المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسألة:9 [في بيان مراتب الصحيح] - توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار - جـ ١

[الصنعاني]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌مسألة 2 [في بيان مراد أهل الحديث بقولهم: هذا حديث صحيح]

- ‌مسألة 3 [من علوم الحديث: في معرفة أصح الأسانيد]

- ‌مسألة 4 [في ذكر أول من صنف في جمع الصحيح]

- ‌مسألة 6 [في عدد أحاديث الصحيحين]

- ‌مسألة 7 [في بيان الصحيح الزائد على ما في البخاري ومسلم]

- ‌مسألة 8 [في المستخرجات]

- ‌مسألة:9 [في بيان مراتب الصحيح]

- ‌مسألة 10 [في إمكان التصحيح في كل عصر ومن كل إمام]

- ‌مسألة:11 [في بيان حكم ما أسنده الشيخان أو علقاه]

- ‌مسألة 12 [في أخذ الحديث من الكتب]

- ‌مسألة 13 [في بيان القسم الثاني: وهو الحديث الحسن]

- ‌مسألة 14 [في بيان شرط أبي داود]

- ‌مسألة: 15 [في بيان شرط النسائي]

- ‌مسألة: 16 [في بيان شرط ابن ماجه]

- ‌مسألة: 17 [في الكلام على جامع الترمذي]

- ‌مسألة: 18 [في ذكر شرط المسانيد]

- ‌مسألة: 19 [في الكلام على الأطراف]

- ‌مسألة: 20 [في بيان المراد بصحة الإسناد وحسنه]

- ‌مسألة:21 [في بيان المراد من الجمع في وصف الحديث بين الصحة والحسن]

- ‌مسألة: 22 [في بيان القسم الثالث: وهو الحديث الضعيف]

- ‌مسألة: 23 [في بيان الحديث المرفوع]

- ‌مسألة: 24 [في بيان المسند من أنواع الحديث]

- ‌مسألة: 25 [في بيان المتصل والموصول من أنواع الحديث]

- ‌مسألة:26 [في بيان الموقوف]

- ‌مسألة: 27 [في بيان المقطوع]

- ‌مسألة: 28 [في بيان المرسل]

- ‌مسألة: 29 [في بيان اختلاف العلماء في قبول المرسل]

- ‌مسألة: 30 [في فوائد تتعلق بالمرسل]

- ‌مسألة: 31 [في بيان المنقطع والمعضل]

- ‌مسألة: 32 [في بيان العنعنة وحكمها]

- ‌مسألة:33 [في بيان اختلاف العلماء في قول الراوي أن فلانا قال]

- ‌مسألة:34 [في حكم تعارض الوصل والإرسال]

- ‌مسألة:35 [في بيان التدليس]

- ‌مسألة:36 [في بيان الشاذ]

الفصل: ‌مسألة:9 [في بيان مراتب الصحيح]

‌مسألة:9 [في بيان مراتب الصحيح]

"مراتب السند الصحيح عند المحدثين" يحترز من مراتبه عند الفقهاء "اعلم أن مراتب الصحيح متفاوتة" وأن جمعها الاتصاف بالصحة "بحسب تمكن الحديث من شروط الصحة وعدم تمكنه وقد ذكر أهل علوم الحديث" أي جمهورهم "أن الصحيح ينقسم" باعتبار ما ذكر "سبعة أقسام" القسم "الأول أعلاه وهو ما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم وهو الذي يعبر عنه أهل الحديث" الناقلون من كتابي الشيخين "بقولهم: متفق عليه" يطلقون ذلك ويعنون به اتفق البخاري ومسلم واتفاق الأئمة أيضا حاصل على ذلك لما تقدم من تلقيهم لها بالقبول كذا قاله البقاعي.

واعلم أنك قد عرفت مما أسلفناه في وجوب ترجيح البخاري أن شرطه أخص من شرط مسلم لأنه يشترط اللقاء ومسلم يكتفي بشرط المعاصرة مع إمكان اللقاء وكل من ثبت له اللقاء ثبتت له المعاصرة وليس كل ممن ثبتت له المعاصرة يثبت له اللقاء فرجح البخاري بخصوصية شرطه أي كان ذلك من المرجحات ووجود الأعم في ضمن الأخص ضروري فكل راو للبخاري قد حصل فيه شرط مسلم ضرورة وجود الأعم في الأخص وليس كل راو لمسلم يحصل فيه شرط البخاري الأخص وقد عرفناك أن هذا الشرط إنما هو فيما يروى بالعنعنة لا في غيره.

فعلى هذا يحسن أن يقال وإنه تقدم رواية البخاري على مسلم فيما يرويانه بالعنعنة لا مطلقا فقد أسلفنا لك في وجهوه الترجيح التي ذكرها ابن حجر مرجحات للبخاري مطلقا ما لا يتم به مدعاهم فتذكر هذا باعتبار

أصل شرطهما لا باعتبار ما اتفقا عليه فانضمام مسلم في روايته إلى البخاري لم يأت بزيادة تقوى رواية البخاري وإنما القوة حصلت من حيث إنه صار للحديث راويان البخاري ومسلم إذ قد اشتركا في رواية الحديث من أول رجاله إلى آخرهم ومن حيث إنه وجد في الرواية الشرط

ص: 86

الأخص إذ الغرض فيمن اتفقا عليه أنهم رواة البخاري الذين قيهم الشرط الأخص هذا إن أريد بالاتفاق ما ذكروا وإن أريد أنهما اتفقا على صحابيه فقط دون رجاله فليحقق المراد من مرادهم ثم المارد بما اتفقا عليه ما اتفقا على إخراج إسناده ومتنه معا وهذا عند جمهور المحدثين إلا عند الجوز في فإنه يعد المتن إذا اتفقا على إخراجه ولو من حديث صحابيين حديثا واحدا كما إذا أخرج البخاري المتن من حديث أبي هريرة وأخرجه مسلم من طريق أنس.

واعلم أنه تبع المصنف الزين وهو تبع ابن الصلاح في جعل أعلى أقسام الصحيح ما اتفقا عليه واعترض بأن الأولى أن يكون القسم الأول هو ما بلغ مبلغ التواتر أو قاربه في الشهرة والاستفاضة وأجاب الحافظ ابن حجر بأنا لا نعرف حديثا وصف بكونه متواترا ليس أصله في الصحيحين أو أحدهما.

قلت: ولا يخفي ما في جواب الحافظ ابن حجر فإنه لو سلم أن كل متواتر في الصحيحين فلا خفاء في أنه أرفع رتب الصحة وحينئذ فالمتعين أن يقال إلى المراتب في الصحة ما تواتر في الصحيحين من أحاديثهما ولك أن تقول الكلام إنما هو الصحيح من الحديث الأحادي فإن التدوين له وكذا في شرائطه وأما المتواتر فلا مدخل للبحث عنه هنا.

ثم قال الحافظ: والحق أن يقال:

إن القسم الأول وهو ما اتفقا عليه يتفرع فروعا:

أحدها: ما وصف بكونه متواترا.

ويليه: ما كان مشهورا كثير الطرق.

ويليهما: ما وافقهما عليه الأئمة الذين التزموا الصحة على تخريجه الذين أخرجوا السنن والذين انتقوا المسند.

ويليه: ما وافقهما عليه بعض من ذكره.

ويليه: ما انفرد بتخريجه.

فهذه أنواع للقسم الأول- وهو ما اتفقا عليه- إذ يصدق على كل منها أنهما اتفقا على تخريجه.

ثم قال: فائدتان:

إحداهما: إن اتفاقهما على التخريج عن راو من الرواة يزيده قوة، فحينئذ ما يأتي،

ص: 87

من رواية ذلك الراوي الذي اتفقا على التخريج عنه أقوى مما يأتي من رواية من انفرد.

أحدهما: أي بالرواية عنه.

والثانية: أن الإسناد الذي اتفقا على تخريجه يكون متنه أقوى من الإسناد الذي انفرد به أحدهما.

ومن هنا يتبين أن فائدة المتفق إنما تظهر فيما إذا أخرجا الحديث من حديث صحابي واحد، وفيه إشارة إلى خلاف الجوزقي كما قدمنا.

ثم قال: بعم قد يكون في ذلك الحديث أيضا قوة من جهة أخرى، وهو أن المتن الذي تعددت طرقه أقوى من المتن الذي ليس اه إلا طريق واحدة، والذي يظهر من هذا أنه لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي، بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد، إذا لم يكن فردا غريبا، أقوى مما أخرجه أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه الآخر، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من صحابي واحد فردا غريبا، فيكون ذلك أقوى. انتهى كلامه.

"والثاني" من الأقسام السبعة "ما أخرجه البخاري" منفردا به.

"والثالث" منها "ما أخرجه مسلم" منفردا به، فيقدم ما انفرد به البخاري على ما انفرد به مسلم.

قال الحافظ ابن حجر: هذه الأقسام للصحيح التي ذكرها المصنف- يريد ابن صلاح- ماشية على قواعد الأئمة ومحققي النقاد، إلا أنها قد تطرد لأن الحديث الذي انفرد به مسلم مثلا إذا فرض مجيئه من طرق كثيرة حتى يباغ التواتر أو الشهرة القوية أو يوافقه على تخريجه مشترطوا الصحة مثلا ى يقال فيه إن ما انفرد البخاري بتخريجه إذا كان فردا ليس له إلا مخرج واحد أقوى من ذلك، فليحمل إطلاق ما ذكر على الأغلب.

قلت: أو يقال مرادهم أن ما انفرد به مسلم أو انفرد به البخاري مقيد بقيد الحيثية أي ما انفرد به مسلم من حيث انفراده دون ما انفرد به البخاري من تلك الحيثية فلا ينافي تقديم ما انفرد به مسلم من حيثية أخرى.

"والرابع" من الأقسام "ما هو على شرطهما" أي الشيخين ولم يخرجه واحد منهما وإلا لكان من القسم الثاني.

واعلم أنه قد قال ابن الهمام في شرح الهداية من قال أصح الأحاديث ما في

ص: 88

الصحيحين ثم ما اشتمل على شرط أحدهما تحكم لا يجوز التقليد فيه إذا الأصحية ليست إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها فإذا وجدت تلك الشروط في رواة حديث في غير الكتابين أفلا يكون الحكم بأصحية ما في الكتابين عين التحكم. اهـ.

قلت: قد يجاب بأن ما أخرجاه ونصا على رواته يعلم أنهما قد ارتضيا رواته وأما ما كان على شرطهما فإنه لم يتم دليل على تعيين شرطهما بل أئمة الحديث تتبعوا شرائط في الرواة وقالوا هي شرط الشيخين ولم يتفقوا على ذلك بل رد بعضهم على بعض كما سنعرفه فالحديث الذي يقال فيه على شرطهما لا يفيد إلا ظنا ضعيفا أنه على شرطهما لعدم تصريحهما بشرطهما بخلاف من رويا عنه في كتابيهما فإنه يحصل الظن بأنهما قد ارتضياه وإن قدح في بعض رجالهما والأغلب عدم ذلك والحكم للأغلب عند الظن نعم إذا روي حديث بنفس رجالهما من غير نقص فله حكم ما فيهما.

"والخامس ما هو على شرط البخاري" فيقدم.

"والسادس ما هو على شرط مسلم" كما قدم ما انفرد بإخراجه والعلة العلة.

"والسابع ما هو صحيح عند غيرهما" أي غير الشيخين "من الأئمة المعتمدين وليس على شرط واحد منهما".

هذا التقسيم هو المعروف في كتب علوم الحديث وفائدة هذا التقسيم تظهر عند الترجيح هذا وأما الحاكم أبو عبد الله فإنه قسم الصحيح عشرة أقسام خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها ذكره ابن الأثير:

الأول من المتفق عليه: اختيار الشيخين وهو الدرجة العليا من الحديث وهو الحديث الذي يرويه الصحابي المعروف بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان تثقان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور وله رواة من الطبقة الرابعة ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظا متقنا مشهورا بالعدالة في روايته فهذه الدرجة العليا من الصحيح والأحاديث المروية بهذه الشرطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف.

الثاني من المتفق عليه: الحديث الذي ينقله العدل عن العدل فيرويه الثقات الحفاظ إلى الصحابي وليس لهذا الصحابي غلا راو واحد مثل حديث عورة ابن مدرس الطائي،

ص: 89

قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المزدلفة فقلت: يا رسول الله أتيتك من جبل طي أكلل فرسي وأتعبت مطيتي والله ما تركت من جبل إلا وقد وقفت عليه

الحديث1 فهو حديث من أصول الشريعة منقول بين الفقهاء ورواته كلهم ثقات ولم يخرجه البخاري إذ ليس له راو عن عروة بن مدرس إلا الشعبي.

الثالث من المتفق عليه: إخبار جماعة من التابعين عن الصحابة ثقات إلا أنه ليس لكل واحد منهم إلا الراوي الواحد.

الرابع من المتفق عليه: الأحاديث الأفراد التي يرويها الثقات وليس لها طرق مخرجة في الكتب مثل حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يجيء رمضان"2 وقد أخرج مسلم أحاديث العلاء أكثرها في كتابه وترك هذا وأشباهه مما تفرد به العلاء عن أبيه عن أبي هريرة.

الخامس من المتفق عليه: أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم إلا عنهم كصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجده عبد الله بن عمرو ابن العاص ومثل بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وأحاديثهما على كثرتها محتج بها في كتب العلماء وليست في الصحيحين.

وأما الخمسة المختلف فيها:

فأولها المراسيل: فقد اختلف الأئمة في قبولها والعمل بها ويأتي كلام المصنف فيها.

الثاني من المختلف فيه: رواية المدلسين إذا لم يذكروا سماعهم في الرواية فيقولون قال فلان ممن هو معاصرهم رواه أو لم يروه ولا يكون لهم فيه سماع ولا إجازة ولا طريق من طرق الرواية وأنواع التدليس كثيرة وسيأتي ذكرها.

الثالث من المختلف فيه: خبر يرويه ثقة من الثقات عن إمام من أئمة المسلمين بسنده ثم يرويه عنه جماعة من الثقات فيرسلون وهذا القسم كثير وهو صحيح على مذهب الفقهاء والقول فيه عندهم قول من زاد في الإسناد أو المتن إذا كان ثقة وأما أهل الحديث فالقول عندهم فيه قول الجمهور الذين وثقوه وأرسلوه لما يخشى من

1 ا [وداةد في: المناسك: ب "28"، والترمذي في: الحج ب "57"، والنسائي في: المناسك: ب "211"، والدارمي في: المناسك: ب "54"، وأحمد "4/261".

2 أبو داود "2337"، والبيهقي "4/209".

ص: 90

الوهم على الواحد.

والرابع من المختلف فيه: رواية محدث صحيح السماع صحيح الكتاب معروف بالرواية ظاهر العدالة غير أنه لا يعرف ما يحدث به ولا يحفظه.

قال الحاكم: كأكثر محدثي زماننا هذا وهو محتج به عند أكثر أهل الحديث وجماعة من الفقهاء فأما أبو حنيفة ومالك فلا يريان الاحتجاج به.

الخامس من المختلف فيه: روايات المبتدعة وأصحاب الأهواء وهي عند أكثر أهل الحديث مقبولة إذا كانوا فيها صادقين.

وكان أبو بكر محمد ابن اسحق بن خزيمة يقول حدثني الصدوق في روايته المتهم في دينه وفي البخاري جماعة من هؤلاء وأما مالك فإنه كان يقول لا يؤخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم أنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الحاكم: هذه وجوه الصحيح المتفقة والمختلفة قد ذكرناها لئلا يتوهم متوهم أنه ليس يصح من الحديث إلا ما أخرجه البخاري ومسلم انتهى منقولا من مقدمات جامع الأصول وصوبه صاحب جامع الأصول وبني على ما قاله من شرط الشيخين وأطال في ذلك بما هو معروف.

وخالفه الحافظ ابن حجر فتعقب كلام الحاكم فقال بعد نقل معناه لولا أن جماعة من المصنفين كالمجد ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول تلقوا كلامه أي الحاكم بالقبول لقلة اهتمامهم بمعرفة هذا الشأن واسترواحهم إلى تقليد المتقدم دون البحث والنظر لأعرضت عن تعقب كلامه هذا فإن حكايته خاصة تغني اللبيب الحاذق فأقول أما القسم الأول الذي ادعى أنه شرط الشيخين فمتقوض بأنهما لم يشترطا ذلك ولا يقتضيه تصرفهما وهو ظاهر بين لمن نظر في كتابيهما.

وأما ما زعمه بأنه ليس في الصحيحين شيء من رواية صحابي ليس له إلا راو واحد فمردود بأن البخاري أخرج حديث مذكورة في أثناء الكتاب.

وأما قوله إنه ليس في الصحيحين من رواية تابعي ليس له إلا راو واحد فمردود أيضا بما أخرج البخاري عن الزهري عن عمر بن محمد بن جبير بن مطعم ولم يروه عنه الزهري في أمثلة قليلة.

ص: 91

وأما قوله: إن الغرائب الأفراد ليس في الصحيحين منها شيء فليس كذلك بل فيهما قدر مائتي حديث قد جمعها الحافظ ضياء الدين المقدسي في جزء مفرد.

وأما قوله: ليس فيهما من روايات من روي عن أبيه عن جده، مع تفرد الابن بذلك عن أبيه فمنتقض برواية سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده برواية عبد الله ابن محمد بن علي عن أبيهما عن علي وغير ذلك ومن ذلكما تفرد به بعضهم وهو في الصحيحين أو أحدهما.

وأما الأقسام الخمسة التي ذكر أنه مختلف فيها وليس في الصحيحين منها شيء فالأول كما قال نعم قد يخرجان منه في الشواهد وفي الثاني: نظر يعرف من كلامنا في التدليس.

وأما ما اختلفا في إرساله ووصله بين الثقات ففي الصحيحين منه جملة وقد تعقب الدارقطني بعضه في التتبع له وأجبنا عن أكثره.

وأما روايات الثقات غير الحفاظ ففي الصحيحين منه جملة أيضا لكنه حيث يقع مثل ذلك عندهما يكونان قد أخرجا له أصلا يقويه.

وأما روايات المبتدعة إذا كانوا صادقين ففي الصحيحين عن خلق كثير من ذلك لكنهم من غير الدعاة ولا الغلاة وأكثر ما يخرجان من هذا القسم في غير الأحكام نعم قد أخرجا لبعض الدعاة والغلاة كعمران بن حطان وعباد بن يعقوب وغيرهما إلا أنهما لم يخرجا لأحد منهم إلا ما توبع عليه وقد فات الحاكم من الأقسام المختلف فيها قسم نبه عليه القاضي عياض وهو رواية المستورين فإن روايتهم مما اختلف في قبولها وردها ولكن يمكن الجواب عن الحاكم في ذلك تلقي حديثهم اسم الصحة عليه بل الذين قبلوه جعلوه من قسم الحسن بشرطين:

أحدهما: أن لا تكون روايتهم شاذة.

وثانيهما: أن يوافقهم غيرهم على رواية ما رووه فقبولها حينئذ إنما هو باعتبار المجموعية كما قرر في الحسن. انتهى.

"قلت: والوجه في هذا" أي في تقديم ما انفق الشيخان عليه إلى آخر الأقسام السبعة أي دليل على ما ذهبوا إليه من الحكم بالصحة للأقسام السبعة وعلى ترتبيها المذكور "عند أهل الحديث: هو تلقي الأمة للصحيحين بالقبول ولا شك أنه" أي التلقي

ص: 92

من الأمة بالقبول للصحيحين "وجه ترجيح".

اعلم أن معنى تلقي الأمة للحديث بالقبول هو أن تكون الأمة بين عامل بالحديث ومتأول له كما في غاية السول وغيرها من كتب الأصول وهذا التلقي لأحاديث الصحيحين يحتاج مدعيه في إثبات هذه الدعوى إلى دليل فتقول هذه الدعوى تحتاج إلى استفسار عن طرفيها هل المراد كل الأمة من خاصة وعامة كما هو ظاهر الإطلاق أو المجتهدون من الأمة وهو معلوم بأن الأول غير مراد فالمراد الثاني: وهو دعوى أن كل فرد فرد من مجتهدي الأمة تلقي الكتابين بالقبول ولا بد مت إقامة البينة على هذه الدعوى ولا يخفي أن إقامته عليها من المتعذرات عادة كإقامة البينة على دعوى الإجماع فإن هذا فرد من أفراده.

وقد جزم أحمد ابن حنبل وغيره بأن من ادعى الإجماع فهو كاذب وإذا كان هذا في عصره قبل عصر تأليف الصحيحين فكيف بعده مع أن هذا الإجماع بتلقي الأمة لها لا يتم إلا بعد عصر تأليفهما بزمان حتى ينتشروا يبلغا مشارق الأرض ومعاربها وينزلا حيث نزل كل مجتهد مع أنه يغلب في الظن أن في العلماء المجتهدين من لا يعرف الصحيحين فإن معرفتهما بخصوصهما ليست شرطا في الاجتهاد قطعا ولاحاصل منع هذه الدعوى.

ثم إن سلمت هذه الدعوى في هذا الطرق ورد سؤال الاستفسار عن الطرق الثاني: وهو هل المراد من تلقي الأمة لهذين الكتابين الجليلين معرفة الأمة بأنهما تأليف الإمامين الحافظين فهذا لا يفيد إلا صحة الحكم بنسبتهما إلى مؤلفيهما ولا يفيد المطلوب أو المراد تلقيها لك فرد فرد من أفراد أحاديثهما بأنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو المفيد للمطلوب إذا هو الذي رتب عليه الاتفاق على تعديل روايتهما إذا التلقي بالقبول هو ما حكم المعصوم بصحته ضمنا كما رسمه المصنف في كتبه وهو يلاقي معنى ما أسلفناه عن الأصوليين من أنه ما كانت الأمة بين متأول له وعامل به، إذ لا يكون ذلك إلا بما صح لهم ولكن هذه الدعوى لا يخفي عدم تسليمها في كل حديث من أحاديث الصحيحين غيرما استثنى إذ المعصوم هو الأمة جميعا أو مجتهدوها ولا يتم أن كل حديث حكم المعصوم بصحته ضمنا إذا ذلك فرع إطلاع كل فرد من أفراد المجتهدين على كل فرد من أفراد أحاديث الكتابين.

على أن التحقيق أن الأمة إنما عصمت عن الضلالة لا عن الخطأ كما قررناه في

ص: 93

الدراية حواشي شرح الغاية فحكم الأمة بصحة حديث من الأحاديث الأحادية وهو غير صحيح في نفس الأمر ليس بضلالة قطعا.

ولئن سلمنا أن مجتهدي الأمة كلهم تلقوا أحاديث الصحيحين بالقبول وصاروا بين عامل بكل فرد من أحاديثهما ومتأول فإنه لا يدل ذلك على المدعى وهو الصحة لأن الحسن يعمل ويتأول فلي التلقي بالقبول خاصا بالصحيح فقول المصنف إن التلقي بالقبول حكم من المعصوم بصحته ضمنا لا يتم إلا إذا لم يعمل المعصوم بالحسن ولا يتأوله والمعلوم خلافه ولئن سلم ما ادعاه المصنف ومن سبقه ووجه دعواهم ثم ذلك وجها لأحاديث الصحيحين لا غير لا لما هو على شرطهما إذ لا شرط لهما مقطوع به كم ستعرفه حتى يشمله التلقي بالقبول ولا يشمل ذلك الوجه القسم السابع وهو ما صححه إمام من الأئمة لاختصاص التلقي بالصحيحين ثم إذا كان وجه أرجحتهما هو التلقي المذكور فهما متلقيان على السوية فلا وجه لجعل ما اتفقا عليه مقدما على ما إذا انفرد كل واحد منهما ولا يجعل ما انفرد به البخاري أرجح من حيثية التلقي لاستواء الجميع فيه إذا عرفت ما في هذا الاستدلال على تقدم الصحيحين هو إخبار مؤلفيهما بأن أحاديثهما صحيحة وقد علم أنهما عدلان بلا ريب وخبر العدل واجب القبول فقول البخاري هذه أحاديث صحيحة بمثابة قوله رواة هذه الأحاديث عدول ضابطون ولا شذوذ فيها ولا علة وحينئذ فيجب قبول خبره كما يقبل تعديله للمجهول، وإخباره بضبطه وخلوص الحديث عن العلة والشذوذ لأن لفظ صحيح متكفل بهذه المعاني كما قررناه في رسالتنا إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد تقريرا بليغا وقال المصنف في العواصم إن الثقة العارف إذا قال إن الحديث صحيح عنده وجزم بذلك وجب قبوله بالأدلة العقلية والسمعية الدالة على قبول خبر الواحد ولم يكن ذلك تقليدا له ولعله يأتي.

وأما أنهما أصح من غيرهما فقد يستأنس له بما علم من تحريهما في الرجال وعدم التساهل في ذلك بحال إلا أنه ليس حكما على كل حديث حديث بل حكم على الأغلب وقد بحثنا في استدلالهم بتلقي الأمة للصحيحين بالقبول بقريب مما هنا في رسالتنا ثمرات النظر في علم الأثر.

"وقد اختلف هل يفيد" أي تلقي الأمة للصحيحين بالقبول "القطع بالصحة" لما

ص: 94

فيهما "كما سيأتي" في مسألة حكم الصحيحين "فأما قوة الظن فلا شك فيها" أي في إفادته لها "وإن لم يسلم لهم" أي للمحدثين "إجماع الأمة" لأن دعواهم تلقي الأمة بالقبول يتضمن إجماعها "فلا شك في إجماع جماهير النقاد من حفاظ الأثر وأئمة الحديث على ذلك والترجيح يقع بأقل من ذلك على ما يعرفه من له أنس بعلم الأصول" هو كما قال إلا أنه خروج عن دعوى تلقي الأمة المتضمن للصحة كما قرره ورجوع إلى أن حديث الصحيحين أرجح من غيره من الصحيح.

وكأنه يقول المصنف إذا لم يتم التلقي بالقبول ثم الترجيح وعلى التقديرين فأحاديث الصحيحين أرجح من غيرها من جهة الصحة.

"واعلم أن هذا الفصل يشتمل على أمرين أحدهما أن ما في البخاري ومسلم من الحديث المسند صحيح متلقي بالقبول من الأئمة" لا يخفي أنه كان يكفي هذا عن قوله صحيح لن التلقي يتضمن الصحة بل هو دليلها "وذلك هو الظاهر فقد ذكر صحتهما المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "في كتابه العقد الثمين وفي غيره وذكر الأمير الحسين" أي ابن محمد مؤلف كتاب شفاء الأوام "صحيح البخاري في كتابه الشفاء بلفظ الصحيح" وكذلك الزمخشري في الكشاف ذكره بلفظ الصحيح في العواصم للمصنف أن الزمخشري ذكر صحيح مسلم بلفظ الصحيح فينظر هل ذكر فيه البخاري أيضا كما هنا إلا أنه قد يقال إن ذكر من ذكرهما بلفظ الصحيح لا يدل على أنه قائل بصحتهما بالمعنى المراد هنا وذلك لأن لفظ الصحيح قد صار لقبالهما في العرف فإنه لا اسم لها إلا الصحيح البخاري وصحيح مسلم ثم إنه استدل بأنه ذكرهما من ذكر بلفظ الصحيح وليس من ذكر كل الأمة وكأنه يريد الاستدلال على قول الزيدية بصحتهما لا على قول الأمة إذ قد علم أن من عدا الزيدية قائل بصحتهما وإنما الحاجة إلى بيان أنهم قائلون أيضا بصحتهما فذكر منهم المنصور بالله والأمير الحسين إلا أنه لا يناسبه ذكر الزمخشري إذ ليس من الزيدية وإن وافقهم في بعض قواعد المعتزلة ثم ذكر جماعة من الزيدية بقوله "ونقل عنهما وعن غيرهما" أي عن غير الصحيحين ولا حاجة إلى ذكره إذ الكلام في الصحيحين "المصنفون" من الزيدية "كالمتوكل على الله" هو الإمام أحمد بن سليمان في كتابه أصول الأحكام "والأمير الحسين في شفاء الأوام ولم يزل العلماء" من الزيدية "يحتجون بما فيهما قال المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "في المهذب ولم يزل أهل التحصيل" يريد من

ص: 95

الزيدية لقوله "يحتجون بأحاديث المخالفين لهم في الاعتقاد" في المسائل الأصولية كخلق الأفعال والإمامة والرؤية ونحوها "بغير مناكرة" لعل هذا آخر كلامه.

ثم استأنف المصنف فقال: "وهذه" يعني أحاديث الصحيحين إذ الكلام فيها "أصح أحاديث المخالفين بغير مناكرة وقد استمر ذلك" أي استدلال أهل التحصيل بأحاديث المخالفين في الاعتقاد "وشاع وذاع ولم ينقل عن أحد فيه نكير وهذه" أي صورة الاستدلال الشائع الذائع الذي لم ينكره أحد "طريق من طرق الإجماع السكوتي" إذ حقيقته عند أئمة الأصول أن يقول المجتهد قولا أو يفعل وينتشر ويعلم به الباقون من المجتهدين ولا ينكرونه ويعلم أن سكوتهم رضا بقوله أوفعله وهذه صورة ثم هذا مبني على أن الإجماع السكوتي هنا حجة شرعية وقد بحثنا في ذلك في الدراية على الغاية والهداية وحققنا ما في القول بحجيته.

"بل هذه أكثر طرق الإجماع المحتج به بين العلماء" فإن غاية ما يقوله الباحثون والمدعون للإجماع إنه قيل هذا القول أو فعل هذا الفعل ولم ينكره أحد فكان إجماعا وأما الإجماع المحقق وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على قول في عصر بعده فقد قال أحمد بن حنبل من ادعاه فهو كاذب وذهب إلى إحالته جماعة من أئمة الأصول فلذا قال المصنف إن الإجماع السكوتي أكثر طرق الإجماع "وهذا" أي ما ذكر من استدلال أهل التحصيل إلى آخره "في ديار الزيدية" إلا أنه لا يخفي أنه قد يقال إنه لا يتم دعوى الإجماع المذكور لأن قبول أخبار المخالفين في الاعتقاد هي مسألة قبول كفار التأويل وفساقه وسيأتي أنها مسألة خلافية.

وقد تكرر أنه لا نكير في الخلافيات وحينئذ فالسكوت على ذلك وعدم النكير لكون المسألة خلافية لا أنه للرضا من الساكت حتى يكون هذا من الإجماع السكوتي فالحق أن هذا الاستدلال المذكور بأحاديث المخالفين فرع عن قبول كفار التأويل وفساقه فاستدلال من ذكر بأحاديثهم دليل على قبولهم وسيأتي دعوى الإجماع على ذلك وتحقيق المسألة إن شاء الله تعالى.

"فأما بلاد الشافعية وغيرهم من الفقهاء" أتباع مالك وأبي حنيفة وأحمد "فلا شك في ذلك وقد أشرت إلى ذلك في العواصم وبينت أكثر من هذا فليطالع هنا لك" قال فيها والظاهر بن إجماع أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم القول بما قاله الفقهاء من صحة هذه الكتب إلا ما ظهر القدح فيه وإنما قلنا إن الظاهر إجماعهم على ذلك لأن

ص: 96

الاحتجاج بصحيح ما في هذه الكتب ظاهر في مصنفاتهم شائع في بلادهم ثم ذكر نقل الإمام أحمد بن سليمان والأمير الحسين وعبد الله بن حمزة وأنه إجماع سكوتي ثم قال وأقصى ما في الباب أن ينقل إنكار ذلك عن بعض العلماء في بعض الأعصار فذلك النقل في نفسه ظني نادر واعتبار القدح بالظني النادر في عصر مخصوص لا يقدح في إجماع أهل عصر آخر وذكر مثل ما هنا.

وأيما أطال هنا لك في قول أبي نصر الوائلي السجزي حيث قال أجمع أهل العلم والقدماء وغيرهم أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في البخاري مما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صح عنه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا شك فيه أنه لا يحنث ولامرأة بحالها في حبالته فقال المصنف في العواصم بعد نقله الظاهر إجماعهم على ذاك وإجماع غيرهم لأن المعروف في كتب الفقه أن من حلف بالطلاق على صحة أمر وهو يظن صحته ولم ينكشف بطلانه لم يحنث لأن الأصل بقاء الزوجية ولا تطلق بمجرد الاحتمال المرجوح كما لو ظن في طائر أنه غراب فحلف بالطلاق أنه غراب ثم غاب عن يصره ولم يتمكن من أخذ اليقين في ذلك فإن زوجته لا تطلق انتهى.

ثم ذكر في هذا المحل أربعة عشر بحثا إلا أنه لا تعلق لها بما نحن فيه.

"وأما الأمر الثاني: وهو أن البخاري ومسلما أصح كتب الحديث فهذا مما لا يوجد للزيدية فيه نص والظاهر من مذهبنا أن رواية أئمتنا" في العلم "إذا تسلسل إسنادها بهم" يأتي تفسير المسلسل "ولم يكن بينهم من هو دونهم أنها أصح الأسانيد مطلقا" لم يستدل المصنف لهذا الظاهر وقد قال الإمام عبد الله ابن حمزة مشيرا إلى هذا:

كم بين قولي عن أبي عن جده

وأبي أبي فهو الإمام الهادي

وفتى يقول روي لنا أشياخنا

ما ذلك الإسناد من إسناد

"ولكنه يقل وجودها على هذه الصفة" حتى إنه ذكر المصنف في إيثار الحق وغيره أنه ليس في كتاب الأحكام للإمام الهادي إمام مذهب الزيدية حديث مسلسل بآبائه إلا حديثا واحدا وهو قوله حدثني أبي وعماي محمد والحسن عن أيها القسم بن إبراهيم عن أبيه عن جده إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جده الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "يا علي يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به يقال لهم الرافضة إن أدركتهم فاقتلهم قتلهم الله إنهم

ص: 97

مشركون1. انتهى بلفظه من الأحكام فلذا قال المصنف إنه يقل وجود الأحاديث بهذه الصفة لأهل مذهبه.

واعلم أن قول المصنف مذهبنا وأصحابنا جريا على المألوف وإلا فإنه لا يعنزي إلى فريق في مذهبه كما أشار إليه في أبياته الدالية ومنها:

والكل إخوان ودين واحد

كل مصيب في الفروع ومهتدي

هذي الفروع وفي العقدية مذهبي

ما لا يخاف فيه كل موحد

"وأما كتب الحديث في أنفسها فلعل أصحابنا لا يخالفون في أن أصحها البخاري ومسلم لغزة شرطهما وما فيه" أي شرطهما "من التحري والاحتياط" ولما تكرر من المصنف ذكر شرطهما في تقسيم الصحيح وهنا توجه عليه ذكر شرطهما فقال: "وقد اختلف المحدثون في تفسير شرط البخاري ومسلم" اعلم أنه لم ينقل عن الشيخين شرط شرطاه وعيناه إنما تتبع العلماء الباحثون عن أساليبهما وطريقتهما حتى تحصل لهم ما ظنوه شروطا لها ولذا اختلفوا فيه لاختلاف أفهامهم فيها فإنهم اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:

الأول: ما أفاده قوله: "فقال محمد بن طاهر2" المقدسي "في كتابه في شروط الأئمة: شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلته" أي عدالة وضبطا "إلى الصحابي المشهور" فيه دليل على أنه يرى أن شرط الشيخين متحد وأنه شيء واحد قلت: ولا يخفي أنه لا يوافق ما سلف من تقسيم الصحيح ومن قولهم ثم ما على شرط البخاري ثم ما على شرط مسلم.

"قال زين الدين: وليس مما قاله ابن طاهر بجيد" حيث قال: المجمع على ثقة نقلته فإنه غير صحيح "لأن النسائي ضعف جماعة أخرج لهم الشيخان أو أحدهما" فلم تتم دعوى ابن طاهر أن رواتهما مجمع على ثقتهم.

"قلت: ما هذا" أي تضعيف جماعة من رواة الشيخين "مما اختص به النسائي بل شاركه في ذلك غير واحد من أئمة الجرح والتعديل كما هو معروف في كتب هذا

1 الحلية 4/95 والعلل 1/160، وابن أبي عاصم 2/475.

2 محمد بن طاهر المقدسي الحافظ العالم الجوال قال ابن منده: كان أحد الحفاظ حسن الاعتقاد جميل الطريقة كثير التصانيف لازما للأثر مات سنة 507. له ترجمة في: العبر 4/14. وتذكرة الحفاظ 4/1242.

ص: 98

الشأن" كأنه لم يرد الزين إلا التمثيل وإلا فإنه لا يخفى على مثله أن غير النسائي قدح في جماعة من رواتهما "ولكنه" أي ما ضعف به من قدح فيه من رواتهما "تضعيف مطلق" فسر المطلق بقوله "غير مبين السبب" فهو وصف كاشف "وهو غير مقبول على الصحيح كما سيأتي بيان ذلك في موضعه من هذا المختصر" سيأتي للمصنف رحمه الله تعالى في مراتب الجرح في الفائدة السادسة أن الجرح الذي لم يبين سببه غير مفيد للجرح ولكن يوجب الريبة والوقف في غير المشاهير بالعدالة والأمانة فلا يؤثر فيهم ولا مفتر بأن الجرح مقدم على التعديل فذاك الجرح المبين للسبب انتهى.

قلت: إلا أنه لا يخفى أنه ليس كل من جرح من رجال الصحيحين جرحه مطلق مطلقا بل فيهم جماعة جرحوا جرحا مبين السبب منهم من جرح بالإرجاء كأيوب بن عائد بن مفلح أخرج له الشيخان قال النسائي وأبو داود كان مرجئا وقال غيرهما كان يرى الإرجاء إلا أنه صدوق وبالنصب فإنه أخرج البخاري لثور بن يزيد الحمصي وكان يرمي بالنصب قال ابن معين كان يجالس قوما ينالون من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لكنه كان لا يسب وأخرج البخاري لجرير بن عثمان الحمصي قال الفلاس كان يبغض عليا قال الحافظ بن حجر جاء عنه ذلك من غير وجه وجاء عنه خلاف ذلك روي عنه أنه تاب.

وبالتشيع أخرج البخاري عن خالد القطواني قال ابن سعد كان متشيعا مفرطا وبالقدر أخرج لهشام بن عبد الله الدستوائي كان حجة ثقة إلا أنه كان يرمي بالقدر قاله محمد بن سعيد وفيهم عوالم ممن رمي ببدعة وقد سقنا في ثمرات النظر جماعة من ذلك.

وقد أخذوا السلامة من البدعة في رسم العدالة فالبدعة قادحة عندهم فيها وفيهم من هو داعية إلى بدعته حتى بالغ ابن القطان وقال في رجالهما من لا يعرف إسلامه نقله عن العلامة المقبلي وإن كنا لا نرى هذا إلا من العلو فأنه من المعلوم أنه لا يروى أئمة الحديث عن غير مسلم على أنه لو سلم للمصنف أنه ليس في رجالهما إلا من جرح جرحا مطلقا فإنه قال إنه يوجب الريبة والتوقف وهذا كاف يما تعقب به زين الدين ابن طاهر حيث قال إن شرطهما أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلت: هـ إذ الثقة لا يتوقف في قبول روايته لسلامته عن الجرح مطلقا مفسرا فقول المصنف وهو أي التضعيف المطلق غير مقبول على الصحيح خلاف يأتي

ص: 99

له من أنه يقتضي الريبة والتوقف لا أنه يجزم بعدم القبول له كما هنا.

القول الثاني: مما قيل إنه شرط الشيخين ما أفاده قوله "قال الحازمي" كما نقله عنه زين الدين "في شروط الأئمة ما حاصله إن شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمن أخفوا عنه ملازمة طويلة" هذا لا يوافق ما نقل عن البخاري من أنه يشترط اللقاء ولو مرة بل هذا يدل على أنه إنما يكتفي بالمرة في حق أهل الطبقة الثانية الذين أشار إليهم بقوله: "وأنه قد يخرج أحيانا عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه فلم يلازموه إلا ملازمة يسيرة وأن شرط مسلم" عطف على قوله أن شرط البخاري "أن يخرج أحاديث هذه الطبقة الثانية" لا يخفي أن مسلما لا يشترط اللقاء أصلا كما صرح به في مقدمة صحيحة كما يأتي لفظه.

وأهل هذه الطبقة يشترط فيهم اللقاء ولو يسيرا كما عرفت فإن أريد أن مسلما قد يخرج لأهل هذه الطبقة فنعم ويخرج لأهل الأولى وهم على شرطه وزيادة وليسوا شرطه إلا أن يريد هنا تخريجه بغير العنعنة إذ هي التي لا يشترط فيها اللقاء فلا بأس لكن كان عليه أن يصرح بذلك هنا.

"وقد يخرج مسلم أحاديث من لم يسلم عن غوائل الجرح إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه كحماد بن سلمة في ثابت اللبناني وأيوب" قال الذهبي في الميزان احتج مسلم بحماد بن سلمة في أحاديث عدة في الأصول وتحايده البخاري قال الحاكم: في المدخل ما خرج مسلم لحماد بن سلمة في الأصول إلا في حديثه عن ثابت قال الذهبي وحماد إمام جليل مفتي أهل البصرة مع اسحق ابن أبي عروبة انتهى ولم يذكر فيه جرحا إلا أنه ساق عنه أحاديث فيها نكارة.

"قال زين الدين: هذا حاصل كلام الحازمي" ونقل النووي في شرح مسلم عن ابن الصلاح أن شرط مسلم في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما عن الشذوذ والعلة.

وقال النووي أيضا ذكر مسلم في أول مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما رواه الحفاظ المتقنون.

والثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الإتقان والحفظ.

والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون.

ص: 100

وأنه إذا فرغ من هذا القسم الأول أتبعه الثاني: وأما الثالث: فلا يعرج عليه فاختلف العلماء في مراده بهذا التقسيم فقال الإمامان الحافظان أبو عبد الله الحاكم وصاحبه أبو بكر البيهقي1 إن المنية اخترمت مسلما قبل إخراج القسم الثاني: وإنما ذكر القسم الأول.

قال القاضي عياض وهذا مما قبله الشيوخ والناس من الحاكم أبي عبد الله وتابعوه عليه قال القاضي وليس الأمر على ذلك لمن حقق نظره ولم يتقيد بالتقليد فإنك إذا نظرت في تقسيم مسلم في كتابه الحديث على ثلاث طبقات من الناس كما قال فذكر أن القسم الأول حيث الحفاظ وإنه إذ انقضى أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق والإتقان مع كونهم من أهل الستر والصدق وتعاطي العلم ثم أشار إلى ترك حديث من أجمع العلماء أو اتفق الأكثر منهم على تهمته وبقي من ذكره بعضهم وصححه بعضهم فلم يذكره هنا ووجدته ذكر في كتابه حديث الطبقتين الأوليين بالأسانيد الثابتة عنهما بطريق الاتباع للأولى والاستشهاد وحيث لم يجد في الباب من الأولى شيئا ذكر أقواما تكلم فيهم قوم وزكاهم آخرون وخرج حديثهم ممن ضعف أوانهم ببدعة وكذا فعل البخاري فتبين أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر ورتبه في كتابه وبينه في تقسيمه وطرح الرابعة كما نص عليه.

قلت: وهي التي تأتي في عبارته بقوله وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثه.

والحاكم لم يذكر إلا ثلاث طبقات كما عرفت فالحاكم تأول أنه إنما أراد أن يفرد لكل طبقة كتابا ويأتي بأحاديثها خاصة مفردة وليس ذلك مراده بل إنما أراد ما ظهر في تأليفه وبأن من غرضه أن يجمع ذلك على الأبواب ويأتي بأحاديث الطبقتين فيبتدئ بالأولى ثم يأتي ب الثانية على طريق الاستشهاد والإتباع حتى يستوفي جميع الأقسام الثلاثة.

ويحتمل أن يكون أراد بالطبقات الثلاث الحفاظ ثم الذين يلونهم والثالثة هي التي

1 أبو بكر البيبهقي هو: الإمام الحافظ شيخ خراسان أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسر وجردى لزم الحاكم وتخرج به وأكثر عنه جدا وانفرد بالإتقان والضبط مات سنة 458. له ترجمة في: البداية والنهاية 12/94. والعبر 3/242. ووفيات الأعيان 1/20.

ص: 101

طرحها وكذلك علل الأحاديث التي ذكرها ووعد أنه يأتي بها وقد جاء بها في مواضعها من الأبواب من اختلافهم في الأسانيد كالإرسال والإسناد والزيادة والنقص وذكر تصاحيف المصحفين وهذا يدل على استيفائه غرضه في تأليفه وإدخاله في كتابه كل ماوعد به.

قال القاضي وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي من يفهم هذا الباب فما رأيت منصفا إلا صوبه وبان له ما ذكرت وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع الأبواب انتهى.

قلت: قد اضطرب1 العلماء في فهم مراد مسلم فلننقل لفظه ولنبين ما يفهمه.

قال مسلم في مقدمة صحيحه2 إنه يقسم الرواة على ثلاث طبقات من الناس:

أما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوه ولم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش ثم قال فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم فبلهم على أنهم وإن كانوا ممن وصفنا فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم ثم قال وأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فأنا لا نتشاغل بتخريج أحاديثهم ثم قال وكذلك من كان الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثه ثم قال أيضا فلسنا نصرح بتخريج حديثهم ولا نتشاغل به لأن حكم هؤلاء عند أهل العلم والذي يعرف من مذهبهم في قبول ما انفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رووا وأتقن في ذلك على الموافقة لهم انتهى جملة ما قاله بلفظه إلا حذف ما أتى به من تعداد رجال من أهل كل صنف.

إذا عرفت هذا فالذي عبارته أنه يخرج أحاديث أهل القسم الأول وهم أهل الاستقامة في الحديث والإتقان لما نقلوه وهؤلاء المعروفون بتمام الضبط المأخوذ قيدا في رسم الصحيح ثم يخرج أحاديث الصنف الثاني: وهم الذين خف

1 اضطرب: اختلف.

2 1/4- 5.

ص: 102

ضبطهم وهم من أهل الستر والصدق وتعاطي العلم وهؤلاء هم شرط الحسن فإنهم الذي خف ضبطهم مع عدالته ثم ذكر أنه يترك الصنفين الآخرين بالكلية وهما قسمان: الأول: المتهمون عند أهل الحديث أو عند الأكثر والثاني: من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط فإنه صرح بأنه لا يتشاغل بأهل هذين القسمين ولا يخرج أحاديثهم فعرفت أنه ذكر أنه قسم الرواة ثلاث طبقات وتحصل من كلامه أربع طبقات فكأنه جعل من لا يتشاغل بحديثه قسما واحدا وبعد تحقيقك لما ذكرناه تعرف أن قول القاضي إنه أتى مسلم بالطبقات الثلاث خلاف صريح قول مسلم بأنه لا يتشاغل بحديث المتهمين عند أهل الحديث أو عند الأكثر فإن هؤلاء هم أهل الطبقة الثالثة في كلامه وقول القاضي إنه طرح الرابعة صحيح لكنه أيضا طرح الثالثة فإنه حكم على أهل الثالثة والرابعة أنه لا يتشاغل بحديثهم وقول القاضي ويحتمل أنه أراد بالطبقات الثلاث من الناس الحفاظ ثم الذي يلونهم والثالثة التي طرح يقال هذا هو الاحتمال الذي يتبادر إليه كلام مسلم لكنه طرح الثالثة والرابعة أيضا.

وبعد هذا تعرف أن تأويل الحاكم بأنه إنما أتى بأهل الطبقة الأولى غير صحيح لأنه صرح مسلم أنه بعد تقضي أخبار أهل الطبقة الأولى يأتي بأهل الطبقة الثانية والظاهر أنه يأتي بهم في كتابه هذا لا في غيره فتبين أنه أتى بأهل طبقتين وترك أهل طبقتين هذا ما يفيده كلامه في المقدمة من دون نظر إلى ما في أبواب الكتاب ولا بد لنا من عودة إلى هذا ونذكر ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله فيما يأتي.

وقد اتضح لك أن صحيح مسلم في الصحيح والحسن بصريح ما قاله واتضح لك أن الأمر أوسع دائرة مما قاله الحازمي.

"قلت: ومراده" أي الحازمي "بإخراج مسلم لحديث من لم يسلم من غوائل الجرح إذا كان طويل الملازمة هو" أي من لم يسلم من غوائل الجرح "أن يكون متكلما عليه بضعف في حفظه لا في دينه" فهو خفيف الضبط "فإن ضعف الحفظ ينجبر بطول الملازمة" فتلحقه طول الملازمة بالحفاظ المتقنين "وهذا معروف من عرف المحدثين ولذا نجدهم يقولون في كثير من الرواة إنه قوي إذا روي عن فلان ضعيف إذا روي عن فلان" فهذا كلام حسن جدا وفائدة جليلة فإنه قد يقول الناظر إذا رأي أئمة الحديث يقولون مثلا في إسماعيل بن عباس إنه مقبول إذا روى عن أهل الشام ضعيف في روايته عن غيرهم إنه كيف يقبل في قوم ويضعف في آخرين فإنه إذا كان فيه شروط الرواية كاملة قبل في الفريقين وإلا رد فيها ولذا وصى المصنف رحمه الله بمعرفة

ص: 103

هذا بقوله "فاعرف ذلك" لنفاثته.

الثالثة: مما قيل إنه شرط الشيخين ما أفاده قوله: "وقال النووي إن المراد بقولهم" أي أئمة الحديث "على شرطهما أن يكون رجال إسناده في كتابيهما لأنه ليس لهما شرط في كتابيهما ولا في غيرهما قال زين الدين: وقد أخذ" أي النووي "هذا من ابن الصلاح فإنه لما ذكر كتاب المستدرك للحاكم قال إنه أودعه ما رآه على شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما إلى آخر كلامه" وهو قوله أو على شرط البخاري وحده أو على مسلم وحده "وعلى هذا" الذي ذكره ابن الصلاح "عمل الشيخ تقي الدين" ابن دقيق العيد "فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري مثلا" أي يقول بعد إخراجه في المستدرك على شطر البخاري "ثم يعترض" الشيخ تقي الدين "عليه" على الحاكم "بأن فيه" أي الحديث الذي صححه الحاكم على شرط البخاري مثلا "فلانا ولم يخرج له البخاري وكذلك فعل الذهبي في مختصر المستدرك" فدل هذا منه ومن الشيخ تقي الدين أنهما جعلا شرط البخاري ومسلم وجود رجال الإسناد في كتابيهما وأن شرطهما هو روايتهما عن الراوي في كتابيهما كما قاله النووي وتبعهم الحافظ ابن حجر فقال في النخبة وشرحها والمراد به أي شرطهما رواتهما مع باقي شروط الصحيح "وليس ذلك منهم" أي من ابن الصلاح والنووي وابن دقيق العيد والذهبي "بجيد" أي جعلهم شرط الشيخين ما ذكر غير جيد "فإن الحاكم صرح في خطبة كتابه المستدرك بخلاف ما فهموه عنه فقال وأنا أستعين بالله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما" فقوله بمثلها أي بمثل رواتها لا أنهم أنفسهم وحينئذ فلا يصح جعل شرطهما ما ذكره ابن الصلاح ومن تبعه إذا كان مستندهم هو صنيع الحاكم في المستدرك فإن كلامه في الخطبة لا يوافق ما قالوه.

قلت: ولكنه يبقى الإشكال في قول الحاكم على شرطهما ولم يخرجاه فإنه قد أثبت لهما شرطا في الرواة فلينظر ما أراد بقوله على شرطهما فإنه غير مبين ولا معلوم ووجود من ليس من رواتها في حديث يقول فيه على شرطهما دليل على أنه لا يقول بأن شرطهما رواتهما وكيف يجهل رجالهما مع شدة عنايته بكتابيهما ويجهل شرطهما مع أنه قد ذكر ابن الأثير في مقدمة كتابه جامع الأصول ما نقلناه عنه في البحث الرابع في الكلام على رسم الصحيح فإنه قال نقلا عن الحاكم شرط

ص: 104

الشيخين أن يرويا حديث الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان إلى آخر ما قدمناه رجحه ابن الأثير وذهب إليه ابن العربي المالكي وهذا قول رابع في شرط الشيخين وحينئذ فإذا يقال الحاكم: على شرطهما فالمراد ما ذكره هو وقد نقله عنه الحافظ ابن حجر في شرح النخبة ولكنه رده كما قدمناه.

وإذا عرفت هذه الأربعة في شرطهما وعرفت أنها مدخولة كلها بما ذكر فاعلم أنه يرد على ما ذكروه من جعلهم لشرط الشيخين متحدا كما هو الذي دل له كلام محمد بن طاهر وكلام ابن الصلاح ومن تبعه من الثلاثة المحققين إشكال من جهتين.

الأولى: أنهم قسموا الصحيح أقساما أحدهما ما كان على شرطهما ثم ما كان على شرط البخاري ثم ما كان شرط مسلم وقد قرروا أن شرطهما شيء واحد متحد فكيف يتصور انفراد شرط أحدهما عن الأخر وحينئذ فيسقط قسمان من السبعة الأقسام من أقسام الصحيح وتبقى خمسة.

والثانية: أنهم جعلوا ما هو على شرطهما قسما ولم يتعين لهما شرط فهو إحالة على مجهول.

نعم يتم انفصال شرط أحدهما على شرط الآخر على كلام الحازمي وهو الذي أفاده كلام الحافظ ابن حجر فيما نقلناه سابقا في مرجحات البخاري على مسلم وأن شرط البخاري اللقاء ولو مرة وشرط مسلم مجرد المعاصرة ولو يسيرة إلا أن الخلاف بين الشيخين في اللقاء وعدمه إنما هو في روايته العنعنة لا مطلقا.

قلت: ولا يخفي أن هذا خلاف ما صرح به مسلم في مقدمة صحيحه بعدم شرطية اللقاء بل هجن على من اشترطه غاية التهجين كما سيأتي لفظه.

وقال الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها إن الصفات التي تدور عليها شروط الصحة من العدالة وتمام الضبط في كتاب البخاري وأتم منها في كتاب مسلم وأشد وشرطه أي البخاري أقوى وأسد إلى آخر كلامه الصريح في اختلاف شرط الشيخين.

وأنا شديد التعجب حيث لم أجد من نبه على هذا مع وضوحه والتحقيق عندي أن العمدة في الصحة وجود شرط البخاري لأنه أخص من شرط مسلم كما قررناه ووجود الأخص لازم لوجود الأعم فإذا وجد الأخص فهو الأقوى وحينئذ فشرطهما

ص: 105

وشرط البخاري قسم واحد وأقرب الأقوال إلى شرطهما كلام الحازمي لأنه فرق بين الشرطين إلا أنه يرد عليه أنه قال شرط مسلم أن يخرج عمن هم في أعلى درجات الإتقان ولازموا من أخذوا عنه ملازمة طويلة أو عمن ليسوا في أعلى درجات الإتقان ولا لازموا من رووا عنه ملازمة طويلة فأفاد أن مسلما يشترط اللقاء إذ هو لازم الملازمة طويلة كانت أو غير طويلة وقد عرفت أن مسلما صرح بخلاف هذا بل هو مهجن على من اشترطه إلا أن يخص كلام الحازمي بغير ما رواه مسلم بالعنعنة وفيه بعد هذا الحمل تأمل.

وأما الحافظ ابن حجر فإنه يتناقض كلامه في النخبة وشرحها فذكر ما سمعته قريبا من أن شرط بالبخاري غير شرط مسلم وذكر ما سمعنه قريبا من أن شرطهما وراتهما مع باقي شروط الصحة إلا أن يقال مراده شرطهما رواتهما وكل واحد منهما له في رواته شروط يمتاز بها عن رواة الآخر اتجه كلامه وسلم لكن قوله مع باقي شروط الصحة وهي السلامة عن الشذوذ والعلة يفت في عضد هذا لأن من كملت عدالته وأتقن ضبطه قد لا تسلم روايته عن العلة والشذوذ.

ثم من الأدلة على عدم اتحاد شرطهما ما ذكره النووي في شرح مسلم أن أبا الزبيير المكي وسهيل بن أبي صالح وحماد بن سلمة أحاديثهم صحيحة لأنهم على شرط مسلم اجتمعت فيهم الشروط المعتبرة ولم يثبت عند البخاري ذلك فيهم وكذا فيما أخرجه البخاري من حديث عكرمة عن ابن عباس واسحق بن محمد القروي وغيرهما مما احتج به البخاري ولم يحتج به مسلم انتهى بمعناه وهو مبني على أن شرطهما رواتهما كما سلف.

ولكنه لا يخفي بعد هذا كله أن جعل شرطهما ما ذكر من أحد الأربعة الأقوال إنما هو تظنن وتخمين من العلماء أنه شرط لهما إذ لم يأت عنهما تصريح ما شرطاه نعم مسلم قد أبان في مقدمة صحيحه من يخرج عنه حديثه كما عرفت.

ثم بقي بحث في تعقب الشيخ تقي الدين على الحاكم حيث يقول على شرطهما فيقول فيه فلان لم يخرج له البخاري وذلك أن ترك البخاري التخريج عن شخص ليس دليلا على أنه ليس على شرطه عند الحكم فإن الحاكم قائل بأن شرطهما على ما قدمناه عنه بلفظه وأشرنا غليه قريبا فتصريحه بشرطهما عنده يدل على أنه لا يقول بأن شرطها رواتهما وبما صرح به من شرطهما ينبغي أن يتعقب كلام ابن دقيق العيد في

ص: 106

تعقبه للحاكم بأن فلانا لم يخرج له البخاري مثلا وذلك لأن عدم إخراج البخاري عن فلان ليس دليلا أنه ليس على شرطه عند الحاكم بل كل من وجدت فيه الصفات التي ذكرها الحاكم وجعلها شرط رواة الشيخين فهو على شرطهما وإن لم يخرجا عنه فإذا أريد الانتقاد على الحاكم إذا قال على شرطهما ثم وجدنا فيه رجلا لم يخرجا عنه نظرنا في صفات ذلك الرجل هل هو جامع لما ذكره الحاكم من الصفات في شرط رواتهما فلا اعتراض عليه بأنه لم يخرج له الشيخان مثلا فالمعتبر وجود الشرط في الراوي لا وجوده عندهما أو عند أحدهما.

وبعد هذا تعرف أن قوله في خطبة المستدرك قد احتج بمثلها أي مثل رواتها في صفاتهم التي ذكرها وقد يكونون هم أنفسهم أو من اتصف بصفاتهم إذ ذلك هو المعتبر عنده لا أن شرطهما عنده وجود الراوي في كتابيهما كما عرفته من كلامه الذي قاله عنه ابن الأثير والحافظ ابن حجر وإن كان كلاما غير مقبول لكن المراد تطبيق كلامه على ما صرح هو به لا على كلام غيره كما فعله زين الدين ويلزم زين الدين أن الحاكم لم يخرج عمن خرجا عنه في كتابه المستدرك أصلا ولذا قال الزين لا أنهم أنفسهم وهذا خلاف الواقع فلم يرد الحاكم في خطبته إلا مثل من كان على صفة رواتهما التي هي شرطهما عنده أعم من أن يكون نفس رواتهما أو غيرهما ممن له تلك الصفات "ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث" فيكون ضمير يمثلها للأحاديث لا لرواتهما "وإنما تكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها" وبهذا الاحتمال يتم ما ادعاه ابن الصلاح ومن تبعه.

قلت: ولا يخفى ما قصدناه قريبا من أن الحاكم قد بين في كتابه المدخل شرط الشيخين وتصريحه مقدم على شيء تحتمله عبارة خطبته بل تصريحه يعين أحد المحتملين وقد أوضحناه قريبا.

إما العجب كيف يؤخذ من كلامة المحتمل شرط الشيخين ويترك ما صرح به من أنه شرطهما؟

وإذا عرفت ما أسلفناه في شروطهما عرفت أنه يتعين الإمساك عن الجزم بوصف حديث لم يخرجا في كتابيهما بأنه على شرطهما لأن شرطهما غير معلوم جزءا فكيف تجزم بوصف حديث لم يخرجاه ونصححه مع الشك فيما يوجبه ويتفرع عنه تصحيحه والشك لا يتفرع عنه يقين ولا يهاب إطباق المحققين على قولهم في حديث

ص: 107

لم يخرجاه إنه على شرط الشيخين فإن الحجة في الدليل لا في مجرد الأقاويل.

"قال زين الدين: وقد بينت المثلية في الشرح الكبير" إلا أنه قال الزين قبل هذا وفيه نظر أي في احتمال أن يراد بمثل تلك الأحاديث نفس رواتها فأفاد أنه لم يرتض الاحتمال الذي به يتم مراد ابن الصلاح ومن تبعه ثم قال وقد بينت المثلية إلى آخره.

"قلت: المثلية تقتضي الغيرية" أي حقيقة وإلا فإنه يأتي في الكتابة أنه قد يراد بالمثل غير المغاير نحو مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل ومنه قوله:

ولم أقل مثلك أعنى به

سواك يا فراد بلا مشبه

إلا أن قول المصنف "وقد تبين أن مراد الحاكم ما ذكره زين الدين بإخراجه" أي الحاكم "لحديث من لم يخرج حديثه البخاري ومسلم" يقتضي أنه لم يرد الحاكم بالمثل إلا الغير أو الأعم منه "وكلامه" أي الحاكم "يقتضي ذلك من غير هذه القرينة" التي هي إخراجه لحديث من لم يخرج له الشيخان "فكيف معها؟ والله أعلم".

واعلم أنه لا ريب أفي كتاب الحاكم جماعة من رجال الشيخين قطعا وجماعة من غير رجالها قطعا فلا يتم حمل المثلية في خطبة المستدرك على غير رواتهما وحصل فيه شرطهما الذي قرره الحاكم نفسه في المدخل كما قررناه قريبا فقول المصنف إنه قد تبين أن مراد الحاكم بالمثل ما ذكره الزين غير صحيح إذا ظاهر أنه ليس في كتاب الحاكم أحد رجال الصحيحين وهذا باطل وقول المصنف إنه قد أخرج حديث من لم يخرج له الشيخان مسلم لكن من أين له أنه لم يخرج لمن أخرج له الشيخان كيف وقد قدم المصنف كلام الذهبي بأن في المستدرك قدر النصف صحيحا على شرط الشيخين والمراد به أنه رواه برجالهما لأن ذلك شرطهما عند الذهبي كما قاله الزين آنفا ثم قال وقدر الربع على غير شرطهما أي ليس رجاله رجال الصحيحين فلذا قلنا قطعا في الطرفين وبه يتبين لك أن الحق في كلام الحاكم في المثلية ما ألهمنا الله إليه لا ما قاله زين الدين والمصنف.

ص: 108