الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخرج ابن جرير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم فى المال ويعمل فيه، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا، فلما نزلت آيات المواريث فى سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم فى المال والمرأة التي هى كذلك فيرثان كما يرث الرجل، فرجوا أن يأتى فى ذلك حدث من السماء فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتى حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ، ثم قالوا سلوا، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الإيضاح
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أي يطلبون منك الفتيا فى شأنهن ببيان ما غمض وأشكل من أحكامهن، من جهة حقوقهن المالية والزوجية، كالعدل فى المعاملة حين العشرة، وحين الفرقة والنشوز.
(قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) بما يوحيه إليك من الأحكام فى كتابه.
(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) أي ويفتيكم فى شأنهن ما يتلى عليكم فى الكتاب مما نزل قبل هذا الاستفتاء فى أحكام معاملة يتامى النساء اللاتي قد جرت عادتكم ألا تعطوهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان فى أيديكم، لولايتكم عليهن وترغبون فى أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن، أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن فلا تنكحوهن ولا تنكحونهن غيركم حتى يبقى ما لهن فى أيديكم، وقد كان الرجل منهم يضم اليتيمة ومالها إلى نفسه، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها، وما يتلى عليكم أيضا فى شأن المستضعفين من الولدان الذين لا تعطونهم نصيبهم من الميراث، وقد كانوا إنما يورّثون الرجال دون الأطفال والنساء.
والخلاصة- إن الذي يتلى عليهم فى الضعيفين: المرأة واليتيم هو ما تقدم فى أول
السورة وأن الله يذكرهم بتلك الآيات المفصلة ليتدبروها ويتأملوا معانيها ثم يعملوا بها، إذ قد جرت طباع البشر أن يتغافلوا عن دقائق الأحكام والعظات التي ترجعهم عن أهوائهم وتؤنبهم على اتباع شهواتهم.
(وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي يفتيكم أن تقوموا لليتامى من هؤلاء النساء والولدان المستضعفين بالقسط، بأن تهتموا بهم اهتماما خاصا وتعنوا بشأنهم ويجرى العدل فى معاملتهم على أكمل الوجوه وأتمها، فإن ذلك هو الواجب الذي لا هوادة فيه، ولا خيرة فى شأنه.
ثم رغبهم فى العمل بما فيه فائدة لليتامى، وحبب إليهم النّصفة فقال:
(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) أي وما تفعلوه من الخير لليتامى فهو مما لا يعزب عن علمه، وهو مجازيكم به ولا يضيع عنده شىء منه.
(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) أي وإن توقعت من بعلها نشوزا وترفعا عليها بما لاح لها من مخايل ذلك وأماراته، بأن منعها نفسه ونفقته والمودة والرحمة التي تكون بين الرجل والمرأة، أو آذاها بسبّ أو ضرب أو نحو ذلك، أو إعراضا عنها بأن قلل من محادثتها ومؤانستها لبعض أسباب من طعن فى سن أو دمامة أو شىء فى الأخلاق أو الخلق أو ملال لها أو طموح إلى غيرها أو نحو ذلك.
والواجب عليها أن تتثبت فيما تراه من أمارات الإعراض فربما كان الذي شغله عن مسامرتها والرغبة عن مباعلتها، مسائل من مشاكل الحياة الدنيوية أو الدينية، وهى أسباب خارجية لا دخل له فيها، ولا تعلق لها بكراهتها والجفوة عنها، وحينئذ عليها أن تعذره، وتصبر على ما لا تحب من ذلك، أما إذا استبان لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها.
(فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أي فلا بأس بهما فى أن يصلحا بينهما صلحا كأن تسمح له ببعض حقها عليه فى النفقة أو المبيت معها، أو بحقها كله فيهما أو فى أحدهما، لتبقى فى عصمته مكرّمة، أو تسمح له ببعض المهر ومتعة الطلاق أو بكل
ذلك ليطلقها كما جاء فى قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» وإنما يحل له ذلك إذا كان برضاها، لاعتقادها أن فى ذلك الخير لها بلا ظلم لها ولا إهانة.
وقد روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد فقالت له:
لا تطلقنى ودعنى أقوم على ولدي وتقسم لى فى كل شهرين، فقال إن كان هذا يصلح فهو أحبّ إلىّ، فأقرها على ما طلبت.
(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من التسريح والفراق، لأن رابطة الزوجية من أعظم الروابط وأحقها بالحفظ، وميثاقها من أغلظ المواثيق.
وعروض الخلاف بين الزوجين وما يترتب عليه من نشوز وإعراض وسوء معاشرة من الأمور الطبيعية التي لا يمكن زوالها من البشر.
وأجمل ما جاء فى الإسلام لمنعه هو المساواة بينهما فى كل شىء إلا القيام برياسة الأسرة، لأنه أقوى من المرأة بدنا وعقلا وأقدر على الكسب وعليه النفقة كما جاء فى قوله «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» .
فيجب على الرجل أن يعاشرها بالمعروف وأن يتحرى العدل بقدر المستطاع.
(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) أي إن النفوس عرضة له، فإذا عرض لها داع من دواعى البذل ألمّ بها الشح والبخل ونهاها أن تبذل ما ينبغى بذله لأجل الصلح، فالنساء حريصات على حقوقهن فى القسم والنفقة وحسن العشرة، والرجال حريصون على أموالهم أيضا، فينبغى أن يكون التسامح بينهما كاملا، إذ هما قد ارتبطا ارتباطا وثيقا بذلك الميثاق العظيم وأفضى بعضهما إلى بعض.
ثم رغب فى بقاء الرابطة الزوجية جهد المستطاع فقال:
(وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي وإن تحسنوا العشرة فيما بينكم وتتقوا أسباب النشوز والإعراض وما يترتب عليهما من الشقاق، فإن الله كان خبيرا بذلك لا يخفى عليه شىء منه، فهو يجازى من أحسن الحسنى ويثيبه على ذلك.
ثم بين أن العدل بين النساء فى حكم المستحيل، فعلى الرجل أن يعمل جهد المستطاع قال
(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أي مهما حرصتم على العدل والمساواة بين المرأتين، حتى لا يقع ميل إلى إحداهما ولا زيادة ولا نقص، فلن تستطيعوا ذلك ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائها به، ومن ثم رفع الله ذلك عنكم وما كلفكم إلا العدل فيما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم، لأن الباعث على الكثير من هذا الميل هو الوجدان النفسي والميل القلبي الذي لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره ولا يملك آثاره الطبيعية، ولهذا خفف الله ذلك عنكم وبين أن العدل الكامل غير مستطاع ولا يتعلق به تكليف.
(فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي وإذا كان ذلك غير مستطاع فعليكم ألا تميلوا كل الميل إلى من تحبون منهن وتعرضوا عن الأخرى.
(فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي فتجعلوها كأنها ليست بالمتزوجة ولا بالمطلقة، فإن الذي يغفره لكم من الميل هو ما لا يدخل فى اختياركم ولا يكون فيه تعمد التقصير أو الإهمال، أما ما يقع تحت اختياركم فعليكم أن تقوموا به، إذ لا هوادة فيه.
(وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي وإن تصلحوا فى معاملة النساء وتتقوا ظلمهن وتفضيل بعضهن على بعض فيما يدخل فى اختياركم كالقسم والنفقة فإن الله يغفر لكم ما دون ذلك مما لا يدخل فى اختياركم كالحب وزيادة الإقبال وغير ذلك.
وفى الآية عظة وعبرة لمن يتأملها من عبّاد الشهوات الذين لا يقصدون من الزوجية إلا التمتع باللذات الحيوانية دون مراعاة أهم أسس الحياة الزوجية التي ذكرها الله فى قوله:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» ولا يلاحظون أمر النسل وإصلاح الذرية، هؤلاء السفهاء الذوّاقون الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا، ولا باعث لهم إلا حب التنقل والملل من السابقة، ولا يخطر لهم أمر العدل فى بال- عليهم أن يتقوا الله ويكفروا فى ميثاق الزوجية وفى حقوقها المؤكدة وفى عاقبة نسلهم وشؤون ذريتهم وفى حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على أسس الشهوات والأهواء وفى حال ذريتهم التي تنشأ بين أمهات متعاديات.