الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة 14 [في بيان شرط أبي داود]
"شرط أبي داود قال ابن الصالح من مظان الحسن سنن أبي داود" المظان جمع مظنة بكسر الطاء وهو مفعلة من الظن وقال المطرزي المظنة العلم من ظن بمعنى علم قال في المصباح وقد يستعمل الظن بمعنى اليقين ومنه المظنة بكسر الظاء للعلم وهو حيث يعلم الشيء قال النابغة:
فإن مظنة الجهل الشباب
"قال ابن الصلاح وروينا" في المصباح ما لفظه روى البعير الماء يرويه من باب رمى حمله فهو راوية والهاء للمبالغة ثم أطلقت الراوية على كل دابة يستقي عليها ومنه قيل رويت الحديث إذا حملته ونقلت: هـ وتعدى بالتضعيف فيقال رويت زيدا الحديث انتهى. "عن أبي داود أنه قال ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح" قال الزين أي للاحتجاج ويأتي عن الحافظ ابن حجر احتمال أنه صالح للأعم من ذلك "وبعضها" أي بعض أحاديثه الدال عليه من حديث أصح من بعض قال أي ابن الصلاح "ورينا عنه أنه قال ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه وروينا عنه أنه يذكر ما عرفه في ذلك الباب قلت: أجاز ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الحفاظ العمل بما سكت عنه أبو داود لأجل هذا الكلام المروي عنه وأمثاله مما روى عنه".
قال الحافظ ابن حجر قول أبي داود وما فيه وهن شديد بينته يفهم أن الذي يكون فيه وهن غير شديد أنه لا يبينه ومن هنا أن جميع ما سكت عنه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن إذا اعتضد وهذان القسمان كثير في كتابه جدا ومنه ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالبا وكل من هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها كما نقل ابن مندة عنه أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب
غيره وأنه أقوى من رأي الرجال وكذلك قال ابن عبد البر كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده لا سيما إن كان لم يذكر في الباب غيره ونحو هذا ما روينا عن الإمام أحمد فيما نقله ابن المنذر عنه أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره وأصرح من هذا ما روينا عنه فيما حكاه أبو العز بن كادس أنه قال لابنه لو أردت أن أقتصر على ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث إني أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب شيء يدفعه هذا ما روي من طريق عبد الله بن أحمد بالإسناد الصحيح إليه قال سمعت أبي يقول لا تكاد ترى أحدا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه ذغل والحديث الضعيف أحب إلى من الرأي فهذا نحو ما حكى عن أبي داود ولا عجب فإنه كان من تلامذة الإمام أحمد فغير مستنكر أن يقول قوله بل حكة النجم الطوقى عن العلامة تقي الدين بن تيمية أنه قال اعتبرت مسند أحمد فوجدته موافقا لشرط أبي داود.
ومن هنا تظهر لك طريقة من يحتج بكل ما سكت عنه أبو داود فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنه مثل ابن لهيمة وصالح مولى التوأمة وعبد الله بن محمد بن عقيل وموسى بن وردان وسلمة بن الفضل ودلهم بن صالح وغيرهم فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ويتابعه في الاحتجاج بهم بل طريقه أن ينظر هل ذلك الحديث متابع يعتضد به أو هو غريب فيتوقف فيه لا سيما إن كان مخالفا لرواية من هو أوثق منه فإنه ينحط إلى قبيل المنكر وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن دحية وصدقة الدقيقي وعمرو بن واقد العمري ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني وأبي حيان الكلبي وسليمان بن أرقم وأسحق بن عبد الله بن أبي قروة وأمثالهم في المتروكين وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة وأحاديث المدلسين بالعنعنة والأسانيد التي فيها ما أبهمت أسماؤهم فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه وتارة يكون لذهول منه وتارة يكون لظهور شدة ضعفه ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته كأبي الحويرث ويحيى بن العلاء وغيرهما وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه من كلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس
في رواية اللؤلؤي وإن كانت روايته عنه أشهر ثم عد أمثلة من أحاديث السنن فيها ما يؤيد ما قاله.
ثم قال والصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه والمعتمد على مجرد سكوته لا يروى ذلك فكيف يقلده فيه هذا جميعه إن حملنا قوله وما لم أقل فيه بشيء فهو صالح على أن مراده صالح للحجة وهو الظاهر وإن حملناه على ما هو اعم من ذلك وهو الصلاحية للحجية وللاستشهاد أو المتابعة فلا يلزم منه أن يحتج بالضعيف ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي سكت عليها وهي ضعيفة هل منها أفراد أولا عن وجد فيها أفراد تعين الحمل على الأول إلا حمل على الثاني: وعلى كل تقدير فلا يصلح ما سكت عنه للاحتجاج مطلقا انتهى.
"قال النووي إلا أن يظهر في تعضها أمر يقدح في الصحة والحسن وجب ترك ذلك أو كما قال" لفظ الحافظ ابن حجر نقلا عن النووي أنه قال في سنن أبي داود أحاديث ظاهرة الضعف لم يبينها مع أنه متفق على ضعفها فلا بد من تأويل كلامه قال والحق أن ما وجدناه في سننه مما لم ينبه ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد فهو حسن وإن نص على ضعفه من يعتمد أو رأي العارف في مسنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له حكم يضعفه ولا يلتفت إلى سكوت أبي داود قلت: وهذا هو التحقيق ولكنه خالف ذلك في مواضع كثيرة في شرح المهذب وفي غيره من تصانيف فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل سكوت أبي داود عليها فلا تعثر بذلك انتهى.
"قال ابن الصلاح: ما معناه وعلى هذا ما وجدنا في كتابه مذكورا مطلقا ولم نعلم صحته عرفناه أنه من الحسن عند أبي داود وقد يكون فيه ما ليس بحسن عند غيره" ثم ذكر بعيد هذا مثل ما ذكره الحافظ من أنه قد يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال.
"وقد اعترض ابن رشيد" هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد الفهري "الأندلسي علي ابن الصلاح لأن ما سكت عنه يحتمل عند أبي داود الصحة والحسن" لفظ الزين أنه قال ابن رشيد ليس يلزم من كون الحديث لم ينص عليه أبو داود يضعف ولا نص عليه غيره بصحة أن الحديث عند أبي داود حسن إذ قد يكون عنده صحيحا وإن لم يكن عند غيره كذلك.
"وقال أبو الفتح" اليعمري "هذا تعقب حسن" قلت: لا يعزب عنك بعد تحقيق ما سلف عن الحافظ ابن حجر ما في كلام ابن الصلاح وفيما تعقب به.
"قال زين الدين" في شرح ألفيته "وقد يجاب عنه" أي عن تعقب ابن رشيد "بأنه" أي ابن الصلاح "إنما ذكر ما لنا أن تعرف الحديث به" الذي سكت أبو داود عنه "عنده" أي عند أبي داود "والقدر المتحقق الحسن دون الصحة وإن جاز أن يبلغها عند أبي داود" لفظ زين الدين إنما ذكر ابن الصلاح ما لنا أن نعرف به الحديث عنده والاحتياط أن لا يرتفع به إلى درجة الصحة وإن جاز أن يبلغها عند أبي داود قال "لأن عبارته" أي أبي داود "فهو" أي ما سكت عنه "صالح وهي تحتمل فإن كان يرى الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف فالاحتياط ما قاله ابن الصلاح" لأن الذي سكت عنه لم يحكم له بالصحة ولا بالضعف فيكون حسنا وهو مراده حينئذ بقوله صالح "وإن كان رأيه" أي أبي داود "كالمتقدمين أنه" أي الحديث من حيث هو "ينقسم إلى صحيح وضعيف" وأنه لا يقول بالحسن "فما سكت عنه فهو صحيح عنده" وإن لم تجتمع فيه شرائط الصحة التي سلفت في رسم الصحيح وذلك هو الصحيح الأخص.
قلت: ولا يخفى أن قول أبي داود صالح حمله ابن الصلاح على حسن فألزمه بان رشيد أنه يحتمل الأمرين الصحة والحسن والمراد الصحة بالمعنى الأخص لأنه قابل بها الحسن فالإلزام مبني على رأي من يجعل الحديث ثلاثة أقسام لا على رأي من يجعل الصحة شاملة للحسن كما لا يخفي فلا بم ما قاله الزين نعم إن صح أن رأى أبي داود عدم الحسن كان ما سكت عنه صحيحا بالمعنى الأعم فيكون فيه الصحيح بالمعنى الأخص والحسن لكن ابن الصلاح وابن رشيد مبني على أنه يرى الأقسام ثلاثة:
قال زين الدين: "والاحتياط أن يقال صالح" لا صحيح ولا حسن "كما عبر هو" أي أبو داود "عن نفسه" لكن لا يخفى أن قوله صالح يحتمل أنه للاحتجاج به كما قال الزين ويحتمل أنه صالح لأعم من ذلك من الاحتجاج والمتابعة والاستشهاد كما قاله الحافظ ابن حجر وقد قدمنا كلامه فإن أريد الأول فالصلاحية للاحتجاج لازمة للصحيح والحسن وإن أريد الثاني: فالصلاحية للمتابعة ليست لازمة للاحتجاج فترددت عبارته بين كون ما سكت عنه صحيحا أو حسنا أو ضعيفا فالتعبير بصالح لم يفد تعين الاحتجاج حتى يكون صحيحا على رأي القدماء أو حسنا على رأي المتأخرين نعم كلامه قد أقاد أن ما سكت عنه فليس فيه وهن شديد فخرج به قسم
من الضعيف لا يشمله صالح وتحقيق عبارته أن الذي سكت عنه ليس فيه وهن شديد وهو يحتمل أن لا وهن فيه أصلا فيكون صحيحا أو حسنا ويحتمل أن فيه وهنا لكنه غير شديد وحينئذ فالصواب أنه يحتمل الثلاثة بالحسن والصحة والوهن غير الشديد لا كما قاله ابن الصلاح ولا كما قاله ابن رشيد.
"وجود الذهبي الكلام في شرط أبي داود في ترجمته من النبلاء" ويأتي كلامه في آخر هذا البحث "وقال الإمام أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري في شرح الترمذي لم يرسم أبو داود شيئا بالحسن وعمله في ذلك شبه عمل مسلم" زاد الزين الذي لا ينبغي أن يحمل كلامه على غيره "فإنه اجتنب الضعيف الواهي" كما قال أبو داود إنه يبينه وأما مسلم فلم يأت به "وأتى" أي مسلم "بالقسمين: الأول" وهو الصحيح "والثاني" وهو الحسن "وحديث من مثل" أي مسلم "به" سيأتي من مثل بهم قريبا "من القسمين الأول والثاني موجود في كتابه" كتاب مسلم "دون القسم الثالث" وهو الواهي بخلاف أبي داود فالثالث موجود في كتابه لكنه بينه.
"قال" أبو الفتح "فهلا ألزم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح مسلما من ذلك ما ألزم أبا داود فمعنى كلامهما واحد" وبين معنى كون كلامهما واحد بقوله "وقول أبي داود إنه يخرج في كتابه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه يعنى يشبهه في الصحة أو يقاربا فيها قال" أبو الفتح "وهو نحو قول مسلم ليس كل الصحيح نجده عند مالك وشعبة وسفيان فاحتاج إلى أن ينزل إلى مثل حديث ليث بن أي سليم وعطاء بن السائب وزياد بن أبي زياد لما شمل الكل من اسم العدالة والصدق" ولفظ مسلم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم "وإن تفاوتوا في الحفظ والإتقان" أي وإن تفاوت مالك وصاحباه وليث وصاحباه فإن الثلاثة الأولين أكمل في الحال والمرتبة من الثلاثة الآخرين "ولا فرق بين الطريقين" طريق مسلم وأبي داود "غير أن مسلما شرطه الصحيح فتحرج من حديث الطبقة الثالثة" وهو من اشتد وهنه فإنهم خرجوا من كتابه ومراده أنه بقي في مسلم طبقتان والرواة أهل الصحاح وأهل الحسان "وأن أبا داود لم يشترطه" أي شرط الصحيح "فذكر ما يشتد وهنه عنده والتزم البيان عنه قال" أبو الفتح "وفي قول أبي داود إن بعضها أصح من بعض ما يشير إلى القدر المشترك بينهما في الصحة لما تقتضيه صيغة أفعل في الأكثر" إذ قد يخرج عن ذلك نادرا كما عرف في
النحو وحينئذ فقد شرط أبو داود الصحة في كتابه لأن قوله صالح بمعنى صحيح كما أرشد إليه وقوله بعضها أي بعض الأحاديث التي سكت عنها وسماها صالحة أصح من بعض فدل أنه أراد بصالح صحيح وأراد بالصحة المعنى الأعم الشامل للحسن كما أن مسلما أراده في تسمية كتابه بالصحيح هذا تقرير مراد أبي الفتح والتحقيق في البحث قدمناه قريبا وأبو الفتح سوى في هذا الكلام بين مسلم وسنن أبي داود.
"قال: زين الدين" في شرح ألفيته بعد نقله لكلام أبي الفتح "والجواب" أي عن أبي الفتح في إلزامه لابن الصلاح "أن مسلما التزم الصحة في كتابه فليس لنا أن نحكم على حديث خرجه أنه حسن عنده" أي عند مسلم قلت: لا يخفى أنه إنما ألزم ابن الصلاح أن يسمي ما سكت عنه أبو داود صحيحا لا أن يسمى ما أخرجه مسلم صحيحا فتأمل "لما تقدم من قصور الحسن عن الصحيح" فكيف يحكم على حديث في كتابه بالحسن بعد تصريحه باشتراطه صحة ما يخرجه نعم قول مسلم ليس كل الصحيح نجده عند مالك وقوله فاحتاج إلى أن ينزل إلى مثل حديث ليث بن أبي سليم بعد التزامه الصحة يدل على أن في كتابه الصحيح والأصح وإن كان قوله كل الصحيح يفهم أن بعض الصحيح عند ليث مثلا وأن كلا من الفريقين من مالك ومن ذكر معه وليث ومن ذكر معه أحاديثهم مستوية في الصحة لكن سياق كلامه يأبى هذا المفهوم "وأبو داود قال إنما سكت عنه فهو صالح والصالح قد يكون صحيحا وقد يكون حسنا" قلت: يعني إذا حمل كلامه على أن مراده صالح للاحتجاج كما هو حمل زين الدين لا إذا حمل على الأعم من ذلك كما عرفت "عند من يرى الحسن رتبة دون الصحيح" قيد لقوله وقد يكون حسنا ولم ينقل لنا عن أبي داود هل يقول بذلك أو يرى ما ليس بضعيف صحيحا ولا يثبت الحسن "فكان الاحتياط أن لا يرتفع ما سكت عنه إلى الصحة حتى يعلم أن رأيه هو الثاني ويحتاج إلى نقل" وهو أنه يرى ما ليس بضعيف صحيحا.
قال الحافظ ابن حجر بعد نقل جواب شيخه على أبي الفتح وقد أجاب الحافظ صلاح الدين العلائي عن كلام أبي الفتح بجواب أمتن من هذا فقال ما نصه هذا الذي قال ضعيف وقول ابن الصلاح أقوى لأن درجات الصحيح إذا تفاوتت فلا نعني بالحسن إلا الدرجة الدنيا منها والدرجة الدنيا لم يخرج مسلم منها شيئا في الأصول إنما يخرجها في المتابعات والشواهد انتهى.
قلت: ابن الصلاح لم يقل في مسلم شيئا إنما ألزمه أبو الفتح أن يجعل مسلما كأبي داود ولا وجه عندي لإلزام أبي الفتح له أصلا وذلك أن مسلما شرط أن لا يخرج إلا الصحيح وسمى كتابه به وقال ما أدخلت فيه إلا ما صح وأبو داود يقول ما سكت عنه فهو صالح وهي عبارة ليست نصا في شرطيه الصحة في المسكوت عنه بخلاف مسلم فعبارته صريحة غير محتملة فلأي شيء يقول إن في حديثه ما يتحمل الحسن كما في حديث أبي داود وأما قول العلائي إن درجات الصحيح متفاوتة وإنه لا يعني بالحسن إلا الدرجة الدنيا منها وليس في مسلم منها شيء فهو مؤذن بأنه إذا أطلق الصحيح فلا يشمل إلا درجاته التي ليس فيها درجة دنيا ومسلم قد شرط الصحة في كتابه وسماه صحيحا وحينئذ فلا يدخل الحسن في كتابه أصلا.
قال الحافظ ابن حجر ما معناه كلام العلائي صحيح وهو مبني على أمر اختلف نظر الأئمة فيه وهو قول مسلم ما معناه إن الرواة ثلاثة أقسام فالأول كمالك وشعبة ونظرائهما والثاني: مثل عطاء بن السائب ويزيد بن أبي يزيد وأمثالهما وكل من القسمين مقبول لما يشمل الكل من اسم الصدق والطبقة الثالثة أحاديث المتروكين فقال القاضي عياض وتبعه النووي وغيره إن مسلما أخرج أحاديث القسمين الأولين ولم يخرج شيئا من أحاديث القسم الثالث: وقال الحاكم: والبيهقي وغيرهما لم يخرج مسلم إلا أحاديث القسم الأول فقط فلما حدث واخترمته المنية قبل إخراج القسمين الآخرين ويؤيد هذا ما رواه البيهقي بسند صحيح عن محمد بن ابراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم قال صنف مسلم ثلاثة كتب أحدها هذا الذي قرأه على الناس يعني الصحيح والثاني: يدخل فيه عكرمة وابن اسحق وأمثالهما والثالث: يدخل فيه الضعفاء.
قلت: وإنما اشتبه الأمر على القاضي عياض ومن تبعه بأن الرواية عن أهل القسم الثاني: مروية في صحيحه لكن حرف المسألة هل احتج بهم كما احتج بأهل القسم الأول أم لا والحق أنه لم يخرج شيئا مما تفرد به الواحد منهم وإنما يحتج بأهل القسم الأول سواء انفردوا أم لا ويخرج من أحاديث أهل القسم الثاني: ما يرفع به التفرد عن أحاديث أهل القسم الأول وكذلك إذا كان لحديث أهل القسم الثاني: طرق كثيرة يعضد بعضها بعضا فإنه قد يخرج ذلك وهذا ظاهر بين في كتابه ولو كان يخرج جميع أحاديث أهل القسم الثاني: في الأصول بل وفي المتابعات لكان كتابه أضعاف ما هو
عليه إلا تراه يخرج لعطاء بن السائب في المتابعات وهو من المكثرين ومع ذلك فما له عنده سوى مواضع يسيرة وكذا محمد بن اسحق وهو من يحور الحديث وليس له عنده في المتابعات إلا سنة أو سبعة ولم يخرج لليث بن أبي سليم ولا ليزيد بن أبي زياد ولا لمجالد بن سعيد إلا مقرونا وهذا بخلاف أبي داود فإنه يخرج أحاديث هؤلاء في الأصول محتجا بها ولأجل ذا تخلف كتابه عن شرط الصحة وفي قول أبي داود ما كان فيه وهن شديد بينته فأفهم أن الذي يكون فيه وهن غير شديد أنه لا يبينه ومن هنا تبين أن ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي بل هو على أقسام منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة إلى آخر ما قدمناه في هذا البحث عن الحافظ ابن حجر.
وبهذا التحقيق يتضح لك ما في قول المصنف "قلت: الذي تلخص من عبارة أبي الفتح اليعمري وزين الدين بن العراقي أن ما سكت عنه أبو داود فهو في المعنى والصحة مثل حديث مسلم" لا أدري لم زاد لفظ المعنى فإن المعاني في الحديثين قد تختلف وإن جمعهما وصف الصحة "ولكن مسلم يسمي الحسن صحيحا كالحاكم والمتقدمين" هذا مبني على وجود القسم الثالث: في كتابه وقد عرفت ما فيه "فيحكم" أي مسلم "بأن كل ما في كتابه صحيح عنده على معنى أنه يجب العمل به وعلى معنى أنه ليس فيه ضعيف وإن كان فيه ما هو حسن عند من يجعل الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف" لا يخفى أن هذا لا يتم على تحقيق الحافظ الذي قدمناه وجزمه بأن مسلما لم يخرج إلا لأهل القسم الأول وهم أعلى مراتب الصحيح وأخرج لأهل القسم الثاني: ما يكون صحيحا لغيره فليس في كتابه إلا الصحيح لذاته وهم أهل القسم الأول والصحيح لغيره وهم أهل القسم الثاني: المتعاضدة أحاديثهم فليس في كتابه ما هو من قسم الحسن.
ولما كان مقتضى كلام المصنف أن يوصف أحاديث سنن أبي داود بالصحة كما وصف أحاديث مسلم بها مع قوله بأنهما مستويان أجاب عن هذا بقوله "وإنما لم يجعل" أحاديث "سنن أبي داود صحاحا عنده" كما جعلنا أحاديث مسلم صحاحا عنده "لأنه" أي الشأن "لم يعرف هل ذهب" أبو داود "مذهب الحاكم والمتقدمين في تسمية الحسان صحاحا أم لا" أي بخلاف مسلم فقد عرفنا ما عنده من تسمية الحسان صحاحا "هذا" تقرير الكلام "عند زين الدين أما أبو الفتح" اليعمري "فجعل ما سكت عنه" أبو
داود "صحيحا كمسلم".
لا يعزب عنك أن أصل كلام أبي الفتح لابن الصلاح بأنه يلزمه أن أحاديث أبي داود التي سكت عنها صحيحه كالقسم الثاني: من أحاديث مسلم لكنه ساق من عبارته ما دل على أن ما ألزم به ابن الصلاح يراه قويا فلذا قال المصنف إنه يسمى ما سكت عنه أبو داود صحيحا "وساعده" أي أبا الفتح "الزين" في مساواة أحاديث أبي داود لأحاديث مسلم "وإنما اعتذر" الزين "من إطلاق التسمية" على ما سكت عنه أبو داود بأنه صحيح "مضافة" التسمية "إلى اعتقاد أبي داود وهذا الاختلاف الذي وقع بينهما" أي بين الزين وأبي الفتح "قليل الجدوى لم يقع إلا في تسمية ما سكت عنه عنده" عند أبي داود "هل كان عنده يسمى صحيحا أم كان عنده" أي أبي داود "منقسما في التسمية إلى حسن وصحيح كاصطلاح المتأخرين والأكثرين فإنهم قصروا اسم الصحيح على أحد قسمي المقبول وخصوا ما دونه باسم الحسن وهذا يقتضي المساواة بين حديث مسلم وبين ما سكت عنه أبو داود من حديث السنن" كل هذا مبني على أن مسلما قد سمى الحسن صحيحا وأنه لم يرد بتسمية كتابه الصحيح إلا بمعنى المقبول وأنه لم يرد الصحة الاصطلاحية الخاصة أو أرادها وغلب الحسن في التسمية ومبني على أن إطلاق صحيح على ما سكت عليه أبو داود كإطلاق حسن عليه لا فرق بينهما في المعنى وإنما الخلاف لفظي بين الشيخين أبي الفتح والزين ونعم بتم أنه لا فرق بينهما حيث يراد بالصحيح في هذا الإطلاق معنى الحسن.
قلت: إلا أنه لا خفاء في أن ظاهر قول الزين في العذر عن عدم إطلاق الصحيح على ما سكت عليه أبو داود لتحقق الحسن دون الصحة وقوله فكان الاحتياط أن لا يرفع ما سكت عنه أبو داود إلى الصحيح أن المراد بالصحيح هو الأخص وأن إطلاقه على ما سكت عليه رفع له إلى رتبة هو منحط عنها وغير متحققة له وأبو الفتح قال يطلق الصحيح على ما سكت عليه أبو داود بالمعنى الأعم فيشمل الصحيح الأخص والحسن لأن قول أبي داود إن ما سكت عنه صالح يحتمل الأمرين كما أن مسلما أطلق الصحيح على الأمرين معا وشملهما كتابه فابن رشيد لا يريد بالصحيح في إلزامه ابن الصلاح إلا معناه الأخص إذ معناه المرادف للحسن قد صرح ابن الصلاح بأنه الذي يحتمله ما كست عنه أبو داود
والتحقيق أن إلزام ابن رشيد لابن الصلاح مبني على أن قول أبي داود إن ما سكت عليه صالح يحتمل صلاحيته للصحة بالمعنى الأخص وبالمعنى الأعم الشامل للحسن فلما قال ابن الصلاح: إنه يحمل ما سكت عليه على الحسن قال أبو الفتح ابن رشيد بل ويحتمل الصحة بالمعنى الأخص فحمله على أحد محتمليه تحكم ثم قال بعد ذلك إنه يلزم ابن الصلاح حيث جعل الصالح بمعنى السحن وحمل عليه أن يلزم مسلما بأن في حديثه الحسن لأنه أتى بعبارة كعبارة أبي داود فإن لفظ الصحيح الذي سمى به كتابه يحتمل على أنه أراد به الصحيح بمعناه الأخص ويحتمل أنه المراد الأعم كاحتمال لفظ صالح عند أبي داود ثم إنه لما صرح في كتابه أنه ينقسم بانقسام الرواة إلى صحيح وأنزل منه وأنه أتى بهما فيه دل على أنه أراد به المعنى الأعم كما أن أبا داود قال إن الصالح المسكوت عنه بعضه أصح من بعض دل كلام كل واحد منهما على أنهما أتيا في كتابيهما بأحاديث تفاوت رتبها إلى صحيح وأصح والأصح هو الصحيح بالمعنى الأخص والصحيح هو الحسن فقد أراد مسلم بصحيح وصالح الصحيح بالمعنى الأعم الشامل للقسمين كما أراد أبو داود بصالح.
وبعد هذا تعرف أن قول الزين إن صالح يحتمل الصحيح والحسن مراده الصحيح بالمعنى الأخص ومارد اليعمري أنه لا احتمال فيه بل هو ظاهر في المعنى الأعم كما دل له قول أبو داود إنه أتى في كتابه بالصحيح وما يشابهه وما يقاربه أي يشابهه ويقاربه في الصحة وقوله بعضها أصح من بعض وقد وجد في كتابه الحسن قطعا فمراده بصالح صحيح بالمعنى الأعم كما أراد مسلم وأن قوله مسلما التزم الصحة في كتابه يقول اليعمري نعم لكنه إلتزمها بمعناها الأعم لما قرره من كلام مسلم واشترطها أبو داود بذلك المعنى لقوله صالح وبعضها أصح من بعض.
إذا عرفت هذا عرفت أن جواب الزين عن اليعمري لم يوافق بحثه ومراده أن اليعمري يقول إن الصالح بمعنى الصحيح بالمعنى الأعم وإن أبا داود كغيره يقول بانقسام الحديث إلى الثلاثة الأقسام لكنه عبر بلفظة صالح عن قسمين وبين الثالث: بقوله وما كان فيه وهن شديد وقوله فكان الاحتياط أن لا يرتفع ما سكت عنه إلى الصحيح يقال عليه قد عرفت أن مراد أبي داود بما سكت عنه أي عن بيان وهنه الشديد لأنه لم يسكت على غيره إذ قد حكم بأن الذي لم يبين وهنه صالح فالذي سكت عنه قد جعله صالحا وليس بمسكوت عنه بل موصوف بالصالح وهو محتمل
الأمرين كما عرفت ومنه تعرف أن أبا داود قائل برأي المتأخرين والأكثرين ويحتمل أن يريد زين الدين إن حملنا صالحا في عبارة أبي داود على الصحيح بالمعنى الأعم رفع له إلى فوق رتبة الحسن لأنه يشمل الصحيح بالمعنى الأخص الأحوط وصفه بالتحقق وهو الحسن لكنه قال أبو الفتح إن أبا داود لم يرسم شيئا بالحسن فكيف يثبت له شيئا لم يقله سيما وقد قال إنه صالح وبعضه أصح من بعض.
وبهذا علم أن رأي أبي داود هو الثاني: أعني إدراج الحسن في الصحيح هذا وقول المصنف إن الشيخين جعلا أحاديث مسلم وأبي داود مستوية لا يخلو عن تأمل لأن الزين قال إن مسلما شرط الصحة فليس لنا أن نحكم على حديث خرجه أنه حسن لما تقدم من قصور رتبة الحسن ووصف أحاديث أبي داود المسكوت عنها بالحسن الذي رتبته أنقص من رتبة الصحيح فهذا يشعر بأنه لم يسو بينهما وأما أبو الفتح فظاهر عبارته التسوية "فإما أن يريدوا" أي أبو الفتح والزين ومن تبعهما "المساواة بينهما" أي بين أحاديثهما "في أن كل واحد منهما واجب القبول عند مخرجه فذلك قريب ولا يقتضي المساواة المطلقة أو يريدوا أنهما سواء على الإطلاق فذلك غير صحيح" لما ذكره من قوله "فإن من أنس بعلم الأثر وطالع كتب الرجال" أي تراجم العلماء في كتب الرجال التي وضعت لبيان أحوال الرواة وغيرهم "لم يشك أن مسلما كان أكثر احتياطا من أبي داود" في الرواة "كما لا يشك أن البخاري كان اكثر احتياطا من مسلم وإن كان مقصد الكل" من الثلاثة "حسنا فإن من تساهل منهم لم يحمله على التساهل هوى وإنما حمله أنه رأى أن قبول ما رواه واجب ورده حرام فاحتاط كل منهم للمسلمين فجزاهم الله أفضل الجزاء".
ومن الأدلة أن مسلما وإن روى عن بعض الضعفاء فإنه يعتمده قوله "وقد روى النووي في شرح مسلم أن مسلما ذكر أنه ربما أخرج الحديث في الصحيح" أي في كتابه المسمى بالصحيح "بالإسناد الضعيف لعلوه وله إسناد صحيح معروف عند أهل هذا الشأن فقد تركه نزولا استغناء بشهرته وهذا يدل بالنص على أن مسلما وإن روى عن بعض الضعفاء لم يدل على أنه اعتمدهم ولذا ضعف المحققون قول من يقول صحيح على شرط مسلم لمجرد إسناده إلى رواة مسلم" فإنه ليس كل من في صحيحه من الرواة غير ضعيف إذ قد صرح بأن فيهم الضعيف لكن ليس فيه حديث ضعيف "وهذا جواب واضح على اليعمري وزين الدين" عما زعماه من مساواة حديث مسلم
لحديث أبي داود.
"واعلم أن المقصود بهذا الكلام هو التعريف بأن حديث مسلم عند التعارض أرجح من حديث أبي داود لمن لم يتمكن من البحث عن إسنادهما والكشف عما قيل في رجالهما وجميع ما يتعلق بهما من علوم الحديث وذلك" أي وجه ترجيح حديث مسلم عند التعارض "لما تقدم من أن جماعة من الثقات قد ادعوا الإجماع على صحة كتاب مسلم" يقال: كيف تتم هذه الدعوى مع أنه قد صرح أنه قد ينزل عن الثقات وأهل الإتقان إلى من هو دونهم فلا بد من حمل الصحة المتفق عليها على ما يشمل مراتب الصحة التي يدخل فيها الحسن لكن ظاهر ما سلف للمصنف أن الإتقان على الصحة بالمعنى الأخص وقد تقدم عن الحافظ ابن حجر ما نقلناه من تحقيق حال أحاديث مسلم بما يرفع درجته عن أحاديث أبي داود.
"ولم يختلف في الترجيح لما تلقته الأمة بالقبول على غيره من الصحيح المقبول" فإن ما تلقته الأمة بالقبول أرجح من غيره من الصحيح الغير المتلقي والتلقي من الأمة وقع للصحيحين كما سلف ولم يقع التلقي لسنن أبي داود فأحاديث مسلم أرجح إذا عارضها صحيح غير البخاري فكيف إذا عارضها ما فيه الحسن ونحوه وتقدم البحث عن دعوى التلقي.
"وإنما وقع الخلاف" بين الأمة "في أن المتلقي بالقبول هل يفيد العلم الاستدلالي أم لا وقد مر ذلك" ومر ما فيه "فمن قال إنه يفيد العلم قدم مسلما على الإطلاق" سواء كان من أهل البحث أو من غيرهم "ومن قال إنه يفيد الظن فإن لم يكن من أهل الكشف" أي البحث عن أسانيد "قدمه أيضا" لأنه يجب العمل بالظن عند عدم أقوى منه "وإن كان من أهل الكشف بحث" عن أسانيد المتعارضين من حديث مسلم وحديث أبي داود "فإن حصل له من البحث ظن أرجح" إما بترجيح حديث مسلم أو ترجيح حديث أبي داود "من الظن الحاصل من تلقي الأمة بالقبول صار إليه" إلى ما رجح له لأنه لا يعمل بظن مرجوح عند وجود ظن راجح "وإن كان تلقي الأمة بالقبول أرجح في ظنه عمل به وأهل الكشف هم المتمكنون من النظر في الأسانيد والكشف عن أحوال الرواة".
"فإن قيل: قد نقل الحافظ ابن النحوي في البدر المنير والحافظ زين الدين في التبصرة عن الحافظ أبي عبد الله بن منده أنه قال عن أبي داود إنه يخرج الإسناد
الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه عنده أقوى من رأي الرجال" وقدمنا هذا قريبا "وهذا يقتضي أن في ما سكت عنه ضعيفا عنده لا يجوز العمل به" لأنه لا يعمل إلا بصحيح أو حسن وهذا خارج عنهما لأنه ضعيف لم يعضده خبر آخر بل لم نجد غيره "وذلك الضعيف" الذي صرح أبو داود بإخراجه في كتابه "غير متميز عن غيره فوجب ترك الجميع" أي جميع ما سكت عنه لأنه وإن كان فيه ما يصح به العمل لكنه لم يتميز عما لا يصح.
"ولم يحل الاحتجاج بشيء منها إلا بعد الكشف عن أحوال رجالها في كتب الجرح والتعديل وهذا خلاف ما عليه العمل" من العلماء فإنهم يحتجون بما سكت عنه أبو داود كما تقدم "وخلاف ما نص عليه الحفاظ كابن الصلاح والنووي وزين الدين بن العراقي وسراج الدين بن النحوي وغيرهم" فإنهم قالوا نحتج بما سكت عنه أبو داود إلا أن يظهر في بعضها أمر يقدح في الصحة والحسن وجب ترك ذلك كما نقله المصنف عن النووي قريبا وتقدم الكلام في أن ما سكت عنه أنه يحتمل الصحة والحسن.
"قلت: الجواب أن ذلك لا يشكل إلا على من كان لا يعرف ما اصطلح عليه القوم في باب مراتب الجرح والتعديل وغيره من أبواب علوم الحديث وأنت إذا بلغت هذا الباب" من الجرح والتعديل "عرفت أنهم يطلقون الضعيف على العدل في دينه المتوسط في مراتب الحفظ والإتقان" لا يخفى أنهم إن أرادوا هذه فهذه صفة رواة الحسن الذي خف ضبطهم "وقد نص زين الدين في مراتب التجريح الخمس على أن الضعيف وهو في المرتبة الرابعة منها" أي من مراتب التجريح "يكتب حديثه وحديث من في مرتبته" لا فائدة لزيادته "ومن في المرتبة الخامسة للاعتبار بهم" وقد تقدم للمصنف هذا وتقدم ما عليه "دون أهل المراتب المتقدمة من المجروحين" فإنه لا يكتب حديثهم لذلك.
"وروى عن أبي حاتم في" أهل "مراتب التعديل الخمس أن أهل المرتبة الرابعة منهم يكتب حديثهم للاعتبار بهم وهم" أي أهل المرتبة من مراتب التعديل "من قيل فيه إنه صالح الحديث" قد عرفت أنه قال أبو داود إن ما سكت عنه من الحديث فإنه صالح وجعلوا هذه العبارة تحتمل الصحة والحسن "أو محله الصدق أو شيخ أو وسط أو شيخ وسط أو مقارب الحديث أو نحو ذلك" بفتح الراء وكسرها كما قال الزين واعلم أن ابن معين قال من قيل فيه إنه ضعيف فليس بثقة ولا يكتب حديثه نقله عن زين الدين وذكر في ذلك خلافا سيأتي بيانه "كما سيأتي إن شاء الله في موضعه".
"فعرفت بهذا أن الضعيف في رابعة مراتب الجرح هو صالح الحديث في رابعة مراتب التعديل ولكنه يوصف بالضعف بالنظر إلى من فوقه من الثقات الإثبات المتقنين ويوصف بصلاح الحديث بالنظر إلى صدقه وترفعه عن مرتبة المغفلين المكثرين من الخطأ وترفعه عن مرتبة المجروحين والمتهمين ويدل على ما ذكرته ما ذكروه في أقسام الضعيف كما يأتي من أن الحديث قد يسمى ضعيفا عندهم إذا كان من طريق رجال الحسن المستورين غير أنه لم يرد له شاهد ولا متابع ويدل على ما ذكرته ما تقدم من قول أبي الفتح بن سيد الناس إن شرط أبي داود كشرط مسلم" لكنه لا يخفي أنه لم يرفضه المصنف فيما سلف ثم هذا كله يتم إن كان مراد أبي داود بقوله إنه يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره الإسناد الذي ليس فيه وهن شديد الذي التزم أنه يبينه وهذا محل تتبع لما في سنن أبي داود "و" يدل له "ما رواه" أبو الفتح "عن مسلم قوله لي كل الصحيح تجده عند مثل مالك وشعبة وسفيان واحتاج أينزل إلى مثل ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب لما يشمل الكل من اسم العدالة والصدق وإن تفاوتوا في الحفظ والإتقان فدل هذا على أن رواة أبي هريرة الذي سكت عنهم من أهل الصدق والعدالة عنده وأن تفاوتهم إنما هو في الحفظ والإتقان" هذا مبني على أنه لا فرق بين رجال مسلم وأبي داود فإن المصنف جعل عبارة مسلم في رواته دليلا على أن رواة أبي داود يتصفون بصفة رواة مسلم وهذا ينقض ما سلف له قريبا ولا يتم على كل تقدير لما علم بالخبرة أن في رجال أبي داود ممن يعتمدهم في الأصول رجالا لا يرتضيهم مسلم إلا في التوابع والشواهد كما قد سبقت أمثلة من ذلك فيما قدمناه ولا يتم قوله أيضا "والضعيف منهم" أي من رواة أبي داود "إنما هو ضعيف الحفظ ضعفا متوسطا لا يحطه إلى مرتبة من لا يكتب للاعتبار" لكنه لا يكون حجة يعمل بحديثه.
"ولهذا جعلوا من قيل فيه أنه ضعيف بمرة في ثالثة مراتب الحرج وجعلوه ممن لا يكتب حديثه للاعتبار ومعنى الاعتبار عندهم الطلب التوابع والشواهد التي يعرف بها أن للحديث أصلا ويترقى حديث الضعفاء إلى مرتبة الحسن وسوف يأتي تعريف معنى الشواهد والتوابع والفرق بينهما في بابه إن شاء الله" ويأتي تحقيق ذلك هنالك إن شاء الله تعالى إلا أنك قد عرفت أن أبا داود قال إنه يذكر الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره فيبني عليه حكم ولذا قال إنه أولى من الرأي والرأي إنما يحتاج
إليه عند رواة الحكم فهو لا يذكره للاعتبار بل ليبني عليه أحكاما ثم إنه مبني على أنه لم يجد في الباب غيره وأي شيء يعتبر هو به وإن أريد أن غير أبي داود من الأئمة يعتبر به فلا يكون عذرا لأبي داود لأنه لم يأت به إلا للحكم به.
"فالإسناد الضعيف على هذا واجب القبول عند كثير من الأصوليين والفقهاء وإن لم يتابع راويه على روايته" ولا يكون حسنا لذاته ولا لغيره "وأما المحدثون فيذهبون إلى قبوله متى جمع شرائط الحديث الحسن" لذاته أو لغيره "إلا البخاري فلم يقبله كما تقدم وبوضح ما ذكرته أن الإسناد الضعيف الذي ذكره ابن منده في السنن مقبول عندهم هو ما قدمناه عن أبي داود من قوله إن ما لم يذكر فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض" لا يعزب عنك أن نقل ابن منده عن أبي داود أنه قال يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وهذا نص منه أنه يخرج الضعيف وقال فيما سكت عنه إنه صالح ثم قال وبعضها أي بعض الأحاديث التي سكت عنها أصح من بعض فعبارته تشعر بأن الذي سكت عنه صحيح أو أصح والذي أخرجه عند عدم وجود غير ورآه أولى من الرأي ضعيف فكيف يقول المصنف إن الذي ذكره ابن منده هو الذي قدمه عن أبي داود فليتأمل "ولهذا قال ابن منده" الأولى قال أبو داود لأن ابن منده راو للفظه ومراده قال راويا "إنه" أي أبا داود "يورد الإسناد الضعيف ولم يقل الحديث الضعيف لأن الحديث في نفسه قد يقوي متنه لاجتماع الأسانيد الضعيفة إذا كان رواتها في مرتبة رجال الحسن ولم يكونوا ضعفاء بمرة" لكنه غير خاف عليك أنه قال أبو داود إنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد غره فأين اجتماع الأسانيد الضعيفة التي ترقيه إلى الحسن إذ لو كان شيء يرقيه إلى مرتبة الحسن لما قال إذا لم يجد غيره وإن أراد أن غير أبي داود وجد له أسانيد عاضدة لحديثه الذي لم يجد غيره فلا ينفع ذلك بالنظر إلى أبي داود إذ قد أتى بضعيف لم يعضده شيء عنده ورتب عليه حكما ومنه تعرف ما في قوله.
"ومن نفائس هذا الفصل أن لا تظن" أيها المخاطب كما يرشد إليه قوله واهما "الانفراد في أحاديث السنن إذا لم يورده" أي الحديث الدال عليه الأحاديث "أبو داود إلا بإسناد من الأسانيد الضعيفة واهما" من ظن الانفراد في أحاديث السنن "أنه" أي أبا داود "إنما ترك الشواهد والمتابعات لعدمها" عند أبي داود فيظن الانفراد "و" يظن الواهم "أن شرط الحديث الحسن وجودها" أي الشواهد والمتابعات "فليس كذلك" أي ليس كما ظنه
من أن وجودها شرط "فنصه" أي أبي داود "على أن ما سكت عنه فهو صالح يقتضي معرفته لمتابعات" وشواهد تقويه فيه بحثان:
الأول: إن هذا الذي سكت عنه هو الذي أخبر عنه بأنه صالح والصالح صحيح أو أصح عنده كما عرفت.
والثاني: أنه لم يسكت عما لم يجد في الباب غيره بل قال إنه ضعيف.
نعم يشكل وجود حديث في السنن مسكوت عنه فإنه يحتمل أن سكوته عنه لكونه صالحا أو أنه ضعيف فلا يعرف الفرق بينهما إلا بأن نجد حديثا ليس في الباب غيره فيحكم بضعفه ثم إنه مبني على أنه لا يأتي في باب من أبواب كتابه بما وهنه شديد وإن لم تجد إلا هو وهذا كله يفتقر إلى تتبع كتاب أبي داود لأن ما سكت عنه قد احتمل الضعف واحتمل أنه صالح "من باب معرفة اصطلاحهم ومن باب الحمل على السلامة" هذا كلام حسن لكنه يقال عليه إنه قد صرح أبو داود أنه يأتي بالضعيف إذا لم يجد في الباب غيره من تابع أو شاهد فحمله على السلامة إنما هو بقبول خبره عن نفسه "فإن مثل أبي داود مع جلالته ومعرفته وأمانته" يجب قبول خبره عن نفسه كما يجب قبول ما أخبر به عن غيره وقد أخبر عن نفسه بما عرفت.
وأما قوله: "لا يطلق ذلك" أي لفظ صالح فيها سكت عنه "على ما لا يستحق اسم الصحيح أو الحسن في عرفهم الشائع" فقد عرفت أنه لم يطلقه إلا على صحيح أو حسن "فكيف وقد روى الحافظ سراج الدين بن النحوي في مقدمات كتابه البدر المنير عن أبي داود أنه يخرج في الباب أصح الأسانيد ويترك بقيتها تخفيفا على طلبة هذا العلم الشريف" هذا محمول على ما يخرجه في باب أحاديث الأحكام التي يذكر فيها كثيرة وأما ما يخرجه في باب أو في حكم لا يجد فيه إلا حديثا واحدا فإنه قد صرح بأنه ضعيف "وهذا يدل على أنه إنما نص على صلاحية ما سكت عنه مما إسناده ضعيف لم عرف من شواهده" قد عرفت أنه نص على صلاحية ما سكت عنه ونص على أنه يخرج الضعيف الذي لا يجد غيره في الباب ونص على أنه يخرج ما اشتد وهنه مع بيانه وإذا كان هذا نصه فليس لنا التحكم بأن ما سكت عنه فهو صحيح أو حسن حتى يعلم أن في الباب غيره إذ هو الذي صرح بأنه يخرجه مع ضعفه نعم الذي لا يجد في الباب غيره قليل بالنسبة إلى مقابله فقد يقال الحكم للأعم الأغلب وهو الصلاحية للمسكوت عنه إلا أن هذا لا يكفي في إثبات الأحكام.
"وأما الذهبي" كأنه قسيم إماما تقدم من الأقاويل أي هذا ما قال أئمة هذا الشأن غير الحافظ الذهبي "فقال في ترجمة أبي داود من كتابه النبلاء قال أبو داود ذكرت في السنن الصحيح وما يقاربه فإن كان فيه وهن شديد بينته قال الذهبي وقد وفى بذلك رحمه الله بحسب اجتهاده وبين ما ضعفه شديد غير محتمل وكاسر" بالسين المهملة في القاموس كسر من طرفه غض أي غض أبو داود "عما ضعفه خفيف محتمل" غير شديد.
"فلا يلزم من سكوته والحال" عنده "هذه عن الحديث أن يكون حسنا عنده" لأنه قد سكت عما فيه ضعف محتمل وليس هذا بداخل في باب الحسن "ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المولد الذي هو في عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح" وهو الحسن لذاته فإنه إنما يعتبر فيه خفة الضبط كما عرفت فإنه "الذي يجب العمل به عند جمهور العلماء أو الذي يرغب عنه البخاري" كان الأولى الإتيان بكلمة الواو عوضا عن أو لأن الذي يرغب عنه البخاري هو الحسن لذاته "ويمشيه مسلم وبالعكس" لا أدري ما يراد به فينظر إذ المعروف أن البخاري لا يعمل بالحسن لذاته كما تقدم ومسلم يدخله في قسم الصحيح وعكس هذا ما أدرى ما أراد به الذهبي "فهو" أي المذكور بالحسن لذاته "داخل في أدنى مراتب الصحيح" كما قد عرفته من كلام العلائي وغيره "فإنه" أي الحسن لذاته "لو انحط عن ذلك" أي عن شرائطه بالاصطلاح المولد "لخرج الاحتجاج".
"وكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان وذلك نحو من شطر الكتاب" وهذا كله تقرير لكون ما كاسر أبو داود عن ضعفه المحتمل وسكت عنه لا يدخل تحت الحسن ولا يحتج به لأنه قد انحط عن رتبته وهذا خلاف ما قاله المصنف في تقريره "ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين" كأن المراد به مسلم "ورغب عنه الآخر" البخاري "ثم يليه ما رغبا عنه وكان إسناده جيدا سالما من علة وشذوذ ثم يليه ما كان إسناده صالحا وقبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعدا يعضد كل منهما الآخر ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص في حفظ راويه فمثل هذا يمشيه أبو داود ويسكت عنه غالبا ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه فهذا لا يسكت عنه بل يوهنه غالبا وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته والله أعلم انتهى بلفظه".
واعلم أنه قد تحصل من كلام الذهبي هذا أن أحاديث أبي داود على ستة أقسام:
على شرط الشيخين على شرط أحدهما ما كان إسناده جيدا سالما عن شذوذ وعلة ما كان إسناده صالحا وعضده غيره ما كان إسناده ضعيفا لضعف حفظ راويه ما كان بين الضعف.
وأنت إذا قابلت بين هذا وبين كلام المصنف وجدت بين الكلامين اختلافا وكذا إذا قابلت بينه وبين ما نقل عن أبي داود وإنما هذا إخبار من الذهبي عن حقيقة أحاديث السنن باعتبار ممارسته لها لا باعتبار كلام مؤلفها وكأنه لهذا قال المصنف وأما الذهبي "كما هو معروف من عوائد الحفاظ ولقد قال بعض حفاظ الحديث إن الحديث إذا لم يكن عندي من مائة طريق فأنا فيه يتيم" اليتيم: الفرد كما في القاموس وكأن هذا من قوله كما هو معروف إلى هنا معلق بقوله وأما الذهبي وفيه نوع خفاء وتعلقه بقوله لما عرف من شواهده أظهر وإن كان قد بعد بتوسيطه بنقل كلام الذهبي.
"فهذا الكلام الذي أوردته يعرف شرط أبي داود ومن أحب الكشف عما سكت عنه فهو أولى وأقرب إلى التحقيق التام وهو طريقة أهل الإتقان من طلبة هذا الشأن وأعون كتاب على ذلك" أي على الكشف عن أحاديث أبي داود التي سكت عليها "كتاب الأطراف للحافظ الكبير حمال الدين أبي الحجاج المزي" بضم الميم وكسرها كما في القاموس وآخر زاي بلدة بدمشق "لمعرفة طرق الحديث وكتاب الميزان للذهبي للكشف عن أحوال الرجال وأقرب منها مختصر الحافظ عبد العظيم" أي المنذري "لسنن أبي داود فإنه تكلم على جميع ما فيها مما يحتمل الكلام وبين ما فيها مما في الصحيحين وغيرهما وصححه أو حسنه أبو عيسى الترمذي وجود الكلام على حديثهما غاية التجويد وجاء كتابه مع كثرة فوائده صغير الحجم لم يزد على مجلد".
ذكر الحافظ المذكور في خطبة مختصريه المذكور عن ابن داسه أنه قال سمعت أبا داود يقول كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه ويكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات" 1 والثاني: قوله: "من
1 سبق تخريجه.
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" 1والثالث: قوله: "لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضي لأخيه ما يرضي لنفسه" 2 والرابع: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات
…
"، الحديث3.
ثم ذكر فيها أيضا أنه حكى أبو عبد الله محمد بن اسحق بن منده الحافظ أن شرط أبي داود والنسائي إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركهم إذا صح الحديث باتصال السند من غير قطع ولا إرسال وحكى عن أبي داود أنه قال ما ذكرت في كتابي حديثا اجتمع الناس على تركه انتهى.
وأعلم أنه قد أطال المصنف رحمه الله الكلام على شرط أبي داود ولم يسفر وجه إطالته عن شيء يعتمد عليه.
* * *
1 الترمذي قي: الزهد: ب 11، وابن ماجة في: الفتن: ب 12، ومالك في: حسن الخلق: حديث 3، وأحمد 1/201.
2 البخاري 1/10. ومسلم في: الإيمان ب 17. حديث 71. وأحمد 3/176.
3 البخاري 7/30. ومسلم في: المساقاة: حديث 108. وابن ماجة 3984.