الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحكام القتال وختمها ببيان أنه لا إله غيره يخشى ضره، أو يرجى خيره فتترك هذه الأحكام لأجله- ذكر هنا أنه لا ينبغي التردد فى أمر المنافقين وتقسيمهم فئتين، مع أن دلائل كفرهم ظاهرة جلية، فيجب أن تقطعوا بكفرهم وتقاتلوهم حيثما وجدوا.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت فى قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون فى شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية.
الإيضاح
(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي فما لكم صرتم فى المنافقين فئتين واختلفتم فى كفرهم مع تظاهر الأدلة عليه، فليس لكم أن تختلفوا فى شأنهم، بل عليكم أن تقطعوا بثبوته.
وهؤلاء فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين والولاء لهم وهم كاذبون فيما يظهرون فضلهم، مع أمثالهم من المشركين، لكنهم يحتاطون ويظهرون الولاء للمسلمين إذا رأوا منهم القوة، فإذا ما ظهر لهم منهم ضعف انقلبوا عليهم وأظهروا لهم العداوة.
وكان المؤمنون فى أمرهم فرقتين، فرقة ترى أنهم يعدّون من الأولياء ويستعان بهم على سائر المشركين المجاهرين لهم بالعداوة، وفرقة ترى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المشركين المعلنين العداوة.
(وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) أي كيف تفترقون فى شأنهم والله قد صرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشرك واجترحوا من المعاصي، حتى إنهم لا ينظرون إليكم نظرة المودة والإخاء، بل نظرة العداوة والبغضاء، ويتربصون بكم الدوائر.
وقد جعلهم الله مركسين كأنهم قد نكسوا على رءوسهم وصاروا يمشون على وجوههم كما قال تعالى «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟» لأنهم قد فسدت فطرتهم وأحاطت بهم خطيئاتهم، فأوغلوا فى الضلال، وبعدوا عن الحق، حتى لم يعد يجول فى أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه.
وقد نسبه الله تعالى إليه لأنه ما كان سببا إلا بسنته فى تأثير الأعمال الاختيارية فى نفوس العالمين.
(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟) أي إنه ليس فى استطاعتكم أن تبدلوا سنن الله فى نفوس الناس فتريدوا أن تحصلوا على مقاصد وغايات ضد ما انطبع فيها من الأخلاق والصفات، بتأثير ما كسبته طوال عمرها من الأعمال.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) أي ومن تقضى سننه فى خلقه أن يكون ضالا عن طريق الحق فلن تجد له سبيلا يصل بسلوكها إليه، فإن للحق سبيلا واحدة هى صراط الفطرة المستقيم، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وعن شمالها، كل من سلك منها سبيلا بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله فى السبيل التي سلكها كما قال تعالى «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم معنى الآية بالخطوط الحسية، فخط فى الأرض خطا وجعله مثالا لسبيل الله، وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان، وهذه الخطوط المستقيمة لا تلتقى مع الخط الأول بحال.
وسبيل الفطرة تقتضى أن يعرض الإنسان جميع أعماله على سنن العقل ويتّبع ما يظهر له أنه الحق الذي فيه منفعته عاجلا وآجلا، وفيه كماله الإنسانى.
وأكثر ما يصده عن هذه السبيل التقليد والغرور وظنه أنه ليس هناك ما هو أكمل مما هو فيه، وبهذا يقطع على نفسه طريق العقل والنظر فى النفع والضر والحق والباطل.
وشبهته فى ترك صراط الفطرة أن عقله قاصر عن التمييز بين الحق والباطل والخير
والشر، فعليه أن يتبع ما وجد عليه الآباء والأجداد من زعماء عصره ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
ثم ذكر سبحانه ما يجول فى صدور أولئك المنافقين من أمانىّ فقال:
(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) أي إن هؤلاء لا يقنعون بما هم عليه من الضلال والغواية، بل يطمعون أن تكونوا أمثالهم وتحذوا حذوهم حتى يقضى على الإسلام الذي أنتم عليه، وهذا منتهى ما يكون من الغلوّ والتمادي فى الكفر، حيث لا يكتفون بضلالهم بل يرجون إضلال غيرهم.
ثم حذر المؤمنين من غوائل نفاقهم فقال:
(فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وإذا كانت هذه حالهم فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين حتى يؤمنوا ويهاجروا ويشاركوكم فى سائر شئونكم، فإن الصادقين فى إيمانهم لا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه عرضة للخطر، ولا يتركون الهجرة إلا إذا عجزوا عنها، وإذا فتركهم لها علامة على نفاقهم الذي اختلفتم فيه.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي فإن أعرضوا عن الهجرة فى سبيل الله ولزموا مواضعهم فى خارج المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم واقتلوهم أينما وجدتموهم فى الحلّ أو فى الحرم، ولا تتخذوا منهم وليا يتولى شيئا من مهامّ أموركم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم.
وقد استثنى منهم من تؤمن غائلتهم بأحد أمرين:
(1)
(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إلا الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين فيدخلون فى عهدهم ويرضون بحكمهم فيمتنع قتالهم مثلهم.
(أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أي أو جاءوكم قد ضاقت صدورهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فلا تنشرح لأحد الأمرين.
وخلاصة ذلك- أن يجيئوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم ولا يقاتلون قومهم معهم
بل يكونون على الحياد، فهم لا يقاتلون المسلمين حفظا للعهد ولا يقاتلون قومهم، لأنهم قومهم، وقبول معذرة الفريقين موافق لما بنى عليه الإسلام من التسامح والسماحة وعدم الاعتداء كما قال «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا» .
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) أي إن الله تعالى رحمكم بأن كف بأس هاتين الفئتين وصرفهم عن قتالكم وقذف الرعب فى قلوبهم، ولو شاء لسلطهم عليكم بأن يلهمهم من الآراء ويسوق إليهم من الأخبار ما به يرجحون ذلك فيقاتلوكم، ولكنه بتوفيقه ونظامه فى الأسباب والمسببات، وسننه فى الأفراد والجماعات، جعل الناس فى ذلك العصر أصنافا ثلاثة:
1) سليمو الفطرة الذين حصفت آراؤهم فسارعوا إلى الإيمان واستناروا بنور الإسلام.
2) المسالمون الذين رجحوا أن يكونوا على الحياد لا مع المشركين ولا مع المؤمنين.
3) الموغلون فى الضلال والشرك والمحافظون على القديم وهم المحاربون.
(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) أي فإن اعتزلتكم إحدى هاتين الفئتين ولم تقاتلكم بل ألقت إليكم السلم وأعطتكم زمام أمرها، فما جعل الله لكم من سبيل تسلكونها للاعتداء عليها، إذ من قواعد ديننا ألا نعتدى إلا على من يعتدى علينا ولا نقاتل إلا من قاتلنا.
روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال «لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومى من بنى مدلج فأتيته فقلت أنشدك النعمة، فقالوا مه، فقال دعوه، ما تريد؟ قلت بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومى وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا، وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد فقال (اذهب معه فافعل ما يريد) فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، ومن وصل إليهم من الناس كان له مثل عهدهم، فأنزل الله تعالى (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ- حتى بلغ- إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم» .
وقال الرازي: إن النبي صلى الله عليه وسلم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمى على ألا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال.
ثم بين سبحانه حال جماعة آخرين وبالغ فى ذمهم فقال:
(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) هؤلاء فريق ممن لم يهتدوا بالإسلام ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله وقتالهم فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين، فهم قد غلت عليهم أرواحهم، ورخصت عليهم عقولهم، يظهرون لكل من الفئتين أنهم منهم أو معهم وقد روى عن مجاهد أن ناسا كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون فى الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
(كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) أي كلما دعوا إلى الشرك (كما روى عن السدى) أركسوا فيه وتحولوا إليه أقبح تحول، فهم يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين.
إما بإظهار الإسلام، وإما بالعهد على السلم وترك القتال ثم يفتنهم المشركون أي: يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين، فيرتكسون ويتحولون شر التحول معهم، وهكذا يفعلون ذلك المرة بعد المرة، فهم قد مردوا على النفاق.
وقد بين الله حكمهم بقوله:
(فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي فإن لم يعتزلوكم ويتركوكم وشأنكم ويلتزموا الحياد ويلقوا إليكم السلم: أي زمام المسالمة على الطريق التي ترونها نافعة لكم، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس- فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم فلا علاج لهم غير ذلك كما ثبت بالتجارب والاختبار.
(وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة، وبرهانا ظاهرا على قتالهم.