الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقة الإيمان ولا ذاقوا حلاوته، ولا أشربت قلوبهم حبه، ولا عرفوا فضائله ومناقبه.
ثم أوعد بعدئذ المنافقين بالعذاب الأليم وذكر أنهم أنصار الكافرين على المؤمنين، فلا ينبغى للمؤمنين أن يتخذوا منهم أولياء، ولا أن يبتغوا عندهم جاها ولا منزلة.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) أي إن هؤلاء قد استبان من ذبذبتهم واضطراب أحوالهم من إيمان إلى كفر، ثم من كفر إلى إيمان وهكذا دواليك- أنهم قد فقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان وفقه مزاياه وفضائله ومثلهم لا يرجى لهم- بحسب سنن الله فى خليقته- أن يهتدوا إلى الخير ولا أن يسترشدوا إلى نافع ولا أن يسلكوا سبيل الله، فجدير بهم أن يمنع الله عنهم رحمته ورضوانه، ومغفرته وإحسانه، لأن أرواحهم قد دنّست، وقلوبهم قد عميت، فلم تكن محلا للمغفرة ولا للرجاء فى ثواب.
والله أرحم الراحمين واسع المغفرة لم يكن ليحرم أحدا المغفرة والهداية بمحض الخلق والمشيئة، وإنما مشيئته مقترنة بحكمته، وقد جرت سنة الله وحكمته الأزلية بأن يكون كسب البشر لعلومهم وأعمالهم مؤثرا فى نفوسهم، فمن طال عليه أمد التقليد حجب عن عقله نور الدليل، ومن طال عليه عهد الفسوق والعصيان حرم من أسباب الغفران التي ذكرها سبحانه فى قوله «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» .
ولا شك أن المغفرة وهى محو أثر الذنب من النفس إنما تكون بتأثير التوبة والعمل الصالح الذي يزيل ما علق فى النفس من تلك الآثام كما قال تعالى «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» .
(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) البشارة لا تستعمل غالبا إلا فى سارّ الأخبار، إذ هى مأخوذة من انبساط بشرة الوجه، فاستعمالها فى الأخبار السيئة يكون من باب
التهكم والتوبيخ، أي بشر المنافقين بالعذاب المؤلم الذي لا يقدر قدره، ولا يحيط بكنهه إلا علام الغيوب.
ثم بين بعض صفاتهم التي تستوجب الذم فقال:
(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي هؤلاء المنافقون هم الذين يتخذون الكافرين المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارا، ويتجاوزون ولاية المؤمنين ويتركونها، ويمالئون الكافرين عليهم، اعتقادا منهم أن الدّولة ستكون لهم، فيجعلون لهم يدا عندهم ثم وبخهم على ما فعلوا فقال:
(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) العزة: القوة والمنعة: أي إن كانوا هم بذلك يطلبون عندهم الغلبة والمنعة، فإن العزة لله يؤتيها من يشاء، فعليهم أن يطلبوها منه تعالى بصادق إيمانهم واتباعهم هدايته التي أرشد إليها أنبياءه، وبيّنوا لهم أسبابها، وقد آتاها المؤمنين حينما اهتدوا بكتابه، وساروا على سننه ونهجوا نهجه، فلما أعرضوا عن هذه الهداية التي اعتز بها أسلافهم ذلوا وخنعوا لعدوهم وصار منهم منافقون يوالون الكافرين يبتغون عندهم عزة وشرفا وما هم لها بمدركين.
وبعدئذ نهى المؤمنين أن يجلسوا مع من يتنقص الدين ويزدرى بأحكامه فقال:
(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الخطاب موجه إلى كل من يظهر الإيمان سواء أكان مؤمنا حقا أم منافقا، وما نزله فى الكتاب هو قوله فى سورة الأنعام المكية «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» وقد كان بعض المسلمين يجلسون مع المشركين وهم يخوضون فى الكفر وذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن ولا يستطيعون الإنكار عليهم لضعفهم وقوة المشركين، فأمروا بالإعراض عنهم وعدم الجلوس معهم فى هذه الحال.
ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركى مكة، وكان المنافقون يجلسون معهم ويستمعون إليهم فنهى الله المؤمنين عن ذلك.
والخلاصة- إنكم إذا سمعتم الكلام الذي يتضمن جعل الآيات فى موضع السخرية والاحتقار فابتعدوا عنهم، ولا ترجعوا إليهم حتى يعودوا إلى حديث آخر.
وفى الآية دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يدل على التنقص والاستهزاء بالأدلة الشرعية والأحكام الدينية كما يقع من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء العلماء بالكتاب والسنة ولم يبق فى أيديهم إلا قال إمام مذهبنا كذا وقال فلان من أتباعه كذا، وإذا استدل أحد بآية قرآنية أو بحديث نبوى سخروا منه وظنوا أنه قد جاء بخطب شنيع، وجعلوا رأى إمامهم مقدما على ما نطق به الكتاب، وأرشدت إليه السنة.
(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) أي إنكم إن قعدتم معهم تكونوا شركاء لهم فى الكفر، لأنكم رضيتم به ووافقتموهم عليه.
وفى الآية إيماء إلى أن من يقر المنكر ويسكت عليه يقع فى الإثم، وإلى أن إنكار الشيء يمنع من انتشاره بين الناس.
وقد وقع فى هذا المنكر كثير من المسلمين، فإنهم يرون الملحدين فى البلاد يخوضون فى آيات الله ويستهزئون بالدين وهم يسكتون عن ذلك ولا يبدون إنكارا، ولا اشمئزازا ولا صدا ولا إعراضا.
(إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) أي إنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله فى الدنيا سيجتمعون فى العقاب يوم القيامة.
ولا يخفى ما فى هذا من الوعيد للكفار والمنافقين ثم بين بعض أحوال المنافقين فقال:
(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) يتربصون ينتظرون ما يحدث من خير أو شر: أي إن هؤلاء المنافقين ينتظرون ما يحدث لكم من كسر أو نصر، وشر أو خير.
(فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟) أي فإن نصركم الله وفتح عليكم ادّعوا أنهم كانوا معكم فيستحقون مشاركتكم فى النعمة وإعطاءهم من الغنيمة.
(وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الاستحواذ: الاستيلاء على الشيء والتمكن من تسخيره أو التصرف فيه: أي وإن كان
للكافرين نصيب من الظفر منّوا عليهم بأنهم كانوا عونا لهم على المؤمنين، بتخذيلهم والتواني فى الحرب معهم وإلقاء الكلام الذي تخور به عزائمهم عن قتالكم، فاعرفوا لنا هذا الفضل وهاتوا نصيبنا مما أصبتم.
والسر فى التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح وأنه من الله، وعن ظفر الكافرين بالنصيب- الإيماء إلى أن العاقبة للحق دائما، وأن الباطل ينهزم أمامه مهما كان له أول أمره من صولة ودولة، وقد يقع أثناء ذلك نصيب من الظفر للباطل ولكن تنتهى بغلبة الحق عليه كما قالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
مادام أهله متبعين لسنة الله بأخذ الأهبة وإعداد العدّة كما أمر بذلك الكتاب العزيز بقوله «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» .
وإنما غلب المسلمون فى هذه العصور على أمرهم وفتح الكافرون بلادهم التي فتحوها من قبل بقوة إيمانهم، لأنهم تركوا أخذ الأهبة وإعداد العدة، وقام أعداؤهم بكل ما تستدعيه الحروب الحاضرة فأنشئوا البوارج والمدافع والدبابات المدرعة، والغواصات المهلكة، والطائرات المنقضّة، إلى نحو ذلك من آلات التدمير والهلاك فى البر والبحر والجور ووسائل ذلك من علوم طبيعية أو آلية (ميكانيكية) أو رياضية.
(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي فالله يحكم بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر حكما يليق بشأن كل من الثواب والعقاب، فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، أما فى الدنيا فأنتم وهم سواء فى عصمة الأنفس والأموال كما
جاء فى الحديث «فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم» .
(وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) أي إن المؤمنين ما داموا مستمسكين بدينهم متبعين لأمره ونهيه قائمين بعمل ما يستدعيه الدفاع عن بيضة الدين من أخذ الأهبة وإعداد العدّة لن يغلبهم الكافرون، ولن يكون لهم عليهم سلطان، وما غلب المسلمون على أمرهم إلا بتركهم هدى كتابهم وتركهم أوامر دينهم وراءهم