الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أثره في نكاح الكتابية في دار الحرب
النكاح من مقاصد الإسلام الأساسية لما يترتب عليه من مصالح وفوائد وحكم كثيرة كحفظ الدين وتحقيق الأمن وإحصان الزوجين، وحفظ النسل والنسب والقيام على رعاية الأولاد والزوجة إلى جانب غرس كثير من الصفات الطيبة كحسن التعامل والصبر وتحمل المسؤولية، والترابط بين الأسر وتحقيق المودة والسكن والاستقرار بين الزوجين إلى غير ذلك من المقاصد والمصالح العظيمة التي تتحقق في النكاح، وقد رغب الإسلام في نكاح المؤمنة، ومراعاةُ الجانب الديني أهم وأول ما يجب اعتباره في اختيار الزوجة لقوله صلى الله عليه وسلم:"فاظفر بذات الدين تربت يداك"1. وليحرص المسلم على الزواج بالمسلمة لأنها خير من الكافرة وقد حرَّم الإسلام الزواج بالمشركات فقال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} 2.
وقال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} 3
1 أخرجه البخاري 3/242 كتاب النكاح ومسلم 2/86 كتاب النكاح حديث 1466.
2 البقرة: 221.
3 الممتحنة:10.
وتحريم النكاح بين المسلمين والمشركين ممن لا كتاب لهم محل إجماع بين العلماء.1
وكذلك يحرم زواج الكافر بالمسلمة مطلقاً سواء كان كتابياً أم غيره2.
أما زواج المسلم بالكتابية فقد ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف إلى جوازه3، لقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 4
ولما ورد عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم تزوجوا بالكتابيات وأباحوا الزواج بهن5 إلا ما آثر عن ابن عمر رضي الله عنهما
1 تبيين الحقائق 2/109، بداية المجتهد 2/44، المهذب 5612، المغني 7/131.
2 انظر: بدائع الصنائع 2/277، الجامع لأحكام القرآن 3/72، المهذب 2/56، المغني 7/130.
3 المبسوط 4/20، فتح القدير 3/135، المدونة 2/306، السراج السالك 2/154، الكافي لابن عبد البر 1/445، الأم 5/7، روضة الطالبين 7/135، مغني المحتاج 3/187، المبدع 7/70، كشاف القناع 5/84، أحكام أهل الذمة 1/87، المحلى 9/448.
4 المائدة: 5.
5 انظر: السنن الكبرى 7/172، مصنف عبد الرزاق 6/78، 79 كتاب النكاح، مصنف ابن أبي شيبة 4/158، وسنن سعيد بن منصور 1/193، والأم 5/7، والتلخيص الحبير 3/174، الجامع لأحكام القرآن 18/ 65.
أنه حرم نكاح المسلم بالكتابية، فقد ثبت في الصحيح عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية فقال: إن الله تعالى حرم المشركات على المؤمنين ولا أعلم من الإشراك شيئاً أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله.1
وقوله هذا حمله بعض العلماء على الكراهة، وأنه كان متوقفاً في ذلك.2
وعلى فرض ثبوته فهو فهم منه واجتهاد ولا يقوى على معارضة الآية التي صرحت بإزاحة نساء أهل الكتاب.3
إن قوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 4
جاء عاماً في إباحة تزوج نساء أهل الكتاب، لم يفرق بين أن يتزوجها المسلم في دار الإسلام، أو في دار الحرب، ولكن الفرق إنما بين من يتزوجها في دار الإسلام أو في دار الحرب لأن السلطة وغلبة الأحكام والهيمنة في دار الإسلام للمسلمين، فهم الذين يحكمون بما أنزل الله، ويرفعون راية الإسلام، ويظهرون شعائره، فالكتابية في هذه الدار ذمية، تدفع الجزية عن
1 أخرجه البخاري 3/274، 275 كتاب الطلاق باب قوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}
2 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/325، الجامع لأحكام القرآن 3/68.
3 انظر: السيل الجرار 2/252.
4 المائدة:5.
يد وهي صاغرة ذليلة، وتلتزم بأحكام الإسلام العامة، وتطلع على محاسن الإسلام، وعندئذ يكون ميلها لدين زوجها المسلم أقرب، فالكتابية في هذه الدار تختلف عن الكتابية في دار الحرب التي تكون السلطة فيها والهيمنة وغلبة الأحكام للكفار، لأنهم أهل الحل والعقد، ويحكمون بخلاف شرع الله، بقوانينهم الوضعية، المخالفة للإسلام، والراية المرفوعة والشعائر الظاهرة فيها، هي شعائر الكفر لا الإسلام، فالكتابية الحربية حرة تفعل ما تشاء، بل إن لها السيطرة والسلطة على زوجها في أكثر البلدان الكافرة، وتمسكها بدين أهلها وعقيدتهم وعاداتهم وأخلاقهم، هو الوارد، وتكون أقل ميلا وتمسكا بدين زوجها، لأن المحيط العام بها هو خلاف هذا الدين، بل ربما أثرت على زوجها الذي يعيش بين أحضانها، ليعتنق دينها، وأيضا على أولاده الذين يتربون بين يديها، ويتغذون بلبنها الملوث بالخمر والخنزير بهذا الفرق بين الدارين اختلف العلماء في حكم الزواج بالكتابية في دار الحرب إلى قولين:
القول الأول: يباح للمسلمين نكاح نساء أهل الكتاب في دار الحرب مع الكراهة.
وهو قول الجمهور الحنفية في الصحيح، والمالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب.1
1 المبسوط 10/96، بدائع الصنائع (2/270، وتبيين الحقائق 2/109، والبحر الرائق 3/109، والفتاوى الهندية 1/288، والفتاوى البزازية1/365، والمدونة2/306، والسراج المالك 2/54، والشرح الصغير2/420، وروضة الطالبين 7/135، والمهذب 2/57، ومغنى المحتاج 3/187، وحاشية الشرقاوي 2/328، وقليوبي وعميرة 3/250، والمبدع 7/71، وكشاف القناع 5/54، وشرح منتهى الإرادات 3/36.
القول الثاني: يحرم على المسلمين نكاح نساء أهل الكتاب في دار الحرب.
وهو قول ابن عمر1، وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي، ومجاهد، والثوري، والحكم.2
وبه قال فقهاء الحنفية في رواية، قال ابن عابدين:"إطلاقهم الكراهة في الحربية يفيد أنها تحريمية، والدليل عند المجتهد على أن التعليل يفيد ذلك، ففي الفتح ويجوز تزوج الكتابيات، والأولى أن لا يفعل، وتكره الكتابية الحربية إجماعاً، فقوله: الأولى أن لا يفعل يفيد أن الكراهة تنزيهية في غير الحربية، وما بعده يفيد كراهة التحريم في الحربية تأمل" 3، وهو وجه لفقهاء الحنابلة، قال صاحب المحرر:"لا يحل لمسلم نكاح كافرة إلا حرائر أهل الكتاب غير الحربيات، وفي الحربيات وجهان"4
وقال المرداوي: "قيل يحرم نكاح الحربية مطلقا، وقيل يجوز في دار الإسلام، لا في دار الحرب، وإن اضطر، وهو منصوص كلام أحمد"5.
1 ولعل ما أثر عنه بتحريم نكاح الكتابية يحمل على هذا فليتأمل.
2 الإشراف لابن المنذر 4/91، وأحكام القرآن للجصاص 2/326، والجامع لأحكام القرآن 3/69.
3 انظر: حاشية رد المحتار 3/45.
4 انظر: المحرر في الفقه 2/21.
5 انظر: الإنصاف 8/135.
وقال الخرقي: "ولا يتزوج بأرض العدو إلاّ أن تغلب عليه الشهوة فيتزوج مسلمة، ويعزل عنها ولا يتزوج منهم" 1
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بالكتاب، والمعقول:
دليلهم من الكتاب:
قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2.
وجه الدلالة من الآية الكريمة:
الآية عامة في إباحة نساء أهل الكتاب للمسلمين، ولم تفرق بين أن يكون الزواج بها في دار الإسلام، أو في دار الحرب، فاختلاف الدار لا أثر له في إباحة الزواج أو تحريمه.
قال الجصاص: "وظاهر الآية يقتضي جواز نكاح الجميع، الذميات والحربيات، لشمول الاسم لهن"3.
وقال صاحب البحر المحيط: "عموم الآية يدل على جواز نكاح
1 انظر: مختصر الخرقي ص115.
2 المائدة: 5.
3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/326.
الكتابية الحربية، لاندراجها في عموم {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 1
وقال القاسمي: "استدل بعموم الآية من جوز نكاح الحربيات الكتابيات"2
أما دليلهم على أن الزواج بالكتابية في دار الحرب أشد كراهة منه في دار الإسلام، فاستدلوا على ذلك بالمعقول. وهو:
أن نكاح الكتابية المقيمة في دار الحرب، يفضي إلى أمور سيئة منها:
- أن زوجها مقيم معها في دار الحرب، وهذا فيه تكثير لسواد الكفار، وقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن أقام مع المشركين ولم يهاجر إلى ديار المسلمين.
- أن الكتابية التي في دار الحرب لم تخضع لأحكام الإسلام، بخلاف التي في دار الإسلام، وهذا مما يقوي سلطتها على زوجها، وشدة تأثيرها عليه، فيميل إلى حبها ومودتها، فتفتنه عن دينه، وتخلقه بأخلاقها، وتعوده على عاداتها الفاسدة.
- أن الكتابية في دار الحرب تشرب الخمر وتأكل الخنزير وغيرهما من المحرمات، عياناً بياناً، والدين المحيط بها هو الكفر، فميلها إلى دين
1 انظر: البحر المحيط 3/432. والآية 5 من المائدة.
2 انظر: تفسير القاسمي 6/1873.
أهلها وقومها هو الأقرب، بل ربما أثرت على زوجها، فمال معها، بخلاف الكتابية في دار الإسلام، فإنها تشرب الخمر، وتأكل الخنزير، خفية ولا يسمح لها بالتظاهر به، والدين المحيط بها هو الإسلام بعزته وآدابه السامية، فميلها إلى دين زوجها هو الأقرب.
- تنشئة أولاده، فَلَذَات كبده، على دينها الخبيث، وخلقها وعاداتها السيئة، لأنها هي الأقرب لهم من أبيهم، فعطفها وحنانها له تأثير كبير على سلوكهم وأخلاقهم، ولكون الدين المحيط بهم هو الكفر، والخلق والعادات المحيطة بهم هي خلق وعادات الكفار، فهذا أيضا له الأثر البالغ في ميل أبنائه إلى دين أمهم وأخلاقها.
- تعريض الولد للاسترقاق، لأنها ربما تكون حاملا منه، فتنتشب الحرب بين المسلمين والكفار، وينتصر المسلمون على عدوهم، وتؤسر الأم، فلا تصدق بأن هذا الحمل من مسلم، فيترتب على ذلك أن يولد الولد رقيقا مملوكا، لمن وقعت الأم في أسره.
فلهذه المفاسد وغيرها كثير، كان النكاح بالكتابية في دار الحرب أشد كراهة منه في دار الإسلام.1
1 المبسوط 5/50، وفتح القدير 3/135، ومجمع الأنهر 1/328، وتبيين الحقائق 2/109، والمدونة 2/306، والسراج السالك 2/54، والجامع لأحكام القرآن 3/69، والمهذب 2/57، ومغنى المحتاج 3/187، وحاشية قليوبي وعميرة 3/250، وكشاف القناع 5/54، وشرح المنتهى الإرادات 3/36.
ثانيا: أدلة أصحاب القول الثاني: الذين قالوا بتحريم نكاح الكتابية في دار الحرب.
استدلوا بالكتاب، والمأثور، والمعقول.
أولا: دليلهم من الكتاب:
أ- بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
وجه الدلالة من الآية الكريمة:
أن الله سبحانه وتعالى أباح نكاح أهل الكتاب للمسلمين، والمراد بهن في هذه الآية، الذميات دون الحربيات، لأنهن يلتزمن بأحكام الإسلام، ويد فعن الجزية، ويتمكن المسلمون من الركون إليهن، وتطمئن النفوس إلى نكاحهن في الجملة.1
وجه الدلالة من الآية:
أن الله سبحانه وتعالى أمر بقتال الكفار من أهل الكتاب الحربيين
1 الجامع لأحكام القرآن 6/79، والبحر المحيط 3/432، والعلاقات الاجتماعية ص62.
2 التوبة: 29.
الذين لايؤدون الجزية، والأمر بقتالهم يوجب عدم محبتهم ومودتهم، فعلى هذا لا يحل التزوج من نسائهم الحربيات، لأن الزواج مودة ومحبة.1
ج- وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2
وجه الدلالة من الآية:
أن الله سبحانه وتعالى نفى عن المؤمنين بالله حقا، محبة ومودة أعداء الله، الذين عصوا ربهم، ونصبوا أشد العداوة والبغضاء لعباده المسلمين، وبما أن هذه الصفات المذكورة متحققة في الكتابية الحربية، تكون مندرجة تحت ما نفاه الله عن عباده المؤمنين، من محبة ومودة أعدائه.
فبهذا لا يحل التزوج بالحربية، لأن الزواج مودة ومحبة.3
د - وقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} 4
وجه الدلالة من الآية:
فقد بين سبحانه وتعالى في هذه الآية أن الخبيثة للخبيث، والعكس، والكتابية الحربية خبيثة، فلا تكون للمسلم الطيب، لأن الطيبين للطيبات.5
1 أحكام القرآن للجصاص 2/326.
2 المجادلة: 22.
3 أحكام القرآن للجصاص2/326، وروح المعاني6/59، والعلاقات الاجتماعية ص36.
4 النور: 26.
5 تفسير الآية القاسمي 6/1874.
ثانيا: دليلهم من المأثور:
بما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن نكاح الكتابية الحربية، فقال: لا تحل وتلا قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
قال: فمن أعطى حل، ومن لا فلا.1
وجه الدلالة:
أن ابن عباس رضي الله عنهما حرم الزواج بالكتابية في دار الحرب، مستندا في ذلك إلى كتاب الله عز وجل، فالتي تدفع الجزية هي التي تحل، وهي الذمية، أما الحربية التي لا تدفع الجزية فلا تحل.
قال القاسمي: "وهذا الاستدلال دقيق جدا فليتأمل"2
ثالثا: دليلهم من المعقول: من أربعة أوجه:
1- أن المسلم الذي يتزوج الكتابية الحربية، يكون مقيما معها في دار الحرب، مع أنه مأمور بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة منها، فقال
1 أحكام القرآن للجصاص 2/326، والجامع لأحكام القرآن 3/69، وتفسير القاسمي 6/1873، والبحر المحيط 3/432.
2 تفسير القاسمي 6/1873.
تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 1
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "نا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" والبراءة لا تكون إلا على فعل محرم، فالتزوج بالكتابية الحربية محرم، لأنه يفضي إلى الإقامة معها في دار الحرب وفي هذا مخالفة لأمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم الهجرة منها، وتكثير لسواد الكفار، وتقليل لعدد المسلمين.2
2-
أن المسلم الذي يفعل هذا الزواج، يخشى عليه من موالاة أعداء الله ورسوله والمسلمين، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن موالاتهم، ومحبتهم، في أكثر من آية. فقال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 3
3-
لأن المسلم بفعله هذا يعرض نفسه وولده لمخاطر سيئة لا يستطيع الإفلات منها، فربما أثرت عليه وعلى ولده فتخلقوا بأخلاقها، وشبوا على عاداتها وعادات قومها الفاسدة، وأخطر من هذا ربما مالوا إلى دينها وارتدوا عن الإسلام، مع ما يحصل من الاسترقاق لأولاده عندما تؤسر أمهم وهي حامل منه، فلا تصدق بأن هذا الحمل من مسلم.
مع ما يحصل للزوج من الانغماس في المحرمات، ومشاهدة المنكرات التي لا يقدر على إنكارها، بل قد يموت قلبه فيقرها، وقد تمارس امرأته
1 النساء: 97.
2 فتح القدير 3/135، والمدونة 2/306، والمهذب 2/57.
3 المائدة: 51.
أنواعا منها، وهو لا يقدر على منعها، بل ربما مع طول الزمن صار مثلها.1
فلهذه المفاسد والمخاطر وغيرها كثير، يحرم على المسلم أن يتزوج بالكتابية في دار الحرب.
المناقشة:
أ- مناقشة أدلة الجمهور القائلين بإباحة نكاح الكتابية الحربية مع الكراهة:
بالنسبة لاستدلالهم بعموم قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم}
يقال لهم: بأن الآية خاصة بنكاح الكتابيات في دار الإسلام، وهن الذميات، لأنهن يدفعن الجزية، ويلتزمن بالأحكام الإسلامية العامة، فرجاء إسلامهن هو الأقرب، كما فهم ذلك ابن عباس رضي الله عنهما.
والله سبحانه وتعالى عندما أباح نكاحهن للمسلمين، ليس فقط لقضاء العشرة الزوجية معهن، بل الأهم من ذلك هو ميلهن إلى دين أزواجهن وهو الإسلام.
أما الكتابية الحربية، فخرجت من عموم الآية، لأنها لم تجر عليها
1 المبسوط 5/50، وفتح القدير 3/135، والمدونة 2/306، والجامع لأحكام القرآن 3/69، والمهذب 2/57، ومغنى المحتاج 3/187.
الأحكام الإسلامية، ولم تدفع الجزية، فالهدف الذي من أجله أباح الله نكاحها للمسلمين قد لا يحصل، بل ربما حصل العكس، وهو تأثيرها على زوجها المسلم وأولاده، فمالوا إلى دينها ودين قومها، وهو الكفر.
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنه لا دليل على تخصيص الآية بالذميات، فالآية عامة في إباحة الزواج بالكتابيات حربيات أو ذميات، وهذا هو ما فهمه أكثر أهل العلم.1
ويرد على ذلك: بأن الآثار المروية عن بعض الصحابة في تحريم الزواج بالكتابيات في دار الحرب، وما سبق ذكره من المخاطر والمفاسد التي تعود على المسلمين بزواجهم من الكتابيات الحربيات، قد يخصص العموم، فتخرج الكتابية الحربية من هذا، وتبقى الآية خاصة بالذمية.
أما الرد على ماستدلوا به من المعقول على كراهة الزواج بهن كراهة تنزيهية:
فيمكن أن يجاب عن ذلك: بأن حمل هذه المفاسد والمخاطر، التي تعود على المسلم، بزواجه من الحربية على الكراهة التحريمية هو الأولى، لأن المسلم الذي يتزوج بالحربية، سيبقى مقيما معها في دار الحرب، والله سبحانه وتعالى أمر
1 أحكام القرآن للجصاص 2/326، والبحر المحيط 3/432، وتفسير القاسمي 6/1873.
المسلمين بالهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، بقوله:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 1
فبقاء المسلم مع زوجته الحربية في دارها فيه مخالفة لأمر الله بالهجرة، ومخالفة المسلم أمر ربه محرم، وبهذا يكون الزواج بالكتابية الحربية محرم، لأن ما أدى إلى الحرام فهو محرم، والزواج بالكتابية الحربية يؤدي إلى الإقامة في دار الحرب وتكثير سواد الكفار، وهذا محرم.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلمتبرأ من المسلم الذي يقيم بين المشركين، والبراءة لا تكون إلا على فعل محرم، وهو الإقامة مع المشركين في دارهم عندما يتزوج المسلم بالكتابية الحربية
ب- مناقشة أدلة القائلين بتحريم الزواج بالكتابية في دار الحرب:
بالنسبة لاستدلالهم بالكتاب. فيرد عليه بما يلي:
1-
قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
ففي هذه الآية لا دلالة على تحريم الزواج بالكتابية الحربية، لأن الآية نص صريح في الإباحة، وجاءت عامة، لم تفرق بين الحربيات والذميات، وتخصيصها بالذميات لا دليل عليه
ويجاب عن ذلك:
1 النساء: 97.
بأن عموم الآية يمكن أن تخصصه الآثار المروية عن بعض الصحابة في تحريم الزواج بالحربية، والمفاسد الخطيرة التي تعود على المسلم من الزواج بها، والفرق الكبير بين الزواج بها في دار الإسلام، والزواج بها في دار الحرب، كل ذلك يمكن أن يخصص هذا العموم فتبقى الآية محمولة على الذميات دون الحربيات.
وكذلك باقي الآيات التي استدلوا بها، ليس لهم فيها ما يدل على تحريم نكاح الكتابية في دار الحرب.
2-
فقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}
أمرت بقتال من يمتنع عن دفع الجزية من المشركين، وعدم قتال من يدفعها منهم مع الصغار والذلة، فهذا ما دلت عليه، ولا علاقة لها بتحريم الزواج من الكتابية الحربية.1
يمكن أن يجاب عن ذلك:
بأن الآية الكريمة لها علاقة بتحريم الزواج بالكتابية الحربية، وهذا هو الذي فهمه حبر الأمة رضي الله عنه فقال: من دفع الجزية فقد حل، ومن لم يدفع لا يحل2، وهذا استدلال وجيه، لأن الكتابية الذمية، عندما تدفع الجزية وتلتزم لأحكام الإسلام وآدابه، فهذا من أكبر الدوافع لاعتناقها لدين الإسلام، الذي أباح الله نكاحها للمسلمين، وعلى العكس، الكتابية
1 العلاقات الاجتماعية ص 65.
2 التفسير الكبير 11/148.
الحربية التي لا تدفع الجزية، ولا تجري عليها الأحكام الإسلامية، فرجاء إسلامها بعيد، بل ربما أثرت على زوجها المسلم وأولاده، لاعتناق دينها، والارتداد عن الإسلام.
فمن أجل ذلك حرمها حبر الأمة رضي الله عنه للفارق الكبير بينها وبين الكتابية الذمية.
وقد أيد القاسمي هذا الاستدلال، فقال هذا الاستدلال دقيق جدا فليتأمل.
3-
أما قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1
فغاية ما تدل عليه هذه الآية، النهي عن مودة ومحبة أعداء الله، ولا علاقة لها بتحريم الزواج من الكتابية الحربية2، حتى لو شمل النهي مودة ومحبة المسلم لزوجته الكتابية الحربية، إنما يكون ذلك إذا أحبها لدينها وأخلاقها وعاداتها التي تخالف الدين الإسلامي، أما إن أحبها لشخصها، المحبة الطبيعية، التي تكون بين الزوجين، فهذا لا بأس به، ولا يضره بشيء، وعلى فرض أن ذلك شامل للكتابية الحربية فهو محمول على الكراهة التنزيهية.
1 المجادلة: 22.
2 العلاقات الاجتماعية ص 65.
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن النهي عن مودة ومحبة أعداء الله يشمل الكتابية الحربية، لأنها إذا كانت في دارها فهي من ألد الأعداء للإسلام والمسلمين، لأنها ربما تجسست على المسلمين عن طريق زوجها، وربما أثرت عليه ومال إلى دينها، وانضم إلى قومها لمحاربة المسلمين.
وبهذا لا يحل نكاحها، لأنه يؤدي إلى المودة والمحبة التي نهى الله عنها في هذه الآية.
4-
وأما قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} .. الآية 1.
5-
وقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ
…
} الآية 2.
فهذه عمومات خصصتها آية المائدة، التي أباحت نكاح الكتابية من غير فرق بين أن يكون ذلك في دار الإسلام، أو في دار الحرب، ولا دلالة لهم فيها على التحريم.3
ثانيا: مناقشة استدلالهم بالمأثور:
ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن الزواج بالكتابية الحربية لا يحل، لا يقوى على معارضة آية المائدة، التي صرحت بإباحة
1 البقرة: 221.
2 النور: 26.
3 أحكام القرآن للجصاص 2/325، 326، والجامع لأحكام القرآن 3/69، والبحر المحيط 3/432، وتفسير القاسمي 6/1873، 1874.
الكتابية، من غير فرق بين الذمية والحربية، وأيضا يمكن حمل قوله هذا على الكراهة التنزيهية، لا التحريمية، وهذا ما ذهب إليه أكثر أهل العلم.
ويجاب عن هذا الرد: بأن ابن عباس رضي الله عنهما لا يمكن أن يقول بخلاف ما في كتاب الله، وآية المائدة الصريحة في إباحة الكتابية فهم منها أنها خاصة بالذمية، دون الحربية، لأن - الذمية- تدفع الجزية، وتلتزم للأحكام الإسلامية.
أما حمل قوله بعدم الإباحة على الكراهة التنزيهية فلا دليل على ذلك، بل حمله على التحريمية هو الأولى، لأن أكثر العلماء نقل ذلك عنه فلا يفهم من قوله - لا تحل إلا التحريم
ثالثا: مناقشة أدلتهم من المعقول:
هذه المفاسد والمخاطر، التي ذكرت بأن المسلم يتعرض لها عند زواجه بالكتابية الحربية، يمكن حملها على الكراهة التنزيهية، وهو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم. لكني أقول بأن حملها على التحريم هو الأولى، لأنها تؤدي إلى فعل الحرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام.
الرأي المختار:
بعد عرض آراء الفقهاء في حكم الزواج بالكتابية في دار الحرب، وأدلة كل منهم، وما ورد عليها من نقد، اتضح لي بأن الرأي القائل
بتحريم الزواج بالكتابية في دار الحرب، هو الرأي الأولى بالاختيار، وذلك للأسباب الآتية:
1-
أنه لا يجوز للمسلم الإقامة في دار الكفر، إذا لم يستطع إظهار شعائر دينه، كما صرحت بذلك الآية الكريمة:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 1، والسنة المطهرة حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"2. والمسلم بذهابه إلى ديار الكفار وزواجه بنسائهم الحربيات، يخاف عليه من الإقامة معهم والركون إليهم، والوقوع تحت سيطرتهم ورحمتهم، وهو بفعله هذا يكون مخالفة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من ديارهم، ومخالفة أمرها محرم، ولأن المسلم لا يستطيع أن يظهر شعائر دينه في أرض أعدائه والمحاربين له، والذين يدعون دائما إلى الحرية المطلقة والقوانين الوضعية، فهم يمنعون المسلم أن يحكم زوجته حسب تعاليم الشريعة الإسلامية، والقوامة التي ذكرها الله في كتابه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} 3، فإنها لا توجد في قوانينهم الوضعية، فالمرأة عندهم حرة التصرف، تفعل ما تشاء، وتعاشر من تشاء، وتحب من تشاء، وما دام أنها كذلك، فمما لا شك فيه أنها ستؤثر على
1 النساء: 97.
2 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308.
3 النساء: 34.
زوجها بأخلاقها القبيحة وعاداتها السيئة، وربما مال إلى دينها دين الهوان والمذلة، مرتدا عن دين العزة والكرامة.
2-
إباحة نكاح الكتابية في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وإن كانت عامة، لم تفرق بين حربية وغيرها، إلا أن من الصحابة رضي الله عنهم من فهم منها أنها خاصة بالذميات، دون الحربيات، - كابن عباس رضي الله عنهما للفارق الكبير بين الكتابية الذمية، والكتابية الحربية، فالذمية تلتزم بأحكام الإسلام وآدابه، وتدفع الجزية صاغرة ذليلة، والدين المحيط بها هو دين زوجها، فإسلامها هو الأقرب، والذي من أجله أباحها الله للمسلمين، أما الكتابية الحربية فلا تجري عليها أحكام الإسلام، ولا تدفع الجزية، والدين المحيط بها هو الكفر، دين أهلها وقومها فإسلامها غير متوقع، بل ربما أثرت على زوجها وأولاده، بتعرضهم للكفر، وهذا مما يؤيد فهم ابن عباس رضي الله عنهما بأن الآية خاصة بالذمية، والصحابة رضي الله عنهم كما هو معلوم أقرب الناس إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
3-
وللخوف على ذرية المسلم من الكتابية الحربية، لأن الأم هي المدرسة التي يتربى فيها الأولاد، فهي بعطفها وحنانها وحبها لهم، وكونها أقرب لهم من أبيهم، ستؤثر عليهم، فينشئون ويتربون على خلقها الفاسد، وعاداتها وعقيدتها السيئة، لأنها تغذيهم بلبها المستخلص من المشروبات والمأكولات المحرمة، كالخمر والخنزير، فهم من الصغر يشبون على أكل
وشرب المحرم، وعلى العقائد والأخلاق الباطلة، التي تخالف الدين الإسلامي، فهو بهذا يكون قد غرس لأعداء الإسلام غرسا جاهزا ناضجا ما عليهم إلا أن يقطفوا ثمرة هذا الغرس، ليتقووا به ضد المسلمين، الذين هم أولى بالغرس وثماره، لتكثير سوادهم، وتقليل سواد أعدائهم، ومما لا شك فيه أن حفظ الذرية من أهم متطلبات الحياة، والمقصد الأساسي لحفظ النسل، هو تحقيق عبادة الله وحده، لأنه ما خلقهم إلا لعبادته، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 1
ولهذا صرح بعض العلماء بكراهية الزواج، حتى من المسلمة في دار الحرب، وإذا فعل، الأولى أن لا ينجب، ولا يطأ المسلم جاريته في فرجها، كل القصد من ذلك، هو حفظ الذرية المسلمة وعدم تعريضها لأخلاق الكفار وعاداتهم وعقائدهم الباطلة، هذا مع ما يتعرض له المسلم في أرض الكفر من المحرمات والمنكرات ومشاهدة البدع والضلالات، التي لا يستطيع الإفلات منها، لأن امرأته تمارس الكثير منها بل ربما ختمت على قلبه، فرضي بها وأقرها، حتى يرتد عن دينه.
وبناءً على هذه المخاطر والمفاسد، وغيرها كثير، أختار القول: بتحريم نكاح الكتابية في دار الحرب، لأن تناول الشيء المباح إذا أدى إلى مفاسد ومخاطر تفوق مصلحته، غلب جانب تلك المفاسد والمخاطر على مصلحته، ومفاسد ومخاطر ومساوىء نكاح المسلم للكتابية في دار الحرب
1 الذاريات: 56.
تفوق المصالح المترتبة على هذا النكاح، بل ربما غطت عليها.1
ولا يجوز للمسلم أن يتزوج بالكتابية في دار الحرب إلا عند الضرورة أي عند الخوف من الوقوع في الزنا، وإذا اضطر المسلم إلى الزواج بها في دار الحرب، فعليه أن يعمل شتى الطرق لعدم الإنجاب.
وبهذا الاختيار يتضح لنا بأن اختلاف الدار له أثر في زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب.
لأن زواجه منها في دار الإسلام مباح مع الكراهة.
أما في دار الحرب، فهو محرم، إلا عند الضرورة، بناءً على القول المختار. أما عند الجمهور فهو مباح، لكن مع الكراهة الشديدة، فحتى على رأي الجمهور، أثر اختلاف الدار في حكم نكاح الكتابية في دار الحرب، ففي دار الإسلام يباح مع الكراهة، وكذلك في دار الحرب لكن مع الكراهة الشديدة، التي قد تصل في بعض الأحوال إلى الكراهة التحريمية.
أما زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر في هذا الزمان فالأولى تركه إلا عند الضرورة عندما يخاف المسلم على نفسه من الزنا، فلا بأس أن يتزوج بها، وعليه أن يعمل شتى الطرق لعدم الإنجاب لما يترتب على ذلك من المفاسد والمخاطر التي سبق ذكرها عند الكلام على زواج الكتابية.
1 حكم زواج المسلم بالكتابية ص 29.
ولأن غالب الدول الكافرة في هذا الزمان أقرب إلى دار الحرب، وإن كانت ظاهرها أنها دور عهد بينها وبين المسلمين معاهدات وعلاقات يترتب عليها تبادل السفراء والتعامل التجاري والاقتصادي إلا أنها في حقيقة الأمر تحارب المسلمين بطرق خفية غير مباشرة بمد يد العون والمساعدة بالمال والسلاح والرجال للدول المحاربة للمسلمين، وأيضاً إن المعاهدات والاتفاقات المبرمة بينها وبين المسلمين تتخذ صفة الدوام وليس على أسس وشروط إسلامية وغالب المصالح والفوائد تحظى بها الدول الكافرة، بل إن الضرر الذي يعود على المسلمين من وراء هذه المعاهدات أكثر من النفع، ولا يبالون بتلك المعاهدات والاتفاقات متى ما تهيأت لهم الفرصة في الإضرار بالمسلمين كما هو الحال والمشاهد في الوقت الحاضر.
المبحث الثالث: أثره في الفرقة 1 بين الزوجين
أجمع العلماء على أنه إذا أسلم الزوج سواء أكان في دار الإسلام أم في دار الكفر وكانت له امرأة كتابية أن إسلامه لا يؤثر في زواجهما، ولا تحصل الفرقة بينهما، ويبقى زواجها على حاله، لأن المسلم يحل له التزوج بالكتابية ابتداء، فكذا يحل له البقاء معها، لأن البقاء معها أسهل من الابتداء بالزواج منها.
وكذلك أجمعوا على أنه إذا أسلم الزوجان معا فهما على نكاحهما، سواء كان قبل الدخول، أو بعد الدخول، ولا فرق في ذلك بين دار الإسلام ودار الحرب.2
قال ابن عبد البر رحمه الله: "أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معا في حالة واحدة. أن لهما المقام على نكاحهما، ما لم يكن بينهما نسب ولا رضاع، وقد أسلم خلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ونساؤهم، وأقروا على أنكحتهم، ولم يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شروط النكاح ولا عن كيفيته، وهذا أمر علم بالتواتر والضرورة، فكان يقينا"3
1 الفرقة لغة: الابتعاد والفصل، وفي الشرع: انفصال العلاقة الزوجية بين الزوجين.
انظر: المصباح المنير 2/470، والمعجم الوسيط 2/685، وعجم الفقهاء ص 344.
2 بدائع الصنائع 2/336، وبداية المجتهد2/48، وتحفة المحتاج7/328، والمغني 6/613.
3 انظر: التمهيد لابن عبد البر 12/23.
وقال ابن القيم: "إذا أسلم الزوجان أو أحدهما، فإن كانت المرأة كتابية لم يؤثر إسلامه في فسخ النكاح، وكان بقاؤه كابتدائه، وإن كانت غير كتابية وأسلم الزوجان معا، فهما على النكاح، سواء قبل الدخول أو بعده، وليس بين أهل العلم في هذا اختلاف"1
أما إذا كان أحد الزوجين في دار الإسلام، وكان ذميا مقيما بها إقامة مؤبدة، أو مستأمنا مقيما بها إقامة مؤقتة، فأسلم دون زوجه الذي في دار الكفر، أو كان مقيما بدار الكفر، فأسلم ثم هاجر إلى دار الإسلام وزوجه الآخر في دار الكفر.
فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن اختلاف الدارين- دار الإسلام، ودار الكفر- سبب من أسباب الفرقة بين الزوجين، وهو مروي عن الثوري، وبه قال فقهاء الحنفية،2 وإليه إشارة في مذهب الإمام مالك - بل عبارة -كما قال ابن العربي.3 والقرطبي.4
1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/317.
2 المبسوط 5/50،51، بدائع الصنائع 2/338، وتبيين الحقائق 2/176، والبحر الرائق3/229، وفتح القدير 3/291، وشرح معاني الآثار 3/ 256، وأحكام القرآن للجصاص 3/439.
3 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/1787.
4 انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/63،64.
ومعنى اختلاف الدارين الذي تتحقق به الفرقة عند الحنفية ومن معهم هو أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الإسلام حقيقة أو حكما، بالإسلام أو الذمة، والآخر من أهل دار الكفر - أي كافرا حربيا - كأن يسلم أحد الزوجين في دار الكفر، ثم يهاجر إلى دار الإسلام، أو يخرج أحد الزوجين من دار الكفر إلى دار الإسلام، ذميا، أو مستأمنا، ثم يسلم أو يعقد عقد الذمة، أو يخرج المسلم من دار الإسلام إلى دار الكفر مرتدا عن دينه، أو يخرج الذمي من دار الإسلام إلى دار الكفر ناقضا للعهد، ففي جميع هذه الأحوال تجب الفرقة بين الزوجين، لتباين الدارين بينهما.
أما إذا كان الزوجان مسلمين، فخرج أحدهما إلى دار الكفر بأمان أو بغيره، فلا تقع الفرقة، لأنهما من أهل دار واحدة، وإن كان أحدهما مقيما في دار الكفر، والآخر في دار الإسلام، فاختلاف الدار لا أثر له بالنسبة للزوجين المسلمين.1
القول الثاني: أن اختلاف الدارين ليس سببا من أسباب الفرقة بين الزوجين، سواء كان الاختلاف حقيقة أو حكما، بالإسلام أو بالذمة، ولا يفرق بينهما إلا إذا انقضت العدة بدون إسلام المتأخر منهما، فالفرقة حينئذ تقع لاختلاف الدين بينهما، وليس لاختلاف الدار. وهو مروي عن الأوزاعي والليث بن سعد.
1 أحكام القرآن للجصاص3/439، والمبسوط 5/50، 51، وتبيين الحقائق 2/176.
وهو قول جمهور الفقهاء المالكية في الصحيح، والشافعية والحنابلة.1
الأدلة:
أولا: أدلة الحنفية الذين قالوا إن اختلاف الدار يوجب الفرقة:
استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول والقياس:
أ- دليلهم من الكتاب:
1-
1 المدونة 2/313، والتمهيد12/23، وبداية المجتهد 2/49، والمنتقى 3/340، وأحكام القرآن لابن العربي 4/1787، والجامع لأحكام القرآن 18/63، والأم 5/44، والمهذب2/67، والأشراف4/210، وروضة الطالبين7/148، ومغنى المحتاج3/191، والمغني 6/619، والإنصاف 8/213، والمبدع7/118/، وكشاف القناع5/131، وأحكام أهل الذمة 1/317، ومصنف عبد الرزاق7/172، ومصنف ابن أبي شيبة5/91-105، وفتح الباري 9/421، ومعالم السنن2/74، ونيل الأوطار 6/164.
2 الممتحنة: 10.
وجه الدلالة من الآية:
دلت الآية على وقوع الفرقة بين الزوجين متى اختلفت الدار بينهما من وجوه عديدة:
أ- دل قوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..} أن الفرقة تقع بين الزوجة التي أسلمت بدار الكفر، ثم هاجرت إلى دار الإسلام، وبين زوجها الذي تركته بدار الكفر كافرا، فإن الأمر بعدم إرجاعها إلى زوجها الكافر في دار الكفر، دليل على انقطاع العصمة بينهما بسبب اختلاف الدار بينهما.
ب- ودل قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} على وقوع الفرقة بين الزوجين، متى اختلفت الدار بينهما، لأن عدم الحل إنما يكون عند رفع النكاح وزواله.
ج- ودل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} على وقوع الفرقة بسبب اختلاف الدار، لأن الأمر برد مهر الزوجة المسلمة المهاجرة إلى دار الإسلام على زوجها الكافر المقيم بدار الكفر دليل على انقطاع عصمة الزوجية بينهما، لأن الزوجية لو كانت باقية لما استحق الزوج رد المهر إليه، لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله.
د- ودل قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على وقوع الفرقة بين الزوجين، بسبب اختلاف الدار لأن الله
سبحانه وتعالى أحل المسلمات المهاجرات إلى دار الإسلام للمؤمنين من غير شرط، إلا إعطائهن المهور، وهذا دليل على عدم بقاء زواجهن الأول، لأنه لو كان النكاح الأول باقيا، لما جاز للمؤمنين نكاح المهاجرات بإسلامهن.
هـ-ودل أيضا قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} على وجوب الفرقة بين الزوجين، بسبب اختلاف الدار بينهما، لأن الله سبحانه وتعالى نهى المؤمنين أن يمسكوا بعصم الكوافر، فالكافر الذي أسلم في دار الكفر، ثم هاجر إلى دار الإسلام، وترك زوجته الكافرة في دار الكفر، يفرق بينهما، لأن اختلاف الدار أوجب انقطاع العصمة بينهما، والمراد بالعصمة هنا- النكاح- فقد انقطع النكاح بينهما لاختلاف الدار بينهما.1
قال أبو بكر الجصاص رحمه الله: "في هذه الآية ضروب من الدلالة على وقوع الفرقة باختلاف الدارين بين الزوجين، واختلاف الدارين أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب، والآخر من أهل دار الإسلام، وذلك لأن المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل دار الإسلام، وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب، فقد اختلفت بهما الداران، وحكم الله بوقوع الفرقة بينهما بقوله:{فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار} ، ولو
1 أحكام القرآن للجصاص 3/438، والمبسوط 5/51، والجوهر النقي مع سنن البيهقي 7/189.
كانت الزوجيةِ باقية لكان الزوج أولى بها بأن يكون معها حيث أراد، ويدل أيضا قوله تعالى:{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} يدل عليه أيضا، لأنه أمر برد مهرها على الزوج، ولو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج رد المهر، لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله، ويدل عليه قوله تعالى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، ولو كان النكاح الأول باقيا لما جاز لها أن تتزوج، ويدل قوله تعالى:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، والعصمة: المنع فنهانا أن نمتنع من تزويجها لأجل زوجها الحربي"1
ب- دليلهم من السنة:
استدلوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب علي أبي العاص ابن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد"2
وجه الدلالة من الحديث:
دل الحديث على أن تباين الدارين يوجب الفرقة بين الزوجين لأن
1 انظر: لأحكام القرآن للجصاص 3/438.
2 أخرجه الترمذي 3/447، كتاب النكاح، باب ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، حديث رقم 1142، وقال: هذا حديث في إسناده مقال، وابن ماجة 1/647، كتاب النكاح، باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، حديث رقم 2010، والبيهقي 7/188، كتاب النكاح والطحاوي في معاني الآثار 3/205.
زينب رضي الله عنها كانت مسلمة بدار الإسلام، أما أبو العاص فكان كافرا وبدار الكفر، ففرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يردها عليه بالزواج الأول عند إسلامه بل بنكاح جديد ومهر جديد، وهذا مما يدل على وجوب الفرقة في الحال بين الزوجين عند تباين الدار بينهما.1
ج- دليلهم من المأثور:
ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما أراد أن يهاجر إلى المدينة، نادى بمكة:"ألا من أراد أن تبين منه امرأته، فليلتحق بي- أي - فليصحبني -"2
د- دليلهم من المعقول من أربعة أوجه:
الوجه الأول: أن تباين الدارين مفوت لمقاصد النكاح، لأنه مع اختلاف الدار لا يتمكن الزوجان من الانتفاع بالنكاح عادة، فلم يكن لبقائه فائدة فيزول، إذ يكون الزوجان بحال يتعذر معها انتظام التعاون المنشود، كالمسلم إذا ارتد عن الإسلام، ولحق بدار الحرب، فإنه يزول ملكه عن أمواله، وتعتق أمهات أولاده، فكذلك إذا اختلفت الدار بين الزوجين، زالت الفائدة من النكاح.3
1 نصب الراية 3/242، والعلاقات الاجتماعية ص 116.
2 المبسوط 5/51.
3 بدائع الصنائع 2/338، والجوهرة النيرة 2/270.
الوجه الثاني: ولأن أهل دار الحرب كالموتى في حق أهل دار الإسلام، ولهذا لو التحق بهم المرتد جرت عليه أحكام الموتى، فكما لا تتحقق عصمة النكاح بين الحي والميت، فكذلك لا تتحقق عند تباين الدارين حقيقة وحكما.1
الوجه الثالث: ولأن الدار اختلفت بين الزوجين حقيقة وحكما، فوجب أن تقع الفرقة بينهما، كالحربية إذا دخلت دار الإسلام بأمان، ثم أسلمت، فإن الفرقة تقع بينهما وبين زوجها الذي في دار الحرب في الحال.2
الوجه الرابع: ولأن اختلاف الدارين يؤثر في انقطاع العصمة، كما يؤثر في المنع من الميراث، ألا ترى أن الذمي لو مات في دار الإسلام وخلف مالا وله ورثة من أهل الحرب في دار الحرب، لم يستحقوا من إرثه شيئا، وجعل ماله في بيت المال، لاختلاف الدارين، ولو كان ورثته ذميين في دار الإسلام لكانوا هم أحق بتركته من جماعة المسلمين، لأنه لم تختلف الدار بينهم لأن الجميع من أهل دار الإسلام.3
1 المبسوط 5/51، وبدائع الصنائع 2/338، وتبيين الحقائق 2/175، والبحر الرائق 3/229.
2 أحكام القرآن للجصاص 3/439، وبدائع الصنائع 2/339، وأحكام أهل الذمة 1/369.
3 أحكام أهل الذمة 1/371.
دليلهم من القياس:
أن الفرقة تقع بين الزوجين في الحال إذا ثبت أن بينهما رضاع أو نسب.
فكذلك إذا اختلف الدار بينهما فرق بينهما في الحال.1
ثانيا: أدلة الجمهور الذين قالوا بأن اختلاف الدارين لا أثر له في الفرقة:
استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول:
أ - دليلهم من الكتاب:
وجه الدلالة من الآية الكريمة:
دلت الآية على أن الذي يوجب الفرقة بين المسلمة وزوجها الكافر، هو إسلامها لا هجرتها، لأن الله تعالى قال:{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، فبين أن العلة هي عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدارين.3
1 فتح القدير 3/292.
2 الممتحنة: 10.
3 أحكام القرآن لابن العربي 4/1787، والجامع لأحكام القرآن 18/63،64، والأم 5/44.
ب - دليلهم من السنة:
بحديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئا"1
وفي لفظ: "رد ابنته زينب على أبي العاص زوجها بنكاحها الأول بعد سنتين ولم يحدث صداقا"2
وفي لفظ: "رد ابنته زينب على أبي العاص، وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صداقا"3
وجه الدلالة من الحديث:
الحديث دل على أن اختلاف الدارين لا أثر له في الفرقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بالنكاح الأول، دون أن
1 أخرجه أحمد 1/351، وأبو داود 2/675، كتاب الطلاق، باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها، حديث رقم 2240، والترمذي 3/448، كتاب النكاح، باب ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما حديث رقم 2143، وقال: هذا حديث ليس باسناده بأس وابن ماجة 1/647، كتاب النكاح حديث 2009، والحاكم 2/200، والبيهقي 7/187،كتاب النكاح.
2 أخرجه أحمد 1/351، وأبو داود 2/675، كتاب الطلاق، وابن ماجة 1/447، كتاب النكاح، حديث 2009، والبيهقي 7/187.
3 أخرجه أحمد 1/351، وأبو داود 2/676، كتاب الطلاق، والترمذي 3/448،كتاب النكاح، حديث 1143، والبيهقي7/187، والحاكم2/20، والطحاوي 3/256.
يجدد عقد الزواج بينهما، ولو أن الفرقة وقعت بينهما باختلاف الدارين لما ردها إليه صلى الله عليه وسلم إلا بنكاح جديد.1
قال الخطابي: "الحديث دليل على أن افتراق الدارين لا تأثير له في إيقاع الفرقة، وذلك أن أبا العاص كان بمكة بعد أن أطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفكه أسره، وكان قد أخذ عليه أن يجهز زينب إليه، ففعل ذلك وقدمت زينب المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقامت بها"2
2-
وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، مشركوا أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركوا أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان إذا هاجرت امرأة من الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا تطهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه"3
وجه الدلالة من الحديث:
دل الحديث على أن الفرقة لا تقع بين الزوج الكافر وامرأته المسلمة المهاجرة، باختلاف الدار، إلا بعد أن تحيض المرأة وتطهر، ثم يحل نكاحها، وإن أسلم زوجها وهاجر قبل أن تنكح ردت إليه.
وفي هذا يقول الإمام البيهقي بعد أن ذكر الحديث: وفي هذا دلالة
1 المغنى 6/619، ومغنى المحتاج 3/191.
2 انظر: معالم السنن للخطابي 2/676.
3 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 244.
على أن الدار لم تكن تفرق بينهما.1
وقال الإمام ابن القيم: "هذا الحديث هو الفصل في هذه المسألة- أي مسألة اختلاف الدارين-، هل يوقع الفرقة أم لا؟ وهو الصواب فإن شاءت بعد استبرائها بحيضة نكحت، وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلام زوجها"2
3-
وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أسلمت امرأة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجت فجاء زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد أسلمت معها وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول"3
وهذا الحديث - أيضا - دل على أن الفرقة لا تقع بين الزوجين إذا اختلفت الدار بينهما في الحال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءته مهاجرة بإسلامها زوجها ولكن بعد أن علم بإسلام زوجها ردها عليه، ولو وقعت الفرقة بينهما ما ردها عليه.
1 انظر: السنن الكبرى 7/187.
2 انظر: أحكام أهل الذمة 1/365.
3 أخرجه أحمد 1/323، وأبو داود 2/674، 675، كتاب الطلاق، حديث 2239، وابن ماجة 1/647، كتاب النكاح، حديث 2008، والحاكم 2/200، كتاب الطلاق وصححه، والبيهقي 7/187، وابن حبان.
انظر: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص 311، كتاب النكاح باب في الزوجين يسلمان، حديث 1280.
4-
وبما روي أن أبا سفيان بن حرب أسلم بمر الظهران1، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر عليها، فكانت بظهوره وإسلام أهلها دار الإسلام، وامرأته هند بنت عتبة كافرة بمكة، ومكة يومئذ دار حرب ثم قدم عليها يدعوها إلى الإسلام، فأخذت بلحيته، وقالت اقتلوا الشيخ الضال، فأقامت أياما قبل أن تسلم، ثم أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وثبتا على النكاح.
وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية، وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارهما دار الإسلام، وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهربا إلى اليمن، وهي دار حرب، ثم جاء فأسلما بعد مدة، وشهد صفوان حنينا وهو كافر، ثم أسلم واستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول.2
قال الإمام الشافعي: "ولم أعلم مخالفا في أن المتخلف عن الإسلام منهما إذا انقضت عدة المرأة قبل أن يسلم، انقطعت العصمة بينهما، سواء خرج المسلم منهما من دار الحرب، وأقام المتخلف فيها، أو خرج المتخلف عن الإسلام، أو خرجا معا، وأقاما معا، لا تصنع الدار في التحليل والتحريم شيئا، إنما يصنعه اختلاف الدينين"3
1 مر الظهران: واد فحل من أودية الحجاز يمر شمال مكة على بعد 22 كيلا وفيه عشرات العيون والقرى ومنها الجموم، وبحرة، وغيرها انظر: معجم المعالم الجغرافية ص 288.
2 الموطأ ص 370، 371، والبيهقي 7/187، الأم 5/244، وأحكام أهل الذمة 1/364.
3 الأم 5/44- 45.
ج - دليلهم من المعقول: من ثلاثة أوجه:
1-
أن عقد النكاح عقد معاوضة، فلا ينفسخ باختلاف الدار كسائر عقود المعاوضات، كالبيع ونحوه.1
2-
أن اختلاف الدارين يظهر في انقطاع الولاية، وانقطاع الولاية لا يوجب فسخ النكاح، كاختلاف الولاية في دار الإسلام، فإن النكاح يبقى بين أهل العدل، والبغي والولاية بينهما منقطعة.2
3-
ولأن المسلم إذا خرج مستأمنا إلى دار الكفر، لا تقع الفرقة بينه وبين زوجته مع اختلاف الدار بينهما، وكذلك المستأمن الحربي إذا خرج إلى دار الإسلام مستأمنا، لا تقع الفرقة بينه وبين زوجته التي هي في دار الكفر.3
المناقشة:
أولا: مناقشة أدلة الحنفية:
أ - مناقشة أدلتهم من الكتاب:
بالنسبة لاستدلالهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ
1 المغني لابن قدامة 6/120.
2 وهذا الدليل ذكره السرخسي والكاساني لهم، ولم أجده في كتبهم.
انظر: المبسوط5/51، وبدائع الصنائع2/338.
3 وأيضا هذا الدليل ذكره السرخسي والزيلعي، ولم أجده في كتب المخالفين للأحناف. انظر المبسوط 5/51، وتبيين الحقائق 2/176.
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..} الآية.
يرد عليه: بأن الذي أوجب الفرقة بين المسلمة المهاجرة إلى دار الإسلام وزوجها الكافر في دار الكفر، هو إسلامها لا هجرتها، أي هو اختلاف دينها عن دينه، لا دارها عن داره.
وفي هذا يقول ابن العربي: "الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها هو إسلامها، لا هجرتها، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدارين" 1، ووافقه القرطبي، وقال:"هذا أدل دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها، إسلامها، لا هجرتها، وقال: قال ابن عبد البر: لا فرق بين الدارين، لا في الكتاب ولا في السنة، ولا في القياس، وإنما المراعاة في ذلك الدينان، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما، لا بالدار، والله المستعان"2
وقال ابن القيم: "قال الجمهور لا حجة لكم في شيء من ذلك، فإن قوله تعالى:{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} إنما هو في حال الكفر، ولهذا قال تعالى:
1 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/1787.
2 الجامع لأحكام القرآن 18/63،64.
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار} ، ثم قال:{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وأما قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} ، فقد تنازع الناس فيه، فقالت طائفة: هذا منسوخ، وإنما كان ذلك قي الوقت الذي كان يجب فيه رد المهر إلى الزوج الكافر إذا أسلمت امرأته، وأما من لم يره منسوخا، فلم يجب عنده رد المهر، لاختلاف الدارين، بل لاختلاف الدين، ورغبة المرأة عن التربص بإسلامه، فإنها إذا حاضت حيضة ملكت نفسها، فإن شاءت تزوجت، وحينئذ ترد عليه مهره، وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلامه.
وأما قوله تعالى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ، فإنما ذلك بعد انقضاء عدتها ورغبتها عن زوجها، وعن التربص بإسلامه، كما قال تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} 1، والمراد بعد انقضاء عدتها ورضاها.
وأما قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، فهذا لا يدل على وقوع الفرقة باختلاف الدار، وإنما يدل على أن المسلم ممنوع من نكاح الكافرة المشركة، ونحن لا نقول ببقاء النكاح مع شركها، بل نقول إنه موقوف، فإن أسلمت في عدتها، أو بعدها، فهي امرأته.2
1 البقرة: 230.
2 انظر: أحكام أهل الذمة 1/368،369.
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الآية الكريمة وارد في بيان حكم المؤمنات المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام، مفارقات أزواجهن المشركين في دار الحرب، والحكم الذي وردت به الآية هو وقوع الفرقة بين المؤمنة المهاجرة إلى دار الإسلام وبين زوجها الكافر في دار الحرب، وإباحة نكاحها لمن شاءت من المسلمين. فدلالة الآية على وقوع الفرقة باختلاف الدارين واضحة، كما بين ذلك الجصاص في أحكامه.1 وذكر ابن العربي والقرطبي:"أن الإمام مالك أشار إلى هذه الدلالة من الآية الكريمة"2
وقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} ، نص في وقوع الفرقة بين الزوجين باختلاف الدار لأن الزوجية لو كانت باقية بينهما لكان هو أحق بها3.
وأجيب عن ذلك: بأن الآية الكريمة لا دلالة فيها على وجوب الفرقة بين الزوجين في الحال عند اختلاف الدار بينهما، بل غاية ما تدل عليه، هو أن الذي يوجب الفرقة بين المسلمة وزوجها الكافر، هو إسلامها لا هجرتها، لأن الله تعالى يقول:{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 4، فبين أن العلة
1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/438.
2 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/1787، والجامع لأحكام القرآن 18/36،64.
3 الجوهر النقي 7/189.
4 الآية 10 من سورة الممتحنة.
هي عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدارين.1
وكذلك قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} لا دلالة فيها على وجوب الفرقة بينهما عند اختلاف الدار، بل غاية ما تدل عليه الآية، كما قال ابن القيم:"أن المسلم لا يجوز له أن يتزوج المشركة، وإذا أسلم لا يبقى النكاح بينهما، إلا إذا أسلمت أثناء العدة، أما إذا لم تسلم، فيفرق بينهما لاختلاف الدين بينهما"2.
ب- مناقشة أدلتهم من السنة:
الحديث الذي استدلوا به، ضعيف الإسناد،3 فقد قال الإمام أحمد عن هذا الحديث بأنه ضعيف أو واه، ولم يسمعه الحجاج4 من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد بن عبيد العرزمي5، والعرزمي حديثه لا يساوي شيئا، والحديث الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح
1 أحكام القرآن لابن العربي 4/1787، والجامع لأحكام القرآن 18/63.
2 انظر: لأحكام أهل الذمة لابن القيم 1/369.
3 لأن فيه الحجاج بن أرطأة، قال عنه ابن حجر: كثير الخطأ والتدليس. انظر: تقريب التهذيب 1/152.
4 هو الحجاج بن أرطأة بن ثور بن هبيرة النخعي الكوفي، قاض من أهل الكوفة، صدوق كثير الخطأ والتدليس، توفي بخرسان أو بالري سنة 145 هـ تقريبا التهذيب 1/152، وتاريخ بغداد 8/230، وميزان الاعتدال 1/213.
5 هو محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي الفزاري الكوفي، أبو عبد الرحمن، كان يحفظ الحديث ويرويه، وليس بثقة، ضاعت كتبه فحدث من حفظه، فأتى بمناكير، ولد سنة 77 هـ، وتوفي سنة155هـ.
تقريب التهذيب 2/187، والأعلام 6/258.
الأول"1 وقال الترمذي: "في اسناده مقال"2، وقال الدارقطني: "هذا الحديث لا يثبت، وحجاج لا يحتج به، والصواب حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول"3
وقال الشوكاني في اسناده: "الحجاج بن أرطأة، وهو معروف بالتدليس وأيضا لم يسمعه من عمرو بن شعيب، كما قال أبو عبيد، وإنما حمله عن العرزمي، وهو ضعيف"4
وقال الألباني: "حديث منكر"5
وعلى فرض صحته، فهو معارض بحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي سبق بيانه وهو أصح منه.
قال البيهقي: "بلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: سألت عنه البخاري رحمه الله فقال: حديث ابن عباس أصح في هذا، من حديث عمرو بن شعيب"6
وأجيب عن ذلك: بأن حديث عمرو بن شعيب - وإن كان ضعيفا - إلا أنه يتقوى بغيره من الأدلة التي أوجبت الفرقة بين المسلمة المهاجرة من دار الحرب
1انظر: مسند الإمام أحمد ا/351.
2انظر: سنن الترمذي 3/448.
3انظر: سنن الدارقطني 3/254.
4انظر: نيل الأوطار 6/13.
5انظر: إرواء الغليل 6/341.
6انظر: السنن الكبرى 7/188.
إلى دار الإسلام، وزوجها الكافر المقيم بدار الحرب.
قال ابن التركماني: "الحديث عندنا صحيح"1
وقال ابن عبد البر: "وحديث عمرو بن شعيب تعضده الأصول، وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد، والأخذ بالصريح أولى من الأخذ بالمحتمل، ويؤيده مخالفة ابن عباس رضي الله عنهما لما رواه، كما حكي ذلك عنه البخاري2، أنه قال: إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه3.
وقال بعض العلماء: "إن حديث عمرو بن شعيب هو الذي عليه العمل وإن كان حديث ابن عباس رضي الله عنهما أصح إسنادا، لكن لم يقل به أحد من الفقهاء لأن الإسلام كان قد فرق بينهما4، قال تعالى:{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُن} 5
وقال الترمذي: "قال يزيد بن هارون6 حديث ابن عباس أجود
1 انظر: الجوهر النقي مع السنن الكبرى 7/189.
2 انظر: التمهيد لابن عبد البر 12/24.
3 أخرجه البخاري 2/275، كتاب الطلاق، باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي.
4 انظر نيل الأوطار 6/163.
5 الممتحنة: 10.
6 هو أبو خالد يزيد بن هارون بن زاذان بن ثابت السلمي الواسطي، ولد بواسط سنة118، وكان من حفاظ الحديث الثقات، كان يقول أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث، وتوفي سنة 206 بواسط. تقريب التهذيب 2/372، وتاريخ بغداد 14/337، وتذكرة الحفاظ 1/291.
إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب"1
وأكد صحة حديث عمرو بن شعيب الشعبي، حيث قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أبا العاص إلى ابنته زينب إلا بنكاح جديد.2
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما وإن كان أصح منه، لكنه منسوخ كما قال ابن عبد البر: "وهذا الخبر -يعني خبر ابن عباس- وإن صح، فهو متروك منسوخ عند الجميع، لأنهم لا يجيزون رجوعه إليها بعد خروجها من علتها، وإسلام زينب كان قبل أن ينزل كثير من الفرائض.
ومما يدل على أن قصة أبي العاص منسوخة، قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ..} الآية، وإجماع العلماء على أن أبا العاص بن الربيع كان كافرا، وأن المسلمة لا يحل أن تكون زوجة لكافر3، قال الله عز وجل:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 4.
وعلى فرض أن الحديث ليس منسوخا، يمكن الجمع بين الحديثين،
1 انظر: سنن الترمذي 3/449.
2 التمهيد لابن عبد البر 12/24.
3 انظر: التمهيد لابن عبد البر 12/20،21.
4 النساء: 141.
بأن معنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه بالنكاح الأول، يريد على مثل النكاح الأول من الصداق وغيره، ولم يحدث زيادة على ذلك من شرط ولا غيره1
وأجيب عن ذلك: بأن حديث عمرو بن شعيب لا يقوى ولا يبلغ إلى درجة حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو أصح منه ويعارضه.
وقولهم: بأن حديث عمرو بن شعيب وإن كان ضعيفا، فإن الآية تؤيده وتشهد له، فهذا غير مسلم، لأن الآية لا دلالة فيها على وجوب وقوع الفرقة بين الزوجين في الحال، عند اختلاف الدار بينهما.
وبهذا يضعف استدلال الحنفية بهذا الحديث.
ج - مناقشة استدلالهم بالمأثور:
أثر عمر رضي الله عنه الذي استدلوا به، لا وجود له إلا في كتبهم، ولم أجده في كتب السنن والآثار المشهورة، وهذا مما يضعف الاستدلال به.
وعلى فرض وجوده، فلا دلالة لهم فيه، لأن عمر رضي الله عنه عندما قال: من أراد أن تبين امرأته منه فليهاجر، قصد بذلك أنها تبين منه الإسلام لا باختلاف الدار، لأن اختلاف الدار لا أثر له في الفرقة وإنما الأثر لاختلاف الدين.
1 التمهيد لابن عبد البر 12/24، ونيل الأوطار 6/163.
د - مناقشة أدلتهم من المعقول:
الرد على الوجه الأول: قولهم: بأن تباين الدارين مفوت لمقاصد النكاح، هذا غير صحيح، لأن اختلاف الدار إنما يؤثر في انقطاع الولاية وعدم السيادة وهما لا يوجبان انقطاع الزواج، وليس لهما تأثير في الفرقة، ولهذا لو أسلمت المرأة في دار الكفر، وبقي زوجها الكافر مستأمنا بدار الإسلام، لا تقع الفرقة بينهما بمثل هذا التباين، ولا تقع الفرقة بينهما إلا باختلاف الدين.
وكذلك لو دخل المسلم دار الكفر بأمان، لا تقع الفرقة بينه وبين زوجته المسلمة التي في دار الإسلام، وأيضا لو كان لانقطاع الولاية تأثير على الزواج، لوقعت الفرقة بين الزوجين الذين أحدهما في دار البغي والآخر في دار العدل، وليس كذلك1.
الرد على الوجه الثاني: قولهم بأن أهل دار الحرب كالموتى في حق أهل دار الإسلام، هذا غير صحيح، لأن هناك فرقا بين الموت واختلاف الدار، فالموت قاطع للأملاك، ومن بينها عصمة النكاح، أما اختلاف الدار فهو غير قاطع للأملاك، وبهذا يكون لا أثر له في انقطاع العصمة بين الزوجين.
الرد على الوجه الثالث:
1 أحكام أهل الذمة 1/367.
قال ابن القيم في الرد عليه: "هذا منتقض بانتقال المسلم إلى دار الحرب، ودخول الحربية إلى دار الإسلام، ودخول الحربي بأمان لتجارة أو رسالة، فإن الفرقة لا تقع، وأما الحربية إذا دخلت دار الإسلام وأسلمت، فالموجب للفرقة هناك اختلاف الدين، دون اختلاف الدارين ألا ترى أنه لو وجد في دار واحدة كان الحكم كذلك؟ 1.
الرد على الوجه الرابع: قولهم: بان اختلاف الدارين يقطع الميراث- فالذمي إذا مات في دار الإسلام، وخلف مالا وله ورثة في دار الحرب، لم يستحقوا من ماله شيئا، لاختلاف الدارين بينهم - فكذلك يقطع عصمة النكاح.
قال ابن القيم في الرد عليه: "انقطاع الإرث بينهما لم يرجع إلى اختلاف الدارين، لكن رجع إلى قطع الموالاة والنصرة، ولهذا لو كان ذميا في دار الإسلام فدخل قريبة الحربي مستأمنا ليقيم مدة ويرجع إلى دار الحرب لم يتوارثا، وإن كانت الدار واحدة2.
أما قياسهم الفرقة بين الزوجين عند اختلاف الدارين بينهما على الفرقة بينهما بنسب أو رضاع فهو قياس مع الفارق وغير معتبر لأن الفرقة بين الزوجين بنسب أو رضاع، قد تكون في دار واحدة بخلاف الفرقة باختلاف الدارين فإنها لا تكون في دار واحدة.
1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/369.
2 انظر: المرجع السابق 1/371.
ثانيا: مناقشة أدلة الجمهور القائلين بأن الفرقة لا تقع باختلاف الدارين:
أ- مناقشة استدلالهم بالكتاب:
استدلالهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ..} الآية.1
يرد عليه: بأن الآية دلت على أن الذي أو قع الفرقة اختلاف الدار لا الدين فالآية سيقت لبيان حكم المؤمنات المهاجرات إلى دار الإسلام مفارقات أزواجهن الكفار في دار الحرب، والحكم الذي وردت لأجله هو وقوع الفرقة بين المؤمنة المهاجرة إلى دار الإسلام وبين زوجها الكافر في دار الحرب، فدلالة الآية على وجوب الفرقة بين الزوجين باختلاف الدارين واضح لا يمكن إغفاله.2
ويجاب عن ذلك: بأن المؤمنات المهاجرات إلى دار الإسلام، المفارقات لأزواجهن من الكفار، أمر الله بعدم إرجاعهن لأزواجهن، ووجوب الفرقة بينهما إذا لم يسلموا، ليس لكونهن هاجرن من دار الكفر إلى دار الإسلام، بل لكونهن
1 الممتحنة: 10.
2 أحكام القرآن للجصاص 3/438، والمبسوط 5/51.
مؤمنات، فالإيمان هو سبب الفرقة، وليس اختلاف الدار، الذي لا أثر له في وقوع الفرقة، وإنما الأثر لاختلاف الدين، فمتى كان أحد الزوجين كافرا والآخر مؤمنا، فرق بينهما بعد عرض الإسلام على المتأخر منهما، سواء كانا في دار واحدة، أو اختلفت الدار بينهما.
ب - مناقشة أدلتهم من السنة:
1-
بالنسبة لاستدلالهم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيصلى الله عليه وسلم رد زينب لأبي العاص بالنكاح الأول.
فيرد عليه من وجوه:
1-
أن الحديث في إسناده ضعف.1
2-
أن الحديث فيه اضطراب في المتن، فروي أنه صلى الله عليه وسلم ردها عليه بعد ست سنين من إسلامها، وفي رواية بعد سنتين وهذا مما يضعف الاستدلال به2.
3-
أنه على فرض صحته، فهو منسوخ، كما قال ذلك ابن عبد البر في التمهيد، حيث قال: "وإن صح فهو متروك منسوخ عند الجميع، لأنهم لا يجيزون رجوعه إليها بعد العدة، وإسلام زينب كان قبل أن ينزل كثير من الفرائض، وهو منسوخ بالآية: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا
1 نصب الراية 3/209، والجوهر النقي مع السنن الكبرى 7/188.
2 سبق تخريجه ص 271. انظر: الجوهر النقي 7/188.
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}
ومما يدل على أن قصة أبي العاص منسوخة بهذه الآية، إجماع العلماء على أن أبا العاص بن الربيع، كان كافرا وأن المسلمة لا تحل أن تكون زوجة لكافر.1
4-
وعلى فرض عدم النسخ، فهو معارض بحديث عمرو بن شعيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها إليه بنكاح جديد ومهر جديد، وهو الذي عليه العمل عند أكثر العلماء، وإن كان حديث ابن عباس رضي الله عنهما أجود إسنادا منه2.
5-
قال ابن الهمام: "إذا أمكن الجمع، فهو أولى من إهدار الحديثين وذلك بحمل قوله: "ردها عليه بالنكاح الأول"، على معنى بسبب كونه سابقا مراعاة لحرمته، كما يقال ضربته على إساءته3، وقيل يمكن الجمع بينهما بحمل قوله: "ردها عليه بالنكاح الأول"، على مثل النكاح الأول من الصداق وغيره، ولم يحدث زيادة أو نقصان"4.
وبهذه الأوجه الخمسة، يضعف استدلال الجمهور بهذا الحديث.
2-
أما الحديث الآخر: فيرد عليه:
1 انظر: التمهيد لابن عبد البر 12/21، 21.
2 سنن الترمذي 3/448.
3 فتح القدير 3/292.
4 التمهيد 12/24، ونيل الأوطار 6/164، والمبسوط 5/52.
بأن الدار لم تختلف بين الزوجين، حتى يوقع النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة بينهما، فكلاهما من دار واحدة.
وأجيب عن ذلك: بأنه رغم هذه الأوجه الخمسة في الرد على حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فهو أصح من حديث عمرو بن شعيب، بل إنه يتقوى بالآية التي دلت على عدم إرجاع المؤمنات المهاجرات إلى دار الإسلام لأزواجهن في دار الكفر، بسبب إيمانهن، وليس بسبب اختلاف الدار بينهم، فالأثر في الفرقة، إنما لاختلاف الدين لا الدار.
أما ردهم على الحديث الآخر فيجاب عنه، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقع الفرقة بين الزوجين لأن الدار لم تختلف بينهما، بل لأن الدين لم يختلف بينهما.
وحتى لو اختلفت الدار، فلا تقع الفرقة بسببها، بل بسبب اختلاف الدين.
أما استدلالهم بقصة إسلام سفيان بن حرب، بمرالظهران، فمردود لأن مرالظهران لم تكن صارت من بلاد الإسلام، لأنها قريبة من مكة وتابعة لها، ومكة كانت دار حرب، فكان حكم ما قرب منها حكمها، فثبت بهذا أن أبا سفيان أسلم في دار حرب، فلم تختلف به وبامرأته الدار، لأنهما جميعا في دار الحرب، وبهذا يخرج الدليل عن محل النزاع.1
1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/365.
قال ابن التركماني: "قلت أسلم أبو سفيان بمرالظهران، وهي من توابع مكة، ومكة لم تكن في ذلك الوقت فتحت، فلم تصر مرالظهران دار إسلام بعد، فلم يختلف بها الدار"1
وعلى فرض أن مرالظهران كانت دار إسلام، فيحمل على أن أبا سفيان لم يكن أسلم إسلاما خالصا، وإنما كان في استجارة الرسول صلى الله عليه وسلم لما شفع له عمه العباس رضي الله عنه وإنما حسن إسلامه بعد الفتح، وبهذا يكون مستأمنا في دار الإسلام، ولا تقع الفرقة بينه وبين زوجته الكافرة.
قال السرخسي: "وأما إسلام أبي سفيان، فالصحيح أنه لم يحسن إسلامه2 يومئذ، وإنما أجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشفاعة عمه العباس رضي الله عنه.3
قال ابن القيم في الإجابة عن ذلك: "قال الجمهور أبو سفيان أسلم بمرالظهران عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزلها المسلمون الذين معه، وثبتت أيديهم عليها، وجرت أحكام الإسلام فيها، وإذا كان كذلك كانت من دار الإسلام، وكانت في ذلك بمنزلة المدينة وسائر مدن الإسلام"4
وأجاب الحنفية عن ذلك: بأن مرالظهران قرية من قرى مكة، فتكون تابعة لها، ولم تصر بنزول عسكر المسلمين فيها دار إسلام، وفي
1 انظر: الجوهر النقي 7/186.
2 العلاقات الاجتماعية ص 116.
3 انظر: المبسوط 5/52.
4 انظر: أحكام أهل الذمة 1/365.
هذا يقول ابن التركماني: "وإذا نزل العسكر بموضع لم تصر دار إسلام، حتى يجري فيه أحكام المسلمين، ويكون بحيث لو أرادوا أن يقيموا فيه ويستوطنوا أمكنهم، ولم تكن مرالظهران بهذه الصفة"
وبهذا يعلم أن إسلام أبي سفيان كان في دار الحرب، فلم تختلف بينه وبين امرأته الدار، لأنها كانت كافرة في مكة، ومكة يومئذ دار حرب1.
وأجيب عن ذلك: بأنه حتى لو كان مرالظهران من دار الحرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين أبي سفيان وزوجته لكونها أسلمت بعده، وليس لأن الدار لم تختلف بينهما، وحتى لو اختلفت، فلا أثر لها في وقوع الفرقة بين الزوجين، بل الأثر هو لاختلاف الدين.
وأيضا لا حجة للجمهور في قصة عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية رضي الله عنهما لأن هروب عكرمة وصفوان إلى اليمن أو الطائف أو الساحل حتى وافاهما نساؤهما، وأخذن لهما الأمان، كان بعد فتح مكة، وبعد أن صارت دار إسلام، وما قرب منها يأخذ حكمها، فساحل البحر قريب منها، والطائف وإن كانت دار كفر، فليس في القصة أنه وصل إليها، بل قصدها، ولعله لم يخرج من دار الإسلام، ولم يصل إليها، وأما اليمن فإنها صارت دار إسلام لإقرار أهل الكتاب فيها بالجزية،
1 انظر: الجوهر النقي 7/186.
وبهذا يعلم أن الدار لم تختلف بين هؤلاء وبين نسائهم.1
قال السرخسي: "وعكرمة وحكيم بن حزام، إنما هربا إلى الساحل، وكانت من حدود مكة، فلم يوجد تباين الدارين، فلهذا لم يجدد النكاح بينهما"2
وقال ابن التركماني: "وأما امرأة عكرمة، فخرجت عقيب خروجه فأدركته ببعض الطرق، ولم يتيقن بأن ذلك الموضع معدود من دار الكفر أما صفوان فأدركه عمير بن وهب، وهو يريد أن يركب البحر، فرجع به، وهذا الموضع من توابع مكة وفي حكمها، فلم يختلف به وبزوجه الدار"3
وأجيب عن ذلك: بأن الساحل والطائف، واليمن، حتى لو كانت من دار الإسلام، فاتحاد الدار واختلافه لا أثر له في الفرقة، بل الأثر لاختلاف الدين، ولم يفرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين عكرمة وامرأته، وصفوان وامرأته، لأن الدين لم يختلف بينهم.
وقال ابن القيم في الإجابة عن ذلك: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم تجر عليه أحكام الإسلام
1 تبيين الحقائق 2/175، وأحكام أهل الذمة 1/366.
2 انظر: المبسوط 5/52.
3 انظر: الجوهر النقي مع سنن البيهقي 7/186.
لم يكن دار إسلام وإن لاصقها، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جدا، ولم تصر دار إسلام بفتح مكة، وكذلك الساحل، وأما اليمن فلا ريب أنه كان قد فشا فيهم الإسلام، ولم يستوثق كل بلادها بالإسلام إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في زمن خلفائه، ولهذا أتوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أرسالاً وفتحوا البلاد مع الصحابة، وعكرمة لم يهرب من الإسلام، إلى بلد إسلام، وإنما هرب إلى موضع يرى أن أهله على دينه.." إلى أن قال:"فالذين أسلموا وهاجروا قبل فتح مكة، لم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين نسائهم قطعا مع اختلاف الدار قطعا، ولو لم تكن الآثار متضافرة بذلك، لكان القياس يقتضي عدم التفريق باختلاف الدار، فإن المسلم لو دخل دار الحرب وأقام بها وامرأته مسلمة، أو أقامت امرأة الحربي في دار الحرب، وخرج هو إلى دار الإسلام بأمان لتجارة أو رسالة، فإن النكاح لا ينفسخ"1
ج - مناقشة أدلتهم من المعقول:
أ- قياسهم عقد النكاح على عقود المعارضات كالبيع ونحوه، قياس مع الفارق لأن المقصود الأصلي قي عقود المعاوضات هو المال، وهو لا يتأثر بتباين الدار، أما المقصود الأصلي من النكاح، فهو إنجاب الأولاد، وتكوين الأسرة، وهذا المقصود لا يتحقق إلا عند اتحاد الدار دون
1 انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/366، 367.
اختلافهما، ففارق غيره من عقود المعواضات.1
أجيب عن ذلك: بأن القياس صحيح، لأن اختلاف الدار لا أثر في انفساخ عقود المعاوضات من البيع ونحوه، فكذلك لا أثر له في إنفساخ النكاح بين الزوجين ومقصود النكاح يحصل بعد عرض الإسلام على المتأخر منهما، فإما أن يسلم ويلحق بالآخر ويحصل مقصود النكاح، وأما أن يأبى الإسلام، فيفرق بينهما، ويتزوج المسلم منهما، فيحصل أيضا مقصود النكاح.
ب- أما قياسهم عدم وقوع الفرقة باختلاف الدارين على عدم وقوعها بين المسلم إذا خرج مستأمنا إلى دار الحرب، وزوجته التي هي في دار الإسلام وبين المستأمن الحربي في دار الإسلام، وزوجته في دار الحرب، فهو قياس مع الفارق، لأن المسلم المستأمن لم تختلف الدار بينه وبين زوجته، فكلاهما من أهل دار الإسلام، وكذلك المستأمن الحربي لم تختلف الدار بينه وبين زوجته، فكلاهما من أهل دار الحرب، ولا يؤثر الأمان في اختلاف الدارين بين الزوجين في هاتين الحالتين.
أجيب عن ذلك: بأن اتحاد الدار أو اختلافه، لا أثر له في وقوع الفرقة بين الزوجين، وإنما الأثر لاختلاف الدين، فالمسلم الذي في دار الحرب، لم يفرق بينه
1 العلاقات الاجتماعية ص 116.
وبين زوجته التي في دار الإسلام، ليس لأنهما من أهل دار واحدة - وهي دار الإسلام- بل لأن الدين بينهما لم يختلف، فزوجته مسلمة في دار الإسلام، وهو مسلم في دار الحرب، وكذلك الحربي المستأمن في دار الإسلام، لم يفرق بينه وبين زوجته التي في دار الحرب، ليس لأنهما من أهل دار واحدة - هي دار الحرب- بل لأن الدين بينهما لم يختلف، فزوجته كافرة في دار الحرب، وهو كافر في دار الإسلام.
إذن فاختلاف الدار لا أثر له في الفرقة، بل الأثر لاختلاف الدين.
الرأي المختار:
بعد ذكر آراء الفقهاء في اختلاف الدار وأثره في الفرقة، وأدلتهم وما ورد عليها من ردود واعتراضات، تبين لي أن رأي الجمهور: في عدم وقوع الفرقة بين الزوجين باختلاف الدار، هو الرأي المختار وذلك للأسباب الآتية:
1-
لقوة الأدلة التي استدلوا بها، كالآية التي هي صريحة الدلالة في وجوب الفرقة بين المؤمنة المهاجرة إلى دار الإسلام، وبين زوجها الكافر في دار الحرب، وذلك بسبب إيمانها، وليس لاختلاف دارها.
2-
ولأن الأدلة التي استدل بها الحنفية على وجوب الفرقة بين الزوجين في الحال عند اختلاف الدار بينهما، غير مسلّمة، وأجيب عنها بالإجابات المعقولة.
3-
ولآن في القول بوجوب الفرقة بين الزوجين عند اختلاف الدار
بينهما في الحال، حرجاً ومشقة، كما أن القول بعدم وقوع الفرقة باختلاف الدار بين الزوجين، بل باختلاف الدين، بعد عرض الإسلام على المتأخر منهما فيه تيسير وتخفيف، فالآخذ به هو الموافق لسماحة الشريعة الإسلامية.
وهذا الحكم - وهو عدم وقوع الفرقة بين الزوجين باختلاف الدار بينهما- ينطبق على دار الكفر في هذا الزمان، حربية كانت أو غير حربية، فالكافر الذي يسلم في دار الكفر، ثم يهاجر إلى دار الإسلام لا تقع الفرقة بينه وبين زوجته بسب اختلاف الدار بينهما، بل تقع باختلاف الدين بعد عرض الإسلام عليها أثناء عدتها، فإن لم تسلم، فرق الإسلام بينهما.
وكذلك المرأة التي تسلم في دار الكفر.
وأيضا إذا أسلمت الكافرة في دار الكفر، وزوجها الكافر من المقيمين في دار الإسلام، لا تقع الفرقة بينهما لاختلاف الدار، بل تقع لاختلاف الدين بعد عرض الإسلام عليه، فإن أبى فرق الإسلام بينهما.
وبهذا الاختيار يتضح أن اختلاف الدار لا أثر له في وقوع الفرقة بين الزوجين، وإنما الأثر لاختلاف الدين.