الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
لما أمر الله رسوله فى هذه السورة أن يبلغ الخلق تكاليف شاقة يعسر تحملها إلا على من خصّ بوجوه التوفيق والكرامة- ختمها بما يوجب تحملهم تلك، التكاليف فبيّن أن هذا الرسول منهم، فما يحصل له من عز وشرف فهو عائد إليهم، إلى أنه يشقّ عليه ضررهم، وتعظم رغبته فى إيصال خيرى الدنيا والآخرة إليهم فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم عليهم، والطبيب الحاذق ربما أقدم على علاج يصعب تحمله، والأب الرحيم ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها كما قال:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما
…
فليقس أحيانا على من يرحم
قال أبىّ بن كعب رضى الله عنه: إن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن، لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب أنه قال: آخر آية نزلت «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» وآخر سورة نزلت براءة، وعن ابن عباس: آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه وسلم ثمانون يوما.
الإيضاح
(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم، والآية بمعنى قوله «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ» .
ذاك أن منّته على قومه أعظم، وحجته بكتابه أنهض، وأولى قومه به قبيلته قريش ثم عشيرته الأقربون بنو هاشم وبنو المطلب، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم، وقد وجه دعوته إلى الأقرب فالأقرب، فآمن العرب بدعوته مباشرة، وآمن العجم بدعوة العرب، والعرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه له صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والعمل وبما شاهدوا من آيات الله فى شخصه.
وقد امتنّ الله عليه وعلى قومه بالقرآن المجيد فقال «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» أي وإنه لشرف لك ولهم تذكرون به فى العالم ويدوّن لكم فى بطون الكتب والدفاتر:
وإنما قاومه أكابر قومه أنفه واستكبارا عن اتباعه، إذ هم يرونه دونهم- إلى أن فى اتباعه إقرارا بكفرهم وكفر آبائهم الذين يفاخرون بهم، إلى أنهم لم يكونوا على ثقة من فوزه ونيلهم باتباعه مجد الدنيا وسعادة الآخرة.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شديد عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه لأنه منكم، فليس من الهين عليه أن تكونوا فى الدنيا أمة ذليلة يعنتها أعداؤها بالسيطرة عليها والتحكم فيها، ولا أن تكونوا فى الآخرة من أصحاب النار التي وقودها الناس والحجارة (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على اهتدائكم وصلاح شأنكم كما قال الله تعالى «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» .
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي هو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين، فكل ما يدعو إليه من العمل بشرائع الله فهو دليل على ثبوت هذه الصفات له، وكل شاق منها كالجهاد فهو منجاة مما هو أشق منه.
وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال فى قوله (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريّها وربيعيها ويمانيها- يريد أن نسبه تشعب فى جميع قبائل العرب وبطونها.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) أي فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان بك والاهتداء بما جئتهم به، فقل حسبى الله فإنه يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم وما يتبعه من عداوتهم وصدهم عن سبيله، وقد بلّغت وما قصرت.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود سواه ألجأ إليه بالدعاء والإعانة، وهو الكافي والمعين.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه وحده توكلت فلا أكل أمرى فيما أعجز عنه إلى غيره.
(وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) العرش مركز تدبير أمور الخلق كما قال تعالى «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» وعظمته بعظمة الرب الذي استوى عليه، وعظمة الملك الكبير الذي هو مركز تدبيره، وعظمة العرش والملك فى الملأ الأعلى وفيما دونه هى مظهر عظمة الله سبحانه وتعالى، ودليل على أنه وحده الإله الحق الذي لا ينبغى أن يعبد غيره ولا يتوكل على سواه، وهو المالك للعالم كله والمدبر لهم.
روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن زيد بن ثابت فى جمع القرآن وكتابته فى عهد أبى بكر أنه قال: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخرها- يريد أنه لم يجدهما مكتوبتين عند ما جمع المكتوب فى الرقاع والأكتاف والعسب إلا عنده، وقد كانتا محفوظتين معروفتين للكثير كما صرح بذلك فى الروايات الأخرى
فقد أخرج ابن أبى داود فى المصاحف عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ- إلى قوله وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدرى والله إلا أنى أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما وحفظتهما، فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كانت ثلاث آيات لجعلتهما سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها بها، فألحقت فى آخر براءة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر، فقال عمر لا أسألك عليها بينة أبدا، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها.
ومن هذه الروايات يعلم أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين، إلا أنهم اختلفوا فى موضعهما ففى بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وفى بعضها أنهما وضعتا بالرأى والاجتهاد، ولكن المعتمد هو الأول، لأن من حفظ التوقيف حجة على من لم يحفظ.
قال الحافظ بن حجر فى شرح البخاري: إن زيدا لم يكن يعتمد فى جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه، واكتفاؤه بخزيمة وحده إنما كان لأنه لم يجدهما مكتوبتين عند غيره، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره، وحسبك دليلا على ذلك قوله:
إنهم كانوا يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فهو صريح فى أن البحث عمن كتبها فقط اه.
فجملة القول إن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة وإنما اختلفوا حين الجمع فى موضع كتابتهما حتى شهد من شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعهما فى آخر سورة براءة، وفاقا لقول أبىّ بن كعب وهو أحد الذين تلقّوا القرآن كله مرتبا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا زيد بن ثابت وكان عدد المختلفين فى موضعهما قليلا، فلما كتبتا فى المصاحف وافق الجميع على وضعهما هذا، ولم يروا أىّ اعتراض على ذلك ممن كتبوا لأنفسهم مصاحف اعتمدوا فيها على حفظهم كابن مسعود رضى الله عنه.