الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 187]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إرشاد إلى ما شرعه في الصوم- بعد بيان إيجابه على من وجب عليه، وحاله معه حضرا أو سفرا، وعدّته- من إحلال غشيان الزوج ليلا. وكأنّ الصحابة تحرّجوا عن ذلك ظنّا أنّه من تتمّة الصوم، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عنه، فبيّن لهم أن ذلك حلال لا حرج فيه.
وقد روى البخاريّ «1» عن البراء رضي الله عنه قال: لمّا نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ.
إيذانا بأنه أحلّه ولم يحرّمه، إذ لم يشرع من فضله ما فيه إعنات وحرج.
و (الرفث) أصله قول الفحش. وكنى به هنا عن الجماع وما يتبعه. كما كنى عنه في قوله: فَلَمَّا تَغَشَّاها [الأعراف: 189]، وقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ [البقرة:
223] . فالله تعالى كريم يكني، وإيثار الكناية عنه- هنا- بلفظ الرفث الدال على معنى القبح- عدا بقية الآيات- استهجانا لما وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختيانا لأنفسهم. والكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه من سنن العرب.
وللثعالبيّ في آخر كتابه (فقه اللغة) فصل في ذلك بديع.
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، 2- سورة البقرة، 27- باب أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
ثم إنّ المستعمل الشائع: رفث بالمرأة- بالباء- وإنما عدي هنا ب (إلى) لتضمنه معنى الإفضاء، كما في قوله: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ [النساء:
21] .
هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ قال الراغب: جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه سترا لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السّوأة. وعلى ذلك كنى عن المرأة بالإزار، وسمّي النكاح حصنا لكونه حصنا لذويه عن تعاطي القبيح.
وهذا ألطف من قول بعضهم: شبّه كل واحد من الزوجين- لاشتماله على صاحبه في العناق والضمّ- باللباس المشتمل على لابسه، وفيه قال الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها
…
تثنّت فكانت عليه لباسا
وقال الزمخشريّ: فإن قلت: ما موقع قوله: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة، قلّ صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهنّ فلذلك رخّص لكم في مباشرتهنّ.
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ استئناف آخر مبين لما ذكر من السبب وهو (اختيان النفس)، أي: قلة تصبيرها من نزوعها إلى رغيبتها. ومنه: خانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي. أي: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يحلّ لكم ذلك فأحلّه رحمة بكم ولطفا، وفي (الاختيان) وجه آخر وهو: أنّه عنى به مخالفة الحقّ بنقض العهد، أي: كنتم تظلمونها بذلك- بتعريضها للعقاب- لو لم يحلّ ذلك لكم. قالوا: والاختيان أبلغ من الخيانة- كالاكتساب من الكسب- ففيه زيادة وشدّة.
ثمّ أشار تعالى إلى لطفه بالمؤمنين بتخفيفه ما كان يغلّهم ويثقلهم ويخونهم لولا رحمته، بقوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ أي: عاد بفضله وتيسيره عليكم برفع الحرج في الرفث ليلا وَعَفا عَنْكُمْ أي: جاوز عنكم تحريمه، ف (العفو) بمعنى التوسعة والتخفيف. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ قال أبو البقاء: حقيقة (الآن) الوقت الذي أنت فيه وقد يقع على الماضي القريب منك، وعلى المستقبل القريب وقوعه. تنزيلا للقريب منزلة الحاضر وهو المراد- هنا- لأنّ قوله فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ أي: فالوقت الذي كان يحرم عليكم الجماع فيه من الليل قد أبحناه لكم فيه فعلى هذا (الآن) ظرف
ل (فباشروهنّ) . وقيل: الكلام محمول على المعنى، والتقدير: فالآن قد أبحنا لكم أن تباشروهنّ. ودلّ على المحذوف لفظ الأمر الذي يراد به الإباحة. فعلى هذا، (الآن) على حقيقته.
وأصل (المباشرة) إلصاق البشرة بالبشرة. كني بها عن الجماع الذي يستلزمها وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ تأكيد لما قبله، أي: ابتغوا هذه الرخصة التي أحلّها لكم.
و (كتب) هنا، إمّا بمعنى جعل كقوله كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة:
22] ، أي: جعل، وقوله فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53] ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156] ، أي: أجعلها. أو بمعنى قضى، كقوله: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا [التوبة: 51]، أي: قضاه، وقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21]، وقوله: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ [آل عمران: 154]، أي: قضي.
قال الراغب: في الآية إشارة في تحرّي النكاح إلى لطيفة. وهي: أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإنسان إلى غاية! كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية! فحقّ الإنسان أن يتحرّى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والديانة. فمتى تحرّى به حفظ النفس وحصن النفس على الوجه المشروع، فقد ابتغى ما كتب الله له. وإلى هذا أشار من قال: عنى الولد.
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ أباح تعالى الأكل والشرب- مع ما تقدّم من إباحة الجماع- في أيّ الليل شاء الصائم إلى أن يتبيّن ضياء الصباح من سواد الليل. وشبّها بخيطين: أبيض وأسود، لأنّ أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتدّ معه من غبش الليل، كالخيط الممدود.
قال أبو دؤاد الإياديّ:
فلما أضاءت لنا سدفة
…
ولاح من الصبح خيط أنارا..!
وقوله مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض. واكتفى به عن بيان الخيط الأسود، لأن بيان أحدهما بيان للثاني. وقد رفع بهذا البيان الالتباس الذي وقع أول أمر الصيام. كما روى الشيخان «1» وغيرهما عن سهل بن سعد قال: أنزلت وَكُلُوا
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، 2- سورة البقرة، 28- باب قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ- إلى قوله-: يَتَّقُونَ، حديث 975.
وأخرجه مسلم في: الصيام، حديث 35 (طبعتنا) .
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبيّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعده مِنَ الْفَجْرِ فعلموا إنما يعني الليل والنهار. ورويا أيضا «1» -
واللفظ لمسلم- عن عدّي بن حاتم قال: لما نزلت حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ قال له عديّ: يا رسول الله! إنّي أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن وسادك لعريض. إنما هو سواد الليل وبياض النهار..!.
قال ابن كثير: ومعنى قوله: إن وسادك لعريض أي: إن كان يسع تحته الخيطين المرادين من هذه الآية فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب..! وجاء في بعض هذه الألفاظ: إنك لعريض القفا. ففسّره بعضهم بالبلادة- وهو ضعيف- بل يرجع إلى هذا لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض، والله أعلم. انتهى.
وفي الإتيان بلفظ التفعّل في قوله تعالى حَتَّى يَتَبَيَّنَ
…
إشعار بأنه لا يكفي إلّا التبيّن الواضح لا تباشير الضوء.
وقد روى مسلم «2» عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يغرّنّكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا. وحكاه حماد بيديه، قال: يعني معترضا.
وفي لفظ آخر عنه: لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر- أو قال: - حتى ينفجر الفجر.
وروى الإمام أحمد «3» عن قيس بن طلق عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس الفجر المستطيل في الأفق. ولكنه المعترض الأحمر.
ورواه الترمذيّ «4» بلفظ: كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر
. قال: وفي الباب عن عديّ بن حاتم وأبي ذرّ وسمرة. ثم قال: حديث طلق بن عليّ حديث حسن غريب من هذا الوجه، والعمل على هذا- عند أهل العلم- أنّه لا يحرم على الصائم الأكل والشرب حتى يكون الفجر الأحمر المعترض، وبه يقول أهل العلم.
انتهى.
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، 2- سورة البقرة، 28- باب قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
…
إلخ، حديث 974.
وأخرجه مسلم في: الصيام، حديث 61.
(2)
أخرجه مسلم في: الصيام، حديث 41- 43 (طبعتنا) .
(3)
أخرجه في المسند بالجزء الرابع، صفحة 23 (طبعة الحلبيّ) .
(4)
أخرجه الترمذيّ في: الصوم، 15- باب ما جاء في بيان الفجر.
قال بعضهم: المراد بالأحمر الأبيض، كما فسّر به
حديث «1»
وقال شمر: سموا الأبيض أحمر تطيّرا بالأبرص، حكاه عن أبي عمرو بن العلاء. ويظهر أنّه لا حاجة إلى هذا، فإنّ طلوع الفجر يصحبه حمرة. وفي (القاموس) الفجر ضوء الصباح، وهو حمرة الشمس في سواد الليل. فافهم.
وقال الحافظ عبد الرزاق في (مصنّفه) : أخبرنا ابن جريج عن عطاء: سمعت ابن عباس يقول: هما فجران، فأمّا الذي يسطع في السماء فليس يحلّ ولا يحرّم شيئا، لكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب!. وقال عطاء:
فأما إذا سطع سطوعا في السماء- وسطوعه أن يذهب في السماء طولا- فإنه لا يحرم به شراب للصائم، ولا صلاة، لا يفوت به الحجّ. ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام، وفات الحجّ.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء. وهكذا روي عن غير واحد من السلف. رحمهم الله..! انتهى.
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ أي: صرم كلّ يوم إِلَى اللَّيْلِ أي: إلى ظهور الظلمة من قبل المشرق وذلك بغروب الشمس. وكلمة (إلى) تفيد أنّ الإفطار عند غروب الشمس. كما جاء
في (الصحيحين)«2» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم.
قال ابن القيّم: أي أفطر حكما وإن لم ينوه. أو دخل في وقت فطره، كما في:
أصبح وأمسى.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجل الفطر ويحضّ عليه، كما
في (الصحيحين)«3» : لا يزال
(1)
أخرجه الدارميّ في: السير، 28- باب الغنيمة لا تحل لأحد قبلنا. ونصه: عن أبي ذرّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعطيت خمسا لم يعطهن نبيّ قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلّت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، ونصرت بالرعب شهرا، يرعب مني العدوّ مسيرة شهر، وقيل لي، سل تعطه، فاختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم، إن شاء الله تعالى، من لا يشرك بالله شيئا
. (2) أخرجه البخاريّ في: الصوم، 43- باب متى يحلّ فطر الصائم.
ومسلم في: الصيام، حديث 51 (طبعتنا) ونصه: إذ أقبل الليل، وأدبر النهار، وغابت الشمس، فقد أفطر الصائم. [.....]
(3)
أخرجه البخاريّ في: الصوم، 45- باب تعجيل الإفطار، عن سهل بن سعد.
ومسلم في: الصيام، حديث 48.
الناس بخير ما عجلوا الفطر.
وروى الإمام أحمد «1» عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: إنّ أحبّ عبادي إليّ أعجلهم فطرا. ورواه الترمذيّ
وقال: حديث حسن غريب.
وعن أنس بن مالك «2» قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر، قبل أن يصلّي، على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء. رواه الترمذيّ.
وقال: حسن غريب.
وروى الإمام أحمد «3» عن ليلى، امرأة بشير بن الخصاصية، قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله ثمّ أتمّوا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا.
ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة، النهي عن الوصال. وهو أن يصل يوما بيوم ولا يأكل بينهما شيئا.
ففي (الصحيحين)«4» عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تواصلوا..! قالوا: إنك تواصل، قال: لست كأحد منكم، إنّي أطعم وأسقى- أو إنّي أبيت أطعم وأسقى.
قال الترمذيّ: وفي الباب عن عليّ، وأبي هريرة، وعائشة وابن عمر، وجابر، وأبي سعيد، وبشير بن الخصاصية. أي: فالنهي عنه قد ثبت من غير وجه. نعم! من أحبّ أن يواصل إلى السحر فله ذلك، كما
في حديث «5» أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تواصلوا. فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر، قالوا: فإنّك تواصل يا رسول الله. قال: لست كهيئتكم.
إنّي أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني. أخرجاه في (الصحيحين) .
والمراد
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 2/ 238. والترمذيّ في: الصيام، 13- باب ما جاء في تعجيل الإفطار.
(2)
أخرجه الترمذيّ في: الصيام، 10- باب ما جاء في ما يستحب عليه الإفطار.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده صفحة 225 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي) .
(4)
أخرجه البخاريّ في: الصوم، 48- باب الوصال.
ومسلم في: الصيام، حديث 60 (طبعتنا) ونصه: عن أنس قال: واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان. فواصل ناس من المسلمين. فبلغه ذلك. فقال «لو مدّ الشهر لواصلنا وصالا. يدع المتعمقون تعمقهم. إنكم لستم مثلي. (أو قال: إني لست مثلكم) إني أظل يطعمني ربي ويسقيني.
(5)
أخرجه البخاريّ في: الصوم، 48- باب الوصال ونصه: إنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تواصلوا.
فأيكم إذا أراد أن يواصل، فليواصل حتى السحر» قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال «إني لست كهيئتكم. إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقين» .
بهذا الطعام والشراب، ما يغذّيه الله به من المعارف، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته، وقرة عينه بقربه، وتنعّمه بحبّه، والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب، ونعيم الأرواح، وقرّة العين، وبهجة النفوس والروح والقلب. بما هو أعظم غذاء، وأجوده، وأنفعه. وقد يقوي هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدّة من الزمان.
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيوانيّ. ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرّت عينه بمحبوبه، وتنعّم بقربه والرضاء عنه. وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كلّ وقت. ومحبوبه حفيّ به، معتزّ بأمره، مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له.
أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحبّ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجلّ منه، ولا أعظم، ولا أجمل، ولا أكمل، ولا أعظم إحسانا، إذا امتلأ قلب المحبّ بحبّه، وملك حبّه جميع أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكّن حبه منه أعظم تمكّن؟ وهذا حاله مع حبيبه. أفليس هذا المحبّ عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا؟ ولهذا قال:
إنّي أظلّ عند ربي يطعمني ويسقيني. ولو كان ذلك طعاما وشرابا للفم- كما قيل- لما كان صائما. فضلا عن كونه مواصلا. كذا في (زاد المعاد) .
وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة. وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم. لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة والله أعلم.
قال ابن كثير: ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاديّ من باب الشفقة. كما جاء في حديث عائشة «1» : رحمة لهم. فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشّمون ذلك ويفعلونه. لأنهم كانوا يجدون قوة عليه.
وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غيره. فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضي اعتكافه. وقال الضحاك: كان الرجل إذا
(1)
أخرجه البخاريّ في: الصوم، 48- باب الوصال، عن عائشة: قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، رحمة لهم. فقالوا: إنك تواصل؟ قال «إني لست كهيئتكم. إنى يطعمني ربي ويسقين» .
وأخرجه مسلم في: الصيام، حديث 61.