الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فى هذه السورة كثيرا من الأمور الدينية من عبادته تعالى وعدم الشرك به، والمدنية كمعاملة ذوى القربى والجيران واليتامى والمساكين، والشخصية كأحكام الزواج والمصاهرة والمواريث، بيّن فى هذه الآيات بعض الأحكام الحربية والسياسية، ورسم لنا الطريق التي نسير عليها فى حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول من الأعداء.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي احترسوا واستعدوا لاتقاء شر العدوّ، بأن تعرفوا حاله ومبلغ استعداده وقوته، وإذا كان لكم أعداء كثيرون فاعرفوا ما بينهم من وفاق وخلاف، واعرفوا الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا، واعملوا بتلك الوسائل، ويدخل فى ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده وأسلحته واستعمالها وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء وجر الأثقال، وعلى الجملة اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها من طيارات وقنابل ودبابات وبوارج مدرّعة ومدافع مضادة للطائرات إلى نحو ذلك حتى لا يهاجمكم على غرّة أو يهددكم فى دياركم، وحتى لا يعارضكم فى إقامة دينكم أو دعوتكم إليه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة على علم بأرض عدوهم، كما كان لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار (قلم مخابرات) ولما أخبروه بنقض قريش للعهد (إخلالهم بشروط المعاهدة فى صلح الحديبية) استعد لفتح مكة ولم يفلح أبو سفيان فى تجديد العهد مرة أخرى، وقد كان يظن أن المسلمين لم يعلموا بنكثهم له.
وقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد فى حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف والرمح بالرمح.
وما رواه الحاكم عن عائشة «لا يغنى حدر من قدر» لا يناقض أخذ الحذر، لأن الأمر بالحذر داخل فى القدر، فالأمر به لندفع عنا شر الأعداء، لا لندفع القدر ونبطله، إذ القدر هو جريان الأمور بنظام تأتى فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده.
(فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي فانفروا جماعة إثر جماعة بأن تكونوا فصائل وفرقا- إذا كان الجيش كبيرا أو موقع العدو يستدعى ذلك- أو تنفر الأمة كلها جميعا إذا اقتضت الحال ذلك بحسب قوة العدو.
والخلاصة- إنكم إما أن تنفروا جماعات جماعات، وإما أن ينفر جميع المؤمنين على الإطلاق بحسب حال العدو.
وامتثال هذا الأمر يقتضى أن تكون الأمة على استعداد دائم للجهاد بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب ويتمرن عليها، وأن تقتنى السلاح الذي تحتاج إليه فى هذا النضال، وتعلم كيفية استعماله فى كل زمان بما يناسبه.
ومن هذا تعلم أن الحكومة الإسلامية يجب عليها أن تقيم هذا الواجب بنفسها لا أن تبقى عالة على غيرها، وعلى الأمة أن تساعدها عليه، بل تلزمها إياه إذا قصرت فيه، بعكس ما نراه الآن من تراخى الأمم الإسلامية وضعفها وتوانيها فى ذلك، حتى طمعت فيها كل الدول التي تجاورها واجتاحتها من أطرافها واجتثت كثيرا من كورها وأقاليمها.
وقد شدد الدين أيما تشديد فى هذا الأمر فجاء مثل هذا فى قوله تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» وجاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى.
(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) أي ليتثاقلن ويتأخرنّ عن الجهاد، والخطاب لجماعة المؤمنين بحسب الظاهر، ومنهم المنافقون وضعفة الإيمان والجبناء فالمنافقون يرغبون عن الحرب، لأنهم لا يحبون أن يبقى الإسلام وأهله ولا أن يدافعوا عنه، ويحموا بيضته
فهم يبطّئون عن القتال ويبطئون غيرهم عن النفر إليه، والجبناء وضعفة الإيمان يبطئون بأنفسهم عن القتال خورا وخوفا من صليل السيوف ومن الكرّ والفر ومقابلة العدو وهو شاكى السلاح.
ثم فصل أحوال هؤلاء الضعفاء فقال:
(فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) أي قال ذلك المبطّئ فرحا بما فعل حامدا رأيه شاكرا ربه، إذا أصابتكم المصيبة من قتل أو هزيمة- إن الله قد أنعم علىّ بالقعود فلم أكن حاضرا معهم فيصيبنى مثل ما أصابهم من البلاء والشدة.
(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) أي ولئن منّ الله عليكم بالظفر وفتح البلاد فغنمتم وأخذتم السبايا والأسرى ليقولن قول من ليس منكم ومن لم تجمعه مودة بكم- ليتنى كنت معهم فأفوز كما فازوا، فهو قد نسى ما يجب عليه من مدّ يد المعونة إليكم وبذل كل ما يمكنه من نفس أو مال ليتمّ ذلك الظفر.
ولكن ضعف إيمانه أو جبنه منعه عن هذا، إذ هذا التمني بعد فوات الفرصة دليل على ضعف العقل وكونه ممن يشرى الحياة الدنيا بالآخرة، وفى قوله: كأن لم تكن بينكم وبينه مودة تقريع وتوبيخ بألطف القول وأرقّ العبارة، إذ أن قليلا من المودة كان ينبغى أن يمنع مثل هذا التمني وأن يعد هذا الإحجام نعمة، فهذا يشعر بأن صاحبه لا يرى نعمة الله على المؤمنين نعمة وفضلا عليه، ولا ما يصيبهم من جهد وبلاء كأنه يصيبه هو، مع أن القرآن يصرح بأن المؤمنين إخوة، والحديث يدل على أنهم كأعضاء الجسم الواحد وكالبنيان يشد بعضه بعضا.
ومن فوائد هذا الأسلوب أنه يؤثر فى نفس سامعه تأثيرا لا يدنو من مثله الطعن بهجر القول، إذ يدعو صاحبه إلى التأمل والتفكر فى حقيقة حاله ومعاتبة نفسه، والتوبة إلى ربه، والرجوع إلى أوامر دينه.