الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فضائح المنافقين بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وأصناف المقصّرين من المؤمنين، أردف ذلك بذكر حال المؤمنين الصادقين فى إيمانهم البالغين فيه حد الكمال، وبذا تمّ معرفة جميع أحوال المؤمنين.
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) هذا ترغيب فى الجهاد على أبلغ وجه وأحسن صورة. فقد مثل الله إثابة المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم فى سببله بتمليكهم الجنة التي هى دار النعيم والرضوان الدائم السرمدي تفضلا منه تعالى وكرما- بصورة من باع شيئا هو له لآخر- وعاقد عقد البيع هو رب العزة والمبيع هو بذل الأنفس والأموال، والثمن هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجعل هذا العقد مسجلا فى الكتب السماوية، وناهيك به من صكّ لا يقبل التحلل والفسخ، وفى هذا منتهى الربح والفوز العظيم، وكل هذا لطف منه تعالى وتكريم لعباده المؤمنين، فهو المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها، ولأموالهم إذ هو الذي رزقها، ولهذا قال الحسن: اشترى أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها، إلا أنه تعالى غنى عن أنفسهم وأموالهم والمبيع والثمن له وقد جعله بفضله وكرمه لهم.
روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر قال: نزلت هذه الآية على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو فى المسجد فكبّر الناس فى المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفى ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت فينا هذه الآية، قال «نعم» فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.
وأخرج ابن جرير أن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة اشترط لنفسك ولربك فقال: «أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قال ربح البيع لا نقيل ولا نستقبل، فنزلت الآية» .
وأخرج ابن سعد فى طبقاته عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت، أن سعد ابن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فقال: يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمدا؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإنس كافة. فقالوا نحن حرب لمن حارب، وسلم لمن سالم. فقال يا رسول الله اشترط علىّ. فقال:«تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، ولا تنازعوا الأمر أهله، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم» قالوا نعم. قال قائل الأنصار: نعم هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟
قال «الجنة والنصر» .
وأخرج ابن سعد عن الشّعبى قال: «انطلق النبي صلى الله عليه وسلم بالعباس ابن عبد المطلب وكان ذا رأى إلى السبعين من الأنصار عند العقبة، فقال العباس ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم للمشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم فقال قائلهم: يا محمد سل لربك ما شئت، ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك؟، فقال: أسألكم لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسى وأصحابى أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم، قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة» فكان الشعبي إذا حدّث هذا الحديث قال: ما سمع الشّيب والشباب بخطبة أقصر ولا أبلغ منها.
وروى ابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا «من سل سيفا فى سبيل الله فقد بايع الله»
وروى ابن أبى حاتم عن الحسن قال: «ما على ظهر الأرض مؤمن إلا وقد دخل فى هذه البيعة»
وفى رواية «اسعوا إلى بيعة بايع الله بها كل مؤمن. إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم» .
ثم بين صفة تسليم البيع فقال:
(يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي إنهم يقاتلون فى سبيل الحق والعدل التي توصل إلى مرضاة الله تعالى ببذل أنفسهم وأموالهم فيكونون إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله، وإما مقتولين شهداء فى هذه السبيل، ولا فرق بين القاتل والمقتول فى الفضل والمثوبة عند الله، فكل منهما كان فى سبيله ولم يكن رغبة فى سفك الدماء، ولا حبّا للأموال ولا توسلا إلى ظلم العباد كما يفعل الذين يقاتلون لأغراض الدنيا من الملوك والأمراء.
(وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أي وعدهم وعدا أوجبه على نفسه وجعله حقا وأثبته فى التوراة والإنجيل، وضياعه منهما فى النسخ التي بين يدى أهل الكتاب لا يضير فى ذلك لأنه قد ضاع منهما كثير وحرّف بعضهما لفظا ومعنى، ويكفى إثبات القرآن لذلك وهو المهيمن عليهما.
(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟) أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق فى إنجاز وعده من الله، إذ لا يمنعه من ذلك عجز عن الوفاء ولا يعرض له تردد ولا رجوع عما يريد إمضاءه من شأنه.
(فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) أي فإذا كان الأمر على هذه الحال فأظهروا السرور على ما فزتم به من الجنة.
(وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وذلك الفوز الذي لا فوز أعظم منه، وما يتقدمه من النصر والسيادة والملك لا يعد فوزا إلا بكونه وسيلة لإقامة الحق والعدل.
وفى هذا الأسلوب من التأكيد واستحقاق المجاهدين للثواب ما لا يخفى، إذ جعلهم مالكين معه ومبايعين له ومستحقين الثمن الذي بايعهم به، وأكد لهم أمر الوفاء وإنجاز وعده.
وعن جعفر الصادق أنه قال: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.
يريد أن الذي يقتل أو يموت فى سبيل الله بذل بدنه الفاني، لا روحه الباقي.
ثم وصف الله هؤلاء المكملة من المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم بجنته بصفات هى:
(1)
(التَّائِبُونَ) أي هم الراجعون إلى الله بتركهم كل ما يبعد عن مرضاته، وتوبة الكفار هى رجوعهم عن الكفر الذي كانوا عليه كما قال:«فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ» وتوبة المنافق تكون بترك نفاقه، وتوبة العاصي من معصيته تكون بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله كتوبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين، وتوبة المقصّر فى شىء من البر وعمل الخير تكون بالاستزادة منه، وتوبة من يغفل عن ربه تكون بالإكثار من ذكره وشكره.
(2)
(الْعابِدُونَ) لله المخلصون فى جميع عباداتهم، فلا يتوجهون إلى سواه بدعاء ولا استغاثة ولا يتقربون إلى غيره بعمل قربان ولا طلب مثوبة فى الآخرة.
(3)
(الْحامِدُونَ) لله فى السراء والضراء،
روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه الأمر يسرّه قال «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات» وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: «الحمد لله على كل حال» .
(4)
(السَّائِحُونَ) فى الأرض لغرض صحيح كعلم نافع للسائح فى دينه أو دنياه، أو نافع لقومه وأمته، أو النظر فى خلق الله وأحوال الأمم والشعوب للاعتبار والاستبصار وقد حث الله كثيرا على السير فى الأرض والضرب فيها كما قال «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ» .