الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: المنهج العلمي للمنقح
إن من أهم النتائج التي يصل إليها الدارس لآثار الحافظ ابن عبد الهادي أنه صاحب منهج علمي متميز، وبيان ذلك هو موضوع هذا المبحث، وذلك من خلال العناصر التالية:
- الصفات العامة لمنهجه العلمي.
- منهجه في علوم الحديث (الجرح والتعديل، تمييز الرواة، التحقق من اتصال السند، العلل، مسائل أخرى).
- اختياراته الفقهية.
الصفات العامة لمنهج المنقح:
لقد اتسم المنهج العلمي للمنقح بعدة صفات، يمكن إجمالها فيما يلي:
(1)
الدقة والتحري
هذه الميزة من أهم الميزات التي تميز بها الحافظ ابن عبد الهادي، وقد ظهرت دقته وتحريه رحمه الله في أمور كثيرة:
- كالعناية بالأحكام الضمنية، وسوف يأتي بسط الكلام حول ذلك.
- وعدم التسرع بالجزم عند وجود الاحتمال، وسنذكر بعض الأمثلة على ذلك فيما يأتي.
- وكذلك تنبهه للسقط الذي يقع في بعض الأسانيد مع عدم اطلاعه على
مصادرها الأصلية (انظر: 3/ 330، 421؛ 4/ 7، 193، 324، 340).
- وكذلك عنايته بالرجوع إلى المصادر الأصلية وعدم الاكتفاء بالمصادر الفرعية (انظر: 3/ 191 - 192).
وغير ذلك.
(2)
التحرير والتحقيق
من مزايا الحافظ ابن عبد الهادي أنه رحمه الله صاحب تحرير وتحقيق، وهذا ظاهر لمن طالع كتبه رحمه الله، وقد شهد له بهذا عدد من العلماء كما سبق في عبارات ثناء العلماء عليه، فهو ليس مجرد ناقل كما يتوهم البعض، بل هو ناقل وناقد لما ينقل، فتجده تارة ينقل ويذكر ما يؤيد ما نقله، وتارة ينقل ويعترض على ما نقله، وتارة ينقل ويسكت، وكونه لا يعترض أو يؤيد ما ينقله في بعض الأحيان لا ينفي عنه صفة التحرير والتحقيق، لاسيما أن علم الحديث - بالذات - قائم بشكل كبير على النقل.
(3)
وحدة المنهج
من يطالع كتاب "التنقيح" لابن عبد الهادي وغيره من كتبه، يجد أنه رحمه الله كان يسير على منهج واحد مطرد، وهذه ميزة مهمة تدل على تمكن العالم، وأن علمه مبني على أصول متينة عنده.
(4)
حسن الانتخاب والانتقاء
هذه الميزة ظاهرة في جميع آثار الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله، فتجده لا يذكر إلا الشيء المهم وما يحتاج إليه، ولا يطيل بذكر ما لا فائدة فيه أو يكون مجرد تكرار.
(5)
الإنصاف والتجرد للحق
هذه الميزة من آثار الاشتغال بعلم الحديث، فإن المشتغل بعلم الحديث في الغالب يكون متجردًا للحق، ومنصفًا للخلق عند نظره في المسائل العلمية، ونجد هذا ظاهرًا عند الحافظ ابن عبد الهادي، فلا تجد عنده رحمه الله تعصبًا لشيخ أو لمذهب، وأيضًا عند كلامه على الأشخاص والأقوال يتكلم بإنصاف.
والأمثلة على إنصافه وتجرده للحق كثيرة، ومنها: أن ابن الجوزي (3/ 195) أورد حديثًا من طريق الدارقطني، ونقل عنه أنه حكم على إسناده بالصحة، ثم قال: هذه عصبية من الدارقطني، كان يحيى بن سعيد لا يرضى معاوية بن صالح، فتعقبه المنقح (3/ 206) بقوله: (قول المؤلف
…
غير صحيح، وإنما العصبية منه، فإن معاوية بن صالح ثقة صدوق).
وانظر أيضًا: (4/ 469).
ومن إنصافه رحمه الله أنه إذا مر موضع من المواضع ويكون كلام ابن الجوزي فيه جيدًا فإن المنقح يشير إلى ذلك، ومن الأمثلة:
ذكر ابن الجوزي (3/ 192) في مسألة صوم يوم الشك سبعة أحاديث يحتج بها المخالف، فتعقبه المنقح في كلامه على خمسة منها، ووافقه على تضعيفه لحديثين منها، وقال في كلامه على الحديث السابع (3/ 208):(هو حديث موضوع لا يشك في وضعه، فلا يجوز الاحتجاج به بحال، وقد شفى المؤلف فيه، والله أعلم).
وقال المنقح في موضع آخر (2/ 142): (وما ذكره المؤلف في هذه المسألة من الاستدلال والجواب حسن، وإن كان عليه فيه مناقشات في غير موضع، والله أعلم).
(6)
الاستقراء
مما تميز به الحافظ ابن عبد الهادي عنايته بالاستقراء، وقد ظهرت ثمار كثيرة لذلك، فتجده يجمع لك كلام العالم الواحد المتفرق في مكان واحد سواء كان من كتاب واحد أو من أكثر من كتاب (انظر مثلاً: 2/ 278؛ 3/ 332 ح).
وأيضًا تجده يتكلم على مناهج المؤلفين والعلماء بكلام قائم على الاستقراء، وستأتي الإشارة إلى أمثلة من كلامه في ذلك.
(7)
قلة الكلام وكثرة الفائدة
من صفات السلف رحمهم الله ومن سار على طريقتهم قلة الكلام وكثرة الفائدة، وهذه الصفة منطبقة على الحافظ ابن عبد الهادي، فهو قليل الكلام، ولكن كلامه متين وغاية في الإفادة.
(8)
إجلال العلماء والأدب معهم
مما تميز به الحافظ ابن عبد الهادي إجلاله لأهل العلم، وتنزيله للناس منازلهم، ولكن ذلك لا يمنعه من بيان الحق بأدب إذا وقع أحد من العلماء في خطأ، والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها:
قال المنقح (2/ 308): (فالعجب من الإمام الحافظ الدارقطني مع كثرة حديثه ومعرفته بالحديث، قال: لا نعلم حدث به عن أبي أسامة غير أحمد بن سنان. وقد رواه عنه أبو كريب وأبو همام وبشر بن خالد العسكري وغيرهم).
وانظر أيضًا: (3/ 276).
وذكر المنقح سعيد بن ميسرة، فقال (2/ 636):(أخطأ ابن حبان في قوله: " روى عنه يحيى القطان " فإن الراوي عنه إنما هو يحيى بن سعيد العطار الحمصي، وهو شيخ متكلم فيه، يروي عن الضعفاء كثيرًا، ويحيى بن سعيد القطان أجل قدرًا من أن يروي عنه، وقد كذبه هو وغيره).
وذكر ابن الجوزي حديثًا من رواية عمر بن إبراهيم عن قتادة، وعلق عليه بقوله: (فإن قالوا: قد قال أبو حاتم الرازي: عمر بن إبراهيم لا يحتج به.
قلنا: لعله ظنه الكردي، وذاك كذاب، إنما هو عمر بن إبراهيم العبدي، قال يحيى بن معين: هو ثقة) فتعقبه المنقح (4/ 126): (عمر بن إبراهيم هو أبو حفص العبدي، وهو الذي قال فيه أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وأبو حاتم أجل من أن يشتبه عليه العبدي بالكردي! فإن العبدي معروف بالرواية عن
قتادة، والكردي لا يروي عن قتادة) (1).
(9)
الورع
الورع من الصفات البارزة عند الحافظ ابن عبد الهادي، فتجده رحمه الله في بعض المواضع يتورع عن الجزم بوضع الحديث، فيقول مثلاً: والأشبه أن هذا الحديث موضوع، وأحيانًا أيضًا يقول: لعل، وأحيانًا يعلق الحكم على الحديث فيقول: إن شاء الله.
وأيضًا نجده يتورع عن الجزم بعدم وجود إسناد للحديث الذي لم يقف له على إسناد - كما يفعل غيره -، بل يقول: هذا الحديث لم أقف على إسناده.
وربما سمى الكتب التي رجع إليها في البحث عن الحديث ولم يجده فيها (انظر: 4/ 51، 138، 201، 345).
ومن ورعه رحمه الله عدم الجزم بالخطأ عند وجود الاحتمال، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها أنه ذكر حديثًا من رواية ابن إسحاق وابن عجلان، وعلق عليه (2/ 33) بقوله:(رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي وأبو حاتم البستي بطرق عن ابن إسحاق وابن عجلان؛ ورواه الإمام أحمد أيضًا عن يزيد بن هارون عن ابن إسحاق عن ابن عجلان؛ فيحتمل أن يكون (وابن عجلان) كما رواه النعمان بن عبد السلام عن سفيان عن محمد بن إسحاق ومحمد بن عجلان عن عاصم؛ ويحتمل أن يكون محمد بن إسحاق إنما سمعه من ابن عجلان، وكان يدلسه، والله أعلم).
(1) وانظر: 2/ 256؛ 4/ 638.
وأيضًا من ورعه رحمه الله أنه كان كثيرًا ما ينهي الكلام على المسائل بقوله: (والله أعلم) كما في المثال السابق.
وسوف نذكر فيما يلي بعض النبذ حول منهجه في أنواع من علوم الحديث، ونلحق ذلك بما وقفنا عليه من اختيارات فقهية له في كتابه هذا، ونؤكد على أن ما يأتي إنما هو مجرد نبذ حول المنهج العلمي للمنقح، وإلا فهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة موسعة ومعمقة (1)، يسر الله القيام بذلك.
* * *
(1) هناك رسالة علمية قدمت لكلية أصول الدين بجامعة الإمام سنة (1411) بعنوان (الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الهادي وآثاره الحديثية) للشيخ / محمد بن سليمان الشارح، ولكن لم يتسن لنا الإطلاع عليها.
منهجه في علوم الحديث
الناظر في كتاب "التنقيح" يجد أن الحافظ ابن عبد الهادي قد أتقن وبرز في جميع علوم الحديث، وهذا ما سنحاول إبراز أهم ملامحه هنا، من خلال الإشارة إلى منهجه في الجرح والتعديل، ومنهجه في تمييز الرواة، ومنهجه في التحقق من اتصال الإسناد، ومنهجه في العلل، ومنهجه في مسائل متفرقة من علوم الحديث.
* * *
منهجه في الجرح والتعديل:
علم الجرح والتعديل هو الركن الأول من أركان الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف، فلا يمكن الحكم على الحديث إلا بعد التحقق من ثقة رواته، وهذا هو موضوع علم الجرح والتعديل.
(1)
الحكم على الراوي
المنقح أحيانًا يذكر جملة من أقوال علماء الجرح والتعديل في الرجل، وأحيانًا يذكر خلاصة أقوالهم، فيحكي إجماعهم في الحكم على الراوي بالتوثيق أو بالتضعيف، وأحيانًا يذكر الحكم الذي يختاره هو، فيقول: فلان ثقة، أو: فلان ضعيف، ونحو ذلك.
ونجد المنقح يدقق في ثبوت بعض الأقوال عن الأئمة، ومن الأمثلة على ذلك:
قال المنقح (3/ 396): (وقد روي عن ابن معين أنه قال: عباد بن صهيب أثبت من أبي عاصم النبيل! وما أظن ذلك يثبت عنه، والله أعلم).
وانظر أيضًا: (1/ 59).
كما نجد المنقح في بعض المواضع يبين معاني بعض ألفاظ الجرح والتعديل الصادرة من علماء الفن، ومن أمثلة ذلك:
قال المنقح في ترجمة أبي زيد - الراوي عن ابن مسعود حديث النبيذ - (1/ 60): (وأما أبو زيد: فقد قال فيه أبو بكر عبد الله بن أبي داود: كان نباذًا بالكوفة. وهذا يحتمل أن يكون تحسينًا لأمر أبي زيد، فيكون قد ضبط الحديث لكونه نباذًا، ويحتمل أن يكون تضعيفًا له).
وكان رحمه الله يحقق في تمييز الراوي الذي تكلم فيه الناقد، ومن أمثلة ذلك:
أنه ترجم لداود بن عبد الله الأودي (1/ 41 - 42) وذكر أن عباس الدوري روى عن ابن معين أنه قال عنه: ليس بشيء، ثم عقب المنقح على ذلك بقوله:(كذا ذكر غير واحد من المصنفين رواية عباس عن يحيى في ترجمة داود هذا، والظاهر أن كلام يحيى إنما هو في داود بن يزيد الأودي - عم عبد الله بن إدريس - فإنه المشهور بالضعف).
(2)
اختلاف علماء الجرح والتعديل
في حالة وجود اختلاف في الحكم على الراوي نجد المنقح يشير إلى ذلك الاختلاف.
وكذلك عند وجود اختلاف في الروايات عن أحد الأئمة فإنه يشير إلى ذلك أيضًا، ومن الأمثلة على ذلك:
قال المنقح (2/ 30 - 31) - تحت ترجمة أسامة بن زيد الليثي -: (واختلفت الرواية فيه عن يحيى بن معين، فقال مرة: ثقة صالح. وقال مرة: ليس به بأس. وقال مرة: ثقة حجة. وقال مرة: ترك حديثه بأخرة)(1).
وانظر أيضًا: (2/ 74).
ومن الأمثلة التي يظهر فيها تحرير وتحقيق المنقح كلامه في ترجمة عبد الملك ابن أبي سليمان، قال رحمه الله (4/ 174 - 176): (هو ثقة مأمون عند أهل الحديث، لا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شعبة، من أجل هذا الحديث - أي حديث الشفعة - .... وطعن شعبة في عبد الملك بسبب هذا الحديث لا يقدح في عبد الملك، فإن عبد الملك ثقة مأمون، وشعبة لم يكن من الحذاق في الفقه، ليجمع بين الأحاديث إذا ظهر تعارضها، وإنما كان إمامًا في الحفظ، وطعن من طعن عليه سواه إنما هو اتباع لشعبة، وقد احتج مسلم في "صحيحه" بحديث عبد الملك، وخرج له أحاديث، واستشهد به البخاري، وكان سفيان يقول: حدثني الميزان عبد الملك بن أبي سليمان، وقد وثقه الإمام أحمد ويحيى بن معين والعجلي وابن عمار والنسائي وغيرهم
…
الخ).
(3)
قواعد الجرح والتعديل
هناك جملة من القواعد المتعلقة بالجرح والتعديل تستفاد من كلام المنقح
(1) وانظر: (2/ 74).
وتطبيقاته عند مناقشته لاختلاف الأئمة في الحكم على الراوي، ومن ذلك: 1 - الجرح إنما يحتاج إلى بيان سببه إذا عارضه تعديل (انظر: 2/ 256، 3/ 511).
2 -
اختصاص بلدي الراوي بأهل بلده (انظر: 2/ 202 - 203).
3 -
التفصيل في حال الراوي (انظر: 3/ 10، 18؛ 5/ 41).
4 -
تقديم قول الأعلم بالجرح والتعديل عند الاختلاف (انظر: 3/ 104، 122).
5 -
الأخذ بقول الأكثر عند الاختلاف (انظر: 3/ 142 - 143).
6 -
تفرد الراوي عن مثل الزهري بإسنادين نظيفين مما يضعف الراوي (انظر: 3/ 511).
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن إعمال قواعد الجرح والتعديل في الترجيح بين أقوال العلماء المختلفين في الحكم على الراوي ليس على درجة واحدة، بل بعض هذه القواعد أقوى من بعضها الآخر، وبعضها يستأنس به ولا يكتفى بها في الحكم على الراوي، والله أعلم.
(4)
الأحكام الضمنية على الرجال
أحكام العلماء على الرواة تنقسم إلى قسمين: أحكام صريحة، وأحكام ضمنية، والمقصود بالأحكام الضمنية الأحكام التي تكون غير صريحة ولكنها مضمنة في حكم آخر، فمثلاً عندما يصحح البخاري حديثًا، فهذا يتضمن: ثقة رواة الإسناد، وسماع بعضهم من بعض.
والأحكام الضمنية من المصادر المهمة في علم الحديث، وإن كانت بلا شك تأتي في المرتبة الثانية بعد الأحكام الصريحة، وقد أولاها المنقح عناية كبيرة، وتظهر هذه العناية في الصور التالية:
1 -
ذكر رواية من وصف بأنه لا يروي إلا عن ثقة عن الراوي (انظر مثلاً: 1/ 162، 378؛ 3/ 284؛ 4/ 320).
2 -
رواية أحد الأئمة الذين ينتقون الرجال من طريق الراوي، ومن أمثلة ذلك:
ذكر المنقح أبو الغريف عبيد الله بن خليفة، وقال عنه (1/ 337):(قال ابن أبي حاتم: كان على شرطة علي بن أبي طالب، ليس بالمشهور، قلت: هو أحب إليك أو الحارث الأعور؟ قال: الحارث أشهر، وهذا قد تكلموا فيه، وهو شيخ، من نظراء أصبغ بن نباتة. وقد ذكر البخاري أبا الغريف فلم يذكر فيه شيئًا، ورواية النسائي من طريقه مما يقوي أمره، ولم يبين أبو حاتم من تكلم فيه، ولا بين الجرح ما هو؟).
وانظر أيضًا: (3/ 337).
ويندرج تحت هذا رواية صاحبي الصحيحين للراوي، وهو ما سنتحدث عنه في الفقرة التالية.
3 -
تصحيح أو تحسين أحد العلماء لحديث راو من الرواة، ومن أمثلة ذلك:
قال المنقح (4/ 114) في كلامه عن عطية العوفي: (والترمذي يحسن حديثه)، وذكر أيضًا في موضع آخر (4/ 262) أن الترمذي يحسن حديث عمر
ابن راشد اليمامي.
(5)
تخريج صاحبي الصحيحين للراوي
مما اعتنى به المنقح في كلامه على الرجال بيان هل لهم رواية في "الصحيحين" أم لا؟ لما يتضمنه ذلك من تقوية لهذا الراوي، وقد نبه المنقح على بعض التنبيهات الهامة حول هذه المسألة، وهي:
1 -
الانتقاء، قال رحمه الله (3/ 277):(وأصحاب الصحيح إذا رووا لمن قد تكلم فيه فإنهم ينتقون من حديثه ما لم ينفرد به، بل وافق فيه الثقات، قامت شواهد صدقة).
2 -
التفريق بين الرواية في الأصول، والرواية في المتابعات، فنجده رحمه الله لا يكتفي بذكر أن البخاري أو مسلم خرج للراوي، بل يبين الكيفية التي روى له بها (انظر: 3/ 35، 77 - 78، 106، 341، 349).
ونجده في بعض الأحيان (3/ 316) يقول: لا أدري هل روى له متابعة أم أصلاً؟).
3 -
مقدار الأحاديث التي رويت له، فنجد المنقح يعتني ببيان عدد الأحاديث التي رويت لذلك الراوي، ومن أمثلة ذلك:
قال المنقح (2/ 146) عن أبي يوسف بن أبي الزينب: (روى له مسلم في "صحيحه" حديثًا واحدًا).
(6)
مناهج علماء الجرح والتعديل
من الأمور التي ظهرت عناية الحافظ ابن عبد الهادي بها: مناهج علماء الجرح والتعديل، ومن الأمثلة على ذلك:
1 -
يحيى بن سعيد القطان: قال المنقح (3/ 207): (يحيى شرطه شديد في الرجال).
2 -
أبو حاتم الرازي: قال المنقح (3/ 207): (
…
وأما قول أبي حاتم: " لا يحتج به فغير قادح فيه أيضًا، فإنه لم يذكر السبب، وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب الصحيح من الثقات الأثبات من غير بيان السبب، كخالد الحذاء وغيره).
3 -
الدارقطني: قال المنقح (2/ 256): (الدارقطني قَلَّ أن يضعف رجلاً ويكون فيه طبٌّ!).
4 -
الحاكم: قال المنقح (4/ 287): (الحاكم قد عرف تساهله).
(7)
الاعتدال في الجرح والتعديل
من خلال النظر في الأحكام التي يختارها نجد أن الحافظ ابن عبد الهادي من المعتدلين في أحكامه على الرواة، ونجده كثيرًا ما يتعقب المتشددين والمتساهلين، ومن الأمثلة التي ظهر فيها اعتداله ما يلي:
ورد ذكر معاوية بن صالح في إسناد حديث، فقال ابن الجوزي:(كان يحيى بن سعيد لا يرضى معاوية بن صالح، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به)
فتعقبه المنقح (3/ 206) بقوله: (قول المؤلف
…
غير صحيح
…
فإن معاوية ابن صالح ثقة صدوق، وثقه عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وأبو زرعة وغيرهم، وروى له مسلم في "صحيحه" محتجًا به، وما روى شيئًا خالف فيه الثقات، وكون يحيى بن سعيد لا يرضاه غير قادح فيه، فإن يحيى شرطه شديد في الرجال، ولذلك قال: لو لم أرو إلا عن من أرضى ما رويت إلا عن خمسة!
وأما قول أبي حاتم: لا يحتج به فغير قادح فيه أيضًا، فإنه لم يذكر السبب، وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب الصحيح من الثقات الأثبات من غير بيان السبب، كخالد الحذاء وغيره، وقد قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن معاوية بن صالح فقال: صالح الحديث، حسن الحديث).
(8)
أخطاء الثقات
من القضايا المهمة في علم الجرح والتعديل وفي علم العلل، أنه ليس من شرط الثقة أن لا يخطئ، فالثقة قد يخطئ، ولما غفل كثير من المتأخرين والمعاصرين عن هذا الأمر، أخذوا يصححون كل حديث رواه ذلك الثقة حتى وإن قامت الأدلة والقرائن على خطئه، وقد كان الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله ممن يراعي هذه القضية، ومن الأمثلة على ذلك:
- ذكر المنقح (2/ 289) حديثًا من رواية زهير بن محمد، وقال في الكلام عليه:(زهير بن محمد من رجال "الصحيحين" لكن له مناكير، وهذا الحديث منها، قال أبو حاتم الرازي: هو حديث منكر).
- وذكر المنقح (4/ 453) أيضًا حديثًا من رواية الهيثم بن جميل، وقال في الكلام عليه: (الهيثم بن جميل وثقه الإمام أحمد والعجلي وابن حبان وغير واحد، وكان من الحفاظ إلا أنه واهم في رفع هذا الحديث، فإن الصحيح وقفه على ابن
عباس، رواه سعيد بن منصور عن سفيان موقوفًا).
وانظر أيضًا: (2/ 114؛ 3/ 381).
وستأتي أمثلة أخرى على ذلك أثناء الكلام عن منهجه في العلل، فهذه المسألة ألصق بعلم العلل منها بعلم الجرح والتعديل، وإنما أردنا التنبيه عليها هنا في باب الجرح والتعديل.
* * *
منهجه في تمييز الرواة:
من الأمور المهمة عند النظر في الأسانيد تمييز رواة الإسناد، وعدم العناية بذلك توقع في كثير من الأخطاء والأوهام، وقد كانت أكثر أوهام الحافظ ابن الجوزي في "التحقيق" من هذه الجهة، وقد ظهرت دقة المنقح في هذا الباب بشكل عجيب، وهذا ما سنشير إلى ملامح حوله في الفقرات التالية.
(1)
النظر إلى شيخ وتلميذ الراوي
من الطرق المهمة لتمييز الراوي المذكور في الإسناد: تمييزه من خلال النظر إلى تلميذه وشيخه، ومن أمثلة ذلك عند المنقح:
- ذكر ابن الجوزي (1/ 135) حديثًا من طريق شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء، فمن محمد بن عبد الرحمن هذا؟ قال المنقح: (محمد بن عبد الرحمن: هو ابن أبي ليلى، وهو صدوق، وقد تكلم في حفظه، وفي طبقته: محمد بن عبد الرحمن بن عبيد مولى آل طلحة، وهو ثقة، روى له مسلم، وروى
عنه شريك، لكن لا يعرف أنه روى عن عطاء).
- وأيضًا ذكر المنقح (2/ 617) حديثًا من رواية أبي معاوية عن أبي بردة عن علقمة بن مرثد، وقال في الكلام عليه:(أبو بردة هو عمرو بن يزيد، وهو ضعيف، تكلم فيه ابن معين وأبو حاتم وأبو داود وغيرهم، وذكر الحاكم أن هذا الحديث على شرط الشيخين، وهو واهم في ذلك، وكأنه ظن أن أبا بردة هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة، أحد الثقات المشهورين، المخرج لهم في "الصحيحين"، وليس به، وإن كان أبو معاوية يروي عن بريد، فإن بريدًا لا تعرف له رواية عن علقمة بن مرثد، والله أعلم).
وانظر أيضًا: (3/ 334، 418).
(2)
النظر إلى طبقة الراوي
ومن الطرق المهمة أيضًا: النظر في طبقة الراوي، ومن أمثله ذلك: نقل المنقح (3/ 359 - 360) عن النسائي الإسناد التالي: أخبرنا محمد بن عبد الكريم بن محمد بن عبد الرحمن بن حويطب بن عبد العزى الحراني قال: حدثني عثمان - وهو ابن عمرو الحراني - ثنا عمر - يعني: ابن ثابت - عن محمد بن المنكدر عن أبي أيوب، وعلق عليه في الحاشية بقوله:(هذا إسناد غريب، ويبعد أن يكون بين عمر بن ثابت - الراوي عن أبي أيوب - وبين النسائي رجلان، فإما أن يكون راوي هذا الحديث عمر بن ثابت آخر، أو يكون تعينه بـ " ابن ثابت " غلطًا، والله أعلم).
وانظر أيضًا: (4/ 204، 646).
(3)
تعين الراوي على وجه الاحتمال
أحيانًا قد لا يتمكن الناظر في إسناد الحديث من تعيين الراوي الذي في الإسناد على وجه الجزم، فالموقف السديد من ذلك هو تعيين الراوي على جهة الاحتمال، وهذا ما كان يسلكه المنقح، ومن الأمثلة على ذلك:
ذكر المنقح (2/ 316) حديثًا من طريق المحاملي عن محمد بن موسى البصري، وقال في الكلام عليه:(يحتمل أن يكون شيخ المحاملي: محمد بن يونس بن موسى الكديمي، وهو ضعيف).
وانظر أيضًا: (3/ 66).
(4)
استقصاء جميع الاحتمالات
في حالة وجود أكثر من احتمال في الراوي الوارد في الإسناد، فعلى من يتكلم في الحكم على ذلك الإسناد أن يذكر جميع الاحتمالات ولا يقتصر على بعضها، ومن أمثلة تطبيق المنقح لذلك:
ذكر المنقح (3/ 287) حديثًا من طريق محمد بن عمران عن أحمد بن موسى عن هارون بن مسلم، وقال في التعليق عليه: (أحمد بن موسى: يحتمل أن يكون الشطوي، وهو أبو جعفر البزار، نزيل سامراء، روى عن محمد بن سابق وزكريا بن عدي، قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق.
ويحتمل أن يكون أحمد بن موسى صاحب اللؤلؤ، وهو ابن أبي مريم، أبو عبد الله البصري، روى عن ابن عون وعاصم الجحدري وأبيه موسى، روى
عنه محمد بن المثنى ونصر بن علي وغيرهما.
ويحتمل أن يكون غيرهما).
فلم يقتصر بذكر أحد الاحتمالين، بل ذكرهما، ولم يكتف بذلك، بل قال:(ويحتمل أن يكون غيرهما) وهذا منتهى الدقة والتحري في مثل هذا، فرحمه الله تعالى.
وانظر أيضًا: (4/ 55).
(5)
نسبة الراوي إلى جده
من أسباب الخطأ في تعيين الراوي الذي في الإسناد: نسبة الراوي إلى جده، وهذا كثير في رجال الحديث، فعلى المشتغل بالتخريج التنبه لذلك، ومن أمثلة عناية المنقح بهذا:
- قوله (3/ 78): (محمد بن عمرو بن عطاء ليس بمجهول، لكنه لما نسب إلى جده ظن الدارقطني أنه مجهول، وليس كذلك).
* * *
منهجه في التحقق من اتصال الإسناد:
التحقق من اتصال الإسناد هو الركن الثاني الذي يقوم عليه الحكم على الحديث، ولذا نجد أئمة الحديث اعتنوا كثيرًا بمسألة سماع الرواة بعضهم من بعض، بل قد ألف بعضهم كتبًا مفردة في هذا الباب، ككتاب " المراسيل " لابن
أبي حاتم وغيره.
وقد اعتنى المنقح بهذا الركن عناية كبيرة، وهذا ما سنبينه في الفقرات التالية:
(1)
مرسل التابعي
قال المنقح في " شرح قصيدة غرامي صحيح "(34): (والمرسل ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الاحتجاج به خلاف مشهور، والصحيح فيه التفصيل).
وقد شرح ذلك بالتفصيل في كتابه " الصارم المنكي "(141 - 147).
ونجد المنقح في "التنقيح" ينص على الاحتجاج ببعض المراسيل، ومن ذلك:
- ذكر المنقح حديثًا من رواية سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلق عليه بقوله (3/ 128):(إسناده صحيح كالشمس، لكنه مرسل، ومرسل سعيد حجة).
(تنبيه) مما يحسن التنبيه عليه هنا أن المنقح يستخدم. مصطلحات الأئمة المتقدمين بمعانيها الواسعة، ومن ذلك مصطلح المرسل، فهو يطلقه على مطلق الانقطاع (انظر مثلاً: 2/ 558).
(2)
إبهام الصحابي
كان الحافظ البيهقي يذهب إلى أن الإسناد الذي يبهم فيه التابعيُّ الصحابيَّ
بمعنى المرسل، وهذا مخالف لما عليه أئمة الحديث كالإمام أحمد وغيره، وقد نبه المنقح على خطأ البيهقي فيما ذهب إليه، وأن إبهام الصحابي لا يضر، ومن الأمثلة على كلامه في ذلك ما يلي:
- ذكر المنقح (1/ 40) حديثًا من رواية حميد الحميري عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نقل عن البيهقي أنه قال: رواته ثقات، إلا أن حميدًا لم يسم الصحابي الذي حدثه، فهو بمعنى المرسل، ثم تعقبه بقوله:(هذا الحديث ليس بمرسل، وجهالة الصحابي لا تضر).
- وذكر المنقح (3/ 244) حديثًا من رواية مالك عن سمي عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في التعليق عليه:(رواته أئمة، وجهالة الصحابي لا تضر).
وانظر: (3/ 206).
(3)
إدراك الراوي لشيخه
من أظهر ما يبين الانقطاع في الأسانيد عدم إدراك الراوي لمن يروي عنه، والأمثلة على هذا عند المنقح كثيرة، ومنها:
- ذكر المنقح (4/ 106) حديثًا من رواية خالد بن معدان عن معاذ بن جبل، ثم قال في التعليق عليه:(إسناده صالح، لكنه منقطع، فإن خالدًا لم يدرك معاذًا).
وفي المقابل نجد المنقح ينص في بعض المواضع على إدراك الراوي لشيخه، ومن الأمثلة على ذلك:
- ذكر المنقح (3/ 179) حديثًا من رواية سالم عن حفصة، وعلق في الحاشية:(سالم أدرك حفصة).
(4)
القرائن التي تفيد عدم السماع
من الأمور المهمة في الاتصال والانقطاع العناية بالقرائن التي تفيد عدم سماع الراوي من شيخه، وهذه بعض نصوص المنقح في ذكر بعض القرائن التي يعمل بها في هذا الباب:
- ذكر المنقح (4/ 202) حديثًا من طريق مجاهد عن رافع بن خديج، وعلق عليه بقوله:(مجاهد لم يسمع من رافع هذا، بل بينهما واسطة، كما جاء ذلك من غير وجه، والله أعلم هل سمع منه شيئًا أم لا؟).
- ومن الأمثلة أيضًا: ذكر المنقح (4/ 139 - 140) حديثًا عند الإمام أحمد أنه قال: ثنا يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة ليصلي عليها، فقال:" أعليه دين؟ ". قالوا: نعم، ديناران. قال:" أترك لهما وفاء؟ ".
قالوا: لا. قال: " صلوا على صاحبكم " الحديث، وقال في الكلام عليه: (وقد روي عن عمرو بن الحارث عن بكير عن عبد الله بن أبي قتادة أن رجلاً سأله عن الحديث الذي ذكر في الرجل الذي كان عليه ديناران، فدعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يصلي، هل سمعت أباك يذكر ذلك؟ قال: لا، ولكن حدثنيه من أهلي من لا أتهم.
فلعل هذا هو السبب في كون هذا الحديث لم يخرج في " الصحيح "، مع أن الترمذي قد صححه، والله أعلم).
- وأيضًا ذكر المنقح (3/ 54) حديثًا من طريق موسى بن طلحة عن معاذ ابن جبل، وعلق عليه بقوله:(زعم الحاكم أن موسى بن طلحة تابعي كبير، لا ينكر أن يدرك أيام معاذ، وفي قوله نظر، وقد ذكر أبو زرعة أن رواية موسى عن عمر مرسلة، ومعاذ توفي في خلافة عمر، فرواية موسى عنه أولى بالإرسال، والله أعلم).
وانظر: (1/ 376؛ 3/ 428).
(5)
تتبع أحاديث الراوي عن شيخه
المنقح رحمه الله لا يقتصر في كلامه عن اتصال الأسانيد وانقطاعها على أقوال علماء الرجال، بل يعتني كثيرًا بتتبع روايات ذلك الراوي عن شيخه، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
- ذكر المنقح (3/ 124) حديثًا من رواية الحسن عن ابن عباس، وعلق عليه بقوله:(رواته ثقات مشهورون، لكن فيه إرسال، فإن الحسن لم يسمع ابن عباس فيما قيل، وقد جاء في " مسند أبي يعلى الموصلي " في حديث أنه قال: " أخبرني ابن عباس " وهو - إن ثبت - يدل على سماعه منه).
- وذكر المنقح (3/ 388) حديثًا من رواية أيوب عن ابن سيرين عن ابن عباس، وقال في التعليق عليه: (قال الإمام أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم: لم يسمع ابن سيرين من ابن عباس.
وقد روى البخاري في "صحيحه" حديثًا من رواية أيوب عن ابن سيرين عن ابن عباس، فالله أعلم).
(6)
التحقيق في صيغ الرواية
كان المنقح رحمه الله يدقق في الصيغ التي يروى بها الحديث، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
- ذكر المنقح (1/ 152) حديثًا من رواية عراك عن عائشة في الترخيص في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وقال في التعليق عليه: (قال أحمد: أحسن ما روي في الرخصة حديث عراك - وإن كان مرسلاً - فإن مخرجه حسن.
سماه مرسلاً لأن عراكا لم يسمع من عائشة، وقد روى أحمد والدارقطني في بعض طرق هذا الحديث أن عراكًا قال: حدثتني عائشة، وهو يدل على سماعه منها، قال بعضهم: ويقوي ذلك أن مسلمًا أخرج في "صحيحه":
…
حدثنا عراك عن عائشة، والمراسيل والمنقطعات ليست من شرط الصحيح.
وقد سأل عبد الرحمن بن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث، فقال: لم أزل أقفو أثر هذا الحديث حتى كتبت بمصر: عن إسحاق بن بكر بن مضر - أو غيره - عن بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك عن عروة عن عائشة موقوف، وهذا أشبه).
- وذكر المنقح (3/ 397) أيضًا حديثًا من رواية قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال في التعليق عليه:(وكذلك رواه عمرو بن الحارث المصري عن قتادة، وقال في روايته: " عن قتادة أن سعيد بن جبير حدثه " وذلك معدود في أوهامه، فإن قتادة لم يلق سعيد بن جبير فيما قاله يحيى بن معين، والله أعلم).
- وذكر المنقح (4/ 54) أيضًا حديثًا من رواية يوسف بن ماهك عن
عبد الله بن عصمة عن حكيم بن حزام، وقال في الكلام عليه:(قال أبو محمد بن حزم: عبد الله بن عصمة مجهول. وصحح الحديث من رواية يوسف نفسه عن حكيم، لأنه قد جاء التصريح بسماعه منه في هذا الحديث في بعض الروايات، والصحيح أن بين يوسف وحكيم في هذا الحديث: عبد الله بن عصمة).
(7)
موقفه من رواية المدلس
عند ورود رواية لأحد الموصفين بالتدليس فإن المنقح رحمه الله يحرص على ذكر ما يدل على سماع هذا الراوي لهذا الحديث من شيخه، ومن الأمثلة على ذلك:
- ذكر المنقح (4/ 56) حديثًا من رواية ابن إسحاق قال: حدثني أبو الزناد عن عبيد بن حنين عن عبد الله بن عمر، وقال في كلامه عليه:(إسناده جيد، وقد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث، والله أعلم).
- وذكر المنقح (4/ 100) أيضًا حديثًا من رواية بقية قال: ثنا خالد بن حميد عن العلاء بن كثير، وقال في التعليق عليه:(قد زال ما يخشى من تدليس بقية بتصريحه بالتحديث).
وفي مواضع أخرى نجده يتوقف في سماع الراوي الموصوف بالتدليس من شيخه الذي روى عنه، ومن الأمثلة على ذلك:
- قال المنقح (4/ 492): (وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن يعقوب عن أبيه عن ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل طعن رجلاً بقرن في رجله
…
الحديث.
وليس فيه ذكر سماع ابن إسحاق من عمرو، فالظاهر أنه لم يسمعه منه، والله
أعلم).
ونجد المنقح أحيانًا يفصل في رواية بعض المدلسين، ومن ذلك:
- ذكر ابن الجوزي (1/ 340) حديثًا من رواية الوليد بن مسلم قال: أخبرني ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة عن المغيرة بن شعبة، ثم قال: كان الوليد يروي عن الأوزاعي أحاديث هي عند الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء، عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي - مثل: نافع والزهري -، فيسقط أسماء الرواة الضعفاء، ويجعلها عن الأوزاعي عنهم ا. هـ، وتعقبه المنقح بقوله:(الوليد بن مسلم إمامٌ صدوق مشهور، لكنه يدلس عن الضعفاء، فإذا قال: " ثنا الأوزاعي - أو غيره - أو أنا " فهو حجة، وليس علة الحديث ما ذكره المؤلف، ولم يرو الوليد هذا الحديث عن الأوزاعي، ولكن علة الحديث ما ذكره الترمذي من رواية ابن المبارك عن ثور عن رجاء قال: حدثت عن كاتب المغيرة - مرسل - عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يذكر فيه المغيرة).
- وقال المنقح (4/ 658): (رواية بقية عن بحير حسنة أو صحيحة، سواء صرح بالتحديث أو لم يصرح).
* * *
منهجه في العلل:
الركن الثالث من الأركان التي يقوم عليها الحكم على الحديث: علم العلل، وهو من أدق علوم الحديث، وقد أولاه الحافظ ابن عبد الهادي عناية كبيرة ميزته عن كثير من علماء الحديث المتأخرين.
(1)
طريقة المنقح في التعليل
لقد كان الحافظ ابن عبد الهادي يسير في نقده للأحاديث على طريقة أئمة العلل النقاد، بل حتى نَفَسهُ في الكلام على علل الحديث يشبه نَفَس الأئمة.
والأمثلة على دقة المنقح في تعليل الأحاديث كثيرة، ومنها:
- قال رحمه الله (2/ 447): (قال الحسن بن سفيان في "مسنده": ثنا جعفر بن مهران السباك ثنا عبد الوارث بن سعيد ثنا عوف عن الحسن عن أنس قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يقنت في صلاة الغداة حتى فارقته، وخلف عمر فلم يزل يقنت في صلاة حتى فارقت.
ورواه أبو سعيد النقاش عن بشر بن أحمد بن منصور بن العباس ومحمد ابن أحمد العمري ومحمد بن أحمد بن القاسم الدهستاني قالوا: ثنا الحسن بهذا.
قال الحافظ أبو موسى: وجعفر بن مهران من جملة الثقات، فلم يبق في هذا الإسناد إشكال يطعن به عليه.
وقال أبو خليفة: ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث عن عمرو عن الحسن عن أنس قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يقنت بعد الركوع حتى فارقته، وصليت مع أبي بكر وعمر فلم يزالا يقنتان بعد الركوع في صلاة الغداة حتى فارقتهما.
وكذا رواه أبو عمر الحوضي عن عبد الوارث فقال: عن عمرو، وهو ابن عبيد رأس الاعتزال.
وهذا هو المحفوظ عن عبد الوارث، وهو علة لحديث السباك، ولعله
عند عبد الوارث عن هذا وعن هذا لكنه بعيد، ولو كان عند أبي معمر عن عبد الوارث عن عوف ما تأخر البخاري عن إخراجه، والسباك ثقة، لكن الثقة يغلط).
- ومن الأمثلة أيضًا: ذكر المنقح (3/ 234) حديث جابر عن عمر قال: هششت يومًا فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرًا عظيمًا! قبلت وأنا صائم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم؟ "
…
الحديث، ثم ذكر تضعيف الإمام أحمد والنسائي له، ثم قال (3/ 236):(وإنما ضعف الإمام أحمد هذا الحديث وأنكره النسائي مع أن رواته صادقون، لأن الثابت عن عمر خلافه، فروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن القبلة للصائم، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم. فقال: من ذا له من الحفظ والعصمة ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!).
- وأيضًا: ذكر المنقح (4/ 229) حديثًا من طريق ابن المبارك عن حماد ابن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها "، وعلق عليه بقوله:(واعلم أن حديث سمرة هذا رواته كلهم ثقات .... لكن الحديث منكر جدًا، وهو أنكر ما روي عن الحسن عن سمرة، والله أعلم).
- وأيضًا: ذكر المنقح (4/ 521) حديثًا من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل دية المعاهد كدية المسلم، وقال في الكلام عليه (4/ 523):(وأما حديث الوقاصي عن الزهري فباطل، والمعروف بإسناده: " لا يرث المسلم الكافر ").
وانظر أيضًا أمثلة أخرى على دقته في التعليل في المواضع التالية: (1/ 101، 173، 317؛ 3/ 94، 381؛ 4/ 80، 224، 428 - 430، 456؛ 5/ 58، 94).
(2)
زيادة الثقة
مسألة حكم زيادة الثقة من المسائل المهمة التي يقوم عليها علم العلل، وللحافظ ابن عبد الهادي كلام محرر فيها، ذكره في كتابه "الرد على الخطيب في مسألة الجهر بالبسملة" - كما في "نصب الراية" للزيلعي (1/ 336 - 337) - وكان مما قال هناك: (من الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقًا، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل
…
الخ).
ومن أمثلة تطبيقه للتفصيل الذي أشار إليه، ما يلي:
- ذكر ابن الجوزي (3/ 130) حديثًا من رواية ابن عيينة عن ابن عجلان عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد في صدقة الفطر صاع من دقيق، وعلق عليه المنقح بقوله:(هذا حديث حسن، لكن ذكر الدقيق قد أنكر على سفيان).
- وذكر المنقح في موضع أخر (3/ 423) الإسناد الذي رويت به زيادة: " وتعتمر " في حديث جبريل، وهي من طريق يونس بن محمد عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر، ثم قال:(هذا الحديث رواه مسلم في " الصحيح " عن حجاج بن الشاعر عن يونس بن محمد إلا أنه لم يسق متنه، وهذه الزيادة فيها شذوذ، والله أعلم).
- وذكر ابن الجوزي (4/ 322 - 323) حديثًا من رواية محمد بن عبد الباقي بن سليمان عن أحمد بن أحمد عن أبي نعيم عن محمد بن علي عن الحسين بن
محمد عن أحمد بن سنان عن يزيد بن هارون عن حماد عن ثابت عن أنس أن أبا طلحة خطب أم سليم
…
وفيه أنها قالت: يا أنس، زوج أبا طلحة، فعلق عليه المنقح بقوله:(اعلم أن هذا الحديث - وإن كان إسناده صحيحًا - إلا أن قوله: " قالت: يا أنس، زوج أبا طلحة " شاذ منكر، وقد روى النسائي وغيره هذا الحديث من رواية جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس، وليس فيه أن أنسًا كان وليًا، وهو الصحيح).
- وذكر ابن الجوزي (4/ 80) حديثًا عند الإمام أحمد من رواية الأوزاعي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة أنها استفت النبي صلى الله عليه وسلم في فأرة سقطت في سمن لهم جامد
…
الحديث وقال: انفرد بإخراجه البخاري، وعلق عليه المنقح بقوله: (هذا الحديث لم يخرجه البخاري من حديث الأوزاعي، إنما رواه من حديث سفيان وغيره عن الزهري، وليس عنده:" جامد "
…
ولم يخرجه أحد من أصحاب " السنن " أيضًا من حديث الأوزاعي، وقد روى هذه اللفظة - وهي قوله:" جامد " - النسائي من رواية ابن مهدي عن مالك عن الزهري، والبيهقي من رواية حجاج بن منهال عن سفيان، والظاهر أنها خطأ، فإن أكثر أصحاب مالك وسفيان لم يذكروا هذه اللفظة
…
الخ).
(3)
الاختلاف في الوصل والإرسال والوقف والرفع
ومما يتصل بمسألة زيادة الثقة: الاختلاف في الوصل والإرسال والوقف والرفع، وقد صرح المنقح رحمه الله باختياره في هذه المسألة في موضعين من "التنقيح"، وإليك نص كلامه:
قال المنقح (1/ 188): (إذا روى بعض الثقات حديثًا فأرسله، ورواه بعضهم فأسنده، فقد اختلف أهل الحديث في ذلك:
فحكى الخطيب أن أكثر أصحاب الحديث يرون: أن الحكم في هذا للمُرْسِل.
وعن بعضهم: أن الحكم للأكثر.
وعن بعضهم: أن الحكم للأحفظ.
وصحح الخطيب أن الحكم لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطًا، وسواء كان المخالف له واحدًا أو جماعة.
والصحيح أن ذلك يختلف: فتارة يكون الحكم للمُرْسِل، وتارة يكون للمُسنِد، وتارة للأحفظ).
وقال في موضع آخر (1/ 207): (وهذه الطريقة التي سلكها المؤلف - يريد ابن الجوزي - ومن تبعه " في أن الأخذ بالمرفوع في كل موضع " طريقة ضعيفة، لم يسلكها أحد من المحققين وأئمة العلل).
وقد سار على هذه الطريقة في تطبيقاته العملية كما يظهر بمراجعة الأمثلة التي ذكرناها تحت الكلام عن طريقته في التعليل.
(4)
الغرابة والتفرد
مصطلح " الغريب " من المصطلحات الشائعة عند علماء الحديث المتقدمين، ولكنه أصبح من المصطلحات الغريبة عند المتأخرين فضلاً عن المعاصرين.
ولا شك أن الغرابة لها أثر كبير في الحكم على الحديث، ونصوص علماء الحديث في ذلك كثيرة.
وكان من منهج النقاد النظر في الإسناد هل هو معروف ومشهور، أم أنه غريب؟! وقد شرح الإمام الترمذي رحمه الله هذه القضية بكلام نفيس في كتاب " العلل الصغير "، وأشار إليها الإمام أبو داود في " رسالته لأهل مكة ".
ولكن غاب هذا عند المتأخرين إلا قلة ممن سلك نهج الأئمة المتقدمين، ومن هؤلاء القلة الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله، فكانت قضية الغرابة من الأمور التي يلاحظها في الإسناد قبل الحكم عليه.
وقد ظهر ذلك من خلال ثلاثة أمور:
1) النظر في المصدر الذي خرج الحديث، فمعلوم أن جل الأحاديث المشهورة قد جمعها أصحاب الكتب الستة، ولا يكاد يفوتهم منها إلا النزر اليسير - وبالذات أحاديث الأحكام -، وهذا اليسير لا يخرج أيضًا في الغالب عن أمهات السنة الأخرى كمسند أحمد ومسند أبي يعلى.
ولذا فإنا نجد الحافظ ابن عبد الهادي يعتني بذكر من خرج الحديث من أصحاب الكتب الستة، لأن في ذلك دليل على شهرته وعلى أنه حديث معروف، كما أنه يشير في بعض الأحيان إلى أن الحديث غير مخرج في شيء من الكتب الستة، وهذا - والله أعلم - إشارة منه رحمه الله إلى استغرابه للحديث، لأننا لا نجد أن ذلك مطردًا عنده في كل حديث يكون في خارج الكتب الستة.
ومن أمثلة ذلك:
ذكر المنقح (3/ 232) حديثًا عند الإمام أحمد من طريق عبد الصمد عن بشار بن عبد الملك عن أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها بعد أن كانت قد نسيت فأكلت وهي صائمة: " أتمي صومك، فإنما هو رزق ساقه الله إليك ": (هذا حديث غريب غير مخرج في " السنن "، وبعض رواته
ليس بمشهور).
كما نجده أحيانًا ينص على ضعف الحديث وشذوذه ويذكر في ضمن القرائن التي تدل على ذلك عدم تخريج أصحاب أمهات السنة له، ومن أمثلة ذلك:
ذكر المنقح حديث أنس في نسخ الفطر بالحجامة، وقال في التعليق عليه (3/ 276): (هذا الحديث حديث منكر لا يصلح الاحتجاج به، لأنه شاذ الإسناد والمتن، ولم يخرجه أحد من أصحاب المسانيد المعروفة، ولا يعرف في الدنيا أحد رواه إلا الدارقطني عن البغوي، وقد ذكره الحافظ أبو عبد الله المقدسي في "المستخرج" ولم يروه إلا من طريق الدارقطني وحده، ولو كان عنده من حديث غيره لذكره كما عرف من عادته أنه يذكر الحديث من المسانيد التي رواها كمسند أحمد وأبي يعلى الموصلي ومحمد بن هارون الروياني و"معجم الطبراني" وغير ذلك من الأمهات، وكيف يكون هذا الحديث صحيحًا سالمًا من الشذوذ والعلة ولم يخرجه أحد من أئمة الكتب الستة ولا المسانيد المشهورة وهم محتاجون إليه أشد حاجة؟!
والدارقطني إنما جمع في كتابه " السنن " غرائب الأحاديث، والأحاديث المعللة والضعيفة فيه أكثر من الأحاديث الصحيحة السالمة من التعليل).
2) النظر في رواية الراوي عن شيخه، فمعلوم أن رواية الراوي عن شيخ ما قد تستغرب إما لقلة روايته عنه، أو لروايته عنه ما يستنكر، أو لورودها بإسناد فيه نظر، ونحو ذلك، وكان الحافظ ابن عبد الهادي ينبه على هذه القضية، فنجده في بعض الأحيان ينص على أن رواية فلان عن فلان غريبة.
ومن أمثلة ذلك:
ذكر المنقح (3/ 112) حديثًا من رواية أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وعلق عليه بقوله:(الحارث لا يحتج به، وقد رواه سلامة ابن روح ثنا عقيل بن خالد عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي موقوفًا، ورواية عقيل عن أبي إسحاق غريبة جدًا).
ونجد في " الصارم المنكي " كلامًا كثيرًا حول قضية تفرد الراوي عن راو من الرواة (انظر: 32، 33، 34، 38، 69، 70، 78، 119، 250، 253، 363).
3) النظر في الإسناد الذي روي به الحديث، فمعلوم أيضًا أن هناك سلاسلاً معروفة تروى بها الأحاديث، وإذا روي الحديث بسلسلة مشهورة فهذا مما يقوي الحديث إلا إذا وقعت مخالفة من أحد الأثبات فقد يرجح النقاد الطريق المخالف لتلك السلسلة، ويعدون من روى الحديث بتلك السلسة مخطئًا، وهو ما يسمى بـ " سلوك الجادة ".
ونجد أن الحافظ ابن عبد الهادي قد اعتنى بهذا الأمر كثيرًا في كتابه، فيذكر في مواضع عدد الأحاديث التي رويت بتلك السلسلة، وذلك لأن كثرة الأحاديث المروية بها مما يدل على شهرتها، وأما قلة الأحاديث التي تروى بها فهو يدل على غرابتها.
وكذلك أيضًا وجود بعض أسانيد تلك السلسلة في أحد الكتب الستة مما يقويها، لاسيما ما كان منها في الصحيحين، ولهذا كان الحافظ ابن عبد الهادي يلاحظ هذا أيضًا.
ومن أمثلة ذلك:
- قال ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 78): (تفرد به أبو داود وإسناده
حسن غريب، وقد روى به أبو داود أحاديث).
وانظر أيضًا: (4/ 186).
(5)
نقد المتون
العلاقة بين المتن والإسناد علاقة وثيقة بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر عند النظر في الحديث والحكم عليه، ومما يميز الأئمة المتقدمين أنهم يجمعون أثناء حكمهم على الأحاديث بين نظرين: النظر إلى الإسناد والنظر إلى المتن، ولا يكتفون بأحدهما عن الآخر، بينما نجد أن المتأخرين في الغالب يقتصرون على النظر في الإسناد ويغفلون عن النظر في المتن، وهذا مما أوجد خللاً كبيرًا في حكمهم على كثير من الأحاديث بما يخالف أحكام المتقدمين.
والحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله من قلائل علماء الحديث المتأخرين الذين جمعوا في حكمهم على الأحاديث بين النظر في الإسناد والنظر في المتن.
ومن أمثلة ذلك:
- قال المنقح (2/ 520) - عن حديث عائشة: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان -: (هذا حديث منكر، وقوله: " في عمرة رمضان " باطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط).
- ذكر المنقح (4/ 40) حديث جابر عند النسائي قال: أخبرنا محمد بن منصور ثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت على ناضح لنا، فقلت: لا يزال لنا ناضح سوء، يا لهفاه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" تبيعنيه يا جابر؟ " قلت: بل هو لك يا رسول الله. قال: " اللهم اغفر له،
اللهم ارحمه، قد أخذته بكذا وكذا، وقد أعرتك ظهره إلى المدينة ". وقال في التعليق عليه: (هذا إسناد صحيح، لكن إسناد الاشتراط أصح وأثبت، وقد ذكر البخاري الاختلاف في لفظ هذا الحديث
…
ثم قال:
…
الاشتراط أكثر وأصح عندي).
فنجده هنا لم يكتف بالنظر إلى الإسناد بل نظر في المتن أيضًا، وبين مخالفته للأصح والأثبت، وتبع في ذلك طريقة الإمام البخاري.
- ذكر المنقح (5/ 54 - 55) حديثًا رواه الدارقطني، فقال: حدثنا أحمد ابن محمد بن زياد القطان ثنا جعفر بن محمد بن كزال ثنا محمد بن نعيم بن هارون ثنا كثير بن مروان ثنا غالب بن عبيد الله العقيلي عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جعل عليه نذرًا في معصية فكفارة يمين، ومن جعل عليه نذرًا فيما لا يطيق فكفارة يمين، ومن جعل عليه نذرًا فيما لم يسمه فكفارة يمين،
…
الخ ".
ثم علق عليه بقوله: (هذا الحديث لا يصح ولا يثبت، وفيه غير واحد من الضعفاء
…
وليت هذا الحديث يصح عن عطاء من قوله! والله أعلم).
فالمنقح رحمه الله لم يكتف بالنظر في الإسناد، بل نظر في المتن أيضًا فوجده لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من جنس كلام الفقهاء كعطاء وغيره، فأشار إلى ذلك بقوله:" ليته يصح عن عطاء من قوله "، والله أعلم.
- ذكر المنقح حديثًا من رواية معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه في قصة صيده الحمار الوحشي وفيه: فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأكلوا، ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له. ثم قال المنقح (3/ 488 - 489): (الظاهر أن هذا الذي انفرد به معمر غلطٌ، فإن في "الصحيحين" أن
النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه).
وانظر: (2/ 38؛ 3/ 15، 276؛ 4/ 370، 403).
(6)
المتابعات والمخالفات
هذه المسألة من المسائل الشائكة جدًا في علم الحديث، وذلك أن تعدد طرق الحديث موجود بكثرة، ولكن هذا التعدد تارة يكون مقويًا للحديث، وتارة أخرى يكون معلاً للحديث، والتفريق بين الحالين يحتاج إلى دقة وطول مراس في هذا الفن، ومن خلال دراسة أمثلة هذه المسألة في كتاب "التنقيح" يظهر دقة المنقح رحمه الله تعالى، وسوف نشير إلى بعض الملامح المتعلقة بذلك: فابتدأ نقول: إن المنقح رحمه الله قد قوى جملة من الأحاديث - وإن كانت ليست بالكثيرة - بتعدد طرقها، ومن الأمثلة على ذلك:
- ذكر المنقح (4/ 75) حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، فهو ما يقول رب السلعة أو يتركا "، وقال في الكلام عليه:(الذي يظهر أن حديث ابن مسعود في هذا الباب بمجموع طرقه له أصل، بل هو حديث حسن يحتج به، لكن في لفظه اختلاف كما ترى، والله أعلم).
- وذكر المنقح (4/ 273) حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، والولد الذي لاعنت عليه "، وقال في الكلام عليه: (واعلم أن هذا الحديث قد تكلم فيه الشافعي وغيره، لكن له شواهد تقويه، والقياس يشهد له ولشواهده بالصحة
…
الخ).
- وذكر المنقح (4/ 284 - 285) حديثًا من طريق الأعمش عن سالم عن ثوبان، وعلق عليه بقوله:(رواه ابن ماجه من رواية منصور عن سالم، وهو ابن أبي الجعد، ولم يسمع من ثوبان، بينهما معدان. قاله أحمد بن حنبل، وقد رواه أبو كبشة السلولي وسلمان بن شمير وعبد الرحمن بن ميسرة عن ثوبان، فهو إذا حديث صحيح).
وأيضًا نجد المنقح يشير إلى التفريق بين الراوي الضعيف الذي يصلح حديثه للمتابعة، والراوي الضعيف الذي لا يصلح حديثه للمتابعة، ومن الأمثلة على ذلك:
- ذكر المنقح حديثًا من رواية ابن المبارك عن ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء، وقال في التعليق عليه (3/ 120):(حديث أسماء من رواية إمام عن ابن لهيعة - وهو ابن المبارك - وحديث ابن لهيعة يصلح للمتابعة).
فتجده هنا قد لاحظ مكانة الراوي عن ابن لهيعة، وحال حديث ابن لهيعة.
ومما ينبغي أن ينتبه له: أن حديث الراوي الضعيف الذي يصلح حديثه للمتابعة قد يرد ولا يقبل، وذلك عند وجود دليل أو قرينة على خطئه، ومن الأمثلة على ذلك عند المنقح:
- سبق لنا قريبًا أن المنقح نص على أن حديث ابن لهيعة يصلح للمتابعة، ولكننا نجده في موضع آخر لا يقبل متابعة ابن لهيعة، بل يردها، فذكر حديثًا عند الترمذي قال: حدثنا قتيبة ثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا يحل له نكاح
ابنتها
…
" الحديث، قال الترمذي: هذا حديث لا يصح من قبل إسناده، إنما رواه ابن لهيعة والمثنى بن الصباح عن عمرو، وابن لهيعة والمثنى يضعفان. فعلق عليه المنقح (4/ 346) بقوله: (الأشبه أن يكون ابن لهيعة أخذه عن مثنى، ثم أسقطه، وقال: " عن عمرو"، وقد قال أبو حاتم الرازي: لم يسمع ابن لهيعة من عمرو بن شعيب شيئًا).
- ومن الأمثلة أيضًا: ذكر المنقح (4/ 314) حديثًا من رواية عبد الرزاق عن معمر عن صالح بن كيسان عن نافع بن جبير عن ابن عباس، وأن الدارقطني قال عنه: لم يسمعه صالح من نافع، وإنما سمعه من عبد الله بن الفضل عنه، قال النيسابوري: والذي عندي أن معمرًا أخطأ فيه. وعلق عليه المنقح بقوله: (رواه أبو داود عن الحسن بن علي عن عبد الرزاق به، ورواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق، وقال: لعل صالح بن كيسان سمعه من عبد الله بن الفضل. ورواه عن أحمد بن سعيد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل.
وقال ابن حبان في " الأنواع ": ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير بن مطعم.
ثم ذكره من رواية صالح عن نافع ولم يصنع شيئًا، فإن صالحًا إنما سمعه من عبد الله بن الفضل، والله أعلم).
- ومن الأمثلة على ذلك أيضًا أن المنقح (3/ 376) ذكر حديثًا من طريق محمد بن إسحاق السوسي عن عبد الله بن محمد بن نصر الرملي عن محمد بن يحيى عن عبد العزيز عن أبي سهيل عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه "، وقال في التعليق عليه:(هذا الحديث رفعه وهم، والصواب أنه موقوف، وإن كان السوسي قد تابعه غيره).
ونجده في بعض المواضع يضعف الحديث رغم تعدد طرقه، ولكنها تكون شديدة الضعف، وبالتالي هي غير قابلة للتقوية، ومن أمثلة ذلك:
- ذكر المنقح حديثًا من رواية خالد بن الوضاح عن أبي الخصيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا بد في النكاح من أربعة: الولي والزوج والشاهدين "، وعلق عليه بقوله:(هذا الحديث منكر جدًا، والأشبه أن يكون موضوعًا، وقد روي نحوه من وجهن ضعيفين عن أبي هريرة مرفوعًا، ومن وجه آخر ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا، وروي من وجه آخر صحيح عن قتادة عن ابن عباس موقوفًا، إلا أنه منقطع، لأن قتادة لم يدرك ابن عباس، والله أعلم).
وانظر (4/ 261).
* * *
منهجه في مسائل أخرى من علوم الحديث:
(1)
رواية صاحبي الصحيحين لأحاديث ليست على شرطهما
قال المنقح (2/ 150): (روى مسلم في "صحيحه": ثنا محمد بن مهران الرازي ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن عبدة أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات، يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
وهو منقطع، فإن عبدة - وهو ابن أبي لبابة - لم يدرك عمر، وإنما رواه مسلم لأنه سمعه مع حديث غيره، فرواهما جميعًا وإن لم يكن على شرطه).
(2)
الأحكام الضمنية على الأحاديث
سبق الكلام عن عناية المنقح بالأحكام الضمنية في الجرح والتعديل، وفي هذه الفقرة سوف نشير إلى عنايته بها في الحكم على الأحاديث، وذلك من خلال الصور التالية:
1 -
رواية أحد صاحبي الصحيح، أو أحد أصحاب السنن الأربعة، لحديث أو أكثر بنفس إسناد حديث آخر، ومن أمثلة ذلك قال المنقح (2/ 128) - في كلامه على حديث من رواية علي بن يحيى عن أبيه عن رفاعة -:(وقد روى البخاري حديثًا من رواية علي بن يحيى عن أبيه عن رفاعة بن رافع).
ومن أمثلة ذلك أيضًا: ذكر المنقح (2/ 504) حديثًا من رواية قتيبة عن عبد العزيز بن محمد عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، ثم قال:(هذا الإسناد روى به مسلم نحوا من أربعة عشر حديثًا).
وانظر: (3/ 253).
2 -
ذكر كلام الناقد في حديث للراوي عن شيخ من شيوخه، من أمثلة ذلك: ذكر المنقح حديثًا من رواية نعيم بن حماد عن الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال، ثم قال في تعليقه عليه (3/ 87):(نعيم والدراوردي لهما ما ينكر، والحارث لا يعرف حاله، وقد تكلم الإمام أحمد بن حنبل في حديث رواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث).
ومن أمثلة ذلك أيضًا: قال المنقح (4/ 217) معلقًا على حديث من رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر: (قد صحح الترمذي حديثًا من رواية حبيب عن ابن عمر).
3 -
احتجاج الناقد بالحديث (انظر مثلاً: 1/ 223، 225؛ 2/ 665؛ 4/ 167؛ 5/ 58، 68).
(3)
الموقوف الذي له حكم الرفع
ذكر ابن الجوزي (4/ 641) حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أحلت لنا ميتتان
…
"، وعلق عليه المنقح بقوله: (الصحيح في هذا الحديث ما رواه سليمان بن بلال - الثقة الثبت - عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر أنه قال: أحلت لنا ميتتان
…
وهو موقوف في حكم المرفوع، والله أعلم).
(4)
التصحيف
ذكر المنقح (4/ 158) حديثًا من طريق صالح بن العلاء بن بكير عن إسحاق بن عبد الواحد، وقال في الكلام عليه:(صالح بن العلاء: لا أعرفه، وكأنه مصحف، والظاهر أنه: صالح بن محمد الحافظ).
وانظر: (3/ 65).
(5)
لطائف الإسناد
هناك مسائل في علوم الحديث قد لا يكون لها أثر ني الحكم على الحديث
أو الراوي، ولكن يكون فيها لطافة، فيعتني العلماء أحيانًا بذكرها، وقد سار المنقح على طريقتهم، فنجده يذكر في "التنقيح" بعض اللطائف، ومن الأمثلة على ذلك:
- رواية الصحابة عن التابعين: 1/ 353.
- ذكر أن رواة الإسناد من أولاد المحدثين: 3/ 90.
* * *
الاختيارات الفقهية للمنقح
نص المنقح في بعض المسائل الفقهية المذكورة في الكتاب على اختياره فيها، ولقد كان رحمه الله متحريًّا للدليل فيما يرجحه من الأقوال، وإليك قائمة بالمسائل التي كان للمنقح فيها اختيارًا، وقد بلغت (13) مسألة، وهي:
1 -
حكم الماء المستعمل في رفع الحدث:
قال المنقح (1/ 36): (المستعمل في رفع الحدث فيه ثلاث روايات عندنا، وفيه خلاف عند الأئمة الأربعة وغيرهم، والصحيح من حيث الدليل أنه طهور، وقد استدل أصحابنا بأحاديث في الاستدلال بها نظر) ا. هـ.
2 -
إذا خاف الحاضر ضرر البرد تيمم:
قال المنقح (1/ 384): (الصحيح أنه يجوز له التيمم، وهو قول أكثر أهل العلم، لحديث عمرو بن العاص.
فإن تيمم وصلى، ثم قدر على استعمال الماء، فهل تلزمه الإعادة؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا تلزمه، وهو قول أبي حنيفة ومالك لحديث عمرو، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة، ولو وجبت لأمره بها، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
والثانية: تلزمه الإعادة في الحضر دون السفر، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
والأول أصح).
3 -
صيغة التشهد في الصلاة:
قال المنقح (2/ 274): (بأي تشهد تشهد مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم جاز).
4 -
بداية وقت النهي عن الصلاة:
قال المنقح (2/ 381): (الصحيح أن النهي في الفجر لا يتعلق بطلوعه، بل بفعل الصلاة كالعصر، وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد).
5 -
المسافة التي يجوز فيها القصر:
قال المنقح (2/ 516): (والصحيح جواز القصر في السفر الطويل والقصير).
6 -
مقدار المجزئ في زكاة الفطر:
قال المنقح (3/ 120): (القول بإيجاب نصف صاع من بر قول قوي، وأدلته كثيرة).
7 -
الكحل للصائم:
قال المنقح (3/ 250): (الأظهر في الجملة أن الكحل لا يفطر الصائم، لعدم الدليل الدال على ذلك من نص أو قياس صحيحين، والله الموفق للصواب).
8 -
اشتراط للصيام لصحة الاعتكاف:
قال المنقح (3/ 366): (
…
وهذا القول هو القوي - إن شاء الله - وهو أن الصيام شرط في الاعتكاف، فإن الاعتكاف لم يشرع إلا مع الصيام، فإن غالب اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما كان في رمضان، وقول عائشة: " أن
النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأول من شوال " ليس بصريح في دخول يوم الفطر، بجواز أن يكون أول العشر الذي اعتكفه باقي يوم الفطر، بل هذا هو الظاهر، وقد جاء مصرحًا به في حديث " فلما أفطر اعتكف "، والله أعلم).
9 -
نوع النسك الذي حج به النبي صلى الله عليه وسلم:
قال المنقح (3/ 434): (التمتع في عرف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل فيه القران، ويدخل فيه التمتع الخاص، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم متمتعًا التمتع الخاص، لأنه لم يحل من عمرته، بل المقطوع به أنه قرن بين الحج والعمرة، لأنه قد ثبت عنه أنه اعتمر أربع عمر، وأن العمرة الرابعة كانت مع حجته، وقد ثبت عنه أنه لم يحل منها قبل الوقوف بقوله: " لولا أن معي الهدي لأحللت، وثبت أنه لم يعتمر بعد الحج، فإن ذلك لم ينقله أحد عنه، وإنما اعتمر بعد الحج عائشة وحدها، فتحصَّل من مجموع ذلك أنه كان قارنًا، وعلى هذا تجتمع جميع أحاديث الباب، والله أعلم).
وقال أيضًا (3/ 445): (والصواب أنه صلوات الله عليه كان قارنًا، أحرم بالحج والعمرة جميعًا، وطاف لهما طوافًا واحدًا، وسعى سعيًا واحدًا).
10 -
ميراث الجد مع الإخوة:
قال المنقح (4/ 267): (الصحيح أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات من جميع الجهات، كما يسقطهم الأب، وهذا قول أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11 -
الصيغة التي ينعقد بها النكاح:
قال المنقح (4/ 338): (النكاح ينعقد بكل واحد منها - أي: صيغة
زوجتكها وملكتكها وأنكحتكها - على الصحيح).
12 -
مقدار الكفارة:
قال المنقح (4/ 433): (الصحيح أن الإطعام في الكفارة غير مقدر بالشرع، بل يرجع فيه إلى العرف، والله أعلم).
13 -
ما يكون به القود:
قال ابن الجوزي: (مسألة: لا قود إلا بالسيف، وعنه: يقتل بمثل الآلة التي قتل بها، وهو قول مالك والشافعي).
قال المنقح (4/ 493): (الصحيح في هذه المسألة هو الرواية الثانية، قال أحمد: إنه لأهل أن يفعل به كما فعل
…
الخ).
هذه هي المسائل التي نص الحافظ ابن عبد الهادي على اختياره فيها، وثَمَّ مسائل أخرى ذكر فيها بعض الفوائد أو ظهر ميله فيها إلى قول من الأقوال ولكنه لم ينص على اختياره فيها (انظر: 1/ 13 - 15، 128، 347، 356؛ 2/ 348، 360، 446، 467، 562؛ 3/ 151، 185، 199، 278، 387، 424، 533؛ 4/ 121، 129، 243، 245، 265، 304، 307، 336، 416، 523، 600، 627؛ 5/ 40).
* * *