الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: أثره في تجسس المستأمن في دار الإسلام
إن جريمة التجسس على المسلمين من المستأمن أو من غيره من أعظم الجرائم المحرمة، لأن فيها محاولة للإطلاع على عورات المسلمين، وأسرار الدولة الإسلامية، وإخبار أعدائهم بذلك، مما يوجب إنزال العقوبة الرادعة لمرتكبي هذه الجريمة البشعة سواء كان التجسس عن طريق السماع أو الأجهزة الحديثة المتقدمة.
وهي محرمة بالكتاب والسنة:
فدليل تحريمها من الكتاب:
فالآية الكريمة نص صريح في تحريم التجسس، لأن الله سبحانه وتعالى نهى عباده المؤمنين عنه، والنهي يفيد التحريم.
أما الدليل من السنة:
1-
فبما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم
1 الحجرات: 12.
والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً".1
فهذا الحديث يدل على تحريم التجسس بين المسلمين أنفسهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه والنهي يفيد التحريم وغيرهم من باب أولى.
2-
وبما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التجسس".2
وقد أجمع العلماء على أن عقوبة الجاسوس الحربي الذي دخل دار الإسلام بغير أمان، هي القتل.3
لما روى عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين4 من المشركين وهو في صفر - فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اطلبوه واقتلوه، فقتلته فنفلني سلبه".5
1 أخرجه البخاري 4/60 كتاب الأدب باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر. ومسلم 4/1985 كتاب والصلة باب تحريم الظن والتجسس.
2 أخرجه الحاكم في المستدرك 4/377 وقال صحيح على شرط الضيخين.
3 فتح الباري 6/169، وشرح النووي على مسلم 12/67، ونيل الأوطار 8/8، وزاد المعاد 3/116.
4 سمي الجاسوس عيناً: لأن جل عمله بعينه، أو لشده اهتمامه بالرؤية، واستغراقه فيها كأن جميع بدنه صار عيناً.
5 أخرجه البخاري 2/178 كتاب الجهاد باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان. ومسلم 3/1374 كتاب الجهاد حديث رقم 1754.
قال الإمام النووي: "فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر وهو باتفاق".1
واختلفوا في عقوبة المستأمن الحربي إذا تجسس على المسلمين في دارهم إلى قولين:
القول الأول: إذا ارتكب المستأمن جريمة التجسس في دار الإسلام لا ينتقض عهده، وعقوبته الحبس ولمدة طويلة، بحسب ما يراه الإمام، وهو قول فقهاء الحنفية ما عدا أبا يوسف وهو مذهب الشافعية.2
قال الإمام السرخسي: "وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فقتل مسلماً عمداً أو خطأ، أو قطع الطريق، أو تجسس أخبار المسلمين فبعث بها إلى المشركين أو زنى بمسلمة أو ذمية كرهاً أو سرق فليس يكون شيء منها نقضاً للعهد.
وهذا كله إذا لم يشترط عليه ذلك في العقد، أما إذا شرط عليه في عقد الأمان عدم التجسس فخالف الشرط ففي هذه الحالة يجوز قتله".3
وقال الإمام الشافعي: "وإن كان عيناً للمشركين على المسلمين يدل
1 انظر: شرح النووي على مسلم 12/67.
2 شرح السير الكبير 1/305، وأحكام القرآن للجصاص 3/435، والأم 4/188.
3 شرح السير الكبير 1/305.
على عوراتهم، عوقب عقوبة منكلة، ولم يقتل ولم ينقض عهده".1
القول الثاني: المستأمن الحربي إذا تجسس على المسلمين في دارهم ليخبر أهل داره بأحوالهم، وسائر أمورهم، انتقض عهده. وهذا مروي عن الأوزاعي، وهو قول المالكية والحنابلة، وأبي يوسف من الحنفية. 2
أما القتل فقد صرح المالكية بقتله إذا تجسس إلا أن يسلم.
فقالوا: "الجاسوس يتعين قتله إلا أن يسلم، لأن الأمان لا يتضمن كونه جاسوساً ولا يستلزمه ولا يجوز العقد عليه".3
وهو أيضاً ما صرح به الإمام الأوزاعي وأبو يوسف من الحنفية.4
أما الحنابلة: فقالوا: الإمام يخير بين القتل والاسترقاق والمن كأسير الحرب.5
1 الأم 4/188، روضة الطالبين، رحمة الأمة، شرح صحيح مسلم 2/67.
2 انظر: الخرشي 3/119، وحاشية الدسوقي 2/205، وكشاف القناع 3/108، والمبدع 3/394، ومطالب أولي النهى 2/581 والمحرر 2/181، وفتح الباري 6/169، وشرح النووي على مسلم 12/67، ونيل الأوطار 8/8، والخراج ص190.
3 انظر: مواهب الجليل 2/251.
4 اختلاف الفقهاء للطبري ص 58، وفتح الباري 6/169، ونيل الأوطار 8/8، والخراج ص 190.
5 انظر: المغني 8/523، والمبدع 3/394، والمحرر 2/181 والمقنع بحاشيته 1/518، وكشاف القناع 3/119.
الأدلة:
أولاً: أدلة أصحاب القول الأول:
استدلوا بالسنة، والمعقول:
أ - دليلهم من السنة:
بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: ائتوا روضة خاخ1 فإن بها ظعينة2 معها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خلينا، فإذا نحن بالمرأة فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت ما معي كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها3، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. الحديث.4
وجه الدلالة من الحديث:
الحديث دل على أن الجاسوس المستأمن لا يقتل ولا ينتقض عهده إذا تجسس على المسلمين
1 روضة خاخ: مكان قرب المدينة ويقع في جنوبها، ويبعد عنها نحو اثني عشر ميلاً تقريباً. انظر: معجم البلدان 2/335.
2 الظعينة: المرأة في الهودج. المصباح المنير 2/385، ومعجم لغة الفقهاء ص 296.
3 عقاصها: ظفائر شعرها. المصباح المنير 2/422، ومعجم لغة الفقهاء ص 318.
4 أخرجه البخاري 2/170 كتاب الجهاد باب الجاسوس. ومسلم 4/1941 كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل بدر.
،لأن حاطب بن بلتعة تجسس على المسلمين وأخبر عدوهم بأخبارهم، ولم يكن هذا ناقضا لإيمانه، فقد سماه الله مؤمنا مع ما فعله، فكذلك المستأمن إذا تجسس على المسلمين لم يكن فعله ناقضا لأمانه.1
ويمكن أن يرد عليهم:
بأنه لا دالة لهم في هذا الحديث لأن حاطباً كان مسلما ولم يقصد الإضرار بالمسلمين في تجسسه عليهم كما يفيده ظاهر الحديث، ومع هذا هَمَّ بعض الصحابة بقتله، لكن منعهم الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك لمشاهدته لبدر، وقد عفا الله عنه وقبل توبته.
فلا يتناول هذا الحديث المستأمن بأية حال من الأحوال، والمستأمن الحربي وغيره قصده من التجسس هو الإضرار بالمسلمين لمنفعة أهل داره، على عكس المسلم فتجسسه على المسلمين قد يكون لحاجة ومنفعة خاصة به، فقياسهم المستأمن الحربي على المسلم قياس مع الفارق لأن المسلم معصوم الدم بالإيمان، والمستأمن معصوم الدم بسبب الأمان، وهناك فرق بين الإيمان والأمان.
أما دليلهم من المعقول:
فقالوا إن المسلم إذا تجسس في دار الإسلام على أمور المسلمين وأخبر الأعداء بذلك، لم يكن تجسسه ناقضا لإيمانه فكذلك المستأمن إذا
1 أحكام القرآن للجصاص 3/435، وشرح السير الكبير 1/305، والجامع لأحكام القرآن 18/25.
تجسس على أمور المسلمين في دارهم لم يكن فعله هذا ناقضا لأمانه.1
ولكن يرد عليهم بأنه قياس مع الفارق، فلا مساواة بين المسلم وبين المستأمن الحربي لا في الدين ولا في العصمة.
ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني:
الذين قالوا بانتقاض عهد المستأمن إذا تجسس على المسلمين ويعاقب بأشد العقوبات كالقتل.
استدلوا بالسنة والمعقول:
أ - دليلهم من السنة:
بما روي عن فرات بن حيان رضي الله عنه2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله وكان عيناً لأبي سفيان وكان حليفاً لرجل من الأنصار، فمَرَّ بحلقة من لأنصار فقال إني مسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول إنه يقول إني مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن منكم رجالاً نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان.3
1 شرح السير الكبير 1/305، 306.
2 هو الصحابي الجليل فرات بن حيان بن ثعلبة بن عبد العزى بن حبيب بن أحمد بن ربيعة العجلي، حليف بني سهم كان عيناً لأبي سفيان في حروبه ثم أسلم وحسن إسلامه. الإصابة 5/204، وتهذيب التهذيب 8/158.
3 أخرجه أحمد في مسنده 4/336، وأبو داود 3/111 كتاب الجهاد باب في الجاسوس الذمي. والبيهقي 9/147، وفي إسناده أبو همام الدلال محمد بن حبيب ولا يحتج بحديثه ولكن الحديث قد روى من طريق آخر عن سفيان بن بشر وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه. انظر: نيل الأوطار 8/9، ومعالم السنن 3/111.
وجه الدلالة من الحديث:
فالحديث يدل على جواز قتل الجاسوس الذمي وأن عمله في التجسس يعتبر ناقضاً للعهد والمستأمن كالذمي في هذا، بل أولى منه لأنه من أهل الحرب.1
أما دليلهم من المعقول: فهو:
1-
أن المستأمن بمجرد عقد الأمان فقد التزم بأن لا يفعل شيئاً يكون فيه ضرر على المسلمين، والتجسس من أقبح الجرائم التي فيها الإضرار على جميع المسلمين فإذا فعله كان ناقضا للعهد لارتكابه ما يخالف ما التزمه في عقد الأمان، وكذلك يعاقب بأشد العقوبة المقررة لهذه الجريمة كالقتل.2
الرأي المختار:
يتضح لنا مما سبق بيانه أن الرأي الأولى بالاختيار هو الرأي القائل إن المستأمن إذا تجسس على المسلمين في دارهم ينتقض عهده ويعاقب بالقتل أو بحسب ما يراه الإمام في الصالح العام.
وذلك للأسباب الآتية:
1-
لقوة الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا الرأي لأن المستأمن ما دخل دار الإسلام إلا وقد التزم عدم الضرر بالمسلمين والتجسس عليهم
1 انظر: نيل الأوطار 8/9.
2 انظر: شرح الخرشي 3/119.
وإخبار أعدائهم بأحوالهم من أعظم الإضرار التي يلحقها بهم.
2-
ولأن التجسس مخالف لمقتضى الأمان لكونه ضررا عظيما، وأَمْر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الجاسوس المشرك ونفل سلبه لقاتله دليل على إباحة دمه وماله، ومثله المستأمن لأن كلا منهما قصد الضرر بالدولة الإسلامية، لأن الحربي المستأمن إذا فعل شيئا يخالف أمانه ويضر بالمسلمين انتقض أمانه وحل دمه وماله، كالحربي غير المستأمن.
3-
ولأن التجسس من أخطر الجرائم، لأن ضرره عام فيشمل الأمة كلها فيقتل الجاسوس المستأمن ليرتاح المسلمون من شره، ولأن صاحب هذا الضرر لا يؤمن شره إلا بقتله.
4-
ولأن العقوبة لو خففت ولم يعتبر التجسس ناقضا للعهد، وعوقب بالحبس، لكان هذا من التساهل الذي يجعل الفرصة سانحة أمام هؤلاء الكفار من المستأمنين أو غيرهم الذين يتجسسون على أهل الإسلام لخدمة أهل دارهم.
5-
ولأن عقوبة القتل لجريمة التجسس من المستأمن تكون ردعاً لغيره وبخاصة في هذا الوقت لكثر المستأمنين في دار الإسلام فعندما يعلمون أن عقوبة التجسس على المسلمين هي القتل، فهذا يكون ردعا لهم والتزاماً منهم بما في عقد أمانهم، أما إذا علموا بأن العقوبة هي الحبس فقط فربما يكون هذا دافعا لهم في ارتكاب جرائم التجسس أو غيرها.
فالذي أراه أن القتل هو العقوبة الرادعة للمستأمن إذا تجسس على المسلمين في دارهم، وخاصة في هذا الوقت الذي يكثر فيه المستأمنون في دار الإسلام.
وبناءً على هذا الاختيار يتضح لنا أن اختلاف الدار له أثر في تجسس المستأمن في دار الإسلام.