الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يزال الكلام فى هذه الآيات مع عيسى أيضا، ففيها سؤال من الله على مرأى من قومه توبيخا وتقريعا لهم على افترائهم، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده وهو القول بالتثليث، ثم إخبار من الله بما ينجّى الإنسان من عذاب يوم القيامة، مع بيان أن ما فى السموات والأرض كله مملوك له وفى قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته وهو القادر على كل شىء لا شريك له يمنعه إن أعطى، أو يلزمه بالإعطاء إن منع.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟) الخطاب فى هذه الآية للنبى صلى الله عليه وسلم، أي واذكر أيها الرسول للناس يوم يجمع الله الرسل فيسألهم جميعا عما أجابت به أممهم، حين يقول لعيسى اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك
…
وحين يقول له بعد ذلك: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين؟ أي يسأله أقالوا هذا القول بأمر منك أم هم افتروه وابتدعوه من عند أنفسهم؟
ومعنى قوله من دون الله أي متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة، وذلك إما أن يكون باتخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى وهو الشرك، إذ عبادة الشريك المتخذ غير عبادة الله خالق السموات والأرض، سواء اعتقد المشرك أن هذا الشريك ينفع ويضر استقلالا، أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب أو بالوساطة عند الله أي بما له من التأثير والكرامة على النفع والضر وهذا هو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة، كما حكاه الله عنهم فى قوله:«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» وقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» .
وقل أن يوجد من المشركين من يتخذ إلها غير الله متجاوزا بعبادته الإيمان با لله الذي هو خالق الكون ومدبره فالإيمان الفطري الذي غرس فى نفوس البشر يرشد إلى أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك كنهها أحد، فالموحدون أتباع الأنبياء يتوجهون بعباداتهم إلى رب هذه السلطة الغيبية وحده اعتقادا منهم أنه هو الفاعل الكامل التصرف، وإن نسب الفعل إلى غيره فبإقدار الله إياه وتسخيره له بمقتضى سننه فى خلقه، والمشركون يتوجهون إليه تارة وإلى بعض ما يستكبرون من خلقه تارة أخرى كالشمس والنجم والملائكة وبعض مخلوقات أخرى، ويتوجهون أحيانا إليهما معا فيجعلون تلك المخلوقات المعظمة وسيلة إلى خالق الأكوان ومدبر الكائنات.
والخلاصة- إن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره سواء أكانت خالصة لغيره أو شركة بينه وبين غيره ولو بدعاء هذا الغير والتوجه إليه ليكون واسطة عنده.
وقد نعى الله عليهم اتخاذ المسيح إلها فى مواضع عدة من هذه السورة، وعبادة أمه كانت معروفة فى الكنائس الشرقية والغربية، ثم أنكرت عبادتها فرقة البر وتستانس (إصلاح المسيحية) التي جاءت بعد الإسلام بزمن طويل.
وهذه العبادة منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود، ومنها ما هو استغاثة واستشفاع، ومنها ما هو صيام ينسب إليها ويسمى بصيام العذراء، وكل أولئك يقترن بخشوع وخضوع لذكرها ولصورها وتماثيلها واعتقاد السلطة الغيبية لها وأنها تنفع وتضر فى الدنيا والآخرة إما بنفسها أو بواسطة ابنها ويسمونها (والدة الإله) .
والآية ترشد إلى أنهم اتخذوها هى وابنها إلهين (والاتخاذ غير التسمية) فيصدق بالعبادة وهى واقعة حتما.
(قالَ سُبْحانَكَ) التسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، وأصل الكلمة من السبح والسباحة، وهى الذهاب السريع البعيد فى البحر أو البر ومنه فرس سبوح.
أي أنزهك يا الله عن أن يكون معك إله آخر، وبذا أثبت له التنزيه عن المشاركة فى الذات والصفات.
ثم انتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق عن قول ما ليس بحق فقال:
(ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي ليس من شأنى ولا مما يصح أن يقع منى أن أقول قولا لا حق لى أن أقوله، لأنك أيدتنى بالعصمة عن مثل هذا القول الباطل.
وهو بتنزيهه الله أوّلا أثبت أن ذلك القول الذي نسب إليه قول لا شائبة فيه من الحق وليس من شأنه ولا مما يقع من مثله.
وقد أكد هذا النفي مرة أخرى بحجة أخرى ارتقى فيها من برهان راجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام إلى برهان أعلى راجع إلى ربه علام الغيوب فقال:
(إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي إن ذلك القول إن كان قد صدر منى فقد علمته، إذ علمك واسع محيط بكل شىء، فأنت تعلم ما أسره وأخفيه فى نفسى فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه وعلمه منى غيرى؟
كما أنى لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا ترشدنى إليها بالكسب والاستدلال، لكنى أعلم ما تظهره لى بالوحى بواسطة ملائكتك المقربين إليك.
(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي لأنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن، وعلم غيرك مستمد من فيضك لا من ذاته، فهو إما أن يناله بواسطة المشاعر والحواس أو العقل، وإما أن يتلقاه هبة منك بالوحى والإلهام.
وبعد تنزيه ربه وتبرئة نفسه وإقامة البراهين على ذلك- بين حقيقة ما قاله لقومه، إذ الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة إلا بإثبات ما يجب أن يكونوا عليه من أمر التوحيد بعد نفى ضده، فقال:
(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ- أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي إنى ما قلت لهم فى شأن الإيمان وأساس الدين إلا ما أمرتنى بالتزامه اعتقادا وتبليغا لهم، بأنك ربى وربهم وأننى عبد من عبادك مثلهم إلا أنك خصصتنى بالرسالة إليهم.
(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي وكنت قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون وما يفعلون، فأقر الحق وأنكر الباطل مدة وجودى بينهم.
(فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي فلما قبضتنى إليك كنت أنت الحفيظ عليهم دونى، لأنى إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم، وأنت تشهد على كل شىء إذ لا يخفى عليك شىء.
وفى هذا إيماء إلى أن الله إنما عرّفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه بقوله:
(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) .
وقد تقدم فى هذه السورة ما يثبت براءة عيسى عليه السلام من مثل هذه المقالة، وذلك قوله:«لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» .
وجاء فى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) .
ثم فوّض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى فقال:
(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن نغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) أي إن تعذب من أرسلتنى إليهم فبلّغتهم ما أمرتنى به من توحيدك وعبادتك فضلّ منهم من ضل وقالوا مالم أقله، واهتدى منهم من اهتدى فلم يعبدوا معك سواك، فإنهم عبادك وأنت الرحيم بهم، ولست أنا ولا غيرى من الخلق بأرحم بهم منك، وإنما تجزيهم بحسب علمك بما يظهرون وما يبطنون، فأنت العليم بالمؤمن المخلص فى إيمانه، وبمن أشرك بك غيرك أو بمن أطاعك وبمن عصاك وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.
وإن تغفر فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة، وإنك أنت العزيز الغالب على أمره، الحكيم فى تصرفه وصنعه، فيضع كل جزاء وكل فعل فى موضعه.
وخلاصة المعنى- إنك إن تعذب فإنما تعذب من يستحق التعذيب، وإن تغفر فإنما تغفر لمن هو أهل لذلك، ومهما توقعه فيهم من عذاب فلا دافع له من دونك، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته، لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب، ويمنع من شاء ما شاء ولا يمنع، وأنت الحكيم الذي تضع كل شىء موضعه، فلا يمكن أحدا غيرك أن يرجعك عنه.
ومن هذا تعلم أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئا من الشفاعة لقومه، ومما يؤيد هذا ما
رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى فى إبراهيم صلى الله عليه وسلم: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» الآية، وقول عيسى عليه السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه إلى السماء وقال:«اللهم أمتى أمتى، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال- وهو أعلم- فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك فى أمتك ولا نسوءك» ،
وما
رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإنه يجاء برجال من أمتى يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال فأقول: أصحابى، فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ- إلى قوله- الْحَكِيمُ) قال فيقال إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم»
وما
رواه أحمد والنسائي وابن مردويه «أنه صلى الله عليه وسلم قام بهذه الآية: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبادُكَ
…
)
إلخ حتى أصبح يركع بها ويسجد فسأله أبوذر عن ذلك فقال: إنى سألت ربى الشفاعة فأعطانيها وهى نائلة إن شاء الله من لا يشرك با لله شيئا» .
فهذه الأحاديث صريحة فى أن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك با لله شيئا.
(قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أي قال الله تعالى: إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم فى إيمانهم وفى شهاداتهم وفى سائر أقوالهم وأحوالهم.
ثم بين هذا النفع فقال:
(لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي للصادقين جنات تجرى من تحتها الأنهار فى الآخرة ثوابا من عند الله، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وهذا غاية السعادة الأبدية، إذ لا مطلب لهم أعلى منه حتى تمتد أعناقهم إليه وتتطلع نفوسهم لبلوغه كما قال تعالى «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
وقوله ذلك الفوز العظيم، أي ذلك الذي ذكر من النعيمين الجثمانى والروحاني اللذين يحصلون عليهما بعد النجاة من أهوال يوم القيامة هو الفوز البالغ الغاية، لأن الفوز هو الظفر بالمطلوب مع النجاة من ضده أو مما يحول دونه كما قال تعالى:«فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» وبعد أن بين ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق فى مقعد الصدق، بين عقبه سعة ملكه وعموم قدرته الدالين على كون ذلك الجزاء لا يقدر عليه غيره فقال:
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الملك كله والقدرة كلها لله وحده، وفى قوله: وما فيهن، تعريض بأن المسيح وأمه اللذين عبدا من دون الله داخلان تحت قبضته تعالى، إذ الملك والقدرة له وحده فلا ينبغى لأحد أن يتكل على شفاعتهما «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وغاية ما أعطاهم الكرامة لديه والمنزلة الرفيعة من بين عباده «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» .
«سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» «إلمامة بما تضمنته السورة من التشريع والأحكام الاعتقادية والعملية» أهم الأصول التي انفردت بها هذه السورة:
(1)
بيان أن الله أكمل هذا الدين الذي ارتضى لهم، وأن دين الله واحد وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم، وأن هذا الدين مبنى على العلم اليقيني فى الاعتقاد والهداية فى الأخلاق والأعمال، وأن التقليد فيه باطل لا يقبله الله، وأن أصول الدين الإلهى على ألسنة الرسل كلهم هى الإيمان با لله واليوم الآخر والعمل الصالح، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أي ملة كاليهود والنصارى والصابئين فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(2)
بيان عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالتبليغ العام، وأنه لا يكلف إلا التبليغ فقط، ومن حجج رسالته أنه بيّن لأهل الكتاب كثيرا مما كانوا يخفون من كتبهم مما ضاع قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومما كانوا يكتمونه من الأحكام اتباعا لأهوائهم، وأن هذا الرسول قد عصمه الله وحفظه من أن يضره أحد أو يصده عن تبليغ رسالة ربه، وأننا نهينا عن سؤاله عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم لما فيها من زيادة لتكاليف.
(3)
بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفراد وجماعات، وأنه لا يضرهم من ضل إذا هم استقاموا على صراط الهداية، فهو لا يضرهم لا فى دنيا ولا دين، ومن ذلك الوفاء بالعقود التي يتعاقدون عليها فى جميع المعاملات الدنيوية، وتحريم الاعتداء على قوم بسبب بغضهم وعداوتهم، والتعاون على البر والتقوى كتأليف
الجماعات العلمية والخيرية وتحريم التعاون على الإثم والعدوان، وتحريم موالاة المؤمنين للكافرين وبيان أن ذلك من آيات النفاق.
(4)
تفصيل أحكام الطعام حلاله وحرامه، وبيان أن التحريم منه إما ذاتى كالميتة وما فى معناها، وإما لسبب دينى كالذى يذبح للأصنام، وبيان أن الضرورات تبيح المحظورات.
(5)
تحريم الخمر وكل مسكر، والميسر وهو القمار وما فى حكمه (كالمضاربات فى البورصة) .
(6)
وجوب الشهادة بالقسط والحكم بالعدل والمساواة بين غير المسلمين والمسلمين ولو للأعداء على الأصدقاء وتأكيد وجوب ذلك فى سائر الأحكام.
(7)
بيان تفويض أمر الجزاء فى الآخرة إلى الله وحده، وأن النافع فى ذلك اليوم هو الصدق.
وكان مسك ختامها ذكر الجزاء فى الآخرة بما يناسب أحكامها كلها، وقد روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه، والبيهقي عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت يا جبير تقرأ المائدة؟ قلت نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه. وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال: آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح.