الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في قتال مانعي الزكاة، حتى رجعوا إليه، ومناظرتهم في جمع المصحف حتى اجتمعوا عليه، ومناظرتهم في حدّ الشارب، وجاحد التحريم، حتى هُدوا إلى الصراط المستقيم
…
»
(1)
.
وهذا هو الجدل المحمود والمناظرة المرضيَّة، التي تُحِق الحق وتكشف الباطل، وتهدف إلى الرُّشد، مع ما يرجى من رجوع المناظر عن الباطل إلى الحق
(2)
.
هذه الطريقة كانت هي المعروفة المشهورة قبل أن يُفرد هذا العلم بمؤلفات مستقلة، وتدخله الداخلة من جهات عديدة، ستأتي الإشارة إليها.
وإذا جاز لنا أن نمثّل لهذه المرحلة، فيمكننا القول: إن الكتب الخلافية المتقدمة أصدق مثال عملي لعلم الجدل، يمكن للمتأمل فيها أن يستخلص كثيرًا من قواعد الفن وضوابطه الصحيحة، من مثل كتاب «الأم» للشافعي، خاصة مناظراته مع محمد بن الحسن وغيره من فقهاء العراق. وكتب ابن جرير الفقهيَّة «اختلاف العلماء» و «تهذيب الآثار» . وكتب ابن المنذر «الأوسط» و «الإشراف» وغيرها.
المرحلة الثانية:
وهذه المرحلة جاءت بعد تدوين أكثر العلوم في مصنفات خاصة، وتميُّز العلوم عن بعضها، وجاءت بعد استقرار المذاهب الفقهية، وتدوين المدونات الخاصة بكل مذهب، وجري العلماء والمتناظرين على انتصار كلٍّ لمذهبه وإضعاف مذهب المخالف بأيِّ طريق. وقد تزامن ذلك مع تأثر كثير من العلوم بالعقليَّات والمباحث المنطقية.
من أجل ذلك كان الشيخ أبو حامد الإسفراييني يقول لطاهر العبَّاداني: لا تعلِّق كثيرًا مما تسمع مني في مجالس الجدل، فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته، ودفعه ومغالبته
(1)
.
وكان الداعي إلى إفراد «علم الجدل» بالتصنيف مع أنه فرع من فروع علم النظر والخلاف= أنه «لما كان بابُ المناظرة في الرد والقبول مُتَّسِعًا، وكل واحدٍ من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عِنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابًا ومنه ما يكون خطأً، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابًا وأحكامًا يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلًّا، وكيف يكون مخصومًا
(2)
منقطعًا، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت ولخصمه الكلام والاستدلال» قاله ابن خلدون
(3)
.
وقد وصف لنا شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المرحلة وصفًا يكشف لنا حقيقتها وخصائصها وميزاتها وما لها وما عليها، فقال: «ثم صار المتأخرون بعد ذلك قد يتناظرون في أنواع التأويل والقياس بما يؤثر في ظن بعض الناس، وإن كان عند التحقيق يؤول إلى الإفلاس، لكنهم لم يكونوا يقبلون من المناظرة إلا ما يفيد ولو ظنًّا ضعيفًا للناظر.
(1)
انظر «طبقات الشافعية الكبرى» : (4/ 62). وانظر ما علقه تاج الدين السبكي على هذا النص.
(2)
في المطبوعة: «مخصوصًا» ، وما أثبته من نسخة أخرى، وهو أصح.
(3)
«المقدمة» (ص 506).
واصطلحوا على شريعةٍ من الجدل، للتعاون على إظهار صواب القول والعمل، ضبطوا بها قوانين الاستدلال، لتسلم عن الانتشار والانحلال. فطرائقهم وإن كانت بالنسبة إلى طرائق الأولين غير وافية بمقصود الدين، لكنها غير خارجةٍ عنها بالكلية، ولا مشتملةٍ على ما لا يؤثر في القضية. وربما كسوها من جودة العبادة، وتقريب الإشارة، وحسن الصياغة، وصنوف البلاغة ما يُحلِّيها عند الناظرين، ويُنَفّقها عند المتناظرين، مع ما اشتملت عليه من الأدلة السمعية والمعاني الشرعية، والتحاكم فيها إلى حاكم الشرع الذي لا يُعزَل، وشاهد العقل المزكَّى المعدَّل.
وبالجملة؛ لا تكاد تشتمل على باطل محض ونُكْرٍ صرف، بل لابدَّ فيها من مخيل للحق، ومشتمل على عرف»
(1)
.
وهذه المرحلة أو الطريقة نَسَبها ابنُ خلدون (ت 808) إلى البزدوي
(2)
، قال:«وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والاستدلال»
(3)
.
ولعل هذه النسبة تعود إلى أنه أول من ألَّف فيها، أو أول من اشتهر بها، لكنَّا نجد علماء آخرين يخالفون هذا الرأي؛ فيذكر النووي (ت 676) في «تهذيب الأسماء واللغات»
(4)
أن أول من ألَّف فيها أبو علي الطبري
(1)
«العقود» (ص 48 - 49)، و «تنبيه الرجل العاقل» (ص 5 - 6).
(2)
هو: علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم، فخر الإسلام أبو الحسن الفقيه الحنفي، صاحب المختصر المشهور في الأصول (ت 482)، ترجمته في «تاج التراجم» (ص 205)، و «الفوائد البهية» (ص 124 - 125).
(3)
«المقدمة» (ص 506).
(4)
(3/ 48).
(ت 305)، بينما ذكر طاش كبري زاده أن أول من ألَّف فيه هو ابن القفَّال الشاشي (ت 507)، وسمّى غيرُهم غيرَ أولئك. ولعلّ هذا الاختلاف عائد إلى شمول علم الجدل لأكثر من فنٍّ جميعُها تُصنَّف تحت «علم الجدل» وهي: الخلافيَّات، وعلم المناظرة (آداب البحث)، وعلم الجدل
(1)
.
وهنا نذكر الكتب المطبوعة في علم الجدل التي أُلِّفت على هذه الطريقة:
1 -
«التقريب لحدّ المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية» لأبي محمد بن حزم الظاهري (ت 456)، وهو مطبوع ضمن مجموعة رسائل ابن حزم في المجلد الرابع منه سنة 1403.
2 -
«المنهاج في ترتيب الحِجَاج» لأبي الوليد الباجي المالكي (ت 474)، وهو مطبوع بتحقيق عبد المجيد تركي سنة 1407 طبعة ثانية.
3 -
(2)
لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي الشافعي (ت 476)، وهو مطبوع بتحقيق علي العميريني، ثم طبعه عبد المجيد تركي.
4 -
«المنتخل في الجدل» لأبي حامد الغزالي (ت 505)، وقد طبع أخيرًا بتحقيق الأستاذ علي العميريني.
5 -
«الجدل على طريقة الفقهاء» لأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي (ت 513)، وقد نشره محققًّا علي العميريني سنة 1418.
(1)
انظر في فروع علم الجدل: مقدمة العميريني لكتاب ابن عقيل (ص 47 - 62)، ومقدمة عبد المجيد تركي لـ «المنهاج» (ص 6 - 10).
(2)
وهو مختصر من كتابه الآخر «الملخص» وقد حُقق في جامعة أم القرى، ولم يُطبع.