الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورجع القهقرى، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم، واستهوته الشياطين. ذهبت بعقله وهواه، وكانت العرب فى الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن، ومنه قولهم: جن فلان، أي مسته الجن فذهبت بعقله، وكانوا يقولون إن الجن تظهر لهم فى المهامة وتتلوّن لهم بألوان مختلفة، فتذهب بلبّ من يراها فيهيم على وجهه لا يدرى أين يذهب حتى يهلك، وهذه الشياطين التي تتلون هى التي يسمونها الغيلان والأغوال والسعالى، وقوله حيران: أي تائها ضالا عن الجادة لا يدرى ما يصنع، والصور فى اللغة: القرن وقد ثقب الناس قرون الوعول والظباء وغيرها فجعلوا منها أبواقا ينفخون فيها لها صوت شديد يدعى به الناس إلى الاجتماع ويعزفون بها كغيرها من آلات الطرب، وقد جاء فى سفر الأيام الأول من كتب العهد العتيق: فكان جميع بنى إسرائيل يصعدون تابوت عهد الرب بهتاف وبصوت الأصوات والأبواق والصنوج ويصوّتون بالرّباب والعيدان.
الإيضاح
(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ؟) أي قل أيها الرسول للآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم، أندعو من دون الله حجرا أو شجرا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا؟ فنخصّه بالعبادة دون الله وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر ولا شك أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضرّه أحق وأولى من خدمة من لا يرجى منه شىء منهما، ونرد على أعقابنا بالعودة إلى الضلال والشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام.
والخلاصة- إن ذلك لا ينبغى ولا يكون للأسباب الآتية:
(1)
إن هذا تحوّل وارتداد عن دعاء القادر الذي يكشف الضر إن شاء ويمنح الخير إن شاء- إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر.
(2)
إنه نكوص على الأعقاب وتقهقر إلى الوراء.
(3)
إن من أنقذه الله القدير الرحيم من الضلالة بما أراه من آياته فى الأنفس والآفاق لا يقدر أحد أن يضله «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟» .
ثم ضرب مثلا يصور المرتد فى أقبح حالة كانت تتخيلها العرب فقال:
(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ، لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) أي أنرد على أعقابنا فيكون مثلنا فى ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان يهوى فى الأرض حيران تائها؟ له أصحاب على المحجة واستقامة السبيل يدعونه إلى طريق الهدى الذي هم عليه ويقولون له ائتنا.
وخلاصة المثل- إن من يرتد مشركا بعد الإيمان كمن جعله العشق أو الجنون هائما على وجهه، ضالا فى الفلوات حيران لا يهتدى، تاركا رفاقه على الطريق المستقيم ينادونه: عد إلينا فلا يستجيب لهم لا نجذابه وراء ما تراءى له بغير عقل ولا بصيرة، قال صاحب الكشاف: وهذا مبنى على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوى الإنسان والغيلان تستولى عليه كقوله: «كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» .
ثم أمره أن يرغب المشركين فيما يدعو إليه لا فيما يدعونه إليه فقال:
(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى) أي قل إن هدى الله الذي أنزل به آياته، وأقام عليه حججه وبيناته، هو الهدى الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا ما تدعون إليه من أهوائكم اتباعا لما ألفيتم عليه آباءكم.
(وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين فأسلمنا.
(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) أي وأمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة والتقوى وإقامة الصلاة: الإتيان بها على الوجه الذي شرعت لأجله وهى أن تزكى النفس بمناجاة الله وذكره وتنهى عن الفحشاء والمنكر، والتقوى: اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه وتنكبّ سننه فى خلقه من ضرر وفساد.
(وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وهو الذي تجمعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة دون غيره، فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم عليها، فليس من العقل. لا من الحكمة أن يعبد غيره أو يخاف ويرجى.
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي وهو الذي خلقهما خلقا متلبسا بالحق، وهو أنه وفق سننه المطردة المشتملة على الحكم البالغة الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته البالغة، ولم يخلقهما باطلا ولا عبثا فهو لا يترك الناس سدى، بل يجزى كل نفس بما كسبت.
ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران: «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» وقوله:
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» .
(وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. قَوْلُهُ الْحَقُّ) أي وقوله هو الحق الذي لا شك فيه يوم يقول للشىء كن فيكون وهو وقت إيجاد العالم وتكوينه، فلا مردّ لأمره ولا تخلف لقضائه وحكمه، ومن كان أمره التكويني مطاعا يكن أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة بلا حرج فى النفس ولا ضيق منه، فالخلق حق والأمر حق «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي وله الملك يوم الحشر يوم يبعث من فى القبور وينفخ فى الصور، والأمر حينئذ له وحده، ولا تملك نفس لنفس شيئا من خير أو شر، أو نفع أو ضر، فكيف يرضى لنفسه من يعرف هذه الحقائق- أن يدعو سواه، ويتخذ له إلها غير الله، ويرد على عقبيه، ويرجع إلى أسوإ حاليه.
روى عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال:
وروى عن ابن مسعود أنه قال: «الصور كهيئة القرن ينفخ فيه» (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) قال الحسن: الشهادة ما قد رأيتم خلقه، والغيب ما غاب عنكم مما لم تروه، وقال ابن عباس: الغيب والشهادة السر والعلانية.
والمعنى- إن الذي خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، والذي قوله الحق تكوينا وتكليفا، والذي له الملك وحده يوم يحشر الخلائق- هو عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، وهو الخبير بدقائقها وخفاياها، ولا يشذ عن علمه شىء منها، فلا ينبغى لعاقل أن يدعو غيره معه كما قال:«فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» وقال «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» .