الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك المشركين بعثوا عمرو بن العاص فى رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا: إنه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبى وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءونى نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا له: استأذن لأولياء الله، فقال ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا فقال لهم ما يمنعكم أن تحيونى بتحيتى؟ قالوا إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم ما يقول صاحبكم فى عيسى وأمه؟ قالوا بقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول فى مريم إنها العذراء الطيبة البتول، قال فأخذ عودا من الأرض فقال: مازاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود «أي مثله فى صغره» فكره المشركون قوله، وتغيرت له وجوههم، فقال: هل تقرءون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا نعم، قال فاقرءوا فقرءوا، وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرءوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق وهذا ما أشار إليه بقوله «ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق» .
الإيضاح
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي قسما لتجدن أيها الرسول أشد الناس عداوة للذين صدّقوك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به، اليهود والمشركين من عبدة الأوثان الذين اتخذوها آلهة يعبدونها من دون الله.
وأشد ما لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من العداوة والإيذاء، كان من يهود الحجاز فى المدينة وما حولها، ومن مشركى العرب ولا سيما مكة وما قرب منها.
وقد كان اليهود والمشركون مشتركين فى بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت عداوتهم الشديدة للمؤمنين كالكبر، والعتوّ، والبغي، وغلبة الحياة المادية، والأثرة
والقسوة، وضعف عاطفة الحنان والرحمة، والعصبية الجنسية، والحميّة القوية، ولكنّ مشركى العرب على جاهليتهم كانوا أرق من اليهود قلوبا، وأعظم سخاء وإيثارا، وأكثر حرية في الفكر واستقلالا فى الرأى.
وقدّم سبحانه ذكر اليهود للإشارة إلى تفوقهم على العرب فيما وصفوا به، فضلا عما امتازوا به من قتل بعض الأنبياء وإيذاء بعض آخر، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل.
ولم يكن ميلهم مع المسلمين فى البلاد المقدسة والشام والأندلس إلا ميلا وراء مصلحتهم الخاصة، إذ هم تفيئوا ظلال عدلهم، واستراحوا به من اضطهاد النصارى فى تلك البلاد.
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) أي ولتجدنّ أقرب الناس محبة للذين آمنوا بك وصدقوك- الذين قالوا إنا نصارى- فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة بحماية المهاجرين الذين أرسلهم صلى الله عليه وسلم فى أول الإسلام من مكة إلى الحبشة، خوفا عليهم من مشركيها الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء، ليفتنوهم عن دينهم.
ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتبه إلى الملوك ورؤساء الشعوب كان النصارى منهم أحسنهم ردا، فهرقل ملك الروم فى الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام فلم يستطع، لجمودهم على التقليد فاكتفى بالرد الحسن، والمقوقس عظيم القبط فى مصر كان أحسن منه ردا، وإن لم يكن أكثر منه ميلا إلى الإسلام، وأرسل للنبى صلى الله عليه وسلم هدية حسنة، ثم لما فتحت مصر والشام وعرف أهلهما ما للإسلام من مزايا أهر عوا إلى الدخول فى الدين أفواجا وكان القبط أسرع إليه قبولا.
والخلاصة- إن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به رأوا فى عصره من مودة النصارى وقربهم من الإسلام بقدر مارأوا من عداوة اليهود والمشركين، وأن من توقف من ملوكهم عن الإسلام فما كان توقفه إلا ضنا بملكه، وأن النجاشي أصحمة ملك
الحبشة قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا، ولكن الإسلام لم ينتشر فى الحبشة بعد موته، ولم يهتم المسلمون بإقامة دينهم فى تلك البلاد كما فعلوا فى مصر والشام.
ثم بين سبحانه وتعالى سبب مودة النصارى للذين آمنوا فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي إن السبب فى هذه المودة أن منهم قسيسين يتولون تعليمهم التعليم الديني ويهذبون أخلاقهم ويربون فيهم الآداب والفضائل، ورهبانا يعوّدونهم الزهد والتقشف والإعراض عن زخرف الدنيا ونعيمها، ويكبرون فى نفوسهم الخوف من الله والانقطاع لعبادته، وأنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر أنه الحق، إذ من فضائل دينهم التواضع والتذلل والخضوع لكل حاكم، بل إنهم أمروا بمحبة الأعداء، وإدارة الخدّ الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن. فكل أولئك يؤثّر فى جمهور الأمة وسوادها الأعظم، وقد عهد من النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعا واختيارا، بخلاف اليهود فإنهم إذا أظهروا الرضا اضطرارا أسرّوا الكيد وأضمروا المكر، لأن الشريعة اليهودية تولد فى نفوسهم العصبية الجنسية والحميّة القومية، لأنها خاصة بشعب إسرائيل، وأحكامها ونصوصها مبنية على ذلك.
(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) أي وإذا سمع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من جوانبها لكثرته من أجل ما عرفوه من الحق الذي بيّنه لهم القرآن الكريم، ولم يمنعهم ما يمنع غيرهم من عتوّ واستكبار.
ثم ذكر سبحانه ما يكون منهم من القول إثر بيان ما كان من حالهم فقال:
(يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي يقولون هذه المقالة قاصدين بها إنشاء الإيمان والتضرع إلى الله والخضوع له بأن يتقبله منهم ويكتبهم مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين جعلهم الله تعالى شهداء على الناس، لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم ومما يتناقلونه عن أسلافهم أن النبي الأخير الذي يكمل به الدين ويتم به التشريع
العام يكون متبعوه شهداء على الناس ويكونون حجة على المشركين والمبطلين كما جاء فى الآية الأخرى «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» .
ثم زادوا كلامهم توكيدا فقالوا:
(وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق؟ ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) أي وأىّ مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان هذا النبي الكريم، بعد أن ظهر لنا أنه هو روح الحق الذي بشر به المسيح؟ وإننا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة، والفضائل والآداب الكاملة، وهم أتباع هذا النبي الكريم الذين استبان لنا أثر صلاحهم وشاهدناه بأعيننا بعد ما كان منهم من فساد فى الأرض وعتوّ كبير فى جاهليتهم.
والخلاصة- إنه لا مانع لنا من هذا الإيمان بعد أن تظاهرت أسبابه، وتحققت موجباته فوجب علينا الجري على سننه، واتباع نهجه وطريقه.
ثم بين سبحانه ما جازاهم به على ذلك فقال:
(فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي فجزاهم الله وأعطاهم من الثواب بما نطقت به ألسنتهم معبرا عما فى قلوبهم من خالص الإيمان وصحيح الاعتقاد- جنات وحدائق فى دار النعيم تجرى من تحت أشجارها الوارفة الظلال، الأنهار التي تسيل مياهها سلسبيلا، يخلدون فيها أبدا فلا يسلبها منهم أحد، ولا هم يرغبون عنها ويودون لو تركوها، ومثل هذا الجزاء قد أعده للذين أخلصوا فى عقائدهم وأحسنوا أعمالهم.
وعلينا أن نقف فى وصف نعيم الآخرة على ما جاء به القرآن الكريم وصحت به السنة النبوية، ولا نعد وذلك إلى ما وراءه، فإن النعيم الروحاني والرضوان الإلهى لا يمكن أن يعبر عنه الكلام ولا يحيط به الوصف، فنحن فى عالم يخالف