء فيه قمار فهو من الميسر. حتى لعب الصبيان بالجوز.
قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ أي: عظيم- وقرئ بالمثلثة- وذلك لما فيهما من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع. من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ دنيوية من اللذة والطرب والتجارة في الخمر. وإصابة المال بلا كدّ في الميسر. وفي تقديم بيان إثمه، ووصفه بالكبر، وتأخير ذكر منافعه مع تخصيصها بالناس، من الدلالة على غلبة الأول- ما لا يخفى على ما نطق به قوله تعالى: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي: المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من