الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمخالفة مأخوذة من الشّق كأن كل واحد من المتعاديين يكون فى شق غير الذي فيه الآخر.
المعنى الجملي
لا يزال الحديث فى الذين يختانون أنفسهم ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، وهم طعمة بن أبيرق ومن أراد مساعدته من بنى جلدته.
الإيضاح
(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أي لا خير فى كثير من تناجى أولئك الذين يسرّون الحديث من جماعة طعمة الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته ومن سائر الناس، ولكن الخير كل الخير فى نجواى، من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، وإنما قال فى كثير لأن من النجوى ما يكون فى الشؤون الخاصة كالزراعة والتجارة مثلا فلا توصف بالشر ولا هى مقصودة من الخير، وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي عنها الخير هى النجوى فى شؤون الناس ومن ثم استثنى منها الأشياء الثلاثة التي هى جماع الخير للناس.
والكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنّة الإثم والشر، ومن ثم خاطب الله المؤمنين بقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» .
والسرّ فى كون النجوى مظنة الشر فى الأكثر أن العادة قد جرت بحب إظهار الخير والتحدث به فى الملأ. وأن الشر والإثم هو الذي يذكر فى السر والنجوى،
وفى الأثر «الإثم ما حاك فى النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس» .
وقد استثنى الله من النجوى التي لا خير فى أكثرها أمورا ثلاثة، لأن خيريتها أو كمالها تتوقف على الكتمان وجعل التعاون عليها سرا والحديث فيها نجوى.
فالصدقة وهى من الخير قد يؤذى إظهارها المتصدّق عليه ويضع من كرامته، ومن ثم قال عز من قائل «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» .
وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة من إيتائه إياها جهرا ولومع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله.
وكذلك الأمر بالمعروف على مسمع من الناس فكثيرا ما يستاء منه المأمور به ولا سيما إذا كان الآمر من أقرانه لأنه يرى فى أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل وإبهاما له بالتقصير أو الجهل، فمن ثم كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء، ومثله الإصلاح بين الناس، فإنه ربما ترتب على إظهاره والتحدث به كثير من الشر، ألا ترى أن بعض الناس إذا علم أن ما يطالب به من الصلح كان بأمر فلان من الناس لا يستجيب ولا يقبل، أو يصده عن الرضا به ذكره بين الناس وعلمه بأنه كان بسعى وتواطؤ.
أخرج البيهقي عن أبى أيوب الأنصاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا أبا أيوب، ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النّعم؟ فقال بلى يا رسول الله، قال تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقرّب بينهم إذا تباعدوا»
وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» .
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن يفعل هذه الأعمال الثلاثة من الطاعات لوجه الله وطلب مرضاته فإن الله سيؤتيه الثواب العظيم والأجر الجزيل، وإنما تنال مرضاة الله بالشيء إذا فعل على الوجه الذي يحصل به الخير ويتم به النفع الذي شرع لأجله، وبذا ترقى روح الفاعل له ارتقاء تصل به إلى ذلك الفضل وتنال قربا معنويا من الله وتصير أهلا للجزاء الأوفى فى حياة أشرف من هذه الحياة وأرقى.
والخلاصة- إن ابتغاء مرضاته إنما تطلب بالإخلاص وعدم إرادة السمعة والرياء كما يفعل المتفاخرون من الأغنياء (تصدقنا. أعطينا منحنا. عملنا وعملنا) فهؤلاء إنما يبتغون الربح بما يبذلون أو يعملون لا مرضاة لله تعالى. ولذلك يشق عليهم أن بكون خفيا، وأن يخلصوا فى الحديث عنه نجيّا، لأن الاستفادة منه بجذب القلوب إليهم، وتسخير الناس لخدمتهم، ورفعهم لمكانتهم، إنما تكون بإظهاره لهم ليتعلق الرجاء فيهم.
وبعد أن وعد الله بالجزاء الحسن من يتناجون بالخير ويبتغون نفع الناس مرضاة الله عز وجل أوعد الذين يتناجون بالشر ويبيّتون ما يكيدون به للناس فقال:
(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي ومن يشاقق الرسول بارتداده عن الإسلام وإظهار عداوته له من بعد ما ظهرت له الهداية على لسانه وقامت عليه الحجة ويتبع سبيلا غير سبيل أهل الهدى- نوله ما تولى: أي نتركه وما اختار لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه.
وفى هذا بيان لسنة الله فى عمل الإنسان، وإيضاح لما أوتيه من الإرادة والاستقلال والعمل بالاختيار، فالوجهة التي يتولاها ويختارها لنفسه يوليه الله إياها: أي يجعله واليا لها وسائرا على طريقها، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه بحسب الاستعداد والإدراك وعمل ما يرى أنه خير له وأنفع فى عاجله أو آجله أو فيهما معا، ثم ندخله جهنم ونعذبه أشد العذاب، لأنه استحب العمى على الهدى وعاند الحق واتبع الهوى، وما أقبحها عاقبة لمن تفكر وتدبر! وقد اشترط فى هذا الوعيد أن يتبين له الهدى أما من لم يتبين له فلا يدخل فيه وهم أصناف: فمنهم من نظر فى الدليل ولم يظهر له الحق وبقي متوجها إلى طلبه بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص وهذا معذور غير مؤاخذ، ومنهم من لم تبلغه الدعوة الإسلامية أو بلغته مشوهة معكوسة ككثير من أهل أوربا فى العصر الحاضر، وحال هؤلاء كحال من سبقهم، ومنهم من اتبع الهدى تقليدا لمن يثق به كآبائه وخاصة أهله،