الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
تفسير المفردات
العسرة: الشدة والضيق، وزاغ: مال، الرّحب: السعة، ولجأ إلى الحصن وغيره: لاذ إليه واعتصم به، الرأفة: العناية بالضعيف والرفق به، والرحمة: السعى فى إيصال المنفعة.
المعنى الجملي
بعد أن استقصى سبحانه أحوال المتخلفين عن غزوة تبوك على النحو الذي سلف- عاد مرة أخرى إلى الكلام فى توبتهم جيا على سنة القرآن الكريم فى تفريق الآيات فى الموضوع الواحد، لأنه أفعل فى النفس وأشد تأثيرا فى القلب وأجدى فى تجديد الذكرى وأدنى ألا يسأم التالي لها فى الصلاة وغيرها. إلى أنه مناسب لما قبله من النهى عن الاستغفار للمشركين، إذا كلّ مما يتاب منه، وكلّ عثرة يطلب منها الصفح والعفو.
الإيضاح
(لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) أي لقد تفضل سبحانه وعطف على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار فتجاوز عن هفوات صدرت
منهم فى هذه الغزوة وغيرها لبلائهم الحسن فيها، ولأنهم لم يصروا على شىء منها.
وقد كانت هفواتهم على سنن الطباع البشرية واجتهاد الرأى فيما لم يبينه الله بيانا قطعيا بحيث يعد مخالفه عاصيا، وقد فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله فى سياق هذه الغزوة «عفا الله عنك- لم أذنت لهم؟» أي إن التوبة كانت من اجتهاد لم يقره الله عليه إذ غيره كان خيرا منه، وتوبة المهاجرين والأنصار، وهم خلّص المؤمنين كانت من تثاقلهم فى الخروج حتى ورد الأمر الحتم والتوبيخ على التثاقل إلى الأرض، ومنهم من كان ذنبه السماع للمنافقين فيما كانوا يبغون من فتنة المؤمنين.
وتوبة الله على عباده توفيقهم للتوبة وقبولها منهم، وإنما يتوبون من ذنب، وما كل ذنب معصية لله عز وجل.
(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي الذين اتبعوه ولم يتخلفوا عنه وقت الشدة والضيق، وكانت عسرة فى الزاد إذ كان الوقت نهاية فصل الصيف الذي نفدت فيه مئونتهم من التمر، وأول فصل الخريف الذي بدأ فيه إرطاب الموسم الجديد، ولا يمكن حمل شىء منه، فكان يكتفى الواحد منهم أو الاثنان بالتمرة الواحدة من التمر القديم ومنه المدوّد واليابس، ومنهم من تزوّد بالشعير المسوس والإهالة (الشحم المذاب) الزنخة المتغيرة الرائحة- وعسرة فى الماء حتى كانوا ينحرون البعير على قلة الرواحل ليعتصروا الفرث الذي فى كرشه ويبلّوا به ألسنتهم- وعسرة فى الظهر (فى الإبل) حتى كان العشرة يتعقبون بعيرا واحدا- وعسرة فى الزمن إذ كان فى حرارة القيظ (شدة الحر) .
قال جابر بن عبد الله رضى الله عنه فى ساعة العسرة: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء، وقال ابن عباس لعمر رضى الله عنهم: حدّثنا من شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فى قيظ شديد فنزلنا منزلا
فأصابنا فيه عطش شديد، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل لينحر بعيره ليعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه:
يا رسول الله إن الله قد عودك فى الدعاء خيرا فادفع لنا، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
(مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي إنه تاب على المؤمنين كافة من بعد ما كاد يزيغ بعضهم عن الإيمان وهم الذين تخلفوا لغير علة النفاق، وهم الذين وصفهم الله بأنهم عملوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم، فقبل الله توبتهم كما ذكر فيما سلف.
(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) هذا تكرير للتوكيد كما يقال عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، فيدل ذلك على أنه عفو متأكد بلغ الغاية القصوى من القدرة والكمال.
ثم علل قبول توبتهم بقوله:
(إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن ربهم رءوف رحيم بهم، فلا يهملهم بأن ينزع الإيمان منهم بعد ما أبلوا فى الله وأبلوا مع رسوله وصبروا فى البأساء والضراء.
(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خلّفوا عن الخروج إلى تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم المرجون لأمر الله، وتقدم أنهم ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع.
(حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعا خوفا من العاقبة وجزعا من إعراض النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنهم، وهجرهم إياهم فى المجالسة والمحادثة.
وهذا مثل للحيرة فى الأمر، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقّرون فيه قلقا وجزعا مما هم فيه، قال قائلهم:
كأنّ فجاج الأرض وهى فسيحة
…
على الخائف المطلوب كفّة حابل
ثم ترقى وانتقل من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم فى أنفسهم فقال:
(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي وضاقت أنفسهم على أنفسهم، لما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم بامتلائها بالهمّ والغم حتى لا متسع فيها لشىء من البسط والسرور، فكأنهم لا يجدون لأنفسهم مكانا ترتاح إليه وتطمئن به.
(وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي واعتقدوا أنه لا ملجأ من غضب الله ورسوله، إلا إليه تعالى بالتوبة والاستغفار ورجاء رحمته، وقد أعرض عنهم رسوله البرّ الرحيم بأصحابه، فلم يكونوا يستطيعون أن يطلبوا دعاءه واستغفاره- إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع فى الدنيا، ولا فى الآخرة إلا لمن ارتضى الله أن يشفع لهم.
(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي ثم عطف عليهم وأنزل قبول توبتهم.
(لِيَتُوبُوا) ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى كثير القبول لتوبة التائبين، الواسع الرحمة للمحسنين، المتفضل عليهم بضروب النعم مع استحقاقهم لأعظم أنواع العقاب.
وكان من حديث هؤلاء الثلاثة ما
حدثه كعب قال: «لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّمت عليه فرد علىّ كالمغضب بعد ما ذكرنى وقال: «ليت شعرى ما خلّف كعبا» فقيل له ما خلّفه إلا حسن برديه والنظر فى عطفيه فقال:
«معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاما» ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب أو بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع (جبل بالمدينة) أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا، وكنت كما وصفني ربى و (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) وتتابعت البشارة، فلبست ثوبى وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس فى المسجد وحوله المسلمون فقام إلىّ طلحة بن عبد الله يهرول حتى صافحنى وقال: لتهنك توبة الله، فلن أنساها لطلحة،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر، أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية» .
وفى هذه القصة عبرة للمؤمنين تخشع لها قلوبهم وتفيض لها عبراتهم، وقد كان لإمام أحمد لا يبكيه شىء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات.
انظر إلى هذا وتأمل قسوة قلوب الجاهلين المغرورين، الذين يقترفون الفواحش والمنكرات، ويتركون الفرائض ويصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ولا يتوبون إلى الله ولا هم يذّكرون، وإذا وعظهم الواعظ وجدهم بين جازم بالمغفرة والعفو عنه، ومتكل على شفاعة الشافعين له، ومنهم من يحفظ من أخبار مكفرات الذنوب مما لا أصل له فى الدين، أو له أصل يراد به تكفير الصغائر بشرط اجتناب الكبائر، كما قال تعالى:
«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» .
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله اتقوا الله وراقبوه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه، وكونوا فى الدنيا من أهل ولايته وطاعته تكونوا فى الآخرة مع الصادقين فى الجنة، ولا تكونوا مع المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب ويؤيدونه بالحلف.
أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له، اقرءوا إن شئتم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين»
ولا رخصة فى الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب، أو إصلاح بين اثنين، أو رجل يحدّت امرأته ليرضيها، أي فى التحبب إليها بوصف محاسنها ورضاه عنها، لا فى مصالح الدار والعيال وغيرها.