الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعذابه، لولا أخرتنا إلى أجل قريب: أي هلا تركتنا حتى نموت حتف أنوفنا بآجالنا القريبة، متاع الدنيا: ما يستمتعون به من لذاتها، قليل: أي سريع الزوال، أينما تكونوا يدرككم الموت: أي فى أي مكان كنتم يلحقكم الموت، البروج المشيدة:
القصور العالية المطلية بالشيّد، وهو الجص، أو الحصون والقلاع المتينة التي تعتصم فيها حامية الجند، حسنة: أي شىء يحسن عند صاحبه كالرضاء والخصب والظفر بالغنيمة، سيئة: هى ما تسوء صاحبها كالشدة والبأساء والضراء والهزيمة والجرح والقتل، يفقهون حديثا: يفهمون كلاما يوعظون به.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بأخذ الحذر والاستعداد للقتال والنفر له، وذكر حال المبطئين الذين ضعفت قلوبهم، وأمرهم بالقتال فى سبيله وفى سبيل إنقاذ المستضعفين.
ذكر هنا أن الإسلام كلفهم ترك ما كانوا عليه فى الجاهلية من تخاصم وتلاحم وحروب مستمرة ولا سيما بين قبيلتى الأوس والخزرج، فإن الحروب بينهم لم تنقطع إلا بمجىء الإسلام، وأمرهم بكف أيديهم عن القتال والعدوان على غيرهم، وطلب إليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما فيهما من تهذيب النفوس والعطف والرحمة حتى خمدت من نفوس كثير منهم حمية الجاهلية وحل محلها شريف العواطف الإنسانية، إلى أن اشتدت الحاجة إلى القتال للذود عن بيضة الإسلام ودفع العدوان من أولئك المشركين الذين آذوا المسلمين وأحبوا فتنتهم فى دينهم وردهم إلى ما كانوا عليه، ففرضه عليهم فكرهه المنافقون والضعفاء فنعى ذلك عليهم ووبخهم أشد التوبيخ.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) الخطاب لجماعة المسلمين وفيهم المنافقون والضعفاء، أي ألم تر إلى أولئك الذين أمرهم الله بحقن الدماء
وكف الأيدى من الاعتداء، وإقامة الصلاة والخشوع لله، وإيتاء الزكاة التي تمكّن الإيمان فى القلوب، وتشد أواصر التراحم بين الخلق، وقد كانوا من قبل ذوى إحن وأحقاد وتخاصم وتلاحم وحروب مستمرة، فلما جاء الإسلام أحبوا أن يكتب عليهم القتال ليسيروا على ما تعودوه، ولكن حين كتب عليهم كرهه الضعفاء منهم وخافوا أن يقاتلهم الكفار وينزلوا بهم النكال والوبال، كما خافوا أن ينزل الله بهم بأسه وعقابه بل رجح خوفهم من الناس على خوفهم من الله.
ثم بين شدة هلعهم من القتال فقال حكاية عنهم:
(وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي وقالوا ربنا لماذا كتبت علينا القتال فى هذا الوقت؟ هلا أخرتنا حينا من الدهر نموت حتف أنوفنا موتا طبيعيا، وربما لا يكونون قد قصدوا وقتا معينا بل قصدوا من ذلك الهرب والتفصى عن القتال كما تقول لمن يرهقك عسرا فى أمره: أمهلنى قليلا، أنظرنى إلى أجل.
وقد أمر الله رسوله أن يردّ عليهم شبهتهم فقال:
(قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) أي إن طلبكم للإنظار إنما هو خشية الموت والرغبة فى متاع الدنيا ولذاتها، مع أن كل ما يتمتع به فى الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة، لأنه محدود فان، ومتاع الآخرة كثير باق ولا يناله إلا من اتقى الله وابتعد عن الأسباب التي تدنس النفس بالشرك والأخلاق الذميمة، فحاسبوا أنفسكم واعلموا أنكم ستجزون بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
(وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي ولا تنقصون من الجزاء على أعمالكم مقدار فتيل- والفتيل ما يكون فى شق نواة التمر مثل الخيط، وبه يضرب المثل فى القلة والحقارة-.
ثم رغهم فى القتال وبين لهم أن الموت مصير كل شىء فقال:
(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي إن الموت أمر محتم لا مهرب منه، فهو لا بد أن يدرككم فى أي مكان ولو تحصنتم فى شواهق القصور التي يسكنها ذوو الثراء والنعمة أو فى القلاع والحصون التي تقطنها حامية الجند، وإذا كان الموت لا مفر منه، وكان المرء قد يقتحم غمار الوغى، ولا يصاب بالأذى، وقد يموت
المعتصم فى البروج والحصون وهو فى غضارة العيش فلا عذر لكم أيها المثبطون المبطئون ولماذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم؟ ولماذا لا تدافعون عن الحق وتمنعون الشر أن يفشو حتى تستحقوا مرضاة الله وسعادة الآخرة؟ ولماذا تكرهون القتال وتجبنون وتخافون الناس وتتمنون البقاء، أليس هذا بضعف فى الدين وركّة فى العقل وخور فى العزيمة تؤاخذون بها وتقوم عليكم بها الحجة.
ثم ذكر سبحانه شأنا آخر من شئونهم أشد دلالة على الحمق وضعف العقل ومرض القلب فقال (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي إن أصابهم رخاء ونعمة قالوا إن الله أكرمهم بها عناية بهم وليس لهداية الرسول أثر فى ذلك، وإن أصابهم شدة وجهد قالوا هذا من شؤم محمد علينا، وهذه مقالة اليهود والمنافقين حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأصابهم القحط والجدب، وهذا زعم باطل منهم، فكل من النعمة والبلية من عند الله خلقا وإيجادا يقع فى ملكه بحسب السنن التي وضعها والأسباب والمسببات التي أوجدها (فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي ماذا أصاب هؤلاء القوم وماذا دهاهم فى عقولهم؟ فهم لا يعقلون حقيقة ما يلقونه من الحديث ولا ما يلقى إليهم، وإنما يأخذون بما يطفو من المعنى بادىء الرأى دون تمحيص ولا تحقيق، وإذا كانوا قد حرموا هذا الفقه من كل حديث، فما أحراهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن ربه فى الإخبار عن نظم الاجتماع وارتباط الأسباب بالمسببات، وعما أحاط الله به المصطفين الأخيار من وافر الفضل وخصهم به من جميل الرعاية، فتلك الحكم العالية لا تنال إلا بفضل الروية وطول الأناة والتدبير، ومن وصل إلى هذا القدر من الفهم لا يقول إن السيئة لا تقع بشؤم أحد، بل ينسب كل شىء إلى سببه.
وفى الآية إيماء إلى أن حصيف الرأى يجب أن يطلب فقه القول دون الأخذ بالجمل والظواهر، إذ من قنع بذلك بقي فى عماية ويظل طوال دهره غرّا جاهلا بما يحيط به من نظم هذا العالم.
(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود منه من أرسل إليهم.
أي إن كل حسنة تصيبك أيها المؤمن فهى من فضل الله وجوده، فهو الذي سخر لك المنافع التي تتمتع بها وتحسن لديك، فقد سخر لك الهواء الذي يحفظ الحياة، والماء العذب الذي يمد كل الأحياء، وأزواج النبات والحيوان وغيرهما من موادّ الغذاء وأنعم عليك بوسائل الراحة والهناء، وكل سيئة تصيبك فهى من نفسك فإنك بما أوتيت من قدرة على العمل، واختيار فى درء المفاسد وجلب المنافع، وترجيح لبعض المقاصد على بعض، قد تخطىء فى معرفة ما يسوء وما ينفع، لأنك لا تضبط إرادتك وهواك، ولا تحيط علما بالسنن والأسباب، فأنت ترجح بعضا على بعض إما بالهوى أو قبل أن تحيط خبرا بمعرفة النافع والضار فتقع فيما يسوء.
والخلاصة- إن هاهنا شيئين لا بد من معرفتهما:
1) إن كل شىء من عند الله على معنى أنه خالق الأشياء وواضع النظم والسنن للوصول إلى هذه الأشياء بسعى الإنسان وكسبه، وكل شىء حسن بهذا الاعتبار لأنه مظهر الإبداع والنظام.
2) إن الإنسان لا يقع فيما يسوءه إلا بتقصير منه فى معرفة السنن والأسباب، فالسوء إنما ينسب إلى الأشياء بتصرف الإنسان باعتبار أنها تسوءه وليس بذاتىّ لها، ومن ثم ينسب ذلك إلى الإنسان، فالمرض مثلا يسوءه، وهو إنما يكون بتقصيره فى السير على نهج الفطرة فى التغذية، فقد يكون من تخمة قادته إليها شهوته أو من إفراط فى تعب أو راحة أو من تعرض للبرد القارس أو للحر الشديد أو نحو أولئك من لأسباب التي ترجع كلها إلى سوء الاختيار، كما أن الأمراض الموروثة هى من جناية الإنسان على الإنسان فهى من نفسه أيضا، لا من أصل الفطرة والطبيعة التي هى محض خلق الله دون اختيار الإنسان لنفسه، فالوالدان قد يجنيان على المرء بتعريض أنفسهما
للمرض الذي ينتقل إلى نسلهما بالوراثة، كما يجنيان عليه فى صغره بعدم وقايته من أسبابه حين يكون اختيارهما له تاما قائما مقام اختياره لنفسه.
وأحيانا تسند الأشياء جميعها إلى الله ويقال إنها من عنده بمعنى أنه هو الخالق لها والواضع لسنن الأسباب والمسببات فيها.
ويسند إلى الإنسان منها كل ماله فيه كسب وعمل اختياري سواء كان من الحسنات والسيئات، وقد مضى بهذا كلام الناس وأيدته نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» .
وبهذا الاعتبار يقال إصابة الحسنة من فضل الله تعالى مطلقا، وإصابة السيئة من نفس الإنسان مطلقا، ولكل من الإطلاقين مقام يقال فيه، والمقام الذي سيقت له الآية فى بيان نفى الشؤم والتطير وإبطالهما، ليعلم الناس أن ما يصيبهم من السيئات لا يكون بشؤم أحد، وكانوا يتشاءمون ويتطيرون فى الجاهلية، وقد أبطل ذلك الإسلام لكنه لا يزال فاشيا إلى الآن.
وينبغى للإنسان حينما تصيبه سيئة أن يبحث عن سببها من نفسه، لأنها إنما تصيبه لجهله بالسنن التي وضعها الله من التماس المنافع من أسبابها، واتقاء المضار بالبعد عن أسبابها، بترجيحه فعل ما ينفع على فعل ما يضر.
وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم، وأن عصيانه مما يجلب النقم وطاعته إنما تكون باتباع سنته وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله، وهذه الآية أصل من أصول الاجتماع وعلم النفس، وفيها شفاء للناس من خرافات الوثنية، وارتفاع وتكريم للنفس الإنسانية.
(وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) والرسول ليس عليه إلا البلاغ، وليس له دخل فيما يصيب الناس من الحسنات والسيئات، لأنه لم يرسل إلا للتبليغ والهداية، لا للتصرف فى نظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها، فما زعمه أولئك الجاهلون من أن السيئة