الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) القول الذي يحزنه منهم هو ما كانوا يقولونه فيه وفى دعوته ونبوته من تكذيب وطعن وتنفير للعرب منه.
قال ابن كثير: يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم فى تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وأسفك عليهم كما جاء فى قوله:
«فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» ووفى قوله «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» .
ثم بين أن هذا التكذيب منشؤه العناد والجحود لإخفاء الدليل فقال:
(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) أي لا يتهمونك بالكذب فى نفس الأمر، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدودهم.
روى سفيان الثوري عن على قال: قال أبو جهل للنبى صلى الله عليه وسلم:
إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) .
وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أبا جهل فصافحه، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال والله إنى لأعلم إنه لنبى، ولكن متى كنا لبنى عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد:(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) .
والخلاصة- إنهم لا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى افتراء الكذب، ولا يجدونه كاذبا فى خبر يخبر به بأن يتبين أنه غير مطابق للواقع، وإنما يدّعون أنّ ما جاء به من أخبار الغيب التي من أهمها البعث والجزاء كذب غير مطابق للواقع، ولا يقتضى ذلك أن يكون هو الذي افتراه، فإن التكذيب قد يكون للكلام دون المتكلم الناقل له.
وذكر الرازي فى نفى التكذيب مع إثبات الجحود أربعة أوجه:
(1)
إنهم ما كانوا يكذبونه فى السر ولكنهم كانوا يكذبونه فى العلانية ويجحدون القرآن والنبوة.
(2)
إنهم لا يقولون له إنك كذاب، لأنهم جرّبوه الدهر الطويل فلم يكذب فيه قط، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة واعتقدوا أنه تخيّل أنه نبى وصدّق ما تخيله فدعا إليه.
(3)
إنهم لما أصروا على التكذيب مع ظهور المعجزات القاهرة وفق دعواه كان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له أو تكذيبا له سبحانه فكأن الله قال له:
إن القوم ما كذبوك ولكن كذبونى، وذلك أن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل المصدق له بتأييده على حد:«إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» :
(4)
إن المراد أنهم لا يخصونك بالتكذيب، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ويقولون فى كل معجزة إنها سحر، فكأنّ الخلاصة إنهم لا يكذبونك على التعيين ولكن يكذبون جميع الأنبياء والرسل.
ثم لفت نظر رسوله لأن يقتدى بالرسل قبله فى الصبر على التكذيب فقال:
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) أي إن الرسل الذين أرسلوا قبلك، قد كذبتهم أقوامهم فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم إلى أن نصر الله الرسل بالانتقام من أعدائهم المكذبين لهم.
ونظير هذه الآية قوله: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» .
وقوله: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
…
» الآية.
وفى الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسلية، وإرشاد له إلى سننه تعالى فى الرسل والأمم، وقد صرح بوجوب الصبر على هذا الإيذاء فى قوله:«فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» وقوله: «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» .
وقد دلت التجارب على أن التأسى يهوّن المصاب ويفيد شيئا من السلوى، ومن
هذا تعلم حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية مع الأمر بالصبر المرة بعد المرة، لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له صلى الله عليه وسلم من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره.
وفى الآية بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على المكذبين الظالمين من قومه، وعلى كل من يكذبه ويؤذيه من أمة الدعوة، كما أن فيها إيماء إلى حسن عاقبة الصبر، فمن كان أصبر كان حقيقا بالنصر إذا تساوت بين الخصمين وسائل الغلب والقهر.
ثم أكد هذا النصر بقوله:
(وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ) أي إن ذلك النصر قد سبقت به كلمة الله، فى مثل قوله «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» وكلمات الله لا يمكن أن يبدّلها مبدّل، فنصر الرسل حتم لا بد منه. والتبديل جعل شىء بدلا من شىء آخر. وتبديل الكلمات والأقوال نوعان:
(1)
تبديل ذاتها بجعل قول مكان قول وكلمة مكان أخرى، ومن هذا قوله تعالى:
«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» .
(2)
تبديل مدلولها ومضمونها كمنع نفاذ الوعد والوعيد أو وقوعه على خلاف القول الذي سبق.
ثم أكد سبحانه عدم التبديل بقوله:
(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي ولقد جاءك ذلك الذي أشير إليه من خبر التكذيب والصبر والنصر من نبأ المرسلين الذي قصصناه عليك من قبل فقد روى أن سورة الأنعام نزلت بين سور الشعراء والنمل والقصص وهود والحجر المشتملة على نبأ المرسلين بالتفصيل.
وكما وعد الله رسله بالنصر وعد المؤمنين به نحو قوله: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» وفى قولهَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
.
فما بالنا نرى كثيرا ممن يدّعون الإيمان فى هذا الزمان غير منصورين، فلا بد إذا من أن يكونوا فى إيمانهم غير صادقين، ولأهوائهم متبعين، ولسنته فى أسباب النصر جاهلين، فالله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه، بل ينصر المؤمن الصادق الذي يتحرّى الحق والعدل فى حربه لا الظالم الباغي من خلقه، والذي يقصد إعلاء كلمة الله ونصر دينه كما جاء فى قوله:«وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» .
(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) من الآيات التي اقترحوها عليك ليؤمنوا فأتهم بها.
ذاك أنهم كانوا يقترحون الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يتمنى لو آتاه الله بعض ما طلبوا حرصا على هدايتهم، وأسفا وحزنا على إصرارهم على غوايتهم، لكن الله يعلم أن أولئك المقترحين الجاحدين لا يؤمنون وإن رأوا من الآيات ما يطلبون وفوق ما يطلبون.
والخلاصة- وإن كان إتيانك بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم فيؤمنون عن بينة وبرهان، فإن استطعت أن تبتغى لنفسك نفقا تطلبه فى الأرض فتذهب فى أعماقها، أو سلما فى جو السماء ترقى فيه إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك فأت بما يدخل طوع قدرتك من ذلك، كتفجير ينبوع لهم من الأرض أو تنزيل كتاب تحمله من السماء وقد كانوا طلبوا ذلك كما حكى الله عنهم بقوله:«وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً- إلى قوله- أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» وقد أمره الله أن يجيبهم عن ذلك بقوله عقب هذا: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا؟» أي وليس ذلك فى قدرة البشر وإن كان رسولا فالرسل لا يقدرون على شىء مما يعجز عنه البشر ولا يستطيع إيجاده غير الخالق.
وخلاصة ذلك- إنك لن تستطيع الإتيان بشىء من تلك الآيات ولا ابتغاء