الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحابة قالوا نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح فى الأرض كما تفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لكنى أصوم وأفطر، وأصلّى وأنام، وأنكح النساء فمن أخذ بسنتى فهو منى، ومن لم يأخذ بسنتى فليس منى» .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلى ابن أبى طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبى حذيفة وقدامة تبتلّوا فجلسوا فى البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرّموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بنى إسرائيل، وهمّوا بالاختصاء وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار فنزلت الآية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ» الآية فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، وإن لأهلكم حقا، فصلوا وناموا، وصوموا، وأفطروا فليس منا من ترك سنتنا» فقالوا: اللهم صدّقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) الطيبات:
الأشياء التي تستلذها النفوس وتميل إليها القلوب، أي لا تحرّموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات بأن تتركوا التمتع بها عمدا تنسكا وتقربا إلى الله، ولا تعتدوا فيها وتتجاوزوا حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد بأن تزيدوا على الشّبع والرّى، أو تجعلوا التمتع بها أكبر همكم فى الحياة، أو تشغلكم عن الأمور النافعة من العلوم والأعمال المفيدة لكم ولبنى وطنكم.
والآية بمعنى قوله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا» أو لا تعتدوها: أي الطيبات بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة.
والخلاصة- إن الاعتداء يشمل أمرين: الاعتداء فى الشيء نفسه بالإسراف فيه، والاعتداء بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه وهو الخبائث.
ثم علل الهى عن الاعتداء بما ينفر منه فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي لا يحب الله من يتجاوز حدود شرائعه ولو بقصد عبادته وتحريم طيباته التي أحلها، سواء أكان التحريم من غير التزام بيمين أو نذر أو بالتزام، وكل منهما غير جائز.
والالتزام قد يكون لرياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات، وقد يكون ناشئا عن بادرة غضب من زوجة أو ولد كمن يحلف بالله أو بالطلاق ألا يأكل من هذا الطعام أو نحوه من المباحات، أو يقول إن فعل كذا فهو برىء من الإسلام أو من الله ورسوله أو نحو ذلك وكل هذا منهى عنه شرعا ولا يحرم على أحد شىء منها يحرمه على نفسه بهذه الأقوال، ولا كفارة فى يمين يحلفه الحالف فى نحو ذلك عند الشافعي.
وتحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس من العبادات المأثورة عند قدماء اليهود واليونان قلدهم فيها أهل الكتاب خصوصا النصارى فإنهم قد شددوا على أنفسهم وحرموا عليها ما لم تحرّمه الكتب المقدسة على ما فيها من الشدة والصرامة والمبالغة فى الزهد.
ولما جاء الإسلام وأرسل الله نبيه محمدا خاتم النبيين بما فيه السعادة التامة للبشر فى دنياهم وآخرتهم أباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه والروح حقه، فالإنسان ما هو إلا روح وجسد فيجب العدل بينهما، وبذا كانت الأمة الإسلامية أمة وسطا تشهد على جميع الأمم وتكون حجة عليها يوم القيامة.
والحكمة فى ذلك النهى أن الله يحب أن يستعمل عباده نعمه فيها خلقت لأجله ويشكروه على ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها بإباحة ما حرمه أو ترك ما فرضه، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ»
وورد فى الأثر «إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا» .
(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً) أي وكلوا مما رزقكم الله من الحلال فى نقسه لا من المحرمات كالميتة والدم المسفوح ولجم الخنزير، ومن الحلال فى كسبه وتناوله بألا يكون ربا ولا سحتا، ولا سرقة، مع كونه مستلذا غير مستقذر لذاته أو لطارئ. يطرأ عليه من فساد أو تغير لطول مكث ونحوه.
والأكل فى الآية يراد به التمتع الشامل للشرب ونحوه من حلال غير مسكر ولا ضار، ومن كل طيب غير مستقذر فى ذاته أو لطارئ يطرأ عليه.
والخلاصة- إنه ينبغى للمؤمن أن يتمتع بما تيسر له من الطيبات بلا تأثم ولا تحرج، ويحضر قلبه أنه عامل بشرع الله مقيم لسنة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، شاكر له بالاعتراف والحمد والثناء عليه، كما أن امتناعه عن الطيبات التي رزقه الله إياها مع الداعية الفطرية إلى الاستمتاع بها إثم يجنيه على نفسه فى الدنيا ويستحق به عقاب الآخرة، لزيادته فى دين الله قربات لم يأذن بها، ولإضاعة حقوق الله وحقوق عباده كإضاعة حقوق امرأته وعياله.
والتحريم والتحليل تشريع وهو من حقوق الله فمن انتحله لنفسه كان مدعيا الربوبية أو كالمدعى لها.
وعن الحسن البصري: إن الله أدب عباده فأحسن أدبهم فقال: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه. وعنه أنه قيل له فلان لا يأكل الفالوذج ويقول لا أؤدى شكره، قال أفيشرب الماء البارد؟ قالوا نعم، قال إنه جاهل، إن نعمة الله عليه فى الماء البارد أكثر من نعمته عليه فى الفالوذج (البلوظة) .
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي واتقوه فى الأكل واللباس والنساء وغيرها، فلا تفتاتوا عليه فى تحليل ولا تحريم، ولا تعتدوا حدوده فيما أحل وما حرم،
إذ من جعل شهوة بطنه أكبر همه كان من المسرفين، ومن بالغ فى الشبع وعرّض معدته وأمعاءه للتّخمة كان من المسرفين، ومن أنفق فى ذلك أكثر من طاقته وعرّض نفسه لذل الدين أو أكل أموال الناس بالباطل فهو من المسرفين والله يقول «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» والخلاصة- إن هدى القرآن فى الطيبات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة المعتدلة من التمتع بها مع الاعتدال والتزام الحلال. والاعتدال هو الصراط المستقيم الذي يقل سالكه، فكثير من الناس يحيدون عنه ويميلون فى التمتع إلى جانب الإفراط والإسراف، ويكونون كالأنعام بل أضل لأنهم يجنون على أنفسهم حتى قال بعض الحكماء إن أكثر الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم.
وقليلون منهم ينحرفون إلى جانب التفريط والتقتير إما اضطرارا لبؤسهم وعدمهم وإما اختيارا كالزهاد والمتقشفين.
وسبيل الاعتدال سبيل شاقة على النفوس، عسرة على سالكها، كلها تدل على فضيلة العقل ورجحانه.
والمعروف من سيرة الرسول أنه كان يأكل ما وجده فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل، وحينا يجوع وأخرى يشبع، فكان فى كل ذلك قدوة للموسر والمعسر.
وما كان يهمه أمر الطعام، لكنه كان يعنى بأمر الشراب
ففى حديث عائشة «كان أحبّ الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلو البارد»
قال المحدّثون:
ويدخل فى ذلك الماء القراح والماء المحلى بالعسل أو نقيع التمر أو الزبيب.