الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير المفردات
الشيع: واحدهم شيعة، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر، قال تعالى «كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ» ويلبسكم: أي يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق فيجعلكم فرقا مختلفة لا فرقة واحدة، ونصرف الآيات: نحو لها من نوع إلى آخر من فنون الكلام تقريرا للمعنى وتقريبا إلى الفهم، والفقه: فهم الشيء بدليله وعلته المفضى إلى الاعتبار والعمل به. والوكيل: هو الذي توكل إليه الأمور. ومستقر: وقت استقرار ووقوع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكّر سبحانه المشركين ببعض آياته فى أنفسهم وبمننه عليهم، بإنجائهم من الأهوال والكروب التي يشعر بها كل من وقعت له منهم إما بتسخير الأسباب، وإما بدقائق اللطف والإلهام.
ذكر هنا قدرته على تعذيبهم، وأبان أن عاقبة كفران النعم، أن تزول وتحل محلها النقم، وأنه يمهل ولا يهمل، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
الإيضاح
(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أي قل أيها الرسول لقومك الذين يشركون مع الله سواه، ولا يشكرون نعمه التي أسداها إليهم: إن الله هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا تجهلون حقيقته، فيصبّ عليكم من فوقكم، أو يثيره من تحت أرجلكم، أو يلبسكم ويخلطكم فرقا وشيعا على أهواء شتى، كل فرقة تشايع إماما فى الدين أو تتعصب لملك أو رئيس، أو يذيق بعضكم بأس بعض فيقتل بعضكم بيد بعض.
وقد ورد في التفسير بالمأثور، أن المراد بالعذاب من فوق الرجم من السماء والطوفان كما وقع لبعض الأمم القديمة، وبالعذاب من تحت: الخسف والزلازل المعهودة قديما
وحديثا، وروى عن ابن عباس أن المراد بمن فوقكم أي من أمرائكم، ومن تحت أرجلكم أي عبيدكم وسفلتكم.
ولا شك أن لفظ العذاب مبهم قصد به هذا الإبهام لأجل الشمول، فيطلق على ما يدل عليه اللفظ مما يحدث فى المستقبل أو ينكشف للناس فيه ما كان خفيا عنهم، فالقرآن لا تفنى عجائبه، وفيه نبأ من قبل ونبأ من كان فى زمن التنزيل ونبأ من سيجيئ بعدهم.
فهذه الآية ظهر تفسيرها بأجلى برهان فى هذه الحروب فى العصر الحديث مما لم يسبق له نظير ولم يكن البشر على علم منه، فقد أرسل الله فيها على الأمم المحاربة عذابا من فوقها بما تقذفه الطائرات والمطاود وقاذفات القنابل التي تحمل كل منها الآلاف المؤلفة من المواد المتفجرة من الحديد والمعادن الأخرى المهلكة، ومن المواد المحرقة، وصارت تمشى آلاف الأميال لتصل إلى أهدافها المقصودة فتخرب المدن والقرى، وتجعل عاليها سافلها، بما تصب فيها من عل، من الحمم المتّقدة والنيران المشتعلة، حتى ليراها الرائي كأنها بركان ثائر يريد أن يبتلع من حوله ويلتهم جميع ما فوق سطح الأرض.
وكذلك مقذوفات المدافع البعيدة المدى التي تطلق قناطير من أفواهها وترسله من فوق من مواد قاتلة مما لم يعرف الناس له نظيرا من قبل. وكذلك يأتيها العذاب من تحتها بما تحدث السفن الغواصة فى البحار بما ترسله من (الطور بيد) الحامل للقناطير المقنطرة من مختلف المعادن وتتحين به الفرص لمقابلة سفن العدو فتصبه عليها صبا. وتهلك به مختلف السفن ولا تقوى على النجاة منها مهما عظم حجمها ودقّ صنعها بل لا بد أن تهوى فى قاع البحار إذا قدر لها أن تصاب به، فكم من سفينة غرقت. وكم من روح زهق به وأصبح طعاما للسمك وحيوان البحر.
وكذلك جعل أمم أوربا شيعا متعادية. وأذاق بعضها بأس بعض فحلّ بها من التقتيل والتخريب ما لو لم نره بأعيننا ونسمع عنه الأحاديث المستفيضة التي لا تقبل شكا ولا ريبا- لكنا فى موضع الشك فيه، لغرابته وشدة هوله وذهول الناس حين
رؤيته، فترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من الذعر وشدة الخطب حيارى، لا يدرون ماذا هم فاعلون، ولا أىّ مكان يسلكون ليتقوا ذلك الهلاك المحقق، والعذاب الذي لا بد واقع بهم إلا من رحم الله.
روى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية- قل هو القادر إلخ- فقال: أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» .
وروى البخاري والنسائي من حديث جابر قال: «لما نزلت هذه الآية:
(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك) قال: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال: (أعوذ بوجهك)(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(هاتان أهون أو أيسر) » .
وإنما كانت هاتان أهون أو أيسر لأن المستعاذ منه قبلهما هو عذاب الاستئصال بإحدى الخصلتين الأوليين حتى لا يبقى من الأمة أحد
وروى عن ابن عباس من طريق أبي بكر بن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوت الله أن يرفع عن أمتى أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبي أن يرفع عنهم اثنتين دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وألا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم، وأبي أن يرفع الآخرين»
وروى مسلم من حديث ثوبان قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله زوى (جمع) لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لى منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنى سألت ربى لأمتى ألا يهلكها بسنة عامة. (كالمجاعة والقحط والغرق والصيحة والرجفة والريح الصرصر) وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم. (عزتهم ومستقر ملكهم) وإن ربى قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة
عامة وألا أسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا» .
وقد ظهر صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فى بلوغ ملك أمته مشارق الأرض ومغاربها وفى وقوع بأسهم بينهم، وما زال ملكهم عن أكثر تلك الممالك إلا بتفرقهم ثم بمساعدتهم للأجانب على أنفسهم، وكم تألبت عليهم الأمم فلم ينالوا منهم بدون ذلك منالا، وما بقي لهم الآن إلا القليل الذي يطمع فيه الطامعون.
ومن هذا نعلم أن الله لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ما داموا مستمسكين بها.
يرشد إلى ذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يؤمئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفنّ فى قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» رواه أبو داود والبيهقي.
ثم طلب منه النظر فيما لديه من الحجج والبينات فقال:
(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي تأمل بعين بصيرتك أيها الرسول كيف نصرف الآيات والدلائل ونتابعها على أنحاء شتى: منها ما طريقه الحس، ومنها ما طريقه العقل، ومنها ما سبيله علم الغيب، لعلهم يفقهون الحق ويدركون الحقائق بأسبابها وعللها التي تفضى إلى الاعتبار والعمل بها.
وأقرب الوسائل إلى تحصيل ذلك تصريف الآيات واختلاف الحجج والبينات، وبذا يتذكرون ويزدجرون عما هم عليه مقيمون من التكذيب بكتابنا ورسولنا، وانكبابهم على عبادة الأوثان والأصنام.
ثم ذكر أن قومه قد كذبوا به على وضوح حجته فقال.
(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) أي وكذب قومك بالقرآن على ما صرّفنا فيه