الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعمل والهدى، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والأفعال والهيئات ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره. وأيضا فإنه يورث من الوقاحة والجراءة ما لا يورثه سواه. وأيضا فإنه يورث من المهانة والسّفال والحقارة ما لا يورثه غيره. وأيضا فإنه يكسو العبد من حلّة المقت والبغضاء وازدراء الناس له، واحتقارهم إياه، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحسّ. فصلوات الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به. وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به.
ولما اشتملت هذه الآية على الإذن في قضاء الشهوة، نبّه على أن لا يكون المرء في قيدها بل في قيد الطاعة، فقال تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، أي: ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة لتنالوا به الجنة والكرامة، كقوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تجترئوا على المعاصي وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ صائرون إليه فاستعدّوا للقائه وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالثواب. وإنما حذف لكونه كالمعلوم، فصار كقوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 224]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، (العرضة) بضم العين فعلة بمعنى مفعول- كالقبضة والغرفة- وهي اسم ما تعرضه دون الشيء. من عرض العود على الإناء. فيعترض دونه ويصير حاجزا ومانعا منه، تقول: فلان عرضة دون الخير. وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات- من صلة رحم، أو إصلاح ذات بين، أو إحسان إلى أحد- ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني. فيترك البرّ إرادة البرّ في يمينه. فقيل لهم: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ، أي: حاجزا لما حلفتم عليه. وسمّي المحلف عليه يمينا لتلبّسه باليمين. كحديث: من حلف على يمين. الآتي ذكره. أي: على شيء مما يحلف عليه. وقوله: أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا، عطف بيان لِأَيْمانِكُمْ، أي: للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس- أفاده الزمخشريّ.
وعلى هذا التأويل: الآية. كقوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ
أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
[النور: 22] . والمعنى المتقدم في الآية اتفق عليه جمهور السلف. ورواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفّر عن يمينك واصنع الخير.
وقد ثبت في (الصحيحين)«1» عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني، والله! إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الذي هو خير وتحلّلتها» .
وروى مسلم «2» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفّر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» .
وفي الآية وجه آخر ذكره كثير من المفسّرين. وهو النهي عن الجراءة على الله تعالى بكثرة الحلف به. وذلك لأنّ من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له. يقول الرجل: قد جعلتني عرضة للومك. وقال الشاعر:
ولا تجعليني عرضة للوائم وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم: 10] . وقال تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ [المائدة: 89] . والعرب كانوا يمدحون المرء بالإقلال من الحلف كما قال كثيّر:
قليل الألايا حافظ ليمينه
…
وإن سبقت منه الألية برّت
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان: أنّ من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك. ولا يبقى لليمين في قلبه وقع. فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة. فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين. وأيضا، كلّما كان الإنسان أكثر
(1)
أخرجه البخاريّ في: فرض الخمس، 15- باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، حديث 1471 ونصه: عن زهدم قال: كنا عند أبي موسى. فأتى ذكر دجاجة. وعنده رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي. فدعاه للطعام. فقال: إني رأيته يأكل كل شيئا فقذرته فحلفت لا آكل. فقال: هلم فلأحدثكم عن ذاك: إني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر الأشعريين نستحمله. فقال «والله! لا أحملكم. وما عندي ما أحملكم» وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل.
فسأل عنا. فقال «أين النفر الأشعريون؟» فأمر لنا بخمس ذود غرّ الذرى. فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا. فرجعنا إليه فقلنا: إنا سألناك أن تحملنا فحلفت أن لا تحملنا. أفنسيت؟ قال «لست أنا حملتكم. ولكن الله حملكم. وإني، والله! إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها» .
وأخرجه مسلم في: الأيمان، حديث 7
. (2) أخرجه في: الأيمان، حديث 12 و 13 و 14.