الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْقَصْد من هَذَا بَيَان أَن أَقْوَال الْحَافِظ إِن ثبتَتْ رُؤْيَة لمروان فَلَا يعرج على من تكلم فِيهِ فِي أَنه جعل الرُّؤْيَة كالعصمة وَكَلَامه خلاف مَا عَلَيْهِ أَئِمَّة الحَدِيث
وَلَا يُقَال من ارْتَدَّ فقد استثنوه من اسْم الصُّحْبَة لأَنا نقُول لَيْسَ مرادنا إِلَّا أَن الرُّؤْيَة لَيست بمانعة من ارْتِكَاب الْمعاصِي وَلَا يُقَال فِيهَا إِن ثبتَتْ فَلَا يعرج على كَلَام من تكلم فِي صَاحبهَا فَإِن هَذَا أصل لم يُوَافق قَائِله عَلَيْهِ وَلَا يُطَابق مَا عرف من كَلَام أَئِمَّة الحَدِيث
نتائج الْبَحْث
وَإِذا أحطت علما بِمَا أسلفناه فها هُنَا فَوَائِد هِيَ كالنتائج وَالْفُرُوع لما قدمْنَاهُ
الأولى أَن التوثيق لَيْسَ عبارَة عَن التَّعْدِيل فِي اصطلاحهم بل عَن أَن الموثق اسْم مفعول صَادِق لَا يكذب مَقْبُول الرِّوَايَة كَمَا سمعته من توثيقهم من لَيْسَ بِعدْل
فالعدالة فِي اصطلاحهم أخص من التوثيق وَوُجُود الْأَعَمّ
لَا يسْتَلْزم وجود الْأَخَص
الثَّانِيَة التَّعْدِيل بِأَنَّهُ أخرجه لَهُ الشَّيْخَانِ كَمَا يَقُولُونَهُ كثيرا أَو أَحدهمَا أَو احتجا بِهِ أَو أَحدهمَا لَيْسَ تعديلا بل هُوَ تَوْثِيق أَيْضا
فَقَوْل الشَّيْخ أبي الْحسن الْمَقْدِسِي فِي الرجل الَّذِي يخرج عَنهُ فِي الصَّحِيح هَذَا جَازَ القنطرة حَتَّى لَا يلْتَفت إِلَى مَا قيل فِيهِ كَأَنَّهُ يُرِيد كثير مِنْهُم جازها وَإِلَّا فَكيف يجوزها النواصب وغلاة الشِّيعَة وَأهل الإرجاء والمبتدعة مِمَّن هم فِي الصَّحِيح
الثَّالِثَة قدح المبتدع فِي المبتدع لَا يقبل على أصلهم كَمَا قَالَ الْحَافِظ فِي الرَّد على الْجوزجَاني فِي قدحه على إِسْمَاعِيل بن أبان بالتشيع وَهَذِه فَائِدَة جليلة تُؤْخَذ من غُضُون الأبحاث وَقد صرح بهَا الأصوليون حَيْثُ قَالُوا لَا يقبلان أَي الْجرْح وَالتَّعْدِيل إِلَّا من عدل
وَلكنه لَا يتم إِلَّا لمن عد ترك الْبِدْعَة من مَاهِيَّة الْعَدَالَة كَمَا فعله الْحَافِظ وَابْن الْحَاجِب لَا كَمَا نَقله صَاحب غَايَة السؤل فَإِنَّهُ حذف قيد الابتداع وَلم يبين فِي شَرحه وَجه حذفه كَأَنَّهُ لما قَالَه السعد فِي شرح الشَّرْح إِن فِي كَون الْبِدْعَة مخلة بِالْعَدَالَةِ نظر انْتهى وَلم يبين وَجه النّظر إِلَّا يكون أَن الْغَزالِيّ لم يذكرهَا فِي رسم الْعَدَالَة وَلم يتَكَلَّم صَاحب جَوَاهِر التَّحْقِيق على هَذَا
وَقد عرفت مِمَّا أسلفناه أَن الأولى ترك قيد الابتداع إِلَّا أَن يدرج فِي الْكَبَائِر لما عرفت من نهوض الْأَدِلَّة على أَنَّهَا مِنْهَا وَقد عده صَاحب الزواجر مِنْهَا وَهُوَ صَادِق عَلَيْهِ حَدهَا بِأَنَّهَا مَا توعد عَلَيْهِ بِعَيْنِه كَمَا فِي الْفُصُول وَجمع الْجَوَامِع فَمَا نظره السعد غير صَحِيح إِلَّا أَن يُرِيد أَنَّهَا قد دخلت فِي قيد من قيود حد الْعَدَالَة وَإِلَّا صَحَّ أَن هَذَا مُرَاده فَإِنَّهُ جعل مَحل النّظر إخلالها بِالْعَدَالَةِ
وَإِذا عرفت أَنه لَا يقبل مُبْتَدع فِي مُبْتَدع فقد قل من خلا عَن الابتداع من الجارحين لغَيرهم فَلَا يَنْبَغِي على مَا قَالُوا إِنَّه يقبل قَول
جارح حَتَّى يعلم خلوه من الْبِدْعَة بِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا لإطلاقهم إِيَّاهَا فِي الرَّسْم
الرَّابِعَة من يقبل فساق التَّأْوِيل وينقل الْإِجْمَاع على قبولهم كالأمير الْحُسَيْن صَاحب الشِّفَاء فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابه شِفَاء الأورام فِي كتاب الْوَصَايَا وَأما الْفَاسِق التَّأْوِيل فَإنَّا لَا نبطل كفاءته فِي النِّكَاح كَمَا تقدم ونقبل خَبره الَّذِي نجعله أصلا للْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لإِجْمَاع الصَّحَابَة على قبُول أَخْبَار الْبُغَاة على أَمِير الْمُؤمنِينَ عليه السلام وإجماعهم حجَّة انْتهى
فَلَا يعاب عَلَيْهِ رِوَايَته عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة أول حَدِيث فِي كِتَابه وَغَيره يعاب عَلَيْهِ قدحه فِي جرير بن عبد الله ورده لخبره بعد مَا جعل غَيره مَقْبُولًا مَعَه وَهُوَ الْبَغي
الْخَامِسَة قَول الْأُصُولِيِّينَ من طرق التَّعْدِيل رِوَايَة من لَا يروي إِلَّا عَن عدل طَريقَة عزيزة الْوُجُود بل عديمة فَإِن هذَيْن
الشَّيْخَيْنِ صَاحِبي الصَّحِيح هما أحسن النَّاس رجَالًا وَكَذَلِكَ النَّسَائِيّ قَالَ الذَّهَبِيّ وَابْن حجر يتعنت فِي الرِّجَال وَقد سَمِعت مَا فِي كتبهمْ مِمَّن لَيْسَ بِعدْل أَو غَيرهم أبعد وَأبْعد عَن ذَلِك الِالْتِزَام
وَبِه يعلم أَن قَول الْحَافِظ ابْن حجر إِن شَرط الصَّحِيح أَن يكون رِوَايَة مَعْرُوفا بِالْعَدَالَةِ فَمن زعم أَن أحدا مِنْهُم أَي مِمَّن فِي الصَّحِيحَيْنِ مَجْهُول الْعَدَالَة فَكَأَنَّهُ نَازع المُصَنّف أَيْضا فِي دَعْوَاهُ أَنه مَعْرُوف وَلَا شكّ أَن الْمُدَّعِي لمعرفته مقدم على من يَدعِي عدم مَعْرفَته لما مَعَ الْمُثبت من زِيَادَة الْعلم انْتهى
هَذَا مُسلم فِي هَذَا النَّوْع لَكِن كَيفَ يتم فِيمَن عرف بِعَدَمِ الْعَدَالَة كعمران بن حطَّان من رجال البُخَارِيّ ومروان من رجالهما لما عرفت من اعْتِمَاد مَالك على مَرْوَان واعتماد الشَّيْخَيْنِ على مَالك وَقَوْلهمْ لَيْسَ لمروان فِي مُسلم سلم لَكِن مَالك من
رجال مُسلم وَرُبمَا كَانَ فِيهِ من حَدِيث مَرْوَان من طَرِيقه وَقد تقرر أَن الْجَارِح أولى من الْمعدل لِأَن عِنْده زِيَادَة علم وَلِأَن قبُوله عمل بالجارح والمعدل والإعمال أولى من الإهمال
إِن قلت مَا روى مُلْتَزم الرِّوَايَة عَن الْعُدُول إِلَّا عَن عدل فِي ظَنّه وَلَعَلَّه لم يطلع على مَا فِيهِ من قدح أَو كَانَ يرى إِنَّمَا قدح بِهِ لَيْسَ بجارح عِنْده لاخْتِلَاف أنظار النظار إِلَى ذَلِك
قلت مَعْلُوم أَن هَذَا مُرَاد الْمُلْتَزم وعذره إِلَّا أَنا نقُول بعد تتبع النقاد لرِوَايَة ذَلِك الْمُلْتَزم ووجودهم فِي رِوَايَة الْمَجْرُوحين وَغير الْعُدُول شكك ذَلِك على النَّاظر فِي عَدَالَة من روى عَنهُ هَؤُلَاءِ الملتزمون لعدالة الروَاة لتجويز أَنه لَيْسَ بِعدْل وَدَلِيل التجويز ظُهُور غير الْعدْل فِي روايتهم وَحِينَئِذٍ فَلَا يبْقى مُجَرّد رِوَايَات من لَا يروي إِلَّا عَن عدل تعديلا وَهَذَا أوضح وَيَأْتِي هَذَا فِي الْفَائِدَة الْعَاشِرَة
السَّادِسَة من الْبعد عَن الْإِنْصَاف قَول ابْن الْقطَّان إِن فِي رجال الصَّحِيحَيْنِ من لَا يعلم إِسْلَامه فضلا عَن عَدَالَته وَكم بَين هَذَا وَبَين قَول الْحَافِظ السَّابِق آنِفا وَكَلَام ابْن الْقطَّان وَإِن تَلقاهُ بعض محققي الْمُتَأَخِّرين بِالْقبُولِ فَلَيْسَ بمقبول إِذْ من الْمَعْلُوم أَنه لَا يروي أحد من أهل الْعلم كَلَام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن غير مُسلم فَلَا بالإفراط وَلَا بالتفريط وكلا طرفِي قسط الْأُمُور ذميم
السَّابِعَة قَول الذَّهَبِيّ إِن أهل الْبِدْعَة الْكُبْرَى الحاطين على الشَّيْخَيْنِ الدعاة إِلَى ذَلِك لَا يقبلُونَ وَلَا كَرَامَة غير صَحِيح فقد
خَرجُوا الْجَمَاعَة من أهل هَذَا الْقَبِيل كعدي بن ثَابت وَتقدم لَك أَنه قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَافِضِي غال
وَأخرج السِّتَّة لأبي مُعَاوِيَة الضَّرِير قَالَ الذَّهَبِيّ إِنَّه غال فِي التَّشَيُّع وَوَثَّقَهُ الْعجلِيّ وَلَا يخفى من وثقوه من أهل هَذِه الصّفة
وَلَا تراهم يعولون إِلَّا على الصدْق كَمَا قَالَ البُخَارِيّ فِي أَيُّوب ابْن عَائِذ بن مُدْلِج كَانَ يرى الإرجاء إِلَّا أَنه صَدُوق وَقد وَثَّقَهُ من سلف
وَالْعجب من قَول غلاة الشِّيعَة ورد مثل الْحَارِث الْأَعْوَر والقدح فِيهِ بالتشيع حَتَّى تكلّف مُسلم فِي مُقَدّمَة صَحِيحه بِذكر أَشْيَاء عَن الْحَارِث لَا تعد قدحا وَلَا جرحا كَقَوْلِه إِنَّه قَالَ تعلمت الْوَحْي فِي سنتَيْن أَو فِي ثَلَاث سِنِين وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى الْقُرْآن هَين الْوَحْي شَدِيد
قَالَ فِي شرح مُسلم للنووي ذكر مُسلم هَذَا فِي جملَة مَا أنكر على الْحَارِث الْأَعْوَر وجرح بِهِ وَأخذ عَلَيْهِ من قَبِيح مذْهبه وغلوه فِي التَّشَيُّع وَكذبه انْتهى
قلت الْعجب من الْقدح بِهَذِهِ الْعبارَات الَّتِي مَا يكَاد يتَبَيَّن المُرَاد بهَا مَعَ صِحَة حملهَا على مَا لَا ضير فِيهِ كَمَا تسمعه عَن الْخطابِيّ وأعجب من ذَلِك قَول شَارِح مُسلم إِنَّهَا من قَبِيح مذْهبه وغلوه فِي التَّشَيُّع وَأي مآس لهَذِهِ الْأَلْفَاظ بالتشيع مَا هَذَا بإنصاف
وَلَقَد أحسن القَاضِي عِيَاض حَيْثُ قَالَ أَرْجُو أَن هَذَا يَعْنِي الْكَلَام الَّذِي نَقله مُسلم عَن الْحَارِث من أخف أَحْوَاله لاحْتِمَاله الصَّوَاب فقد فسره بَعضهم بِأَن الْوَحْي هُنَا الْكِتَابَة وَمَعْرِفَة الْخط قَالَ الْخطابِيّ يُقَال أوحى ووحي إِذا كتب
وعَلى هَذَا لَيْسَ على الْحَارِث فِي هَذَا دَرك انْتهى
إِن قلت قد قَدَحُوا فِيهِ بِالْكَذِبِ قلت تعجبنا من
قدحهم فِيهِ بالتشيع وَمن إثباتهم كلَاما لَيْسَ فِيهِ شَيْء من قدح وَلَا تشيع
الثَّامِنَة أهل الحَدِيث اتّفق لَهُم فِي مُخَالفَة فروعهم لأصولهم مِثْلَمَا اتّفق لأهل سَائِر الْفُنُون أصلوا أَنه لَا يقبل الداعية وَسمعت قبولهم لَهُ وأصلوا أَنه لَا يقبل غلاة الروافض وَسمعت قبولهم لَهُم وأصلوا أَنه لَا يقبل غلاة أهل الإرجاء ونراهم يقبلونهم وأصلوا أَنه لَا يقبل أهل الْقدر ونراهم يقبلُونَ من اتّصف بِهِ وَهَذَا كُله يرشدك إِلَى صِحَة مَا قَرَّرْنَاهُ من أَنه لَا يُلَاحظ إِلَّا ظن الصدْق وَأَنه مدَار الرِّوَايَة
وَلَقَد كرر فِي العواصم أَن الْمُعْتَبر فِي الرَّاوِي ظن الصدْق
التَّاسِعَة كَلَام الأقران والمتضادين فِي الْمذَاهب والعقائد لَا يَنْبَغِي قبُوله فقد فتح بَاب التمذهب عداوات وتعصبات قل من سلم مِنْهَا إِلَّا من عصمَة الله قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة أَحْمد
ابْن عبد الله بن أبي نعيم مَا لَفظه كَلَام الأقران بَعضهم فِي بعض لَا يعبأ بِهِ لَا سِيمَا إِذا لَاحَ لَك أَنه لعداوة أَو لمَذْهَب أَو لحسد لَا ينجو مِنْهُ إِلَّا من عصمه الله وَمَا علمت أَن عصرا من الْأَعْصَار سلم أَهله من ذَلِك سوى النَّبِيين وَالصديقين فَلَو شِئْت لسردت لَك من ذَلِك كراريس انْتهى
وَهَذَا كَلَام الذَّهَبِيّ وَنَصه وَقد عيب عَلَيْهِ مَا عابه عَلَيْهِ غَيره قَالَ ابْن السُّبْكِيّ فِي الطَّبَقَات نقلا عَن الْحَافِظ صَلَاح الدّين العلائي مَا لَفظه الشَّيْخ شمس الدّين الذَّهَبِيّ لَا شكّ فِي دينه وورعه وتحريه فِيمَا يَقُول وَلكنه غلب عَلَيْهِ منافرة التَّأْوِيل والغفلة عَن التَّنْزِيه حَتَّى أثر ذَلِك فِي طبعه انحرافا شَدِيدا عَن أهل التَّنْزِيه وميلا قَوِيا إِلَى أهل الْإِثْبَات فَإِذا ترْجم لأحد مِنْهُم أطنب فِي محاسنه وتغافل عَن غلطاته وَإِذا ذكر أحدا من أهل الطّرف الآخر كالغزالي وإمامه الْجُوَيْنِيّ لَا يُبَالغ فِي وَصفه وَيكثر من أَقْوَال من طعن فِيهِ وَإِذا ظفر لأَحَدهم بغلطة ذكرهَا
وَكَذَا فِي أهل عصرنا إِذا لم يقدر على التَّصْرِيح يَقُول فِي تَرْجَمته وَالله يصلحه وَنَحْو ذَلِك
وَسَببه الْمُخَالفَة فِي العقيدة
انْتهى
قَالَ ابْن السُّبْكِيّ وَقد وصل يُرِيد الذَّهَبِيّ من التعصب وَهُوَ شَيخنَا إِلَى حد يسخر مِنْهُ وَأَنا أخْشَى عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة من غَالب عُلَمَاء الْمُسلمين وَالَّذِي أُفْتِي بِهِ أَنه لَا يجوز الِاعْتِمَاد على شَيخنَا الذَّهَبِيّ فِي ذمّ أشعري وَلَا مدح حنبلي
وَأَقُول الصّلاح العلائي وَابْن السُّبْكِيّ شافعيان إمامان كبيران والذهبي إِمَام كَبِير الشَّأْن حنبلي الْمَذْهَب وَبَين هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ فِي العقائد وَفِي الصِّفَات وَغَيرهَا تنافر كلي فَلَا يقبلان عَلَيْهِ تعين مَا قَالَاه
وَقَالَ ابْن السُّبْكِيّ قد عقد ابْن عبد الْبر بَابا فِي حكم قَول الْعلمَاء بَعضهم فِي بعض بَدَأَ فِيهِ بِحَدِيث الزبير دب إِلَيْكُم دَاء الْأُمَم قبلكُمْ الْحَسَد والبغضاء
قَالَ ابْن السُّبْكِيّ وَقد
عيب على ابْن معِين كَلَامه فِي الشَّافِعِي وتكلمه فِي مَالك بن أبي ذِئْب وَغَيره
قلت إِذا كَانَ الْأَمر كَمَا سَمِعت فَكيف حَال النَّاظر فِي كتب الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَقد غلب التمذهب والمخالفة فِي العقائد حَتَّى إِنَّه يُوصف الرجل بِأَنَّهُ حجَّة أَو يُوصف بِأَنَّهُ دجال بِاعْتِبَار اخْتِلَاف حَال الاعتقادات والأهواء
فَمن هُنَا كَانَ أصعب شَيْء فِي عُلُوم الحَدِيث الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَلم يبْق للباحث طمأنينة إِلَى قَول أحد ثمَّ مَا بعد قَول ابْن السُّبْكِيّ إِنَّه لَا يقبل قَول الذَّهَبِيّ فِي مدح حنبلي وَلَا ذمّ أشعري
وَقد صَار النَّاس عَالَة على الذَّهَبِيّ وَكتبه وَلَكِن الْحق أَنه لَا يقبل على الذَّهَبِيّ بِمَا ذكره هُوَ وَبِمَا ذكره الذَّهَبِيّ أَنهم لَا يقبلُونَ الأقران بَعضهم على بعض
ثمَّ إِن كَانَ مُرَادهم بالأقران المتعاصرون فِي قرن وَاحِد والمتساوون فِي الْعُلُوم فَهُوَ مُشكل لِأَنَّهُ لَا يعرف حَال الرجل إِلَّا من عاصره وَلَا يعرف حَاله من بعده إِلَّا بأخبار من قارنه
إِن أُرِيد الأول وَإِن أُرِيد الثَّانِي فَأهل الْعلم هم الَّذين يعْرفُونَ أمثالهم وَلَا يعرف أولي الْفضل إِلَّا ذَوُو الْفضل فَالْأولى إناطة ذَلِك لمن يعلم أَن بَينهمَا تنافسا أَو تحاسدا أَو شَيْئا يكون سَببا لعدم الثِّقَة لقبُول بَعضهم فِي بعض لَا لكَونه من الأقران فَإِنَّهُ لَا يعرف عَدَالَته وَلَا جرحه إِلَّا من أقرانه وَأعظم مَا فرق بَين النَّاس هَذِه العقائد وَالِاخْتِلَاف فِيهَا فليحذر عَن قبُول الْمُخْتَلِفين فِيهَا بَعضهم فِي بعض قبل الْبَحْث عَن سَبَب الْقدح والتثبت فِي صِحَة نسبته إِلَيْهِ وأعون شَيْء على معرفَة ذَلِك فِي هَذِه الْأَعْصَار الْبَحْث فِي كتب الرِّجَال المتعددة الْمُخْتَلف مؤلفوها وسنقرر آخرا مَا يكْشف هَذِه الْغُمَّة
الْعَاشِرَة وجود الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا لَا
يقْضِي بِصِحَّتِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي سبق لوُجُود الرِّوَايَة فيهمَا عَمَّن عرفت أَنه غير عدل فَقَوْل الْحَافِظ ابْن حجر أَن رواتهما قد حصل الِاتِّفَاق على تعديلهم بطرق اللُّزُوم مَحل نظر لقَوْله إِن الْأمة تلقت الصَّحِيحَيْنِ بِالْقبُولِ هُوَ قَول سبقه إِلَيْهِ ابْن الصّلاح وَأَبُو طَاهِر الْمَقْدِسِي وَأَبُو عبد الرَّحِيم عبد الْخَالِق وَإِن اخْتلف هَؤُلَاءِ فِي إِفَادَة هَذَا التلقي الْعلم أَو الظَّن
وَبسط السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْأَمِير رحمه الله سَبَب الْخلاف فِي كتبه وَأَنه جَوَاز الْخَطَأ على الْمَعْصُوم فِي ظَنّه أَو عَدمه وَطول الْكَلَام فِي ذَلِك أَيْضا
وَلنَا عَلَيْهِ أنظار وأودعناها رسالتنا الْمُسَمَّاة حل العقال وَصِحَّته فِي حيّز الْمَنْع
بَيَان ذَلِك أَنا نورد عَلَيْهِ سُؤال الاستفسار عَن طرفِي هَذِه
الدَّعْوَى فَنَقُول فِي الأول هَل المُرَاد أَن كل الْأمة من خَاصَّة وَعَامة تلقتها بِالْقبُولِ أَو المُرَاد عُلَمَاء الْأمة المجتهدون وَمن الْبَين أَن الأول غير مُرَاد وَأَن الثَّانِي دَعْوَى على كل فَرد من أَفْرَاد الْأمة الْمُجْتَهدين أَنه تلقى الْكِتَابَيْنِ بِالْقبُولِ فَلَا بُد من الْبُرْهَان عَلَيْهَا وإقامته على هَذِه الدَّعْوَى من المتعذرات عَادَة كإقامة الْبَيِّنَة على دَعْوَى الْإِجْمَاع الَّذِي جزم بِهِ أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره أَن من ادَّعَاهُ فَهُوَ كَاذِب
وَإِن كَانَ هَذَا فِي عصره قبل عصر تأليف الصَّحِيحَيْنِ فَكيف من بعده وَالْإِسْلَام لَا يزَال منتشرا وتباعد أَطْرَاف أقطاره وَالَّذِي يغلب بِهِ الظَّن أَن من الْعلمَاء الْمُجْتَهدين من لَا يعرف الصَّحِيحَيْنِ إِذْ معرفتهما بخصوصهما لَيست شرطا فِي الِاجْتِهَاد وَبِالْجُمْلَةِ فَنحْن نمْنَع هَذِه الدَّعْوَى ونطالب بدليلها
السُّؤَال الثَّانِي على تَقْدِير تَسْلِيم الدَّعْوَى الأولى فَهَل المُرَاد بالتلقي بِالْقبُولِ تلقي أصل الْكِتَابَيْنِ وجملتهما وأنهما لهذين الْإِمَامَيْنِ الجليلين الحافظين فَهَذَا لَا يُفِيد إِلَّا الحكم بِصِحَّة نسبتهما إِلَى مؤلفيهما
وَلَا يُفِيد الْمَطْلُوب أَو المُرَاد بالتلقي بِالْقبُولِ لكل فَرد من أَفْرَاد أحاديثهما وَهَذَا هُوَ الْمُفِيد الْمَطْلُوب إِذْ هُوَ الَّذِي رتب عَلَيْهِ الِاتِّفَاق على تَعْدِيل رواتهما فَإِن المتلقي بِالْقبُولِ هُوَ مَا حكم الْمَعْصُوم بِصِحَّتِهِ ظنا كَمَا رسمه بذلك السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم رحمه الله وَهُوَ يلاقي قَول الْأُصُولِيِّينَ إِنَّه الَّذِي يكون الْأمة بَين عَامل بِهِ ومتأول لَهُ إِذْ لَا يكون ذَلِك إِلَّا فِيمَا صَحَّ لَهُم
وَيحْتَمل أَنه يدْخل فِي الْحسن فَلَا يلاقي رسمه رسمهم إِلَّا أَنه لَا يخفى عدم صِحَة هَذِه الدَّعْوَى وبرهان ذَلِك مَا سمعته مِمَّا نَقَلْنَاهُ من كَلَام الْعلمَاء من عدم عَدَالَة كل من فيهمَا بل بَالغ ابْن
الْقطَّان فَقَالَ فيهمَا من لَا يعلم إِسْلَامه وَهَذَا تَفْرِيط وَقد تَلقاهُ بعض محققي الْمُتَأَخِّرين كَمَا أسلفناه
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه تَفْرِيط لما علم من أَنه لَا يروي أحد من أَئِمَّة الْمُسلمين عَن غير مُسلم أَحَادِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا أَن دَعْوَى عَدَالَة كل من فيهمَا إفراط وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن أَيْن يتلَقَّى بِالْقبُولِ إِلَّا أَنه قد اسْتثْنى ابْن الصّلاح من التلقي بِالْقبُولِ لأحاديثهما مَا انتقاه الْحفاظ كالدارقطني وَابْن مَسْعُود الدِّمَشْقِي وَأبي عَليّ الغساني قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر وَهُوَ احْتِرَاز حسن
وَقَالَ وعده مَا اجْتمع لنا من ذَلِك مِمَّا فِي كتاب البُخَارِيّ وشاركه مُسلم فِي بَعْضهَا مئة وَعشرَة أَحَادِيث وتتبعها الْحَافِظ فِي مُقَدّمَة الْفَتْح وَأجَاب عَن الْعِلَل الَّتِي قدح بهَا وَبسط الْأَجْوِبَة
وَقَالَ آخر لَيست كلهَا وَاضِحَة بل أَكْثَرهَا الْجَواب عَنهُ ظَاهر والقدح فِيهِ مندفع وَبَعضهَا الْجَواب عَنهُ مُحْتَمل واليسير مِنْهُ فِي الْجَواب عَنْهَا تعسف انْتهى معنى كَلَامه
وَأَقُول فِيهِ أَن الْمُدَّعِي تلقي الْأمة بِالْقبُولِ وَهُوَ أخص من الصِّحَّة وَقد ذهب الْأَكْثَر وَمِنْهُم ابْن حجر إِلَى إفادته الْعلم بِخِلَاف مَا حكم لَهُ لمُجَرّد الصِّحَّة فغاية مَا يُفِيد الظَّن مَا لم يَنْضَم إِلَيْهِ غير ذَلِك فيفيده وَهَذِه الْأَحَادِيث مخرجة عَن الصَّحِيحَيْنِ لَا عَن التلقي بِالْقبُولِ فَإِن كَانَ مَا لم يَصح غير متلقي فَالصَّوَاب فِي الْعبارَة أَن يُقَال غير صَحِيحَة لَا غير متلقاه بِالْقبُولِ لإيهامه أَنَّهَا صَحِيحَة إِذْ لَيْسَ عَنْهَا إِلَّا التلقي بِالْقبُولِ وَهُوَ أخص من الصِّحَّة وَنفي الْأَخَص لَا يسْتَلْزم نفي الْأَعَمّ وَالْحَال أَنَّهَا لَيست
بصحيحة
وَأما قَول السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْأَمِير رحمه الله إِن الْأمة تلقتها بِالْقبُولِ وَإِن صَاحب الْكَشَّاف والأمير الْحُسَيْن ذكرا الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظ الصَّحِيح وَنقل مِنْهُمَا ذَلِك
فَفِي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْإِطْلَاق توقف عِنْدِي لِأَن لفظ صَحِيح البُخَارِيّ وصحيح مُسلم صَارا لقبين للكتابين فإطلاق ذَلِك عَلَيْهِمَا من إِطْلَاق الألقاب على مسمياتها وَلَا يلْزم مِنْهُ الْإِقْرَار بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيّ الإضافي
نعم لَا شكّ أَن الصَّحِيحَيْنِ أشرف كتب الحَدِيث قدرا وَأَعْظَمهَا ذكرا وَأَن أحاديثهما أرفع الْأَحَادِيث دَرَجَة فِي الْقبُول من غَيرهَا لخصائص اختصا بهَا مِنْهَا جلالة مؤلفيها وإمامتهما فِي هَذَا الشَّأْن وبلوغهما غَايَة فِي الدّيانَة والإتقان
ثمَّ مَا رزق هَذَانِ الكتابان من الْحَظ وَالْقَبُول عِنْد أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن
وفرسان ذَلِك الميدان فَبَحَثُوا عَن رجالهما وَتَكَلَّمُوا على كل ذرة فيهمَا مِمَّا لَهما وَعَلَيْهِمَا فغالب أَئِمَّة الْإِسْلَام وأعلام الْأَعْلَام مَا بَين خَادِم لَهما بالْكلَام عَلَيْهِمَا على رجالهما أَو معانيهما أَو على لغتهما أَو على إعرابهما أَو مُخْتَصر فيهمَا أَو مخرج عَلَيْهِمَا
فهما أجل كتب الحَدِيث وأحاديثهما السالمة عَن التَّكَلُّم فيهمَا أقرب الْأَحَادِيث تحصيلا للظن الْمَطْلُوب وَنَفس الْعَالم أسكن إِلَى مَا فيهمَا مِنْهَا إِلَى مَا فِي غَيرهمَا هَذَا شَيْء يجده النَّاظر من نَفسه إِن أنصف وَكَانَ من أهل الْعلم إِنَّمَا لَا ندعي لَهما زِيَادَة على مَا يستحقانه وَلَا يهضم مِنْهُمَا مَا هُوَ أهل لَهُ
وَأما قَول البُخَارِيّ لم أخرج فِي هَذَا الْكتاب إِلَّا صَحِيحا وَمَا تركت من الصَّحِيح أَكثر
وَقَوله مَا أدخلت فِي كتابي الْجَامِع إِلَّا مَا صَحَّ فَهُوَ كَلَام صَحِيح إِخْبَار عَن نَفسه أَنه تحري الصَّحِيح فِي نظره
وَقد قَالَ زين الدّين إِن قَول الْمُحدثين هَذَا حَدِيث صَحِيح
مُرَادهم فِيمَا ظهر لنا عملا بِظَاهِر الْإِسْنَاد لِأَنَّهُ مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ فِي نفس الْأَمر لجَوَاز الْخَطَأ وَالنِّسْيَان على الثِّقَة انْتهى
قلت فَيجوز الْخَطَأ وَالنِّسْيَان على البُخَارِيّ نَفسه فِيمَا حكم بِصِحَّتِهِ وَإِن كَانَ تجويزا مرجوحا لِأَنَّهُ بعد تتبع الْحفاظ لما فِي كِتَابه فإظهار مَا خَالف هَذَا القَوْل الْمَنْقُول عَنهُ فِيهِ من الشّرطِيَّة مَا ينْهض التجويز ويقود الْعَالم الفطن النظار إِلَى زِيَادَة الاختبار وَهَذَا مَا وعدنا بِهِ فِي آخر الْفَائِدَة الْخَامِسَة
على أَن البُخَارِيّ وَمُسلمًا لم يذكرَا شرطا للصحيح وَإِنَّمَا استخرج الْأَئِمَّة لَهما شُرُوطًا بالتتبع لطرق رواتهما وَلم يتَّفق المتتبعون على شَرط مَعْرُوف بل اخْتلفُوا فِي ذَلِك اخْتِلَافا كثيرا
يعرف ذَلِك من مارس كتب أصُول الحَدِيث
وَالْأَقْرَب أَنَّهُمَا لَا يعتمدان إِلَّا على الصدْق والضبط كَمَا اخترناه
وَقد صرح بِهِ الْحَافِظ ابْن حجر فِيمَا أسلفناه عَنهُ أَنه لَا أثر للتضعيف مَعَ الصدْق والضبط وأنهما لَا يُريدَان الْعدْل إِلَّا ذَلِك إِن ثَبت عَنْهُمَا أَنَّهُمَا شرطا أَن لَا تكون الرِّوَايَة إِلَّا عَن عدل وَسلمنَا ثُبُوت اشتراطهما الْعَدَالَة فِي الرَّاوِي فَمن أَيْن علم أَن مَعْنَاهَا
عِنْدهمَا مَا فسرتموها بِهِ مِمَّا أسلفناه فِي رسمهما
قَالَ ابْن طَاهِر شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم أَن يخرجَا الحَدِيث الْمجمع عَلَيْهِ ثِقَة نَقله إِلَى الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور قَالَ زين الدّين لَيْسَ مَا قَالَه بجيد لِأَن النَّسَائِيّ ضعف جمَاعَة أخرج لَهما الشَّيْخَانِ أَو أَحدهمَا
قَالَ السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم رحمه الله لَيْسَ هَذَا مِمَّا اخْتصَّ بِهِ النَّسَائِيّ بل قد شَاركهُ غير وَاحِد فِي ذَلِك من أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل كَمَا هُوَ مَعْرُوف فِي كتب هَذَا الشَّأْن وَلكنه تَضْعِيف مُطلق غير مُبين السَّبَب وَهُوَ غير مَقْبُول على الصَّحِيح انْتهى
قلت لَيْسَ مَا أطلقهُ السَّيِّد مُحَمَّد رحمه الله بِصَحِيح فكم من جرح فِي رجالهما مُبين السَّبَب كَمَا سمعته فِيمَا سلف وَلَئِن سلم فَأَقل أَحْوَال الْجرْح الْمُطلق أَن يُوجب توقفا فِي الرَّاوِي وحثا على الْبَحْث عَن تَفْصِيل أَحْوَاله وَمَا قيل فِيهِ
وَلَا شكّ أَن هَذَا يفت فِي عضد الْقطع بِالصِّحَّةِ
وَهَذِه فَائِدَة مُسْتَقلَّة أَعنِي تَأْثِير الْقدح الْمُطلق توقفا فِي الْمَجْرُوح يُوجب عدم الْعَمَل بروايته حَتَّى يفتش عَمَّا قيل وَإِلَّا لزم الْعَمَل وَالْقطع بالحكم مَعَ الشَّك وَالِاحْتِمَال وَذَلِكَ يُنَافِي الْقطع قطعا
وَلَا نغتر بقَوْلهمْ الْجرْح الْمُطلق لَا يعْتَبر بِهِ فَفِيهِ مَا سَمِعت
فَإِن قلت إِذا كَانَ الْحَال مَا ذكرت من أَنه لَا يقبل الأقران بَعضهم فِي بعض وَلَا التمذهب فِي غير أهل مَذْهَبهم فقد ضَاقَ نطاق معرفَة الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَلَا بُد مِنْهُمَا للنَّاظِر لنَفسِهِ وَأهل الْمذَاهب فِي هَذِه الأزمة كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ وكل فريق فِي غَيرهم يقدحون
قلت إِن شددت يَديك على مَا أسلفناه لَك من الْأَدِلَّة أَنه لَيْسَ الشَّرْط فِي قبُول الرِّوَايَة إِلَّا صدق الرَّاوِي وَضَبطه هان عَلَيْك هَذَا الْخطب الْجَلِيل وَحصل لَك فِي أصل الرِّوَايَة أصل أصيل وَذَلِكَ أَن غَالب الْجرْح والتضعيف بِمثل القَوْل بِالْقدرِ والرؤية وبالإرجاء وبغلو التَّشَيُّع وَغَيرهَا مِمَّا يعود إِلَى العقائد والمذاهب كخلق الْقُرْآن وَمَسْأَلَة الْأَفْعَال
وَلَيْسَت عندنَا هَذِه قوادح فِي الرَّاوِي من حَيْثُ الرِّوَايَة وَإِن كَانَ
بَعْضهَا قادحا من حَيْثُ الدّيانَة فباب الرِّوَايَة غير بَاب الدّيانَة وَإِذا كَانَ قد تحقق الْإِجْمَاع عل قبُول رِوَايَة من سفك دم أهل الْإِسْلَام كسفك دِمَاء عَبدة الْأَوْثَان وأقدم عَلَيْهِم بِالسَّيْفِ والسنان وأخاف إخوانه من أَعْيَان أهل الْإِيمَان لظن صدقه فِي الرِّوَايَة وتأويله فِي الْجنان وَإِن كَانَ تَأْوِيله ترده الْعُقُول وَلَا تقبله الفحول كتأويل مُعَاوِيَة أَن قَاتل عمار رضي الله عنه هُوَ عَليّ عليه السلام لِأَنَّهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى رماحهم وألقاه بَين سيوفهم وكفاحهم وَقد ألزمهُ عبد الله بن عمر بِأَن قَالَ حَمْزَة رضي الله عنه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأفحمه
فَالْأولى قبُول من يرى الإرجاء وَالْقدر وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لم يعْتَقد ذَلِك وَيَدْعُو إِلَيْهِ إِلَّا لاعْتِقَاده أَنه دين الله تَعَالَى الَّذِي قَامَت عَلَيْهِ الْأَدِلَّة فَلم يبْق الْقدح عندنَا إِلَّا بِالْكَذِبِ أَو سوء الْحِفْظ أَو الْوَضع وَمَا لاقاه فِي مَعْنَاهُ مَعَ أَن الْكَذِب عَنهُ رادع طبيعي فِي الجبلة وَلذَا قيل يطبع الْمُؤمن على كل خلق لَيْسَ الْخِيَانَة وَالْكذب وَلَيْسَ بِحَدِيث كَمَا قد توهم
وَقد كَانَ يتنزه عَنهُ أشر خلق الله كالتسعة الرَّهْط الَّذين يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون فَإِنَّهُم قَالُوا {لنبيتنه وَأَهله ثمَّ لنقولن لوَلِيِّه مَا شَهِدنَا مهلك أَهله وَإِنَّا لصادقون} فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ جَار الله رحمه الله وَفِي هَذَا دَلِيل قَاطع على أَن الْكَذِب قَبِيح عِنْد الْكَفَرَة الَّذين لَا يعْرفُونَ الشَّرْع ونواهيه وَلَا يخْطر ببالهم
أَلا ترى أَنهم قصدُوا قتل نَبِي الله وَلم يرْضوا لأَنْفُسِهِمْ أَن يَكُونُوا كاذبين حَتَّى سووا للصدق فِي خبرهم حِيلَة يتصونون بهَا عَن الْكَذِب انْتهى
وَفِي خبر أبي سُفْيَان مَعَ هِرقل الَّذِي سَاقه البُخَارِيّ أَوَائِل
صَحِيحه أَنه ترك الْكَذِب لِئَلَّا يُؤثر عَنهُ هَذَا فَكيف لَا يتنزه عَنهُ الْمُسلمُونَ بل أعيانهم وهم رُوَاة كَلَامه صلى الله عليه وسلم فَإِن الرَّاوِي قد يلابس بعض مَا يُنكر عَلَيْهِ وَلَا يصدر عَنهُ الْكَذِب فِي رِوَايَته
وَهَذَا الزُّهْرِيّ كَانَ يخالط خلفاء الأموية ويلبس زِيّ الأجناد وَيفْعل مَا عابه عَلَيْهِ نظراؤه من أهل الْعلم فِي عصره وعدوه قبيحا عَلَيْهِ وَلما ذكر لَهُ بعض خلفائهم كلَاما فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِي تولى كبره مِنْهُم} الْآيَة وَكذب الزُّهْرِيّ لما ذكر لَهُ الْحق قَالَ مَا مَعْنَاهُ وَالله لَو كَانَ إِبَاحَة الْكَذِب بَين دفتي الْمُصحف أَو نَادَى مُنَاد من السَّمَاء بإباحته لما فعلته انْتهى
فتحرز عَن الْكَذِب وَبَالغ فِي التَّنَزُّه عَنهُ مَعَ غشيانه لما عيب عَلَيْهِ
وَأما حَدِيث ثمَّ يفشو الْكَذِب فَلَا يُنَافِي أَن تكون طَائِفَة من الْأمة متحرزة عَنهُ فقد ثَبت أَنَّهَا لَا تزَال طَائِفَة من الْأمة على الْحق ظَاهِرين لَا يضرهم من خالفهم وَأي طَائِفَة أعظم من
رُوَاة حَدِيثه صلى الله عليه وسلم وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث (إِنَّه يحمل هَذَا الْعلم عَن كل خلف عدوله) صَححهُ ابْن عبد الْبر وَرُوِيَ عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه
حَدِيث صَحِيح
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ مرادنا من هَذَا نفي وُقُوع الْكَذِب من الروَاة بل قد تحقق وُقُوعه بِلَا ريب بل مرادنا أَنه لَا يقبل الْقدح بِالْكَذِبِ والوضع إِلَّا فِيمَن علم خلاعته وتساهله فِي الدّين وارتكابه للعظائم فَإِنَّهُ لَا يقدم على الْكَذِب عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا من كَانَ لَا ديانَة لَهُ مُحَققَة
فَلَا يُقَال يُعَارض مَا ذكرت من الْوَرع عَنهُ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَهُوَ مَا فِي النُّفُوس من محبَّة الرِّئَاسَة بالتسمي بالمحدث والترفع وَالدَّعْوَى الْبَاطِلَة بِأَنَّهُ حَافظ للأحاديث راولها صَاحب الرِّوَايَات حَافظ الْعَصْر وَنَحْو ذَلِك من الألقاب القاطعة للأعناق الحاملة على تحلي الْإِنْسَان بِغَيْر مَا هُوَ أَهله
لأَنا نقُول هَذَا لَا يكون إِلَّا لمن لَهُ إِلْمَام بمخافة الله وتقواه السَّامع للوعيد فِيمَن تَقول عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مَا لم يقلهُ وَلَا يصدر هَذَا إِلَّا عَن خليع تفضحه خلاعته وتنفر عَنهُ وَعَن الرِّوَايَة عَنهُ وَعَن قبُوله
وَلَا يخفى على ناقد حَقِيقَة حَاله وَمثل هَذَا لَا يكون بِحَمْد الله مَقْبُولًا عَن أحد من طوائف الروَاة وَلَا يقبل ترويجه بل هُوَ أقرب شَيْء إِلَى الافتضاح فَهُوَ مَأْمُون دُخُوله فِي الروَاة الَّذين قبلهم أساطين الْحفاظ المفتشين عَن كل ذرة والمتتبعين كل لَفْظَة
وَلَا يكون الْكَذِب إِلَّا لخليع لَا يُبَالِي بالهتك كَمَا قَالَ بعض الْخُلَفَاء وَقد عوتب على الْكَذِب لَو غرغرت بِهِ لهواتك مَا فارقته
كَمَا قيل لكذاب هَل صدقت قطّ فَقَالَ لَوْلَا أَنِّي صَادِق فِي قَول لَا لقلتهَا
وأمثال هَؤُلَاءِ قد صان الله أَحَادِيث رَسُول صلى الله عليه وسلم أَن يَكُونُوا من رواتها وَقد جعل الله لكَلَامه صلى الله عليه وسلم رونقا وطلاوة وحلاوة يكَاد يعرف الممارسين لأحاديثه كَلَامه صلى الله عليه وسلم من كَلَام غَيره فَإِنَّهُ قد أُوتِيَ صلى الله عليه وسلم جَوَامِع الْكَلم وَأَتَاهُ الله من البلاغة مَا لم يُؤْت أحدا من الْعَالمين ولمعاني كَلَامه ومقاصده مَا يعرف بِهِ كَلَامه من كَلَام غَيره فِي الْأَغْلَب
وَقد أخرج أَحْمد وَأَبُو يعلى عَن أبي أسيد وَأبي حميد مَرْفُوعا إِذا سَمِعْتُمْ الحَدِيث عني تعرفه قُلُوبكُمْ وتلين لَهُ أَشْعَاركُم وَأَبْشَاركُمْ وترون أَنه مِنْكُم قريب فَأَنا أولاكم بِهِ وَإِذا سَمِعْتُمْ الحَدِيث عني تنكره قُلُوبكُمْ وتنفر مِنْهُ أَشْعَاركُم وَأَبْشَاركُمْ وترون أَنه بعيد عَنْكُم فَأَنا أبعدكم مِنْهُ وَإِن كَانَ قد
ضعف فَمَعْنَاه حسن فَإِن قلت إِذا كَانَت أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل قد قيل فيهم مَا قيل فَكيف يَأْمَن النَّاظر لَدَيْهِ أَن يَقُولُوا فِيمَن خَالف مَذْهَبهم كَاذِب أَو وَضاع وَلَيْسَ كَذَلِك فَكيف الثِّقَة بهم قلت قد عرفنَا من تتبع أَحْوَالهم الْإِنْصَاف فِيمَا يَقُولُونَهُ أَلا تراهم يَقُولُونَ ثِقَة إِلَّا أَنه كَانَ يتشيع كَانَ حجَّة إِلَّا أَنه كَانَ يرى الْقدر كَانَ ثِقَة إِلَّا أَنه كَانَ مرجئا كَانَ مائلا عَن الْحق وَلم يكذب فِي الحَدِيث كَانَ يرى الْقدر وَهُوَ مُسْتَقِيم الحَدِيث فَهَذَا دَلِيل أَن الْقَوْم كَانُوا يذكرُونَ فِي الشَّخْص مَا هُوَ عَلَيْهِ
واتصف بِهِ من خير وَشر وَلَا يتقولون عَلَيْهِ إِذْ لَو كَانُوا يتقولون لرموا من خالفهم فِي الْمذَاهب بِالْكَذِبِ وَلما وثقوا شِيعِيًّا وَلَا قدريا وَلَا مرجئا
وهب أَنهم يتَّفق لَهُم شَيْء من ذَلِك فَلَا تَأْخُذ بِأول قَول يطْرق سَمعك من إِمَام جرح وتعديل بل تتبع مَا قَالَه فِيهِ غَيره واستقراء الْقَرَائِن فَلَا بُد وَأَن يحصل لَك ظن تعْمل بِهِ أَو تقف على الْعَمَل بِهِ
وَصدق من درج من قبلنَا وَحسن حَاله أَو قبحه لَا يعرف إِلَّا بقرائن تُؤْخَذ مِمَّا يسرده عَنهُ الروَاة والمؤرخون وَأهل الْمعرفَة بأحوال النَّاس وأيامهم وَهَذِه قَرَائِن دلّت على إنصاف أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن وَإِن كَانَت لَهُم هفوات فَإِنَّهُ لم يثبت إِلَّا عصمَة الْأَنْبِيَاء من نوع الْإِنْسَان
فَإِن قلت مَا أردْت من جمع هَذِه الْكَلِمَات قلت فَوَائِد جمة وَأُمُور مهمة يعرف قدرهَا من هُوَ فِي هَذَا الشَّأْن من الْأَئِمَّة فقد اشْتَمَلت على نفائس الأنظار وعَلى عُيُون مسَائِل يظمأ إِلَى معينها حَملَة الْآثَار وَبَيت قصيدها وعمدة مقصودها بَيَان أَنه لَا يشْتَرط فِي قبُول الروَاة إِلَّا ظن صدق الرَّاوِي وَضَبطه وَلَا يرد إِلَّا بكذبه وَسُوء
حفظه وَنَحْوهمَا وَأَن هَذَا شَرط مُتَّفق عَلَيْهِ بَين كل طَائِفَة
وَالْخلاف فِي الْقدح وَمَا عداهُ قد أَقَمْنَا الْأَدِلَّة على أَنه لَا قدح بِهِ فِي الرِّوَايَة وَالله سُبْحَانَهُ ولي كل توفيق وهداية
نَسْأَلهُ أَن يرزقنا معرفَة الْحق واتباعه ويجعلنا أَهله وَأَتْبَاعه وَصلى الله على من نرجو بجاهه الشَّفَاعَة فِي يَوْم الْحَشْر والنشر وَقيام السَّاعَة وعَلى آله وأزواجه أَصْحَاب الْمُؤمنِينَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين انْتهى بِحَمْد الله