الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر بعدهم حال طائفة من المنافقين هى شر الجميع مرنت على النفاق وحذقت فنونه، وحال طائفة أخرى بين المنزلتين خلطت سيىء العمل بأحسنه، وهؤلاء يرجى لهم التوبة والغفران من ربهم.
الإيضاح
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ذكر الله فى هذه الآية ثلاث طبقات من الأمة هى خيرها:
(1)
السابقون الأولون من المهاجرين، وهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية، وقد كان المشركون يضطهدون المؤمنين ويقاتلونهم فى دار الهجرة وما حولها ولا يمكّنون أحدا من الهجرة متى كان ذلك فى طاقتهم، ولا منجاة للمؤمنين من شرهم إلا بالفرار أو الجوار، فالذين هاجروا فى ذلك الحين كانوا من المؤمنين الصادقين، وأفضل هؤلاء الخلفاء الأربعة ثم العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
(2)
السابقون الأولون من الأنصار، وهم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة فى منى فى المرة الأولى سنة إحدى عشرة من البعثة، وكانوا سبعة، وفى المرة الثانية، وكانوا سبعين رجلا وامرأتين.
(3)
الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فى الهجرة والنصرة حال كونهم محسنين فى أفعالهم وأقوالهم، فإذا اتبعوهم فى ظاهر الإسلام كانوا منافقين مسيئين غير محسنين فى هذا الاتباع، وإذا اتبعوهم محسنين فى بعض أعمالهم ومسيئين فى بعض كانوا مذنبين.
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي هؤلاء جميعا رضى الله عنهم فى إيمانهم وإسلامهم، فقبل طاعتهم وتجاوز عن زلّاتهم، وبهم أعز الإسلام ونكّل بأعدائه من المشركين وأهل الكتاب، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية فأنقذهم من الشرك، وهداهم من الضلال، وأعزهم بعد الذل، وأغناهم بعد الفقر.
(وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذا الوعد الكريم تقدم فى آيات سابقة فى هذه السورة وغيرها، ولا شك أن نعيم الجنة الخالد بين روحانى وبدنىّ فوز أيّما فوز.
والخلاصة- إن هذه الطبقات الثلاث قد استبق أفرادها الصراط، وشهد لهم ربّهم بالمغفرة والتجاوز عن كل ذنب، وما عاد يؤثّر فى كمال إيمانهم شىء، لأن نورهم يمحو كل ظلمة تطرأ على أحد منهم بإلمامه بذنب.
وبعد أن بيّن كمال إيمان تلك الطبقات الثلاث ورضاه عنهم- بين حال منافقى أهل المدينة ومن حولها فقال (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي إن بعض الأعراب الذين حولكم منافقون.
قال البغوي والواحدي: هم من قبائل جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار، وكانت منازلهم حول المدينة، وذلك لا يمنع أن يكون فيهم مؤمنون صادقون دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم ومدحهم
فقد روى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وعفار موالى الله تعالى ورسوله لا موالى لهم غيره» ،
وعنه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها أما إنى لم أقلها، لكن قالها الله تعالى» .
وكذلك من أهل المدينة نفسها ناس منافقون، من الأوس والخزرج سوى من أعلم الله رسوله بهم فى هذه السورة بما صدر منهم من أقوال وأفعال تنافى الإيمان.
هؤلاء وهؤلاء مرنوا على النفاق وحذقوه حتى بلغوا الغاية فى إتقانه، فلا يشعر أحد به، إذ هم يتقون جميع الأمارات والشبه التي تدل عليه.
(لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي لا تعرفهم أيها الرسول الكريم بفطنتك ودقيق فراستك لحذقهم فى التقيّة وتباعدهم عن مثار الشبهات، بل نحن نعلمهم بأعيانهم، وهؤلاء أخفى نفاقا ممن قال الله فيهم: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ
يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» .
وهؤلاء لم يعلمه الله أعيانهم ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم فى هذه السورة، لأنهم يتحامون ما يكون شبهة فى إيمانهم، وضررهم مقصور عليهم لا يعدوهم إلى سواهم.
والحكمة فى إخبارنا بحالهم أن يعلموا هم أنفسهم أن الله عليم بما يسرون من نفاقهم، ويحذروا أن يفضحهم الله كما فضح سواهم، وليتوب منهم من يتوب قبل أن يحل بهم ما أوعدهم به ربهم بقوله:
(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) أي سنعذبهم فى الحياة الدنيا مرتين: أولاهما ما يصيبهم به من المصايب وانتظار الفضيحة بهتك أستارهم. وثانيتهما آلام الموت وزهوق أنفسهم وهم كافرون، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم فى ذلك الحين، ثم يردون يوم القيامة إلى عذاب جهنم وبئس المصير.
والخلاصة- إنهم يعذبون فى الدنيا بالعذاب الباطن بتوبيخ الضمائر وعذاب الخوف من الفضيحة على رءوس الأشهاد فى الظاهر، ثم عذاب النار وبئس القرار.
وجملة القول- إن المنافقين فريقان: فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى لا يشعر أحد بشىء يستنكره منهم.
وهذان الفريقان يوجدان فى كل عصر، فما من قطر من الأقطار إلا منى أهله بأعوان وأنصار منهم يزعمون أنهم يخدمون أمتهم من طريق استمالة الغاصب واسترضائه، وأنه لولاهم لتمادى فى ظلمه وهضم حقوق الأمة ولم يقف عند حد، ومنهم من يخدمون المستعمرين خدمة خفية لا تشعر بها الأمة لأنهم مرنوا على النفاق.
وأشد المنافقين مرودا على النفاق أعوان الملوك المستبدين الذين يلبسون الباطل لباس الحق ويروجونه فى أعين الجماهير خدمة لأولئك الملوك.
(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) أي وهناك فريق آخر ممن حولكم من الأعوان ومن أهل المدينة ليسوا منافقين ولا من السابقين الأولين، بل من المذنبين الذين خلطوا الصالح من العمل بالسيىء منه، والسيّء بالصالح، فلم يكونوا من الصالحين الخلص ولا من الفاسقين، فهم قد آمنوا وعملوا الصالحات واقترفوا بعض السيئات كالذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح ولم يستأذنوا كاستئذان المرتابين ولم يعتذروا بالكذب كالمنافقين، ثم كانوا حين قعودهم ناصحين لله ورسوله شاعرين بذنوبهم خائفين من ربهم.
وقد بين سبحانه حالهم بقوله:
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي إنهم محل الرجاء لقبول الله توبتهم بتوفيقهم للتوبة الصحيحة التي هى سبب المغفرة والرحمة- وإنما يكون ذلك بالعلم بقبح الذنب وسوء عاقبته، وتوبيخ الضمير حين تصور سخط الله والخوف من عقابه- ثم الإقلاع عنه بباعث هذا الألم، والعزم على عدم العود إلى قترافه، والعزم على العمل بضده ليمحو أثره من نفسه.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى يقبل توبتهم، لأنه كثير المغفرة للتائبين، واسع الرحمة للمحسنين.
وفى معنى الآية قوله: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» وقوله: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» .
قال جماعة من العلماء: إن هذه الآية أرجى آية فى القرآن فى توقع رحمة الله للمذنبين الذين يجترحون السيئات ثم يتوبون إلى ربهم ويقلعون عن ذنوبهم.
روى البخاري عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتانى الليلة أي فى المنام ملكان فابتعثانى فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم اذهبوا فقعوا فى ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء