الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاحتمالات، فنقول تمهيدًا:
الكتاب الذي نتكلم عليه «تنبيه الرجل العاقل» عثرنا منه على نسخة وحيدة، وهذه النسخة سقطت منها ورقة العنوان، وعدة صفحات نحو العشر (كما حققناه في مقدمة الطبعة الأولى ص 67) وهذا الخرم ذهبَ بعنوان الكتاب واسم مؤلفه ومقدمة المؤلف وأوائل الكتاب.
ولمعرفة من هو مؤلف الكتاب توجّهنا للنظر في مادته لنستخرج القرائن الدالة على من ألَّفه، فوجدنا الكتاب في موضوع الجدل، ووجدنا مؤلفه ينقل نصوصَ كتابٍ في الجدل، ويردّ عليها ويناقشها، وبمطابقة هذه النصوص التي ينقلها وجدنا أنها من كتاب «الفصول في الجدل» لبرهان الدين النسفي الحنفي (ت 687). وهو متن مختصر في (10 ورقات) في صناعة الجدل على طريقة المتأخرين المُحْدَثين. وقد استوفاه المؤلف بالشرح والنقض والرد. ووجدنا أن تاريخ كتابة المخطوط في سنة 759، وتاريخ وفاة النسفي (المردود عليه) سنة 687 فلا بد أن يكون المؤلف قد عاش في هذه الفترة بين التاريخين. وقد تلمسنا القرائن التي تهدينا إلى مؤلفه، فاهتدينا بحمد الله وفضله إلى كتاب جليل من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان في عداد المفقود.
فإلى القرائن والأدلة الهادية:
القرينة الأولى:
ناسخ المخطوط لم يذكر اسمه في آخره، ولكن ذكر تاريخ النسخ وهو سنة 759، أي بعد وفاة المؤلف بواحد وثلاثين عامًا. لكنا عرفنا ناسخ الكتاب أخيرًا والحمد لله، فهو: محمود بن أحمد بن حسن الشافعي وهو من تلاميذ شيخ الإسلام.
عرفنا ذلك مصادفة أثناء تصفح مقدمة كتاب «الرد على المنطقيين» ونماذج النسخة الخطية المعتمدة، فحين رأينا خط النسخة انقدح في الذهن أن هذا الخط قد تعاملنا معه من قبل وألِفْنا قاعدته .. لكن أين؟ ثم اكتشفنا أننا أمام كتاب بخط ناسخ كتابنا «تنبيه الرجل العاقل» فسارعنا للمقارنة بين الخطين فإذا هما ينحدران من يدٍ واحدة لا يختلفان في شيء أبدًا. وسنضع بين يديك نموذجًا منهما يتبين به الأمر.
وننبه هنا إلى أمر مهم ــ وهو وإن كان من عيوب النسختين إلا أنه يثبت أنهما بخط ناسخ واحد ــ وهو أن الناسخ على الرغم من جمال خطه وحسن كتابته إلا أنه كثير التصحيف والتحريف، وقد اتضح لنا ذلك من خلال العمل في نسخة كتابنا «تنبيه الرجل العاقل» واتضح جليًّا في نسخة كتاب «الرد على المنطقيين» كما نبّه عليه محققُه، ويتضح من إصلاحات شيخ الإسلام بقلمه على تلك النسخة.
فاستفدنا من هذا الاكتشاف أمورًا غايةً في الأهمية والإفادة، وهي: أن ناسخ كتاب «الردّ على المنطقيين» قد عُرف باسمه، وتاريخ كتابته ومقابلته، وأنه من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية؛ إذ قرأ أوائل هذه النسخة على مصنفها شيخ الإسلام، وعلق عليها الشيخ وزاد فيها بخطه الشريف في مواضع متعددة
(1)
.
فخلصنا إلى نتيجة مهمة هي: أن ناسخ ذاك الكتاب هو ناسخ نسختنا، فهو من تلاميذ شيخ الإسلام، وقد عرفتَ مِن أمره ما عرفتَ.
(1)
انظر مقدمة «الرد على المنطقيين» (ص 25 - 28).
القرينة الثانية: أن المؤلف لابدّ أن يكون عاش في الفترة مابين سنة 687 (تاريخ وفاة النسفي) و 759 (تاريخ نسخ المخطوط). وشيخ الإسلام قد عاش في بعض هذه الفترة.
القرينة الثالثة: أن موضوع المخطوط الذي وجدناه الرد على الجدليين ونقض مذهبهم، فبحثنا عمن ألَّف في هذه الفترة ردًّا على أهل الجدل المحدَث ــ الذي عُرف بـ «الجُست» كما شرحناه في مقدمة الطبعة الأولى (ص 40 - 41) وناقشهم فيه وبيَّن بطلان طريقتهم وزَيْف قواعدهم، فلم نجد بعد طول بحث وتقَصٍّ أحدًا من العلماء ردّ على هؤلاء الجدليين غير شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المسمَّى «تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل بالباطل» وقد علمنا أن هذا الكتاب رد على الجدليين المحدثين من عنوانه الواضح، ومن قوله في مقدمة الكتاب التي حفظها تلميذه ابن عبد الهادي في ترجمة شيخه:(ص 49) قال: «ثم إن بعض طلبة العلوم من أبناء فارس والروم صاروا مولعين بنوعٍ من جدل المموهين استحدثه طائفة من المشرقيين وألحقوه بأصول الفقه في الدين .. » .
وهذا النوع من الجدل المحدَث هو الذي أشار إليه شيخ الإسلام بقوله: «وفي ذلك الوقت ــ أي سنة 615 ــ ظهرت بدع في العلماء والعُبَّاد؛ كبحوث ابن الخطيب، وجست العميدي، وتصوف ابن العربي
…
»
(1)
.
وزاد الأمر وضوحًا ما قاله شيخ الإسلام قال: «ومثل هذه الأغلوطات من المسائل يسلكها أهل اللدد في الجدل في أمر الدنيا والدين في الأصول والفروع، من جنس الأغلوطات الذي ابتدعه العميدي السمرقندي في مثل
(1)
«جامع المسائل ــ الأموال السلطانية» : (5/ 396 - 397).
نكته التي يسميها البرهان ويدعي أنها قطعية وغير ذلك من فرض أمور ممتنعة ويستنتج نتائجها على ذلك التقدير الذي يمتنع وجوده»
(1)
.
وقد أفاد ابن القيم تلميذ ابن تيمية: أن شيخه رد على هذا الجدل المحدث ــ الجست ــ فقال: «ثم إنه خرج مع هذا الشيخ المتأخر المعارض بين العقل والنقل أشياء لم تكن تعرف قبله: جست العميدي وحقائق ابن عربي وتشكيكات الرازي وقام سوق الفلسفة والمنطق
…
فأقام الله لدينه شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه فأقام على غزوهم مدة حياته باليد والقلب واللسان وكشف للناس باطلهم وبين تلبيسهم وتدليسهم وقابلهم بصريح المعقول وصحيح المنقول وشفى واشتفى
…
»
(2)
.
وهذا العميدي هو الذي أشار إليه المصنف في كتابنا (التنبيه ص 598)
(3)
بقوله: «ذكر المُبَرِّز في جملة الأدلة التي يستدل بها دليلًا سماه البرهان» . وهذا النقل موجود في كتاب العميدي (مخطوط).
فإذا علمنا ذلك كله فإن برهان الدين النسفي (ت 687) صاحب «الفصول» من أصحاب هذا الجدل المحدث الذين سلكوا مسلك العميديّ كما نص عليه ابن خلدون في «المقدمة» (ص 507). وكتابنا هذا رد عليه.
ولننظر الآن إلى هذه النصوص في أثناء الكتاب:
(1)
«جواب الاعتراضات المصرية» : (ص 121 - 122).
(2)
«الصواعق المرسلة» : (3/ 1078 - 1079).
(3)
كنا علقنا في الطبعة الأولى: أنا لم نعرف هذا المبرز، وقد عرفناه الآن بإفادة الدكتور عبد الرحمن الأمير سلمه الله.
ص 248: «وإنما حاققنا فيها .. الجدليين أصحاب الجدل المحدث» .
ص 313: «كما يفعله هؤلاء أرباب الجدل المحدث» .
ص 315: «أصحاب هذا الجدل» .
ص 381: «أهل الجدل المحدث» .
فبات واضحًا الآن أن كتابنا هذا ردٌّ على أصحاب الجدل المحدَث (الجُست ــ طريقة العميدي) متمثّلًا في كتاب النسفي «الفصول» .
ولنذكر أيضًا بعض المواضع التي تبرهن على أن غرض كتابنا نقض هذه الطريقة في الجدل المحدَث المموَّه وتزييفها، لا أنه شرح كسائر الشروح كما ظن بعض المتوهِّمين:
قال شيخ الإسلام (ص 25): «واعلم أني إنما نبهتُ على فساد هذه النكت لأنها مما اعتمد عليه بعض هؤلاء المموهين المغالطين من الجدليين» .
وقال (ص 127): «والغرض أن نبين فساد الطريقة الجدلية
…
».
وقال (ص 130): «هذا كله مبني على محض التحكم بلا مرجح، وعليه مبنى عامة كلام الجدليين المموهين» .
وقال (ص 342): «وهو مسلك رديء جدًّا
…
وإنما يسلكه من لا خَلاق له من المغالطين».
وقال (ص 369): «فاحذره فإنه باب عظيم من باب أغاليط هؤلاء المغالطين» .
ومثل هذا في عشرات المواضع من الكتاب، وهذه إشارة إلى بعضها:(ص 18، 29، 37، 40، 43، 62، 63، 87، 89، 166، 171، 182 - 183، 191، 196 - 197، 200، 202، 248، 287، 296، 299، 344، 361، 421).
فتبين لذي عينين أن كتابنا ليس شرحًا كسائر الشروح أو حاشية لكتاب «الفصول» كما زعم ذلك من زعَمه، بل هو نقدٌ للكتاب ونقض له، وإبطال لطريقة الجدل المحدَث التي انتهجها العميدي (ت 606 هـ) وتبعه عليها النسفي (ت 687 هـ) المردود عليه.
وهذا لا يعني أن لا يقع في كلام النسفي وغيره ممن ألف في هذه الطريقة شيءٌ من الحق، بل قد يقع منهم ذلك، بل نص على ذلك شيخ الإسلام في مقدمة الكتاب التي حفظها لنا ابن عبد الهادي (ت 744) في «العقود الدرية» (ص 50 - 51). قال: «ومع ذلك فلا بد أن يدخل في كلامهم قواعد صحيحة ونكت من أصول الفقه مليحة، لكنهم إنما أخذوا ألفاظها ومبانيها دون حقائقها ومعانيها، بمنزلة ما في الدرهم الزائف من العين، ولولا ذلك لما نفق على من له عين. فلذلك آخذ في تمييز حقه من