الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الفرقان (25): آية 61]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أَيْ مَنَازِلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1» ذِكْرُهَا. (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الشَّمْسَ، نَظِيرُهُ،" وَجَعَلَ الشَّمْسَ «2» سِراجاً". وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ:" سِراجاً" بِالتَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:" سُرُجًا" يُرِيدُونَ النُّجُومَ الْعِظَامَ الْوَقَّادَةَ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ أَنَّ السُّرُجَ النُّجُومُ، وَأَنَّ الْبُرُوجَ النُّجُومُ، فَيَجِيءُ الْمَعْنَى نُجُومًا وَنُجُومًا. النَّحَّاسُ: وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ لَهُمْ أَنَّ أَبَانَ بْنَ تَغْلِبَ قَالَ: السُّرُجُ النُّجُومُ الدَّرَارِيُّ. الثَّعْلَبِيُّ: كَالزَّهْرَةِ وَالْمُشْتَرَى وَزُحَلَ وَالسِّمَاكَيْنِ وَنَحْوِهَا. (وَقَمَراً مُنِيراً) يُنِيرُ الْأَرْضَ إِذَا طَلَعَ. وَرَوَى عِصْمَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ" وَقُمْرًا" بِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ. وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَهُوَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتِهِ قَالَ: لَا تَكْتُبُوا مَا يَحْكِيهِ عِصْمَةُ الَّذِي يَرْوِي الْقِرَاءَاتِ، وَقَدْ أُولِعَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ بِذِكْرِ مَا يَرْوِيهِ عصمة هذا.
[سورة الفرقان (25): آية 62]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" خِلْفَةً" قَالَ أبو عبيدة: الخلفة كل شي بعد شي. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يُخْلِفُ صَاحِبَهُ. وَيُقَالُ لِلْمَبْطُونِ: أَصَابَتْهُ خِلْفَةٌ، أَيْ قِيَامٌ وَقُعُودٌ يَخْلُفُ هَذَا ذَاكَ. وَمِنْهُ خِلْفَةُ النَّبَاتِ، وَهُوَ وَرَقٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْوَرَقِ الْأَوَّلِ فِي الصَّيْفِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً
…
وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ من كل مجثم «3»
(1). راجع ج 10 ص 9.
(2)
. راجع ج 19 ص 305.
(3)
. العين (بالكسر) جمع أعين وعينا، وهى بقر الوحش، سمية بذلك لسعة أعينها. والاطلاء: جمع طلا، وهو ولد البقرة وولد الظبية الصغير. والمجثم: الموضع الذي يجثم فيه، أي يقام فيه.
الريم ولد الظبى جمعه آرَامٌ، يَقُولُ: إِذَا ذَهَبَ فَوْجٌ جَاءَ فَوْجٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ «1» يَصِفُ امْرَأَةً تَنْتَقِلُ مِنْ مَنْزِلٍ فِي الشِّتَاءِ إِلَى مَنْزِلٍ فِي الصَّيْفِ دَأْبًا:
وَلَهَا بِالْمَاطِرُونَ إِذَا
…
أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا
خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ
…
سَكَنَتْ مِنْ جَلَّقٍ بِيَعَا
فِي بُيُوتٍ وَسْطَ دَسْكَرَةٍ
…
حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا
قَالَ مُجَاهِدٌ:" خِلْفَةً" مِنَ الْخِلَافِ، هَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا أَسْوَدُ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى. وَقِيلَ: يَتَعَاقَبَانِ فِي الضِّيَاءِ وَالظَّلَّامِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ذَوِي خِلْفَةٍ، أَيِ اخْتِلَافٍ. (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) أَيْ يَتَذَكَّرُ، فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْهُ كَذَلِكَ عَبَثًا فَيَعْتَبِرُ فِي مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ، وَيَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالْفَهْمِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: مَعْنَاهُ من فاته شي مِنَ الْخَيْرِ بِاللَّيْلِ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ. وَفِي الصَّحِيحِ:" مَا مِنِ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِاللَّيْلِ فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ فَيُصَلِّي مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً". وَرَوَى مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَامَ عن حزبه أو عن شي مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ". الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: سَمِعْتُ ذَا الشَّهِيدِ الْأَكْبَرَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَبْدَ حَيًّا عَالِمًا، وَبِذَلِكَ كَمَالُهُ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ آفَةَ النَّوْمِ وَضَرُورَةَ الْحَدَثِ وَنُقْصَانَ الْخِلْقَةِ، إِذِ الْكَمَالُ لِلْأَوَّلِ الْخَالِقِ، فَمَا أَمْكَنَ الرَّجُلَ مِنْ دَفْعِ النَّوْمِ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ وَالسَّهَرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ. وَمِنَ الْغَبْنِ الْعَظِيمِ أَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ سِتِّينَ سَنَةً يَنَامُ لَيْلَهَا فَيَذْهَبُ النِّصْفُ مِنْ عُمْرِهِ لَغْوًا، وَيَنَامُ سُدُسُ النَّهَارِ رَاحَةً فَيَذْهَبُ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى لَهُ مِنَ الْعُمُرِ عِشْرُونَ سَنَةً، وَمِنَ الْجَهَالَةِ وَالسَّفَاهَةِ أَنْ يُتْلِفَ الرَّجُلُ ثُلُثَيْ عُمْرِهِ فِي لَذَّةٍ فَانِيَةٍ، وَلَا يُتْلِفُ عُمْرَهُ بِسَهَرٍ فِي لَذَّةٍ بَاقِيَةٍ عِنْدَ الْغَنِيِّ الْوَفِيِّ الذي ليس بعديم ولا ظلوم.
(1). هو يزيد بن معاوية. والماطرون: موضع بالشام قرب دمشق.