الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره وتدبيره لأمر النيرات فى السموات، وإبداعه فى شئون النبات.
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) أي إن الله فالق ما تزرعون من حب الحصيد ونوى الثمر، وشاقه بقدرته وتقديره بربط الأسباب بمسبباتها كجعل الحب والنوى فى التراب وإرواء التراب بالماء.
وفى ذلك إيماء إلى كمال قدرته، ولطيف صنعه، وبديع حكمته.
(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي يخرج الزرع من نجم وشجر وهو متغذّ نام من الميت وهو ما لا يتغذى ولا ينمى من التراب، والحب والنوى وغيرهما من البذور، ويخرج الحيوان من البيضة والنطفة.
وعلماء المواليد يزعمون أن فى أصول الأحياء حياة، فكل ما ينبت من الحب والنوى فهو ذو حياة كامنة، إذ أنه لو عقم بالصناعة لا ينبت، واصطلاحهم لا نسيغه اللغة، إذ أنها لا تجعل الحي إلا الجسم النامي المتغذى بالفعل، وهذه أقل مراتب الحياة عندهم، ويليها مراتب أخرى أعلاها مرتبة الإحساس والقدرة والإرادة والعلم والعقل والحكمة والنظام، وفوق كل هذه المراتب حياة الخالق التي هى مصدر كل حياة وحكمة ونظام فى الكون.
(وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) كالحب والنوى من النبات، والبيضة والنطفة من الحيوان، قال الزجاج: يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس، ويخرج اليابس من النبات الحي النامي، وقال ابن عباس يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر.
والكافر من المؤمن كما فى ابن نوح.
قال الطبيب التقى عبد العزيز إسماعيل باشا طيب الله ثراه: قيل فى تفسير ذلك كإنشاء الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، ولكن النطفة حيوانات حية،
وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حى من حى فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير، والله أعلم.
والتفسير الحقيقي- هو إخراج الحي من الميت كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة فالصغير مثلا يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره، والغذاء ميت، ولا شك أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر وموادّ من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت وقد كتب علماء الحيوان فقالوا: إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوّله إلى لحمها، وهذه أهم علامة تدل على أنها حية، وكذا الطفل يتغذى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي.
وأما إخراج الميت من الحي فهو الإفرازات مثل اللبن: (وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنباتات، فإن اللبن سائل ليس فيه شىء حى، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية، وهذه تخرج من الحيوان الحي، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي والله أعلم بمراده) اهـ.
(ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي ذلكم المتصف بكامل القدرة وبالغ الحكمة هو الله الخالق لكل شىء المستحق للعبادة وحده لا شريك له فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شىء من ذلك كفلق نواة وحبة وإيجاد نخلة وسنبلة.
(فالِقُ الْإِصْباحِ) فلق الصبح: هو فلق ظلمة الليل وشقّها بعمود الصبح الذي يبدو فى جهة مطلع الشمس من الأفق مستطيلا، ولا يعتد به حتى تنفشع الظلمة عنه من أمامه وعن جانبيه حتى تزول.
(وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي وجعله يستريح فيه المتعب من العمل بالنهار ويسكن فيه، والسكون يعم سكون الجسم وسكون النفس بهدوء الخواطر والأفكار.
والليل وقت السكون، لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر فى النهار، لما خص به الليل من الإظلام والنهار من الإبصار.
وأكثر الأحياء من الإنسان والحيوان تترك العمل والسعى في الليل وتأوى إلى
مساكنها للراحة التي لا تتم ولا تكمل إلا بالنوم الذي تسكن فيه الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية، كما تسكن به الأعضاء سكونا نسبيا، فتقلّ نبضات القلب. ويقل إفراز خلايا الجسم للسوائل والعصارات التي تفرزها، ويبطىء التنفس ويقل ضغط الدم فى الشرايين، ولا سيما أول النوم ويضعف الشعور حتى يكاد يكون مفقودا، ويستريح الجهاز العصبي لتستريح جميع الأعضاء.
(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي والشمس والقمر يجريان بحساب وعدد، لبلوغ أمدهما ونهاية آجالهما، ويدوران لمصالح الخلق التي جعلا لها، فطلوعهما وغروبهما وما يظهر من تحولاتهما واختلاف مظاهرهما- كل ذلك يجرى بحساب كما قال:«الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ» وقال: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» وقد جمع الله فى هذه الآية ثلاث آيات سماوية، كما جمع فيما قبلها ثلاث آيات أرضية:
فالآية الأولى فلق الصبح والتذكير به للتأمل فى صنع الله بإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود، ومبدأ زمن تقلب الأحياء فى القيام والقعود، ومضيّهم إلى ما يسّروا له من الأعمال، وما لله فى ذلك من حكم وأسرار والآية الثانية جعل الليل سكنا، وذلك نعمة من الله ليستريح الجسم، وتسكن النفس، وتهدأ من تعب العمل بالنهار، قال تعالى:«وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .
والآية الثالثة جعل الشمس والقمر حسبانا، وذلك فضل من الله عظيم، فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منهم.
وعلماء الفلك متفقون على أن للأرض حركتين، حركة تتم فى أربع وعشرين ساعة وعليها مدار حساب الأيام، وحركة تتم فى سنة، وبها يكون اختلاف الفصول، وعليها مدار حساب السنة الشمسية.
(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي هذا الفعل العالي الشأن، البعيد المدى فى الإبداع والإتقان- هو تقدير الخالق الغالب على أمره فى تنظيم ملكه، بما اقتضاه واسع علمه، وعظيم قدرته وحكمته، ليس فيه جزاف ولا اختلاف:«إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» .
ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آيات التكوين العلوية وقرنها بذكر فائدتها فقال:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) المراد بالنجوم هنا ما عدا الشمس والقمر من النيّرات، لأنه الظاهر من سياق الكلام، ولأنه المعهود فى الاهتداء به.
وكانت العرب أيام بداوتها تؤقت بطلوع النجوم فتحفظ أوقات السنة بالأنواء وهى نجوم منازل القمر فى مطالعها ومغاربها.
وكان اهتداؤهم بالنجوم على ضربين:
(1)
معرفة الوقت من الليل أو من السنة.
(2)
معرفة المسالك والطرق والجهات.
والمراد بالظلمات ظلمة الليل وظلمة الأرض أو الماء وظلمة الخطأ والضلال.
والمعنى- والله هو الذي جعل لكم النجوم أدلة فى البر والبحر إذا ضللتم الطريق أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا، فبها تستدلون على الطرق فتسلكونها وتنجون من الخطأ والضلال فى البر والبحر.
والخلاصة- إنه تعالى ذكّرنا ببعض فضله فى تسخير هذه النيرات التي نراها صغيرة بعد أن ذكّرنا ببعض فضله فى الشمس والقمر اللذين يريان كبيرين فى أعين الناس.
وقد جدّت فى هذا العصر المراصد الفلكية، واستحدثت آلات لتقريب الأبعاد وتحليل النور، فعلم الشيء الكثير من سرعة الكواكب وأبعادها، ومعرفة مساحتها وكثافتها والمواد المؤلفة منها، إلى نحو ذلك مما كان مجهولا من قبل، فثبت لعلماء الفلك أن النجوم تعد بالملايين، لكنهم لم يتمكنوا إلى الآن إلا من معرفة أبعاد بعض مئات منها، لأن باقيها أبعد من أن يعرف اختلاف فى مواقعه.
ولما فى عالم السموات من بديع الصنع، وبديع النظام ختم سبحانه الآية بقوله:
(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) والآيات هنا إما آيات التنزيل، وإما آيات التكوين، فإن كانت الأولى فالمعنى- إن هذه الآية وما قبلها وكل ما فى معناها من الآيات المنزلة فى الحث على النظر فى ملكوت السموات تبين وتفصل حكم الله تعالى وعجائب صنعه، فيزداد الإنسان بهذا البيان بحثا وعلما.
وإن كانت الثانية فالمعنى- إن الآيات الدالة على علم الله تعالى وقدرته وفضله على خلقه لا يستخرجها من النظر فى النجوم إلا أهل العلم الذين يقرنون العلم بالاعتبار ولا يكتفون بأن يقولوا بعد النظر والحساب: إن هذا لعجب عجاب.
وبعد أن ذكّرنا سبحانه ببعض آياته فى الأرض والسماء ذكرنا بآياته فى أنفسنا فقال:
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته، أو إحداثه بالتدريج، والنفس تطلق على الروح وعلى الشخص المركب من روح وبدن.
والمعنى- إنه تعالى هو الذي أنشأكم من نفس واحدة هى الإنسان الأول الذي تسلسل منه سائر الناس بالتوالد، وهو آدم عليه السلام.
وفى إنشاء جميع البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته وفى التذكير بذلك إيماء إلى ما يجب من شكر نعمته، وإرشاد إلى ما يجب من التعارف والتعاون بين البشر، وأن يكون هذا التفرق إلى شعوب وقبائل مدعاة إلى التآلف، لا إلى التعادي والتقاتل وبث روح العداوة والبغضاء بين الناس.
(فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي ولكم موضع استقرار فى الأصلاب، وموضع استيداع فى الأرحام، وإنما جعل الصلب مقر النطفة، والرحم مستودعها، لأن النطفة تتوالد فى الصلب ابتداء، والرحم شبيهة بالمستودع كما قال:
وإنما أمهات الناس أوعية
…
مستودعات وللآباء أبناء
(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي إننا جعلنا الآيات المبينة لسنننا فى الخلق مفصلة
وموضحة لقدرتنا وإرادتنا، وعلمنا وحكمتنا، وفضلنا ورحمتنا، لقوم يفقهون ما يتلى عليهم، ويفهمون المراد منه، ويفطنون لدقائقه وخفاياه.
وعبر هنا بالفقه وفيما قبلها بالعلم، لأن استخراج الحكم من خلق البشر بتوقف على غوص فى أعماق الآيات وفطنة فى استخراج دقائق الحكم، أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها فى ظلمات البر والبحر فهو من الأمور الظاهرة التي لا تتوقف على دقة النظر، ولا غوص الفكر والتأمل فى العبرة منها، وكذلك جميع المظاهر الفلكية.
ثم ذكر بعد ذلك آية أخرى من آيات التكوين وهى إنزال الماء من السماء وجعله سببا للنبات فقال:
(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) أي وهو الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب هذا الماء كل صنف من أصناف النبات المختلف فى شكله وخواصه وآثاره اختلافا متفاوتا فى مراتب الزيادة والنقصان كما قال: «يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» .
فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة كساق النجم وأغصان الشجر، نخرج منه أي من هذا الأخضر المتشعب النبات آنا بعد آن حبّا متراكبا بعضه فوق بعض وهو السنبل.
وهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له من النبات ونتاجه.
ثم عطف عليه حال نظيره من الشجر فقال:
(وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) أي ونخرج من طلع النخل قنوانا دانية القطوف سهلة التناول.
(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) أي ونخرج من ذلك الخضر جنات من أعناب.