المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلام مستحسن للشافعي في العدالة - ثمرات النظر في علم الأثر

[الصنعاني]

الفصل: ‌كلام مستحسن للشافعي في العدالة

وأجمعت الْأمة عَلَيْهِ من أَنه لَا يقبل من بَينه وَبَين أَخِيه إحْنَة مَعَ أَنه مَقْبُول على من لَيْسَ بَينه وَبَين أَخِيه إحْنَة فَلم يخرج الْمُسلم الثِّقَة بالإحنة الَّتِي بَينه وَبَين أَخِيه مَا لم يسرف فِي الْعَدَاوَة إِلَى حد لَا يتَجَاوَز إِلَيْهِ أهل الدّين

‌كَلَام مستحسن للشَّافِعِيّ فِي الْعَدَالَة

قَالَ وَقد قَالَ الشَّافِعِي فِي الْعَدَالَة قولا استحسنه كثير من الْعُقَلَاء من بعده قَالَ لَو كَانَ الْعدْل من لم يُذنب لم نجد عدلا وَلَو كَانَ كل ذَنْب لَا يمْنَع من الْعَدَالَة لم نجد مجروحا وَلَكِن من ترك

ص: 72

الْكَبَائِر وَكَانَت محاسنه أَكثر من مساوئه فَهُوَ عدل انْتهى

قلت وَهَذَا قَوْله حسن وَيُؤَيِّدهُ أَن أهل اللُّغَة فسروا الْعدْل بنقيض الْجور وَلَيْسَ الْجور عبارَة عَن ملكة راسخة توجب إتْيَان كل مَعْصِيّة وَلَا الجائر لُغَة كل من يَأْتِي مَعْصِيّة بل من غلب جوره على عدله وَفِي الحَدِيث (بعثت فِي زمن الْملك الْعَادِل) يَعْنِي كسْرَى وَإِن كَانَ الحَدِيث ضَعِيفا

وَمَعْلُوم أَنه يَأْتِي من الْجور

ص: 73

جانبا لَو لم يكن إِلَّا كفره بِاللَّه وَرُسُله هَذَا

وَأما القَوْل بِأَن الأَصْل الْفسق كَمَا قَالَ الْعَضُد فِي شرح مُخْتَصر الْمُنْتَهى وَتَابعه عَلَيْهِ الآخذون من كِتَابه وَغَيرهم وَاسْتدلَّ بِأَن الْعَدَالَة طارئة وَلِأَنَّهُ أَكثر فَفِيهِ تَأمل لِأَن الْفسق أَيْضا طارىء فَإِن الأَصْل أَن كل مُكَلّف يبلغ من سنّ تَكْلِيفه على الْفطْرَة فَهُوَ عدل فَإِن بَقِي عَلَيْهَا من غير مُخَالفَته لم يفسق وَيَأْتِي بِمَا يجب فَهُوَ على عَدَالَته مَقْبُول الرِّوَايَة وَإِن لابس المفسقات فَلهُ حكم مَا لابسه

ثمَّ رَأَيْت السعد فِي شرح الشَّرْح قد أَشَارَ إِلَى هَذَا وَتعقبه صَاحب الْجَوَاهِر بِمَا لَيْسَ بجيد

وَأما الِاسْتِدْلَال بِأَن الأَصْل هُوَ الْغَالِب وَالْفِسْق فِي الْمُسلمين أغلب فقد قيد هَذَا بعض الْمُحَقِّقين بِأَن الأغلبية إِنَّمَا هِيَ فِي زمن تبع تبع التَّابِعين لَا فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم لحَدِيث (خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ يفشو الْكَذِب) قلت وَقَوله صلى الله عليه وسلم (ثمَّ يفشو

ص: 74

الْكَذِب) يشْعر بِأَن الْخَيْرِيَّة بِالنّظرِ إِلَى صدق الْأَقْوَال

وَأما اسْتِدْلَال من اسْتدلَّ على أغلبية الْفسق بقوله تَعَالَى {وَقَلِيل مَا هم} {وَقَلِيل من عبَادي الشكُور}

ص: 75

{وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} فَغير جيد إِذْ المُرَاد أَن الْمُؤمنِينَ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكفَّار كَمَا يدل عَلَيْهِ سِيَاق الْآيَات إِلَّا أَن أهل الْعَدَالَة قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسلمين الَّذين لَيْسُوا بعدول

ثمَّ قَالَ فَيحمل الْفَرد الْمَجْهُول على الْأَعَمّ الْأَغْلَب فَهَذَا بعد تَسْلِيم أَن الْأَغْلَب الْفسق لَيْسَ لنا أَن نحمل الْمُسلم الْمَجْهُول الْعَدَالَة على الْأَعَمّ الْأَغْلَب وَهُوَ فسقه لِأَنَّهُ إِضْرَار بِهِ وتفسيق لَا بِنَصّ وَلَا قِيَاس وَلَا شَيْء من الْأَدِلَّة مَعَ أَنه قد تقرر أَنه لَا تفسيق إِلَّا بقاطع

ثمَّ نعود إِلَى الِاسْتِدْلَال على أَن المعتد فِي قبُول الْأَخْبَار حُصُول ظن الصدْق وَأَن مَجْهُول الْعَدَالَة مَقْبُول خَبره لما ثَبت عَن عَليّ رضي الله عنه أَنه كَانَ يسْتَحْلف الرَّاوِي وَمَعْلُوم أَنه لَا يحلف مَعْرُوف الْعَدَالَة إِذْ الْعَدَالَة مَانِعَة من الْكَذِب ومحصلة للظن بِصدق خَبره

وَلَا يحلف الْمَعْرُوف بِالْفُجُورِ وَعدم الْعَدَالَة إِذْ يَمِينه لَا ترفع الرِّيبَة عَن خَبره فالمحلف من يجهل حَاله فَيجوز أَن تكون يَمِينه

ص: 76

رَافِعَة للريبة محصلة للظن وَلذَا قَالَ وحَدثني أَبُو بكر وَصدق فَإِنَّهُ لما عرف عَدَالَته لم يستحلفه كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَامه وَلَفظه كنت إِذا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثا يَنْفَعنِي الله بِهِ مَا شَاءَ أَن يَنْفَعنِي وَإِن حَدثنِي غَيره اسْتَحْلَفته وحَدثني أَبُو بكر وَصدق ذكره الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي تَذكرته وَقَالَ هُوَ حَدِيث حسن وسَاق طَرِيقه

فَفِيهِ دَلِيل أَن منَاط الْقبُول ظن الصدْق وَطلب الظَّن الْأَقْوَى مهما أمكن من وَظِيفَة من يَتَّقِي الله حق تُقَاته وَقد أمكن هَا هُنَا تَحْصِيله بِيَمِين الرَّاوِي

ص: 77

وَيدل لذَلِك أَنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يقبل خبر من يُخبرهُ وَمَعْلُوم أَنه لظَنّه بِالصّدقِ حَتَّى يبين الله لَهُ بِالْوَحْي عدم صدق الْمخبر مثل خبر زيد ابْن أَرقم حِين أخبرهُ بمقالة عبد الله بن أبي ثمَّ لما جَاءَ ابْن أبي وعاتبه صلى الله عليه وسلم على مَا قَالَه وبلغه وَأقسم بِاللَّه مَا قَالَ شَيْئا وَإِن زيدا كَاذِب فعذره وَصدقه صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لزيد عَمه مَا أردْت إِلَى أَن كَذبك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وفشت الْمَلَامَة لزيد فِي الْأَنْصَار وكذبوه حَتَّى أنزل الله تَعَالَى سُورَة الْمُنَافِقين بِتَصْدِيق زيد رضي الله عنه وَتَكْذيب ابْن أبي فقد قبل صلى الله عليه وسلم خبر زيد أَولا ورتب عَلَيْهِ عتاب ابْن أبي ثمَّ قبل حَدِيث ابْن أبي ورتب عَلَيْهِ النَّاس تَكْذِيب زيد

فَإِن قلت ابْن أبي مُنَافِق وَالْمُنَافِق كَافِر فَيلْزم قبُول خبر الْكَافِر قلت قد ثَبت بِالْإِجْمَاع بِأَن الْمُنَافِقين لَهُم فِي الدُّنْيَا أَحْكَام

ص: 78

الْمُؤمنِينَ وَمِنْهَا قبُول أَخْبَار من يظنّ صدقه مِنْهُم وَهَذَا الحَدِيث من أدلته فِي الْبَاب وَغَيره من الْأَدِلَّة فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قبل خَبره مَعَ علمه بنفاقه حَتَّى أكذبه الله

وَكَذَلِكَ قصَّة بني أُبَيْرِق وَقَوله صلى الله عليه وسلم (هم أهل بَيت يذكر عَنْهُم إِسْلَام وَصَلَاح) لما أخبرهُ مخبر أَنهم كَذَلِك ثمَّ أخبرهُ تَعَالَى

ص: 79

بِحَقِيقَة حَالهم وَأنزل فيهم الْآيَات فِي سُورَة النِّسَاء

فقد كَانَ صلى الله عليه وسلم يقبل خبر من يُخبرهُ عَن هَؤُلَاءِ ويرتب عَلَيْهِ أحكاما وَمَعْلُوم أَنه لَا يعْمل إِلَّا بِظَنّ أَو بِعلم لَا سَبِيل إِلَى الثَّانِي هُنَا فَهُوَ يعْمل استنادا فِي حُصُول الظَّن بخبرهم أَو إِحْسَان الظَّن بهم فَإِنَّهُم لَا يكذبُون فَإِنَّهُ قد كَانَ يتنزه عَن الْكَذِب الْكفَّار لقبحه عِنْدهم

بل أبلغ من هَذَا أَنه صلى الله عليه وسلم أَمر بغزو بني المصطلق لما أخبرهُ الْوَلِيد بن عقبَة أَنهم تجمعُوا لرد رَسُوله حَتَّى أنزل الله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الْآيَة

إِن قلت لَعَلَّه صلى الله عليه وسلم ماكان يعْمل بأخبار أهل ذَلِك الْعَصْر إِلَّا لعدالتهم لَا بِمُجَرَّد حُصُول الظَّن بأخبارهم قلت الْإِنْصَاف أَن أهل

ص: 80

ذَلِك الْعَصْر كغيرهم فيهم العصاة وَأهل التَّقْوَى ففيهم من ارْتكب فَاحِشَة الزِّنَى وَفِيهِمْ من شرب الْمُسكر وحد عَلَيْهِ وَمِنْهُم من قذف الْمُحْصنَات وَفِيهِمْ من قتل النَّفس الَّتِي حرم الله وَفِيهِمْ من غل من الْمغنم وَفِيهِمْ من سرق وَقطعت يَده هَذَا فِي حَيَاته صلى الله عليه وسلم

وَفِيهِمْ المُنَافِقُونَ لَا يعلمهُمْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} وَفِيهِمْ المرجفون {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض والمرجفون فِي الْمَدِينَة} وَإِذ كَانَ لَا يعلمهُمْ صلى الله عليه وسلم وَلَا يعرف نفاقهم فيكف يُمَيّز الْعدْل عَن غَيره وَأما المُنَافِقُونَ المعروفون بالنفاق كَابْن أبي فسلف آنِفا قبُول أخبارهم ومعاملتهم مُعَاملَة من يظنّ صدقه صلى الله عليه وسلم من الْمُؤمنِينَ مَا

ص: 81

لم يكذبهم الله نعم من صحب الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم وَاتبعهُ حق الإتباع أُمَم من أهل ذَلِك الْعَصْر متقون رضي الله عنه وَرَضوا عَنهُ وَأعد لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا إِلَّا أَنه لَا يَقْتَضِي الحكم على أهل كل عصر بِالْعَدَالَةِ

إِن قلت قَوْله صلى الله عليه وسلم (خير الْقُرُون قَرْني) الحَدِيث

تَزْكِيَة مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لأهل عصره وَمن بعدهمْ مِمَّن ذكرهم

قلت تقدّمت الْإِشَارَة إِلَى أَنه إِخْبَار عَن خيريتهم بِالنّظرِ إِلَى الصدْق وَالْعَدَالَة أخص مِنْهُ وَكَذَلِكَ الصدْق شعار الْأَغْلَب مِنْهُم وَلذَا قَالَ ثمَّ يفشو الْكَذِب فَإِنَّهُ يشْعر أَن ثمَّ كذبا فِي تِلْكَ الْأَعْصَار المخبرة إِلَّا أَنه لَا فشو غَلَبَة

فَإِن قلت الممادح جملَة الْوَارِدَة كتابا وَسنة أَدِلَّة على عَدَالَة أهل ذَلِك الْعَصْر

قلت قد وَردت الممادح فِي جملَة الْأمة وَلَا تَقْتَضِي تَزْكِيَة

ص: 82

الْأَفْرَاد اتِّفَاقًا فَكَذَلِك هُنَا لِأَن الثَّنَاء على الْجُمْلَة لَا يَقْتَضِي الثَّنَاء على كل فَرد فَرد

فَإِن قلت قبُوله صلى الله عليه وسلم لأخبار أهل ذَلِك الْعَصْر دَلِيل على عدالتهم وَلَا يقْدَح فِيهِ أَنه أَتَاهُ الْوَحْي أَن فيهم كَذَّابين وَأَن مِمَّن أخبرهُ فَاسِقًا قلت وَمَتى سلمنَا أَن الْعَدَالَة الَّتِي رسموها شَرط فِي قبُول الرِّوَايَة وَأَيْنَ دليلها وَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِأَن قبُوله صلى الله عليه وسلم دَلِيل لَهَا حَتَّى يتم أَنَّهَا شَرط وَإِلَّا فَهُوَ دور

فَإِن قلت قد دَار قبُوله صلى الله عليه وسلم لأخبارهم على أحد الْأَمريْنِ إِمَّا حُصُول الظَّن أَو عَدَالَة الرَّاوِي فَحَمله على أحد الْأَمريْنِ دون الآخر تحكم

قلت عَدَالَة الرَّاوِي مَا قَامَ الدَّلِيل على شرطيتها وَظن الصدْق أَمر لَا بُد مِنْهُ إِذْ لَا عمل إِلَّا عَن علم أَو ظن فحملناه على الْمُتَيَقن

وَنحن فِي مقَام النَّفْي لشرطية الْعَدَالَة الْمَخْصُوصَة فالدليل

ص: 83