الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في ذكر بعض كلام الحفاظ في بيان أن من التفرد ما يعل به الخبر
1 -
قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (ص: 7): (وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله ولا مستعمله.
فمن هذا الضرب من المحدثين: عبد الله بن محرر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال أبو العطوف، وعباد بن أبي كثير، وحسين بن عبد الله بن ضميرة، وعمر بن صهبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث، فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به، لأن حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما تفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئًا ليس عند أصحابه قبلت زيادته.
فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم) ا. هـ.
قلت: وهذا القيد الذي ذكره مسلم لقبول ما يتفرد به الراوي وهو كونه
قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم
…
إلى آخره لا ينطبق على موسى بن هلال، ولا على العمري، لأن موسى ليس بالمشهور، فضلاً عن أن يمعن في الموافقة لرواية الحفاظ.
وأما عبد الله العمري فتقدم أن فيه ضعفًا، وأنه ليس بالمتقن، ويخالف الثقات، فلا ينطبق عليه ما ذكره مسلم.
2 -
وقال أبو داود في " رسالته إلى أهل مكة في وصف كتابه " السنن " (ص: 29): (والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئًا من الحديث، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس، والفخر بها أنها مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم.
ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه، ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريبًا شاذًا.
فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده عليك أحد.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث.
وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فانشده كما تنشد الضالة، فإن عرف وإلا فدعه) ا. هـ.
ومن الأمور التي يحمل عليها قول أبي داود: (فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم): أن الحديث الذي ينفرد به أحد الرواة عن مالك أو يحيى بن سعيد - ولو كان ثقة - فإنه لا يقبل، بل يرد، لأنه حينئذ يكون حديثًا غريبًا، فكيف إذا كان المتفرد به
فيه ضعف، كما في الحديث الذي معنا.
3 -
وقال أبو بكر البرديجي: (لا يلتفت إلى رواية الفرد عن شعبة ممن ليس له حفظ ولا تقدم في الحديث من أهل الإتقان) ا. هـ من "فتح الباري" لابن رجب (1/ 301).
قلت: وعبد الله العمري وموسى بن هلال ليس لهما حفظ ولا تقدم في الحديث.
4 -
وقال الذهبي في "الميزان"(3/ 140): (بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له وأكمل لرتبته، وأدل على إعتنائه بعلم الأثر وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها ..... إلى أن قال: وأن تفرّد الثقة المتقن يعد صحيحًا غريبًا، وأنّ تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكرًا، وأنّ إكثار الراوي من الأحاديث التي لا يوافق عليها لفظًا أو إسنادًا يصيره متروك الحديث) ا. هـ.
والشاهد من هذا قول الذهبي: (تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكرًا) وهذا ينطبق على الخبر الذي معنا.
5 -
وقال أيضًا في "الميزان"(1/ 364): (" صح " ثابت بن عجلان " خ، د، س، ق " شامي، حدث عنه بقية ومحمد بن حمير، وثقه ابن معين، وقال أحمد بن حنبل: أنا متوقف فيه. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن عدي، وساق له ثلاثة أحاديث غريبة، وذكره العقيلي في "الضعفاء" وقال: لا يتابع في حديثه ....).
ثم ذكر له حديثًا أُنكر عليه، ثم قال: (قال الحافظ عبد الحق: ثابت لا يحتج به.
فناقشه على قوله أبو الحسن بن القطان، وقال: قول العقيلي أيضًا فيه تحامل عليه. وقال: إنما يمس بهذا من لا يعرف بالثقة مطلقًا، أما من عرف بها فانفراده لا يضره إلا أن يكثر ذلك منه.
قلت - الذهبي -: أما من عرف بالثقة فنعم، وأما من وثق ومثل أحمد الإمام يتوقف فيه، ومثل أبي حاتم يقول: صالح الحديث، فلا نرقيه إلى رتبة الثقة، فتفرد هذا يعد منكرًا، فرجح قول العقيلي وعبد الحق.
وهذا شيخ حمصي ليس بالمكثر، رأى أنسًا، وسمع من مجاهد وعطاء وجماعة
…
قال دحيم: ليس به بأس. وقال النسائي: ثقة. وسئل عنه أحمد ابن حنبل مرة: أكان ثقة؟ فسكت) ا. هـ.
6 -
وقال الذهبي أيضًا في " الموقظة "(77 - 78): (وقد يسمي جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكرًا.
فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة أطلقوا النكارة على ما انفرد به مثل عثمان بن أبي شيبة وأبي سلمة التبوذكي وقالوا: هذا منكر.
فإن روى أحاديث من الأفراد المنكرة غمزوه ولينوا حديثه، وتوقفوا في توثيقه، فإن رجع عنها وامتنع من روايتها، وجوز على نفسه الوهم، فهو خير له وأرجح لعدالته، وليس من حد الثقة أنه لا يغلط ولا يخطئ، فمن الذي يسلم من ذلك غير المعصوم الذي لا يقرُّ على خطأ؟) ا. هـ.
قلت: وكلام الأئمة في هذه المسألة كثير، والمنقول عنهم فيها ليس بالقليل، وقد راعوها مراعاة بالغة عند حكمهم على الحديث وعلى الراوي - ودونك كتب العلل والجرح والتعديل -، وأكثروا من التأليف في الأفراد والغرائب.
والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى بسط وضرب للأمثلة، كما يحتاج إلى تفصيل لأنه ليس كل غرابة وتفرد علة يرد بها الخبر.
* * *
4 -
العلة الرابعة مما يعل به هذا الخبر هي:
أن مسلمًا (1377) أخرج من طريق عيسى بن حفص بن عاصم ثنا نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من صبر على لأوائها كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة " وهو عند أحمد (6440).
وأخرجه مسلم أيضًا من طريق مالك عن قطن بن وهب عن يُحنس مولى الزبير عن ابن عمر به، ولفظه:" لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة " وهو عند مالك في الموطأ (2/ 885) وأخرجه أحمد (5935).
وأخرج الترمذي (3918): ثنا محمد بن عبد الأعلى ثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر به.
وقال: حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(3/ 1184): ثنا علي بن إبراهيم بن الهيثم ثنا أبو موسى الزمن ثنا سالم بن نوح العطار ثنا عبيد الله بن عمر به.
وقال ابن عدي: لا أعلم يرويه عن عبيد الله غير سالم بن نوح ومعتمر ابن سليمان.
قلت: وسالم مختلف فيه، ولعله صالح.
والحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضًا.
والذي يبدو لي - والله تعالى أعلم - أن أصل حديث موسى بن هلال عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر يرفعه: " من زار قبري وجبت له شفاعتي " هو الحديث المتقدم من رواية عيسى بن حفص - وهو عم عبد الله العمري - وعبيد الله بن عمر - وهو أخو عبد الله - كلاهما عن نافع، فأخطأ موسى بن هلال - أو عبد الله العمري - فرواه باللفظ السابق، وقد تقدم ذكر أمثلة كثيرة على خطأ عبد الله العمري، والله تعالى أعلم.
وهذه العلة - أي العلة الرابعة - لا تستغرب لأن كثيرًا من الأحاديث الضعيفة لها أصول صحيحة، فيخطئ الراوي الضعيف في روايته إما من حيث اللفظ فيغير اللفظ، وإما من حيث الإسناد فيغير الإسناد.
* * *