الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير المفردات
عبادة الله: الخضوع له والاستشعار بتعظيمه فى السر والعلن بالقلب والجوارح، والإخلاص له بالاعتراف بوحدانيته إذ لا يقبل عملا بدونها، والإحسان إلى الوالدين:
قصد البر بهما بالقيام بخدمتهما، والسعى فى تحصيل مطالبهما، والإنفاق عليهما بقدر الاستطاعة، وعدم الخشونة فى الكلام معهما، وذى القربى: صاحب القرابة من أخ وعمّ وخال وأولاد هؤلاء، والجار ذى القربى هو الجار القريب الجوار، والجار الجنب:
هو البعيد القرابة، والصاحب بالجنب: الرفيق فى السفر أو المنقطع إليك الراجي نفعك ورفدك، وابن السبيل هو المسافر أو الضيف، ما ملكت أيمانكم: عبيدكم وإماؤكم، والمختال: ذو الخيلاء والكبر، والفخور: الذي يعدد محاسنه تعاظما وتكبرا، أعتدنا:
هيأنا وأعددنا، والمهين: ذو الإهانة والذلة، ورئاء الناس: أي للمراءاة والفخر بما فعل، والقرين: الصاحب والخليل، وماذا عليهم: أي أىّ ضرر يحيق بهم لو آمنوا وأنفقوا؟
المعنى الجملي
كان الكلام من أول السورة فى وصايا ونصائح، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، والنهى عن إيتاء الأموال للسفهاء، وعن قتل النفس، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء، وطرق تأديبهن تارة بالموعظة الحسنة وأخرى بالقسوة والشدة مع مراقبة الله عز وجل فى كل ذلك.
فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له فى الطاعة، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس، وعدم الضن عليهم بالمال فى أوقات الشدة، مع قصد التقرب إلى الله لا لقصد الفخر والخيلاء، لأن ذاك عمل من لا يرجو ثواب الله، ولا يخشى عقابه.
الإيضاح
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) عبادة الله هى الخضوع له وتمكين هيبته وعظمته من النفس، والخشوع لسلطانه فى السر والجهر، وأمارة ذلك العمل بما به أمر، وترك ما عنه نهى، وبذا تصلح جميع الأعمال من أقوال وأفعال.
والعبادة هى الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب المعروفة يرجى خيرها ويخشى شرها، وهذه السلطة لا تكون لغير الله، فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه، فمن اعتقد أن غيره يشركه فيها كان مشركا، وإذا نهى الله عن إشراك غيره معه، فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته أولى.
والإشراك ضروب مختلفة:
منها ما ذكره سبحانه عن مشركى العرب من عبادة الأصنام باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله يقربون المتوسل بهم إليه ويقضون الحاجات عنده، وقد جاء ذكر هذا فى آيات كثيرة كقوله:«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
ومنها ما ذكره عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام، قال تعالى:
وأقوى أنواعه ما سماه الله دعاء واستشفاعا، وهو التوسل بغيره له وتوسيطه بينه وبين الله، ولا ينفع مع هذا صلاة ولا صوم ولا أي عبادة أخرى، وقد فشا هذا النوع بين المسلمين فتراهم يستشفعون ويقولون (يا شيخ العرب- يا سيد يا بدوي، يا سيدى إبراهيم الدسوقى) إلى غير ذلك.
ويعتذر بعض الناس لمثل هؤلاء، وغاية ما تصل إليه المعذرة أن يحولوهم من شرك جلىّ واضح إلى شرك أقل منه وضوحا، ولكنه شرك على كل حال.
وبعد أن أمر الله بعبادته وحده لا شريك له أعقبه بالوصية بالوالدين فقال:
(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أحسنوا بهما ولا تقصّروا فى شىء مما يطلبانه، لأنهما السبب الظاهر فى وجودكم وتربيتكم بالرحمة والإخلاص، وقد فصّلت هذه الوصية فى سورة الإسراء بقوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً»
والخلاصة- إن العبرة بما فى نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه، بشرط ألا يحدّ الوالدان من حرية الولد واستقلاله فى شئونه الشخصية أو المنزلية ولا فى الأعمال الخاصة بدينه ووطنه، فإذا أراد أحدهما الاستبداد فى شىء من ذلك، فليس من البر العمل برأيهما اتباعا لهواهما.
(وَبِذِي الْقُرْبى) أي وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين، وإذا أدى المرء حقوق الله فصحت عقيدته وصلحت أعماله، وقام بحقوق الوالدين، صلح البيت وحسن حال الأسرة، وإذا صلح البيت كان قوة كبيرة، فإذا عاون أهله ذوى القربى الذين ينسبون إليهم كان لكل منهم قوة أخرى تتعاون مع هذه الأسرة، وبذا تتعاون الأمة جمعاء، وتمدّ يد المعونة لمن هو فى حاجة إليها ممن ذكروا بعد فى قوله:
(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) لأن اليتيم قد فقد الناصر والمعين وهو الأب، وقلّما تستطيع الأم مهما اتسعت معارفها أن تقوم بتربيته تربية كاملة، فعلى القادرين أن يعاونوا فى تربيته، وإلا كان وجوده جناية على الأمة لجهله وفساد أخلاقه وكان خطرا على من يعاشرهم من لداته وجرثومة فساد بينهم.
وكذلك المساكين لا ينتظم حال المجتمع إلا بالعناية بهم وصلاح حالهم، وإلا كانوا وبالا عليه.
وهم ضربان: مسكين معذور تجب مواساته، وهو من كان سبب عدمه الضعف والعجز أو نزول آفات سماوية ذهبت بماله، ومثل هذا يجب عونه بمساعدته بالمال الذي يسدّ عوزه ويستعين به على الكسب.
ومسكين غير معذور فى تقصيره، وهو من عدم المال بإسرافه وتبذيره، ومثل هذا يبذل له النصح ويدل على طرق الكسب، فإن اتعظ وقبل النصح فبها، وإلا ترك أمره إلى أولى الأمر فهم أولى بتقويم معوجّه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه.
(وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) الجوار ضرب من ضروب القرابة فهو قرب بالمكان والسكن، وقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب، فيحسن أن يتعاون الجاران، ويكون بينهما الرحمة والإحسان، فإذا لم يحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس، وقد حث الدين على الإحسان فى معاملة الجار ولو غير مسلم فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم ابن جاره اليهودي، وذبح ابن عمر شاة فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي، أهديت لجارنا اليهودي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه»
وروى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» .
وحدد الحسن البصري الجوار بأربعين جارا من كل جانب من الجوانب الأربعة، والأولى عدم التحديد بالدور وجعل الجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه فى غدوك أو رواحك إلى دارك.
وإكرام الجار من شيم العرب قبل الإسلام وزاده الإسلام توكيدا بما جاء فى الكتاب والسنة، ومن إكرامه إرسال الهدايا إليه، ودعوته إلى الطعام، وتعاهده بالزيارة والعيادة إلى نحو ذلك.
(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) روى عن ابن عباس أنه الرفيق فى السفر والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، وقيل من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا، فيشمل صاحب الحاجة الذي يمشى بجانبك، يستشيرك أو يستعين بك.
(وَابْنِ السَّبِيلِ) هو السائح الرّحالة فى غرض صحيح غير محرم، والأمر بالإحسان إليه يتضمن الترغيب فى السياحة والإعانة عليها، ويشمل اللقيط أيضا وهو أجدر بالعناية من
اليتيم وأحق بالإحسان إليه، وقد عنى الأوروبيون بجمع اللقطاء وتربيتهم وتعليمهم، ولولا ذلك لاستطار شرهم، وعمّ ضرّهم، وقد كنا أحق بهذا الإحسان منهم، لأن الله قد جعل فى أموالنا حقا معلوما للسائل والمحروم.
(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم ويشمل هذا تحريرهم وعتقهم وهو أتم الإحسان وأكمله، ومساعدتهم على شراء أنفسهم دفعة واحدة أو نجوما وأقساطا، وحسن معاملتهم فى الخدمة بألا يكلفوا ما لا يطيقون ولا يؤذون بقول ولا بفعل، وقد روى الشيخان قوله صلى الله عليه وسلم «هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» .
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم الوصية بهم فى مرض موته، وكان ذلك من آخر وصاياه،
فقد روى أحمد والبيهقي من حديث أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت «الصلاة وما ملكت أيمانكم» .
وقد أوصانا سبحانه بهؤلاء حتى لا يظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم ويجعلهم كالحيوانات المسخرة.
ثم ذكر ما هو علة للأمر السابق فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً) المختال: المتكبر الذي تظهر آثار الكبر فى حركاته وأعماله، والفخور: المتكبر الذي تظهر آثار الكبر فى أقواله، فتجده يذكر ما يرى أنه ممتاز به عن الناس زهوا بنفسه، واحتقارا لغيره.
والمختال الفخور مبغوض عند الله، لأنه احتقر جميع الحقوق التي أوجبها للناس وأوجبها لنفسه من الشعور بعظمته وكبريائه، فهو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا لها.
فالمختال لا يقوم بعبادة ربه حق القيام، لأن العبادة لا تكون إلا عن خشوع للقلب، ومن خشع قلبه خشعت جوارحه، ولا يقوم بحقوق الوالدين ولا ذوى القربى،
لأنه لا يشعر بحق لغيره عليه، وبالأولى لا يشعر بحق لليتيم أو المسكين أو لجار قريب أو بعيد، فهو لا يرجى منه برّ ولا إحسان، وإنما يتوقع منه إساءة وكفران، ومن الكبر والخيلاء إطالة الثوب وجر الذيل بطرا ومرحا، قال تعالى:«وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» .
وليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورا فى غير غلظة، عزيز النفس مع الأدب والرقة.
روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال صلى الله عليه وسلم «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس»
بطر الحق: رده استخفافا وترفعا، وغمص الناس احتقارهم والازدراء بهم.
ثم بين المختال الفخور فقال:
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) روى ابن اسحق وابن جرير عن ابن عباس- كان جماعة من اليهود يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر فى ذهابها ولا تسارعوا فى النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله تعالى:(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلى قوله- وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) :
والمراد بالبخل فى الآية البخل بالإحسان الذي أمر به فيما تقدم، فيشمل البخل بلين الكلام وإلقاء السلام والنصح فى التعليم وإنقاذ المشرف على التهلكة، وكتمان ما آتاهم الله من فضله يشمل كتمان المال وكتمان العلم.
ثم بين عاقبة أمرهم وعظيم نكالهم فقال:
(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي وهيأنا لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابا يهيهم ويذلهم، فهو عذاب جامع بين الألم والذلة جزاء لهم على ما اقترفوا،
وسماهم الله كفارا للإيذان بأن هذه أخلاق وأعمال لا تصدر إلا من الكفور، لا من المؤمن الشكور.
(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) الرئاء والرياء والمراءاة سواء، أي إن مانعى الإحسان من أهل الفخر والخيلاء فريقان: فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم، وفريق يبذل المال لا شكرا لله على نعمه ولا اعترافا لعباده بحق، بل ينفقونها مرائين الناس: أي يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم ويحمدوا فعلهم.
والكبرياء كما تكون من شىء فى نفس الشخص، تكون أيضا بما يكون له من المال والنسب، والمرائى أقل شرا من البخيل، إذ هو يحمل الناس على قبول فخره واختياله فى مقابلة ما يبذله لهم من مال، فكأنه رأى لهم عليه حقا عوضا من التعظيم والثناء الذي يطلبه بريائه، وأما البخيل فقد بلغ من احتقاره للناس أنه لا يرى لهم عليه شيئا من الحقوق، فهو يكلفهم تعظيمه، وأمواله مدّخرة فى الصناديق.
والمرائى بخيل فى الحقيقة إذ هو إنما يبذل المال لمن لا حق لهم عنده، ويبخل على أرباب الحقوق كالزوجة والولد والخادم والأقربين كالوالدين، ولا يتحرى فى إنفاقه النفع العام ولا الخاص، وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح، وإن كان الإنفاق ضارا كالمساعدة على فسق أو فتنة، فهو تاجر يشترى تعظيم الناس له وتسخيرهم للقيام بخدمته.
(وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إن المؤمنين المرائين فى إنفاقهم يثقون بما عند الناس من المدح والثناء والتعظيم والإطراء، ولا يثقون بما أعد الله لعباده من الثواب والجزاء، ويفضلون التقرب إليهم على التقرب إليه، فالله فى نظرهم أهون من الناس، فمثل هؤلاء لا يعدّون مؤمنين إيمانا حقيقيا بالله ولا باليوم الآخر، بل إيمانهم ضرب من التخيل ليس له ما يؤيده من أثر فى القلب ولا إذعان للنفس، فهم لا يعرفون الله، وإنما يسمعون الناس يقولون قولا فيقلدونهم فيما يحفظونه منهم، فهم لا يعرفون أنه موجد الكائنات النافذ علمه وقدرته فيما فى الأرض والسموات، ولو كانوا مؤمنين باليوم الآخر وأن هناك حياة أبدية لما فضلوا عليها عرض هذه الحياة القصيرة.
ومن أمارات التفرقة بين المخلص والمرائى، أن الأول قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كترغيب بعض الناس في البذل كأن يقول إنى على ما بي من فقر قد أعطيت كذا درهما فى مصلحة كذا فاللائق بمثلك أن يبذل كذا وكذا درهما.
أما الثاني فهو يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل، كما لا يبذل المال ولا يعمل العمل الصالح إلا بقصد الرياء والسمعة، إذ ليس له وراء حظوظ الدنيا أمل ولا مطلب.
(وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ، لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) أي إن هؤلاء المتكبرين ما حملهم على ما فعلوا إلا وسوسة الشيطان وهو بئس الصاحب والخليل- والمقصد من هذا أن حالهم فى الشر كحال الشيطان.
وفى الآية إيماء إلى تأثير قرناء المرء فى سيرته وأن الواجب اختيار القرين الصالح على قرين السوء، وتعريض بتنفير الأنصار من معاشرة اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق فى سبيل الله، وبيان أنهم شياطين يعدون الفقر وينهون عن العرف.
أما القرين الصالح فهو عون على الخير مرغّب فيه، منفر بسيرته ونصحه عن الشر مبعد عنه، مذكر بالتقصير مبصر بالعيوب، وكم أصلح القرين الصالح فاسدا، وكم أفسد قرين السوء صالحا.
(وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ؟) أي وما الذي كان يصيبهم من الضرر لو آمنوا بالله إيمانا صحيحا يظهر أثره فى العمل؟ وفى هذا الأسلوب إثارة تعجيب الناس من حالهم، إذ هم لو أخلصوا لما فاتتهم منفعة الدنيا، ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى.
فكثيرا ما يفوت المرائى ما يرمى إليه من التقرّب إلى الناس وامتلاك قلوبهم، ويظفر بذلك المخلص الذي لم يكن من همه أن أحدا يعرف ما عمل، فيكون الأول قد رجع بخفّى حنين، بينما الثاني فاز بسعادة الدارين فجهله جدير بأن يتعجب منه، لأنه جهل بالله وجهل بأحوال الناس، ولو آمن وأخلص ووثق بوعد الله ووعيده لكان فى هذا سعادته، فالإيمان سلوى من كل