المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسألة 4 [في ذكر أول من صنف في جمع الصحيح] - توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار - جـ ١

[الصنعاني]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌مسألة 2 [في بيان مراد أهل الحديث بقولهم: هذا حديث صحيح]

- ‌مسألة 3 [من علوم الحديث: في معرفة أصح الأسانيد]

- ‌مسألة 4 [في ذكر أول من صنف في جمع الصحيح]

- ‌مسألة 6 [في عدد أحاديث الصحيحين]

- ‌مسألة 7 [في بيان الصحيح الزائد على ما في البخاري ومسلم]

- ‌مسألة 8 [في المستخرجات]

- ‌مسألة:9 [في بيان مراتب الصحيح]

- ‌مسألة 10 [في إمكان التصحيح في كل عصر ومن كل إمام]

- ‌مسألة:11 [في بيان حكم ما أسنده الشيخان أو علقاه]

- ‌مسألة 12 [في أخذ الحديث من الكتب]

- ‌مسألة 13 [في بيان القسم الثاني: وهو الحديث الحسن]

- ‌مسألة 14 [في بيان شرط أبي داود]

- ‌مسألة: 15 [في بيان شرط النسائي]

- ‌مسألة: 16 [في بيان شرط ابن ماجه]

- ‌مسألة: 17 [في الكلام على جامع الترمذي]

- ‌مسألة: 18 [في ذكر شرط المسانيد]

- ‌مسألة: 19 [في الكلام على الأطراف]

- ‌مسألة: 20 [في بيان المراد بصحة الإسناد وحسنه]

- ‌مسألة:21 [في بيان المراد من الجمع في وصف الحديث بين الصحة والحسن]

- ‌مسألة: 22 [في بيان القسم الثالث: وهو الحديث الضعيف]

- ‌مسألة: 23 [في بيان الحديث المرفوع]

- ‌مسألة: 24 [في بيان المسند من أنواع الحديث]

- ‌مسألة: 25 [في بيان المتصل والموصول من أنواع الحديث]

- ‌مسألة:26 [في بيان الموقوف]

- ‌مسألة: 27 [في بيان المقطوع]

- ‌مسألة: 28 [في بيان المرسل]

- ‌مسألة: 29 [في بيان اختلاف العلماء في قبول المرسل]

- ‌مسألة: 30 [في فوائد تتعلق بالمرسل]

- ‌مسألة: 31 [في بيان المنقطع والمعضل]

- ‌مسألة: 32 [في بيان العنعنة وحكمها]

- ‌مسألة:33 [في بيان اختلاف العلماء في قول الراوي أن فلانا قال]

- ‌مسألة:34 [في حكم تعارض الوصل والإرسال]

- ‌مسألة:35 [في بيان التدليس]

- ‌مسألة:36 [في بيان الشاذ]

الفصل: ‌مسألة 4 [في ذكر أول من صنف في جمع الصحيح]

‌مسألة 4 [في ذكر أول من صنف في جمع الصحيح]

"أصح كتب الحديث أول من صنف صحيح البخاري" هذا كلام ابن الصلاح1 قال الحافظ ابن حجر إنه اعترض عليه شيخ علاء الدين مغلطاى فيما قرأت بخطه بأن مالكا أول من صنف الصحيح وتلاه أحمد بن حنبل وتلاه الدارمى2 قال وليس لقائل أن يقول لعله أراد الصحيح المجرد فلا يرد كتاب مالك لأن فيه البلاغ3 والموقوف والمتقطع والفقه وغير ذلك لوجود ذلك في كتاب البخاري. اهـ.

قال: وقد أجاب شيخنا يريد به زين الدين ثم ذكر جوابه واعتراضه بما هو حق ثم قال لكن الصواب في الجواب ثم ذكر ما حاصله أنه يصدق على مالك أنه أول من صنف الصحيح اعتبار انتقائه للرجال فكتابه أصح من الكتب المصنفة في هذا الفن من أهل عصره وما قاربه كمصنفات سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة الثوري4 وابن اسحق ومعمر وابن جريح وابن المبارك وعبد الرزاق وغيرهم ولهذا قال الشافعي ما بعج كتاب الله اصح من كتاب مالك فكتابه أصح عنده وعند من يتبعه ممن يحتج بالمرسل والموقوف.

1 علوم الحديث ص "25".

2 الدارمي هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي أبو محمد السمرقندي. الحافظ، أحد الأعلام. قال أبو حاتم: إمام أهل زمانه. مات سنة "255". له ترجمة في: تاريخ بغداد "10/29"، وشذرات الذهب "2/130"، والعبر "2/8".

3 البلاغ: هي الأحاديث التي يقول فيها بلغني.

4 الثوري هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، أحد الأعلام. قال شعبة وغير واحد: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. مات سنة "161هـ". له ترجمة في: تاريخ بغداد "9/151"، والعبر "1/235"، ووفيات الأعيان "1/210".

ص: 42

وأما أول من صنف الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف فأول من جمعه البخاري ثم مسلم كما جزم به ابن الصلاح1 وأما قول مغلطاي إن أحمد أفرد الصحيح فقد أجاب عنه الشيخ ابن الصلاح في التنبيه السادس من الكلام على الحديث الحسن انتهى كلام ابن حجر.

قلت: يريد حيث قال الشيخ ابن الصلاح2 كتب المسانيد غير ملحقة والكتب الخمسة التي هي الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي وما جرى مجراها في الاحتجاج بها والركون إلى ما ورد فيها مطلقا كمسند أبي داود الطيالسي ومسند عبيد الله بن موسى ومسند اسحق ومسند عبد بن حميد ومسند الدرامي ومسند أبي يعلي الموصولي ومسند الحسن بن سفيان ومسند البزار أبي بكر وأشباهها فهذه عادتهم فيها أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متفيدين بأن يكون حديثا محتجا به أولا فلهذا أخرت مرتبتها وإن جلت لجلالة مؤلفيها عن مرتبة الكتب الخمسة انتهى.

ثم قال الحافظ: وأما ما يتعلق بالدرامي فتعقبه الشيخ زين الدين بأن فيه الضعيف والمنقطع لكن بقي مطالبة مغلطاي بصحة دعواه أن جماعة أطلقوا على مسند الدرامي كونه صحيحا فأنى لم أر ذلك في كلام أحد ممن يعتمد عليه.

ثم قال: كيف ولو أطلق عليه ذلك من يعتمد لكان الواقع بخلافه لما في الكتاب المذكور من الأحاديث الضعيفة والمنقطعة والموضوعة والموطأ في الجملة أنظف أحاديث وأتقن رجالا منه ومع ذلك كله فلستأسلم أن الدارمي صنف كتابه قبل تصنيف البخاري الجامع لتعاصرهما ومن ادعى عليه ذلك فعليه البيان. انتهى.

قلت: ومن ادعى تقدم تصنيف البخاري على تصنيف الدارمي فعليه البيان أيضا وكأنه اغتر الحافظ العلائي3 بكلام مغلطاي فإنه قال ينبغي أن يجعل مسند الدارمي سادسا للخمسة بدل ابن ماجة فإنه قليل الرجال الضعفاء، ناذر الأحاديث المنكرة وإن كان فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى من سنن ابن ماجه،

1 علوم الحديث ص "25".

2 علوم الحديث ص "56".

3 العلائي هو: الشيخ الإمام العلامة صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي الشافعي. قال الذهبي: حافظ يستحضر الرجال والعلل، وتقدم في هذا الشأن. "761"، له ترجمة في: شذرات الذهب "6/190"، والنجوم الزاهرة "10/337".

ص: 43

إلى آحر كلامه، ويحتمل أنه إنما أراد تفضيله على ابن ماجه بخصوصه وأن ابن ماجه رجاله الضعفاء أكثر وأحاديثه الشاذة والمنكر غير نادرة.

إذا عرفت هذا فعلى تحقيق الحافظ ينبغي أن يقال أول صنف في الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف البخاري غير أن جواب الحافظ لم يتضح به رد كلام مغلطاي كل الاتضاح كما لا يخفى.

"وكتابه" أي البخاري "أصح من كتاب مسلم عند الجمهور وقال النووي إنه الصواب واختاره زين الدين قالاهما" أي النووي والزين "وغيرهما" من أئمة الحديث "والمراد" بالحكم بأصحية كتابه على مسلم أصحية "ما أسنده دون التعليق" يأتي تعريفه "والتراجم" جمع ترجمة وهي عنوان الباب الذي تساق فيه الأحاديث ولا بد أن تكون مناسبة لما يساق من الأحاديث قالوا وذلك لأن الصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب البخاري أثم منها في كتاب مسلم وشروطه فيها أقوى وأشد.

أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبتت له لقاء من روي عنه ولو مرة واكتفي مسلم بمطلق المعاصرة.

وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط فلأن الرجال الذي تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددا من الرجال البخاري فإن الذين انفرد بهم البخاري أربعمائة وخمسة وثالثون رجلا المتكلم منهم فيه بالضعف ثمانون رجلا والذين تفرد بهم مسلم ستمائة وعشرون رجلا المتكلم منهم فيه بالضعف مائة وستون رجلا على الضعف من كتاب البخاري ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه ولأن الذين تفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها أو أكثرها كنسخة عكرمة عن ابن عباس بخلاف مسلم فقد أخرج أكثر تلك النسخ التي رواها عمن تكلم فيه كأبي الزبيب عن جابر أتهيل عن أبيه عن أبي هريرة ونحوهم مع أن البخاري لم يكثر من إخراج أحاديث من تكلم فيهم وغالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم ولا شك أن المرء أشد معرفة بحديث شيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيف ممن تقدم عن عصرهم بخلاف مسلم في الأمرين فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه

ص: 44

ممن تكلم فيه من المتقدمين وقد أخرج نسخهم كما قدمنا ذكره ثم إن من يخرج لهم البخاري ممن تكلم فيه من المتقدمين يخرج أحاديثهم غالبا في الاستشهادات والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم فإنه يخرج لهم الكثير في الأصول فأكثر من يخرج لهم البخاري في المتابعات يحتج بهم مسلم.

وأما رجحانه من حرث عدم الشذوذ والإعلال فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عدا مما انتقد على مسلم فإن جملة الأحاديث التي انتقدت عليهما مائتا بألف التثنية حديث وعشرة اختص البخاري منها بأقل من ثمانين.

قلت: هذا كلام الحافظ هنا وسيأتي نقل المصنف عنه أنه ذكر في مقدمة فتح الباري مما اعترض الحفاظ على البخاري مائة حديث وعشرة أحاديث وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

ثم قال ويشتركان في اثنين وثلاثين وباقيها مختص بمسلم مع أنه قد اتفق العلماء أن البخاري كان أجل من مسلم في العلوم وأعرف بصناعة الحديث منه وأن مسلما تلميذه وخريجه ولم يستفد إلا منه وتتبع آثاره حتى لقد كان يقول الدارقطني1 لولا2 البخاري لما راح مسلم ولا جاء ومن مرجحات البخاري أن مسلما صرح في أول صحيحه أن المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن والمعنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما. انتهى.

قلت: قال الملا على قاري فإن قلت: كيف يكفي ذلك مع أن كتابه صحيح ولا بد فيه الاتصال قلت: لعله جاء هذا الحديث في كتابه، متصلا في آخر أوكان اتصاله بمن روى مشهورا فالمراد بمن روى عنه من أدى عنه ظاهرا ولو كان بالواسطة وفيه أنه لو كان كذلك لكان الاختلاف لفظيا قال والصواب كون الخلاف حقيقيا. انتهى.

1 الدارقطني هو: الإمام شيخ الإسلام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي. قال الخطيب: كان فريد عصره وإمام وقته، وانتهى إليه علم الأثر، والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال. مات سنة "385هـ". له ترجمة في: البداية والنهاية "11/317"، وتاريخ بغداد "12/34"، وشذرات الذهب "3/116".

2 لولا البخاري لما راح.... إلخ: قال بعضهم إنه كناية عن كونه عيلة على البخاري. "حاشية الأجهوري" ص "19".

ص: 45

قلت: ولم يدفع الأشكال.

ثم قال الحافظ. والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة وقد أظهر البخاري هذا المذهب في التاريخ وجرى عليه في الصحيح وهو مما يرجح به كتابه لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال فبهذا تعلم أن شرطه في كتابه أقوى اتصالا وأشد تحريا أفاد هذا الحافظ ابن حجر في مؤلفاته.

وأقول لا يخفي أن هذه الوجوه أو أكثرها لا تدل على المدعي وهو أصحية البخري بل غايتها تدل على صحته ثم إنه لا يخفي أيضا أن الشيخين اتفقا في أكثر الرواة وتفرد البخاري بإخراج أحاديث جماعة وانفرد مسلم بجماعة كما أفاده ما سلف من كلام الحافظ فهذه ثلاثة أقسام.

الأول: ما اتفقنا على إخراج حديثه فهما في هذا القسم سواء لا فضل لأحدهما على الآخر لاتحاد رجال سند كل واحد منهما فيما رواه والقول بأن هؤلاء أرجح إذا روي عنهم البخاري لا إذا روي عنهم مسلم عين التحكم وهذا بناء على أن المراد بما اتفقا عليه الاتفاق على رجال الإسناد جميعا لا يقال لا تحكم لأنه شرط البخاري اللقاء دون مسلم لأنا نقول الفرض أنهم على شرط البخاري من حصول اللقاء لأنه روي عنهم ولا يروي إلا عمن وافق شرطه ومعلوم أنهم قد صاروا على شرط مسلم بالأولى لأنه ثبت اللقاء فقد ثبتت المعاصرة.

وإذا عرفت هذا فلا وجه للحكم بأصحية رواية البخاري فيما اتفق هو ومسلم على إخراجه ورجاله إلا جاء التحكم المحض وهذا القسم هو أكثر أقسامه قطعا وحينئذ فلا يصح الحكم على كتاب البخاري بالأصحية بالنسبة إلى هذه الأحاديث وكيف يتم القول بأن كتاب البخاري أصح على هذا؟.

والقسم الثاني: ما انفرد البخاري بإخراج أحاديثهم فهذا القسم ينبغي أن يقال أنه أصح مما انفرد به مسلم لأنه حصل فيه شرائط البخاري منفردة وقد تقرر ببعض ما ذكر من المرجحات أنه أقوى من شرائط مسلم في الصحة وحينئذ فيتعين أن يقال ما في كتاب البخاري من الأحاديث التي انفرد بإخراجها أصح من التي انفرد مسلم بإخراجها وهذا القسم قليل كما عرفت ولا بد من تقييد ذلك بغير من تكلم فيهم وهذا التقسيم هو التحقيق وإن غفل عنه الأئمة السابقون فإن من المعلوم يقينا أن

ص: 46

الصحة والأصحية ليستا بالنظر إلى ذات الشيخين بل بالنظر إلى رجال كتابيهما ثم لا يخفي أيضا أن كون من تكلم فيهم من رجال البخاري أقل ممن تكلم فيهم من رجال مسلم لا يقتضي أصحية أحاديث البخاري مطلقا غاية ما يقتضيه أن الصحيح فيه أكثر وليس محل النزاع على أن في شرطه اللقاء ولو مرة واحدة بحثا وهو أنه قد يكثر الشخص الحديث عمن لاقاه بحيث يعلم يقينا أنه لا يتسع لأخذه عنه تلك الأحاديث في الموقف الذي انحصر فيه اللقاء فلابد من تقييد ذلك بزيادة أن يتسع زمان اللقاء لكن ما عنه روي ثم رأيت بعد أيام مسلما قد ألزم البخاري حيث شرط اللقاء بهذا الإلزام في مقدمة صحيحه ورأيت الحافظ ابن حجر قد التزم هذا وقال يكفي اللقاء ولو مرة واحدة ولو كان بعض ما يرويه عمن لاقاه لا يستحق سماعه منه وسيأتي لنا ولم يقيد كلام البخاري بما قيدناه به من قولنا إن اتسع

إلى آخره.

وإذا عرفت هذا فقد عاد إلى مجرد المعاصرة على أن المعاصرة لا تكفي مطلقا بأن يكون أحدهما في بغداد والآخر في اليمن بل لابد من تقارب المحلات ليمكن اتصال الرواة إلا كان من باب الإجازة والمكاتبة ولعلهم لا يكتفون به هنا.

واعلم أنا راجعنا مقدمة مسلم فوجدناه تكلم في الرواية بالعنعنة وأنه شرط فيها البخاري ملاقاه الراوي لمن عنعن عنه وأطال مسلم في رد كلامه والتهجين عليه ولم يصرح أنه البخاري وإنما اتفق الناظرون أنه أراده ورد مقالته ثم قال إن كل حديث فيه فلان عن فلان وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد وجائز أن يكون الحديث الذي روي الراوي قد سمعه منه وشافهه به غير أنا لا نعلم له نه سماعا ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط أو تشافها بحديث ثم قال إن هذا هو القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا أكل رجل ثقة روي عن مثله وجائز ممكن لقاءه والسماع منه لكونهما كانا جميعا في عصر واحد ولم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام فالرواية ثابتة والحجة بها لازمة إلى آخر كلامه وقد نقلنا فيما يأتي في بحث العنعنة.

إذا عرفت هذا عرفت أن الخلاف بين الشيخين في رواية العنعنة لا غير وهو الذي أفاده الحافظ في قوله ومن مرجحات البخاري أن مسلما صرح إلى آخره فشرط البخاري فيها اللقاء ومسلم المعاصرة وحينئذ فلا يرجح البخاري برمته على مسلم برمته بهذا الشرط بل يقال عنضة البخاري أصح وأرجح من عنعنة مسلم فالعجب كيف

ص: 47

يعده الحافظ من وجوه ترجيح البخاري مطلقا ثم قد ظهر المراد بالمعاصرة أنها التي يمكن معها السماع ولا يكفي مطلقها.

فإن قلت: إنما جعله ترجيحا للبخاري مطلقا لكون كل ما فيه من الأحاديث قد تم فيها شرطية اللقاء معنعنا وغيره.

قلت: أما غير المعنعن وهو ما كان بنحو حدثنا فهو ومسلم سواء فيه فإنه لا يكون إلا بالمشافهة إنما الخلاف في رواية متصلة عند مسلم وبه يتضح لك ضعف ما قدمنا عن الملا على قاري سؤالا وجوابا وأنه بناه على عدم تحقيقه لمراد مسلم.

ثم جعل الحافظ ابن حجر كون شيوخنا البخاري هم الذي تكلم فيهم وجها مرجحا فيه تأمل لأنه قد يقال هم باب علمه وعنهم أخذ ومنهم استمد رواياته وقد علل الحافظ ذلك بما سمعته فانظر فيه ثم لا يعزب عنك أن قولهم أصح الحديث ما اتفق عليه الشيخان لا يوافق قولهم هنا إن أصح الكتابين كتاب البخاري لأنهم قد جعلوا ما اتفقا عليه أصح أقسام الحديث وقد عرفت أن الذي اتفقا عليه هو أكثر أقسام الكتابين ولم يتفقا عليه إلا بعد حصول شرائط الرواية عندهما في روايته فهما مثلان في هذا كما أسلفنا فلا يتم القول بأن كتاب البخاري أصح إلا باعتبار ما انفرد به وهو القليل الحقير ولا يحسن إطلاق صفة الجزء على الكل في مقام التقعيد والتمهيد على أن استثناءهم التعاليق والتراجم فقط من الحكم بالأصحية فاض بأن الحكم بها حكم على كل حديث لا أنه كما تأولنا من وصف الكل بصفة الجزء وقد ألحقوا بذلك ما تكلم فيه.

"ثم صحيح مسلم بعده" أي بعد صحيح البخاري فإن تعارضا قدم ما في البخاري "وذهب بعض المغاربة" أي بعض علماء الغرب وسيأتي أنه ابن حزم1 "والحافظ أبو علي الحسين بن علي النيسابوري شيخ الحاكم" يريد أبا عبد الله صحاب المستدرك "إلى تفضيل صحيح مسلم على البخاري" فقال أبو علي: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث بهذا اللفظ نقله عنه زين الدين والحافظ ابن حجر

1 ابن حزم هو: الإمام العلامة الحافظ الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد القرطبي الظاهري. كان صاحب فنون وورع وزهد، وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ. مات سنة "457". له ترجمة في: شذرات الذهب "3/299"، والعبر "3/239"، ووفيات الأعيان "1/340".

ص: 48

"وحكاه" أي تفضيل كتاب مسلم "القاضي عياض1 عن أبي مروان الطبني" بضم الطاء المهملة وبعدها هاباء موحدة مشددة مضمومة وقبل ياء النسبة نون كذا ضبطه ابن السمعاني وقيل بضم الطاء وسكون الموحدة حكاه ابن الأثير وغيره وهي بلدة بالغرب ينسب إليها جماعة قاله البقاعي واسمه عبد الملك بن زياد "عن بعض شيوخه" قال: كان من شيوخي من يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري وحكاه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة مسلم عن محمد بن اسحق عن ابن منده قال أيضا مما تحت أديم السماء، أصح من كتاب مسلم في علوم الحديث وإليه ميل كلام القرطبي في خطبة تلخيصه لمسلم ونقله عن جماعة وغزاه في اختصاره للبخاري إلى أكثر المغاربة وعزا ترجيح البخاري إلى أكثر المشارقة ذكره الزركشي.

"وقال ابن الصلاح" 2 بعد نقله لكلام أبي علي "فهذا" أي تفضيل صحيح مسلم "إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجح أنه لم يمازجه غير الصحيح" قال ابن الصلاح: فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودا غر ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لا يسندها على الوجه المشروط في الصحيح "فهذا لا بأس به" أي لا بأس في التفضيل لصحيح مسلم من هذه الجهة إلا أنه معلوم أن عبارة أبي على لا تساعد هذا التوجيه كل المساعدة "وإن كان المراد به" أي يقول أبى علي "أنه أصح كما هو المتبادر" من عبارته "فهذا مردود" بما أسلفنا من مرجحات صحيح البخاري كما عرفت.

واعلم أن ظاهر كلام ابن الصلاح وزين الدين والمصنف أن بعض المغاربة ومن ذكر معه ذهبوا إلى تفضيل صحيح مسلم من حيث إنه أصح من صحيح البخاري فإن كان بعض المغاربة هو أبو محمد بمحزم وبه جزم الحافظ ابن حجر فإنه قال بعد ذكر ابن الصلاح لبعض المغاربة ما لفظه وقد وجدت التصريح بما ذكره المصنف من الاحتمال عن بعض المغاربة فذكر أبو محمد القاسم بن القاسم التجيبي في فهرسته عن أبي محمد بن حزم أنه كان يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري لأنه ليس فيه بعد

1 القاضي عياض هو: ابن موسى بن عياض بن عمر اليحصبي السبتي، ولى قضاء سبتو ثم غرناطة، وكان إمام أهل الحديث في وقته، وأعلم الناس بعلومه. مات سنة "544". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/225"، والعبر "4/122"، ووفيات الأيان "1/392".

2 علوم الحديث ص "26".

ص: 49

خطبته إلا الحديث المنفرد. انتهى.

قال الحافظ قلت: ما فضله به بعض المغاربة ليس راجعا إلى الأصحية بل هو لأمور:

أحدهما: ما تقدم عن ابن حزم.

الثاني: أن البخاري كان يرى جواز الرواية بالمعنى وجواز تقطيع الحديث من غير تنصيص على اختصاره بخلاف مسلم والسبب في ذلك أمران أحدهما أن البخاري صنف كتابه في طول رحلته فقد روينا عنه أنه قال رب حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر ورب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخراسان فكان لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمتها بل يتصرف فيه ويسوقه بمعناه ومسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة شيوخه وكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق.

والثالث: أن البخاري استنبط فقه كتابه من أحاديثه فاحتاج أن يقطع المتن الواحد إذا اشتمل على عدة أحكام ليورد كل قطعة منه في الباب الذي يستدل به على ذلك الحكم الذي استنبط منه لأنه لو ساقه في المواضع كلها برمته لطال الكتاب ومسلم لم يعتمد ذلك يسوق أحاديث الباب كلها سردا عطفا بعضها على بعض في موضع واحد. انتهى.

وقلت: وبه تعرق أن بعض المغاربة هو أبو محمد بن حزم وتعرف أنه لم يفضل صحيح مسلم من حيث الأصحية وتعرف أنه ما كان ينبغي لابن الصلاح ومن تبعه جعل خلافه وخلاف أبى على النيسابوري واحدا وأنه من جهة واحدة ثم لا يخفي أن ما قاله الزركشي فيما نقلناه عنه آنفا إن دائرة الخلاف أوسع والذاهبون إلى ترجيح مسلم أكثر ممن ذكر.

وقال الحافظ: ما قاله أبو علي النيسابوري فلم نجد عنه تصريحا قط بأن كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري وإنما نفى الأصحية عن غير كتاب مسلم عيه ولا يلزم من ذلك أن يكون كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري فيجوز أن يوجد ما يساويه فإذا كان كلام أبى على محتملا لكل من الأمرين فجزم

ابن الصلاح أن أبا علي قال صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري غير صحيح وقد رأيت هذه العبارة في كلام الشيخ محيي الدين النووي والقاضي بدر الدين ابن جماعة والشيخ تاج الدين

ص: 50

التبريزي وتبعهم جماعة وفي إطلاق ذلك نظر لما بيناه انتهى بمعناه.

قلت: ولا يعزب عنك أن هذا التأويل الذي ذكره الحافظ خروج عن محل النزاع فإن الدعوى بأن البخاري أصح الكتابين وهذا التأويل أفاد أنهما مثلان فما أتى التأويل إلا بخلاف المدعي على أن قول القائل "ما تحت أديم السماء أعلم من فلان" يفيد عرفا أنه أعلم الناس مطلقا وأنه لا يساويه أحد في ذلك وأما في اللغة فيحتمل توجه النفي إلى الزيادة أعني زيادة إنسان عليه في العلم لا نفي المساوي له فيه والحقيقة العرفية مقدمة سيما في مقام المدح والمبالغة بقوله "تحت أديم السماء".

ثم رأيت بعد هذا أنه قال البقاعي الحق أن الصيغة تارة تستعمل على مقتضى أصل اللغة فتنتفي الزيادة فقط وتارة على مقتضى ما شاع من العرف فتنتفي المساواة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما طلعت شمس ولا غربت على أفضل من أبي بكر" وإن كان ظاهره نفي أفضلية الغير لكنه إنما سيق لإثبات أفضلية المذكور والسر في ذلك أن الغالب في كل اثنين هو التفاضل دون التساوي فإذا نفى أفضلية أحدهما ثبتت أفضلية الآخر. انتهى.

"قال زين الدين: وعلى كل حال" سواء قيل البخاري أصح أو مسلم "كتاباهما أصح كتب الحديث" لأن من قال كتاب البخاري أصح قائل بأن بعده في الصحة كتاب مسلم ومن قال إن كتاب مسلم أصح كتاب بعده كتاب البخاري فقد اتفق الكل على انهما أصح كتب الحديث ولماصح أن الشافعي قال إن كتاب الموطأ أصح الكتب الحديثية قال الزين "وأما قول الشافعي ما على وجه الأرض بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك فذاك" قاله الشافعي "قبل وجود الكتابين" فكلامه صحيح نظرا إلى زمان تكلمه وهذه الرواية أخرجها عن الشافعي أبو بكر بن محمد بن ابراهيم الصفار عن طريق هرون بن سعيد الأيلي قال سمعت الشافعي يقول ما بعد كتاب الله أنفع من كتاب مالك ذكره الحافظ ابن حجر.

قال الحافظ ابن حجر: أول من صنف في العلم وبوبه ابن جريح1 بمكة ومالك وابن أبي ذئب بالمدينة فإن ابن أبي ذئب موطأ أكبر من موطأ مالك بأضعافه،

1 ابن جريج هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم أبو الوليد المكي، أحد الأعلام. قال أحمد: إذا قال ابن جريج "قال" فاحذروه. مات سنة "150". له ترجمة في: تاريخ بغداد "10/400"، والعبر "1/213"، وشذرات االذهب "1/226".

ص: 51

حتى قبل لمالك: ما الفائدة في تصنيفك فقال ما كان لله بقي والأوزاعي بالشأم والثوري بالكوفي وسعيد بن أبي عروبة والربيع ابن صبيح بالبصرة ومعمر باليمين قال وكان هؤلاء في عصر واحد فلا يدري أيهم سبق.

ص: 52

مسألة5 [في انحصار الصحيح]

"عدم انحصار الصحيح في كتب الحديث قال زين الدين: عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي" كان الأحسن ذكر اسمه ونسبه في أول ما نقل عنه المصنف حيث قال قال ابن الصلاح:1 وزين الدين فالصحيح ما اتصل سنده إلخ "لم يستوعب البخاري ومسلم كل الصحيح في كتابيهما" فعلى هذا كان الأحسن في الترجمة أن يقول المصنف عدم انحصار الصحيح في كتابي البخاري ومسلم ليوافق ما قاله الزين وكما يأتي من الكلام الدال على أن الخوض فيهما لا غير وعبارة زين الدين في نظمه ولم يعماه إلخ أي لم يعم البخاري ومسلم كل الصحيح يريد لم يستوعباه في كتابيهما وعبارة ابن الصلاح2 لم يستوعبا الصحيح في صحيحيها ولا التزما ذلك ثم ذكر كلام البخاري ومسلم الآتي "ولم يلتزما ذلك" أي استيعاب الحديث الصريح "وإلزام الدارقطني" هو أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني إمام كبير وحافظ شهير3 ذكرنا بعضا من أحواله في التنوير شرح الجامع الصغير "وغيره" هو أبو ذر الهروي كما في شرح صحيح مسلم "إياهما" أي الشيخين "بأحاديث" صحيحة لم يخرجاها ولا أحدهما ذكر الدارقطني وغيره أحاديث من طرق صحاح لا مطعن في ناقليها ولم يخرجا من أحاديثهم شيئا فيلزمها إخراجها على مذهبهما "ليس بلازم" لهما "لعدم التزامهما" الاستيعاب.

"قال الحاكم" أبو عبد الله "في خطبة المستدرك" 4 بصيغة اسم المفعول هذا الجاري

1 علوم الحديث ص "26".

2 علوم الحديث ص "26".

3 سبقت ترجمته.

4 "3/41".

ص: 53

على الألسنة ويصح على اسم الفاعل من باب عيشة راضية "ولم يحكما" أي الشيخين "ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه انتهى" كلام الحاكم ساقه الزين كالاستدلال على ما ادعاه من عدم استيعابهما ولكن لما كان الحاكم لي بناقل عنهما فهو كالدعوى أيضا يحتاج إلى بينة.

قال الزين مستدلا لدعواه ودعوى الحاكم "قال البخاري: ما أدخلت في كتابي الجامع" أي من الأحاديث "إلا ما صح وتركت من الصحاح لحال الطول" فدلت عبارته أنه لم يستوعب الصحيح وأن أحاديث جامعة صحيحة "وقال مسلم: ليس كل صحيح وضعته هنا" أي في كتابه "إنما وضعت هنا ما أجمعوا عليه" لفظ ابن الصلاح1 قال مسلم ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا يعني في كتابه الصحيح إنما وضعته هاهنا ما أجمعوا عليه إلى هنا عبارة مسلم كما نقلها ابن الصلاح ثم قال ابن الصلاح: مفسرا لقول مسلم ما أجمعوا عليه "يريد ما وجد عنده فيه شرائط الصحيح المجمع عليه وإن لم يوجد اجتماعها" أي شرائط الصحيح "في بعض أحاديث كتابه عند بعضهم" أي لم يوجد عند بعض المجمعين من أئمة الحديث ولا يخفي أن كلام مسلم لا يفيد ما قاله ابن الصلاح من قوله وإن لم يوجد اجتماعها إلخ بل كلام مسلم أفاد أن جميع أحاديث كتابه مجمع على اجتماع شرائط الصحيح فيها فالأحسن أن يقال يريد ما وجد عنده فيه شرائط الصحيح المجمع عليه بحسب نظره واطلاعه وإن خالفه البعض في بعضها "قاله" أي هذا التأويل لكلام مسلم "ابن الصلاح" أي لا ما سلف من قول المصنف قال زين الدين: عبد الرحيم إلى هنا فإنه كلام ابن الصلاح.

تنبيه: إن قيل ما وجه التعرض لكون الشيخين لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما ومن ادعى ذلك حتى يفتقر إلى نفيه.

قلت: ادعاه الدارقطني عليهما وغيره كما عرفت وكأنه فهم هو ومن تابعه من التسمية بالصحيح أنه جميع ما صح وما عبداه حسن أو ضعيف فيفيد أنهما قد حصرا الصحيح وهو من باب مفهوم اللقب بعد التسمية به وإن كان قبلها من باب مفهوم الصفة وفهم ذلك الحافظ أبو زرعة فإنه ذكر النووي عنه أنه قال طرق يريد مسلما-

1 علوم الحديث ص "26".

ص: 54

لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث ليس هذا في الصحيح قال سعيد بن عمرو راوي ذلك عن أبي زرعة فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة فقال مسلم إنما قلت: هو صحيح قال سعيد وقدم مسلم بعد ذلك الري فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن واره فجاءه وعاتبه على هذا الكتاب وقال له نحوا مما قال أبو زرعة إن هذا يطرق لأهل البدع فاعتذر مسلم فقال إنما قلت: هو صحيح ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث فهو ضعيف ذكر هذا النووي في شرح مقدمة مسلم مفرقا.

قلت: قد اتفق ما حدسه أبو زرعة من ذلك التطريق فإنه ذكر الحاكم أبو عبد الله في خطبة المستدرك ما لفظه1: إنه صنف الشيخان في صحيح الأخبار كتابين مهذبين انتشر ذكرهما في الأقطار ولم يحكما ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يسمون برواة الآثار بأن جميع ما صح عندهم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث وهذه المسانيد المجموعة المشتملة على ألف جزء أو أكثر كلها سقيمة أو غير صحيحة فهذا هو الذي حدسه أبو زرعة وغيره قد وقع وفي قوله عشرة آلاف إشعار بعدة أحاديث الصحيحين فكأن هذا هو من الحوامل لأهل الحديث على التعرض لذكر أن الشيخين لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما أما البخاري فقوله "أحفظ مائة ألف حديث صحيح"2 وكون الذي أخرجه في كتابه لا يبلغ عشر ما ذكره صريح في أنه لم يستوعب الصحيح.

إن قلت: قول الحاكم في مواضع من المستدرك في الحديث على شرطهما ولم يخرجاه يشعر بخلاف ما نقله عنه في الخطبة وإلا فلا فائدة لقوله ولم يخرجاه.

قلت: لعله لم يسق قوله ولم يخرجاه مساق الاعتراض عليهما بأنهما لم يخرجاه بل ذكر ذلك إخبارا بأنهما لم يخرجا كل ما كان على شرطهما فهو كالاستدلال لما قاله في خطبته من أنهما لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك.

وقد جرأ على هذا الوهم أعني أنهما حصرا الصحيح السيد على بن محمد بن أبي القاسم في ترسله على المصنف بالرسالة التي رد عليها بالعواصم فإنه قال وقد تعرضوا لحصر الصحيح فما لم يذكره غير صحيح عندهم ولكنه زعم أنهم قالوا إنما

1 "1/41".

2 علوم الحديث ص "16"، وسير أعلام النبلاء "12/415".

ص: 55

الصحيح محصور في الكتب الستة فزاد إلى الوهم الأصلي وهمين طارئين وقد بين المصنف الرد عليه في العواصم بما يفيده ما ذكرناه.

"وقال النووي في شرح مسلم ما معناه إنه وقع اختلاف بين الحافظ في بعض أحاديث البخاري ومسلم فهي مستثناة من دعوى الإجماع على صحة حديثهما" كأن المصنف نقل كلام النووي إيضاحا لكلام ابن الصلاح حيث قال وإن لم يوجد اجتماعها في بعض أحاديث كتابه عند بعضهم.

ومن هنا تعلم أنه كان ينبغي للزين أن يزيد فيما سلف في آخر المسألة الأولى حيث قال والمراد ما أسنداه دون التعاليق والتراجم قيدا وهو دون الأحاديث التي اختلف فيها وهذا الذي نسبه المصنف إلى النووي نقله النووي عن ابن الصلاح فإنه قال في أثناء كلام نقله عنه فإذا علم هذا فما أخذ البخاري ومسلم وقدح فيه معتمد من الحفاظ فهو مستثنى مما ذكرناه لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول وما ذاك إلا في مواضع قليلة سننبه على ما وقع في هذا الكتاب منها إن شاء الله تعالى هذا آخر ما ذكره الشيخ أبو عمرو فالكلام لابن الصلاح نقله النووي.

واعلم أن هذا كلام كان يحسن تأخيره إلى مسألة حكم الصحيحين وذكر تلقي الأمة بالقبول لهما فإن هذا الاستثناء إنما هو مما تلقته الأمة بالقبول والإجماع ولم يسبق له هنا ذكر سوى قوله وكتاباهما أصح كتب الحديث وسيأتي مستوفى أن شاء الله تعالى عند ذكر المصنف له.

"وقد ذكر" أي النووي "الجواب على من خالف في صحة تلك الأحاديث النادرة" قال النووي وقد أحببت عن كل ذلك أو أكثره وستراه في مواضعه إن شاء الله تعالى ذكره في شرح مسلم بعد ذكره للأحاديث التي انتقدها الدارقطني وأبو مسعود الدمشقي على الشيخين وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى عند كلام المصنف على حكم الصحيحين.

"قال زين الدين: وذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم" بالخاء المعجمة والراء المهملة الشيباني المعروف أبوه بابن الكرماني ويقال له أيضا الأخرم إجراء للقب أبيه عليه كان صدر أهل الحديث بنيسابور قال لعبد الغفار الفارسي هو الفاضل في الحفظ والفهم صنف على الكتابين البخاري ومسلم وكان ابن خزيمة يراجعه في مهمة توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة "شيخ الحاكم كلاما معناه قلما

ص: 56

يفوت البخاري ومسلما ما ثبت من الحديث قال ابن الصلاح" بعد نقله لكلام ابن الأخرم "يعني" ابن الأخرم "في كتابيهما" لكنه قال ابن الصلاح: بعد هذا ولقائل أن يقول ليس ذلك بالقليل فإن المستدرك على الصحيحين للحاكم أبي عبد الله كتاب كبير يشتمل على شيء كثير وإن يكن في بعضه مقال فإنه يصفو له منه صحيح كثير.

قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي من كلامه أعني ابن الأخرم أنه غير مريد للكاتبين وإنما أراد مدح الرجلين بكثرة الاطلاع والمعرفة لكن لما كان غير لائق يوصف أحد من الأمة بأنه جمع الحديث جميعه حفظا وإتقانا حتى ذكر عن الشافعي أنه قال: "من قال إن السنة كلها اجتمعت عند رجل واحد فسق ومن قال إن شيئا منها فات الأمة فسق" فحينئذ عبر عما أراده من المدح بقوله فلما يفوتهما منه أي قل حديث يفوت البخاري ومسلما معرفة أو نقول سلمنا أن المراد الكتابان لكن المراد من قوله مما ثبت من الحديث الثبوت على شرطهما لا مطلقا.

"قال النووي في التقريب والتيسير1: والصواب أنه لم يفت الأصول الخمسة إلا اليسير أعني الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي" وقد ألحق بها عوضا عنه سنن ابن ماجة وعلى هذا بني الحافظ المزي2 في تهذيب الكمال ومن تبعه من مختصري كتابه كالحافظ ابن حجر الخزرجي.

"قال زين الدين العراقي: وفي كلام النووي ما فيه لقول البخاري أحفظ مائة ألف حديث صحيح" تمام حكاية البخاري ومائتي ألف حديث غير صحيح فإنه دال على كثرة ما فات الكتابين من الصحيح كما ستعرفه من عدد أحاديثهما فيما يأتي قريبا فلا يتم لابن الأخرم ما ادعاه وعلى كثرة ما فات غيرهما من الثلاثة أيضا فلا يتم ما ادعاه النووي أيضا.

1 "1/99" مع شرحه "تدريب الراوي".

2 المزّي هو: الإمام العالم الحبر محدث الشام جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف القضاعي ثم الكلبي الشافعي. رحل وسمع الكثير، وهو حامل لواء معرفة الرجال، لم تر العيون مثله. مات سنة "742". له ترجمة في: تذكرة الحفاظ "4/1498"، وشذرات الذهب "6/136"، والنجوم الزاهرة "10/76".

ص: 57

قال الحافظ ابن حجر: مراده أي النووي من أحاديث الأحكام خاصة أما غير الأحكام فليس بقليل.

قلت: فلا يرد ما أورده عليه الزين.

"قال النووي: ولعل البخاري أراد" بقوله "مائة ألف حديث صحيح"، "والأحاديث المكررة الأسانيد يعني المختلفة" أي التي اختلفت أسانيدها واتحد متنها كما سنعرف قريبا "والموقوفات على الصحابة" والتابعين فإنه قد يطلق عليه لفظ الحديث كما يدل له قوله "وقال ابن الصلاح بعد حكاية كلام البخاري إلا أن هذه العبارة" يعني قوله مائة ألف حديث صحيح "قد يتدرج تحتها عندهم" أي عند أئمة هذا الشأن "آثار الصحابة والتابعين" قال ابن الصلاح1:"وربما عد الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين" باعتبار إسناديه.

1 علوم الحديث ص "27".

ص: 58