المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الشعراء (26): الآيات 52 الى 68] - تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن - جـ ١٣

[القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الفرقان

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 7 الى 8]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 9 الى 10]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 11 الى 14]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 15 الى 16]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 17 الى 19]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 20]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 21 الى 22]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 23 الى 24]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 25 الى 26]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 27 الى 29]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 30 الى 31]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 32 الى 33]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 34]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 35 الى 36]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 37]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 38]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 39]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 40]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 41 الى 42]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 43]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 44]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 45 الى 46]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 47]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 48]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 49]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 50]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 51 الى 52]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 53]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 54]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 55]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 56 الى 57]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 58]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 59]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 60]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 61]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 62]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 63]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 64]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 65 الى 66]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 67]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 68 الى 69]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 70]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 71]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 72]

- ‌[سورة الفرقان (25): آية 73]

- ‌[سورة الفرقان (25): الآيات 74 الى 77]

- ‌سورة الشعراء

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 1 الى 9]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 10 الى 15]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 16 الى 22]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 23 الى 51]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 52 الى 68]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 69 الى 77]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 78 الى 82]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 83 الى 89]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 90 الى 104]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 105 الى 122]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 123 الى 140]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 141 الى 159]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 160 الى 175]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 176 الى 191]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 192 الى 196]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 197 الى 203]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 204 الى 209]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 210 الى 213]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 214 الى 220]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 221 الى 223]

- ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 224 الى 227]

- ‌سورة النمل

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 7 الى 14]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 15 الى 16]

- ‌[سورة النمل (27): آية 17]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 18 الى 19]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 20 الى 28]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 29 الى 31]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 32 الى 34]

- ‌[سورة النمل (27): آية 35]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 36 الى 40]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 41 الى 43]

- ‌[سورة النمل (27): آية 44]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 45 الى 47]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 48 الى 49]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 50 الى 53]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 54 الى 61]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 62 الى 64]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 65 الى 66]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 67 الى 68]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 69 الى 71]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 72 الى 75]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 76 الى 81]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 82 الى 86]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 87 الى 90]

- ‌[سورة النمل (27): الآيات 91 الى 93]

- ‌سورة القصص

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 7 الى 9]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 10 الى 14]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 15 الى 19]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 20 الى 22]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 23 الى 28]

- ‌[سورة القصص (28): آية 29]

- ‌[سورة القصص (28): آية 30]

- ‌[سورة القصص (28): آية 31]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 32 الى 35]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 36 الى 42]

- ‌[سورة القصص (28): آية 43]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 44 الى 45]

- ‌[سورة القصص (28): آية 46]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 47 الى 48]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 49 الى 51]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 52 الى 53]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 54 الى 55]

- ‌[سورة القصص (28): آية 56]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 57 الى 58]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 59 الى 61]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 62 الى 67]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 68 الى 70]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 71 الى 73]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 74 الى 75]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 76 الى 77]

- ‌[سورة القصص (28): آية 78]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 79 الى 80]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 81 الى 82]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 83 الى 84]

- ‌[سورة القصص (28): الآيات 85 الى 88]

- ‌سورة العنكبوت

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 4 الى 7]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 8 الى 9]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 10 الى 11]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 12 الى 13]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 14 الى 15]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 16 الى 19]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 20 الى 25]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 26 الى 27]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 28 الى 35]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 36 الى 37]

- ‌[سورة العنكبوت (29): آية 38]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 41 الى 43]

- ‌[سورة العنكبوت (29): آية 44]

- ‌[سورة العنكبوت (29): آية 45]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 46 الى 47]

- ‌[سورة العنكبوت (29): آية 48]

- ‌[سورة العنكبوت (29): آية 49]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 50 الى 52]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 53 الى 55]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 56 الى 60]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 61 الى 62]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 63 الى 64]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 65 الى 66]

- ‌[سورة العنكبوت (29): الآيات 67 الى 68]

- ‌[سورة العنكبوت (29): آية 69]

الفصل: ‌[سورة الشعراء (26): الآيات 52 الى 68]

[سورة الشعراء (26): الآيات 52 الى 68]

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)

فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)

قالَ كَلَاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) لَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ إِنْجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ مِنْ أوليائه، لمعترفين بِرِسَالَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَإِهْلَاكُ الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِ، أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا وَسَمَّاهُمْ عِبَادَهُ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى. وَمَعْنَى" إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ" أَيْ يَتَّبِعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لِيَرُدُّوكُمْ. وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيفُهُمْ أَنَّ اللَّهَ يُنْجِيهِمْ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ مُوسَى عليه السلام بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَحَرًا، فَتَرَكَ الطَّرِيقَ إِلَى الشَّامِ عَلَى يَسَارِهِ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَحْرِ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُولُ لَهُ فِي تَرْكِ الطَّرِيقِ فَيَقُولُ: هَكَذَا أُمِرْتُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَعَلِمَ بِسُرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، خَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ، وَبَعَثَ إِلَى مَدَائِنِ مِصْرَ لِتَلْحَقَهُ الْعَسَاكِرُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَحِقَهُ وَمَعَهُ مِائَةُ أَلْفِ أَدْهَمَ مِنَ الْخَيْلِ سِوَى سَائِرِ الْأَلْوَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَإِنَّمَا اللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّ مُوسَى عليه السلام خَرَجَ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْ

ص: 100

بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّ فِرْعَوْنَ تَبِعَهُ بِأَضْعَافِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مَعَ فِرْعَوْنَ أَلْفُ جَبَّارٍ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ تَاجٌ وَكُلُّهُمْ أَمِيرُ خَيْلٍ. وَالشِّرْذِمَةُ الْجَمْعُ الْقَلِيلُ الْمُحْتَقَرُ وَالْجَمْعُ الشَّرَاذِمُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشِّرْذِمَةُ الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ وَالْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ. وَثَوْبٌ شَرَاذِمُ أَيْ قِطَعٌ. وَأَنْشَدَ الثَّعْلَبِيُّ قَوْلَ الرَّاجِزِ:

جَاءَ الشِّتَاءُ وَثِيَابِي أَخْلَاقْ

شَرَاذِمُ يَضْحَكُ مِنْهَا النَّوَّاقْ

النَّوَّاقُ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يُرَوِّضُ الْأُمُورَ وَيُصْلِحُهَا، قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ «1». وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:" لَشِرْذِمَةٌ" لَامُ تَوْكِيدٍ وَكَثِيرًا مَا تَدْخُلُ فِي خَبَرِ إِنَّ، إِلَّا أَنَّ الْكُوفِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ إِنَّ زَيْدًا لَسَوْفَ يَقُومُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" وَهَذِهِ لَامُ التَّوْكِيدِ بِعَيْنِهَا وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى سَوْفَ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أَيْ أَعْدَاءٌ لَنَا لِمُخَالَفَتِهِمْ دِينَنَا وَذَهَابِهِمْ بِأَمْوَالِنَا الَّتِي اسْتَعَارُوهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَمَاتَتْ أَبْكَارُهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الْأَعْرَافِ" وَ" طه" مُسْتَوْفًى. يُقَالُ: غَاظَنِي كَذَا وَأَغَاظَنِي. وَالْغَيْظُ الْغَضَبُ وَمِنْهُ التَّغَيُّظُ وَالِاغْتِيَاظُ. أَيْ غَاظُونَا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ. (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أَيْ مجتمع أخذنا حذرنا وأسلحتنا. وقرى" حاذرون" ومعناه معنى" حاذِرُونَ" أي فرقون خائفون. قال الجوهري: وقرى" وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ" و" حاذِرُونَ" و" حاذرون" بِضَمِّ الذَّالِ حَكَاهُ الْأَخْفَشُ، وَمَعْنَى" حاذِرُونَ" مُتَأَهِّبُونَ، ومعنى" حاذِرُونَ" خَائِفُونَ. قَالَ النَّحَّاسُ:" حَذِرُونَ" قِرَاءَةُ الْمَدَنِيِّينَ وَأَبِي عَمْرٍو، وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ:" حَاذِرُونَ" وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَ" حَادِرُونَ" بِالدَّالِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ قِرَاءَةُ أَبِي عَبَّادٍ وَحَكَاهَا الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ عَنْ سُمَيْطِ بْنِ عَجْلَانَ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَبُو عُبَيْدَةَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَعْنَى" حَذِرُونَ" وَ" حَاذِرُونَ" وَاحِدٌ. وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَأَجَازَ: هُوَ حَذِرٌ زَيْدًا، كَمَا يُقَالُ: حَاذِرْ زَيْدًا، وَأَنْشَدَ:

حَذِرٌ أُمُورًا لَا تَضِيرُ وَآمِنٌ

ما ليس منجيه من الاقدار

(1). ويقال هو اسم ابنه. ويروى (التواق) بالتاء.

ص: 101

وَزَعَمَ أَبُو عُمَرَ الْجِرْمِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ هُوَ حَذِرٌ زَيْدًا عَلَى حَذْفِ مِنْ. فَأَمَّا أَكْثَرُ النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر، مِنْهُمُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، فَيَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى حَذِرٌ فِي خِلْقَتِهِ الْحَذَرُ، أَيْ مُتَيَقِّظٌ مُتَنَبِّهٌ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَتَعَدَّ، وَمَعْنَى حَاذِرٍ مُسْتَعِدٌّ وَبِهَذَا جَاءَ التَّفْسِيرُ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:" وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ" قَالَ: مُؤْدُونَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ مُقْوُونَ، فَهَذَا ذَاكَ بِعَيْنِهِ. وَقَوْلُهُ: مُؤْدُونَ مَعَهُمْ أَدَاةٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مَعَنَا سِلَاحٌ وَلَيْسَ مَعَهُمْ سِلَاحٌ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، فَأَمَّا" حَادِرُونَ" بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فَمُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ عَيْنٌ حَدْرَةٌ أَيْ مُمْتَلِئَةٌ، أَيْ نَحْنُ مُمْتَلِئُونَ غَيْظًا عَلَيْهِمْ، ومنه قول الشاعر «1»:

وَعَيْنٌ لَهَا حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ

شُقَّتْ مَآقِيهِمَا مِنْ أُخَرْ

وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ: رَجُلٌ حَادِرٌ إِذَا كَانَ مُمْتَلِئَ اللَّحْمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الِامْتِلَاءُ مِنَ السِّلَاحِ. الْمَهْدَوِيُّ: الْحَادِرُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) يَعْنِي مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَتِ الْجَنَّاتُ بِحَافَّتَيِ النِّيلِ فِي الشُّقَّتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ أُسْوَانَ إِلَى رَشِيدٍ، وَبَيْنَ الْجَنَّاتِ زُرُوعٌ. وَالنِّيلُ سَبْعَةُ خِلْجَانٍ: خَلِيجُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَخَلِيجُ سَخَا، وَخَلِيجُ دِمْيَاطٍ، وَخَلِيجُ سَرْدُوسَ، وَخَلِيجُ مَنْفَ، وَخَلِيجُ الْفَيُّومِ، وَخَلِيجُ الْمَنْهَى «2» متصلة لا ينقطع منها شي عن شي، وَالزُّرُوعُ مَا بَيْنَ الْخِلْجَانِ كُلِّهَا. وَكَانَتْ أَرْضُ مِصْرَ كُلُّهَا تُرْوَى مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا بِمَا دَبَّرُوا وَقَدَّرُوا مِنْ قَنَاطِرِهَا وَجُسُورِهَا وَخُلْجَانِهَا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ النِّيلُ إِذَا غَلَّقَ سِتَّةَ عَشْرَ ذِرَاعًا نِيلَ السُّلْطَانِ، وَيُخْلَعُ عَلَى ابْنِ أَبِي الرَّدَّادِ «3» ، وَهَذِهِ الْحَالُ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى الْآنِ. وَإِنَّمَا قِيلَ نِيلُ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ الْخَرَاجُ عَلَى النَّاسِ. وَكَانَتْ أَرْضُ مِصْرَ جَمِيعُهَا تُرْوَى

(1). هو امرؤ القيس.

(2)

. وهو بحر يوسف عليه السلام.

(3)

. هو عبد الله بن السلام ابن عبد الله بن أبي الرداد المؤذن، قدم مصر من البصرة وحدث بها، وجعل على قياس النيل في ولاية يزيد بن عبد الله التركي- وكانت النصارى تتولى قياسه- وأجرى عليه سبعة دنانير في كل شهر، واستقر قياسه في بنيه زمانا طويلا. وتوفى أبو الرداد سنة 266 هـ. عن خطط المقريزي ج 1 ص 58

ص: 102

مِنْ إِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشْرَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ إِذَا غُلِقَ النِّيلُ سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا وَنُودِيَ عَلَيْهِ إِصْبَعٌ وَاحِدٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، ازْدَادَ فِي خَرَاجِهَا أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ. فَإِذَا خَرَجَ. عَنْ ذَلِكَ وَنُودِيَ عَلَيْهِ إِصْبَعًا وَاحِدًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا نَقَصَ خَرَاجُهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَسَبَبُ هَذَا مَا كَانَ يَنْصَرِفُ فِي الْمَصَالِحِ وَالْخِلْجَانِ وَالْجُسُورِ وَالِاهْتِمَامِ بِعِمَارَتِهَا. فَأَمَّا الْآنَ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَا يُرْوَى حَتَّى يُنَادَى إِصْبَعٌ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا بِمِقْيَاسِ مِصْرَ. وَأَمَّا أَعْمَالُ الصَّعِيدِ الْأَعْلَى، فَإِنَّ بِهَا مَا لَا يَتَكَامَلُ رَيُّهُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْمَاءِ فِي الذِّرَاعِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ بِالصَّعِيدِ الْأَعْلَى. قُلْتُ: أَمَّا أَرْضُ مِصْرَ فَلَا تُرْوَى جَمِيعُهَا الْآنَ إِلَّا مِنْ عِشْرِينَ ذِرَاعًا وَأَصَابِعَ، لِعُلُوِّ الْأَرْضِ وَعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِعِمَارَةِ جُسُورِهَا، وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَزِيدُ إِذَا انْصَبَّتِ الْمِيَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ حَتَّى يَسِيحَ عَلَى جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ، وَتَبْقَى الْبِلَادُ كَالْأَعْلَامِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْمَرَاكِبِ وَالْقِيَاسَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: نِيلُ مِصْرَ سَيِّدُ الْأَنْهَارِ، سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ نَهْرٍ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَذَلَّلَ اللَّهُ لَهُ الْأَنْهَارَ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ نِيلَ مِصْرَ أَمَرَ كُلَّ نَهْرٍ أَنْ يَمُدَّهُ، فَأَمَدَّتْهُ الْأَنْهَارُ بِمَائِهَا، وَفَجَّرَ اللَّهُ لَهُ عُيُونًا، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل، أَوْحَى اللَّهُ تبارك وتعالى إِلَى كُلِّ مَاءٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عُنْصُرِهِ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْحَجَّاجِ: لَمَّا افْتُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلُهَا إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ بَئُونَةُ مِنْ أَشْهُرِ الْقِبْطِ فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةً لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا، فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً تَخْلُو مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ بَيْنَ أَبَوَيْهَا، أَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا، وَحَمَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَيَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ. فَأَقَامُوا أَبِيبَ وَمِسْرَى لَا يَجْرِي قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَهَمُّوا بِالْجَلَاءِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما، فَأَعْلَمَهُ بِالْقِصَّةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي فَعَلْتَ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَلَا يَكُونُ هَذَا. وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِبِطَاقَةٍ فِي دَاخِلِ كِتَابِهِ. وَكَتَبَ إِلَى عَمْرٍو: إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِبِطَاقَةٍ دَاخِلَ كِتَابِي، فَأَلْقِهَا فِي النيل

ص: 103

إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي. فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخَذَ الْبِطَاقَةَ فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ إِلَى نِيلِ مِصْرَ- أَمَّا بَعْدُ- فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلَا تَجْرِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ أَنْ يُجْرِيَكَ. قَالَ: فَأَلْقَى الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ قَبْلَ الصَّلِيبِ بِيَوْمٍ وَقَدْ تَهَيَّأَ أَهْلُ مِصْرَ لِلْجَلَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُمْ فِيهَا إِلَّا بِالنِّيلِ. فَلَمَّا أَلْقَى الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ، أَصْبَحُوا يَوْمَ الصَّلِيبِ وَقَدْ أَجْرَاهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَقَطَعَ اللَّهُ تِلْكَ السِّيرَةَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَضَعَهَا اللَّهُ فِي الدُّنْيَا سَيْحَانَ وَجَيْحَانَ وَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ، فَسَيْحَانُ نَهْرُ الْمَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَجَيْحَانُ نَهَرُ اللَّبَنِ فِي الْجَنَّةِ، وَالنِّيلُ نَهْرُ الْعَسَلِ فِي الْجَنَّةِ، وَالْفُرَاتُ نَهْرُ الْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: الدِّجْلَةُ نَهْرُ اللَّبَنِ فِي الْجَنَّةِ. قُلْتُ: الَّذِي فِي الصَّحِيحِ مِنْ هَذَا حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ" لَفْظُ مُسْلِمٍ وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ:" وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الْأَنْهَارُ قَالَ أَمَّا النَّهَرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ" لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ" فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ «1» فَقَالَ مَا هَذَانَ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا ثُمَّ مَضَى فِي السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالزَّبَرْجَدِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ فَقَالَ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ فَقَالَ هَذَا هُوَ الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكُ." وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُيُونِ عُيُونُ الْمَاءِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ عُيُونُ الذَّهَبِ. وَفِي الدُّخَانِ" كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ". قِيلَ

: إِنَّهُمْ كَانُوا يَزْرَعُونَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ مِنْ أَوَّلِ مِصْرَ إِلَى آخِرِهَا. وَلَيْسَ في الدخان" وكنوز" جمع كنز، وقد مضى هذا

(1). يطردان: أي يجريان، وهما يفتعلان من الطرد.

ص: 104

في سورة" براءة"«1» . والمراد بها ها هنا الْخَزَائِنُ. وَقِيلَ: الدَّفَائِنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَنْهَارُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْعُيُونَ تَشْمَلُهَا. (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) قَالَ ابن عمر ابن عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمَقَامُ الْكَرِيمُ الْمَنَابِرُ، وَكَانَتْ أَلْفَ مِنْبَرٍ لِأَلْفِ جَبَّارٍ يُعَظِّمُونَ عَلَيْهَا فِرْعَوْنَ وَمُلْكَهُ. وَقِيلَ: مَجَالِسُ الرُّؤَسَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمَسَاكِنُ الْحِسَانُ. وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: سَمِعْتُ أَنَّ الْمَقَامَ الْكَرِيمَ الْفَيُّومُ. وَقِيلَ: كَانَ يُوسُفُ عليه السلام قَدْ كَتَبَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ) فَسَمَّاهَا اللَّهُ كَرِيمَةً بِهَذَا. وَقِيلَ: مَرَابِطُ الْخَيْلِ لِتَفَرُّدِ الزُّعَمَاءِ بِارْتِبَاطِهَا عُدَّةً وَزِينَةً، فَصَارَ مَقَامُهَا أَكْرَمَ مَنْزِلٍ بِهَذَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا الْمَسَاكِنُ الْحِسَانُ كَانَتْ تُكَرَّمُ عَلَيْهِمْ. وَالْمَقَامُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ الْمَوْضِعَ وَيَكُونُ مَصْدَرًا. قَالَ النَّحَّاسُ: الْمَقَامُ فِي اللُّغَةِ الْمَوْضِعُ، مِنْ قَوْلِكَ قَامَ يَقُومُ، وَكَذَا الْمَقَامَاتُ وَاحِدُهَا مَقَامَةٌ، كَمَا قال «2»:

وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ

وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ

وَالْمَقَامُ أَيْضًا الْمَصْدَرُ مِنْ قَامَ يَقُومُ. وَالْمُقَامُ (بِالضَّمِّ) الْمَوْضِعُ مِنْ أَقَامَ. وَالْمَصْدَرُ أَيْضًا مِنْ أَقَامَ يُقِيمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَالْكُنُوزِ وَالْمَقَامِ الْكَرِيمِ أَوْرَثَهُ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: رَجَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْوِرَاثَةِ هُنَا مَا اسْتَعَارُوهُ مِنْ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ حَصَلَ لَهُمْ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أَيْ فَتَبِعَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ السُّدِّيُّ: حِينَ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ بِالشُّعَاعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حِينَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِالضِّيَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ شَرَقَتِ الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ. وَاخْتُلِفَ فِي تَأَخُّرِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عَنْ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قولين: أحدهما-

(1). راجع ج 8 ص 123 طبعه أولى أو ثانية.

(2)

. هو زهير بن أبى سلمى، وينتابها: أي يقال فيها الجميل ويفعل به.

ص: 105

لِاشْتِغَالِهِمْ بِدَفْنِ أَبْكَارِهِمْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، لِأَنَّ الْوَبَاءَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَقَعَ فِيهِمْ، فَقَوْلُهُ:" مُشْرِقِينَ" حَالٌ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ. الثَّانِي- إِنَّ سَحَابَةً أَظَلَّتْهُمْ وَظُلْمَةً فَقَالُوا: نَحْنُ بَعْدُ فِي اللَّيْلِ فَمَا تَقَشَّعَتْ عَنْهُمْ حَتَّى أَصْبَحُوا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى" فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ" نَاحِيَةَ الْمَشْرِقِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ:" فَاتَّبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ" بِالتَّشْدِيدِ وَأَلِفَ الْوَصْلِ، أَيْ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَرَّقَ وَغَرَّبَ إِذَا سَارَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ قَدَّرْنَا أَنْ يَرِثَهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَاتَّبَعَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُشْرِقِينَ فَهَلَكُوا، وَوَرِثَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِلَادَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أَيْ تَقَابَلَا «1» الْجَمْعَانِ بِحَيْثُ يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ صَاحِبَهُ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ. (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أَيْ قَرُبَ مِنَّا الْعَدُوُّ وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ:" لَمُدْرَكُونَ" بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَدْرَكَ. وَمِنْهُ" حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ". وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَالْأَعْرَجُ وَالزُّهْرِيُّ" لَمُدَّرَكُونَ" بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ «2» مِنْ ادَّرَكَ. قَالَ الفراء: حفر واحتقر بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ" لَمُدْرَكُونَ" وَ" لَمُدَّرَكُونَ" بِمَعْنًى وَاحِدٍ. النَّحَّاسُ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ يَقُولُ النَّحْوِيُّونَ الْحُذَّاقُ، إنما يقولون: مدركون ملحقون، ومدركون مُجْتَهَدٌ فِي لِحَاقِهِمْ، كَمَا يُقَالُ: كَسَبْتُ بِمَعْنَى أَصَبْتُ وَظَفِرْتُ، وَاكْتَسَبْتُ بِمَعْنَى اجْتَهَدْتُ وَطَلَبْتُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) لَمَّا لَحِقَ فِرْعَوْنُ بِجَمْعِهِ جَمْعَ مُوسَى وَقَرُبَ مِنْهُمْ، وَرَأَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعَدُوَّ الْقَوِيَّ وَالْبَحْرَ أَمَامَهُمْ سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ، وَقَالُوا لِمُوسَى عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالْجَفَاءِ:" إِنَّا لَمُدْرَكُونَ" فَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَزَجَرَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ وَعْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ بِالْهِدَايَةِ وَالظَّفَرِ" كَلَّا" أَيْ لَمْ يُدْرِكُوكُمْ" إِنَّ مَعِي رَبِّي" أَيْ بِالنَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ." سَيَهْدِينِ" أَيْ سَيَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، فَلَمَّا عَظُمَ الْبَلَاءُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَأَوْا مِنَ الْجُيُوشِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهَا، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ البحر بعصاه، وذلك أنه

(1). كذا في نسخ الأصل. [ ..... ]

(2)

. وكسر الراء- كما في البحر وروح المعاني والكشاف- على وزن، مفتعلون وهو لازم بمعنى الفناء والاضمحلال، من أدرك الشيء إذا تتابع ففنى.

ص: 106

عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمُوسَى وَمُتَعَلِّقَةً بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ، وَإِلَّا فَضَرْبُ الْعَصَا لَيْسَ بِفَارِقٍ لِلْبَحْرِ، وَلَا مُعِينٍ عَلَى ذَلِكَ بِذَاتِهِ إِلَّا بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِرَاعِهِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ"«1» قِصَّةُ هَذَا الْبَحْرِ. وَلَمَّا انْفَلَقَ صَارَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا عَلَى عَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَقَفَ الْمَاءُ بَيْنَهَا كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، أَيِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ. وَالطَّوْدُ الْجَبَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

فَبَيْنَا الْمَرْءُ فِي الْأَحْيَاءِ طَوْدٌ

رَمَاهُ النَّاسُ عَنْ كَثَبٍ فَمَالَا

وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ:

حَلُّوا بِأَنْقِرَةٍ يَسِيلُ عَلَيْهِمْ

مَاءُ الْفُرَاتِ يجئ مِنْ أَطْوَادِ

جَمْعُ طَوْدٍ أَيْ جَبَلٍ. فَصَارَ لِمُوسَى وَأَصْحَابِهِ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا، فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى وَتَكَامَلَ آخِرُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي" يُونُسَ"«2» انْصَبَّ عَلَيْهِمْ وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مُوسَى: مَا غَرِقَ فِرْعَوْنُ، فَنُبِذَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: خَرَجَ مَعَ مُوسَى عليه السلام رَجُلَانِ مِنَ التُّجَّارِ إِلَى الْبَحْرِ فَلَمَّا أَتَوْا إِلَيْهِ قَالَا لَهُ بِمَ أَمَرَكَ اللَّهُ؟ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَايَ هَذِهِ فَيَنْفَلِقُ، فَقَالَا لَهُ: افْعَلْ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ فَلَنْ يُخْلِفَكَ، ثُمَّ أَلْقَيَا أَنْفُسَهُمَا فِي الْبَحْرِ تَصْدِيقًا لَهُ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ الْبَحْرُ حَتَّى دَخَلَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ كَمَا كَانَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ". قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أَيْ قَرَّبْنَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٍ سَلَفَتْ

فِيهَا النُّفُوسُ إِلَى الْآجَالِ تَزْدَلِفُ

أَبُو عُبَيْدَةَ:" أَزْلَفْنا" جَمَعْنَا وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةُ جَمْعٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَرِثِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ:" وَأَزْلَفْنا" بِالْقَافِ عَلَى مَعْنَى أَهْلَكْنَاهُمْ، مِنْ قَوْلِهِ: أَزَلَقَتِ النَّاقَةُ وَأَزْلَقَتِ الْفَرَسُ فَهِيَ مُزْلِقٌ إِذَا أَزَلَقَتْ وَلَدَهَا. (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أَيْ عَلَامَةً عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تعالى.

(1). راجع ج 1 ص 389 وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.

(2)

. راجع ج 8 ص 378 طبعه أولى أو ثانية.

ص: 107