المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: أثره في جرائم القصاص في دار الكفر - اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[عبد العزيز بن مبروك الأحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني: أثر اختلاف الدارين في الأحكام الشرعية

- ‌الفصل الأول: أثر اختلاف الدار في وجوب القصاص والدية والكفارة على المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث الأول: اختلاف الدار وأثره في وجوب القصاص

- ‌المبحث الثاني: اختلاف الدارين وأثره في وجوب الدية

- ‌المطلب الأول: أثره في دية المعاهد الكتابي

- ‌المطلب الثاني: أثره في دية المعاهد المجوسي وغيره من الكفار

- ‌الفصل الثاني: اختلاف الدار في جرائم الحدود في دار الإسلام

- ‌المبحث الأول: أثره في إقامة حد الزنا على المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث الثالث: أثره في إقامة حد السرقة على المستأمنين في دار الإسلام

- ‌المبحث الرابع: أثره في إقامة حد الحرابة على المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث الخامس: أثره في ارتكاب جريمة البغي من المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث السادس: أثره في تجسس المستأمن في دار الإسلام

- ‌الفصل الثالث: اختلاف الدار وأثره في الجهاد

- ‌الفصل الرابع: اختلاف الدار وأثره في أحكام المعاملات والنكاح

- ‌المبحث الأول: أثره في التعامل بالربا في دار الكفر

- ‌المبحث الثاني: أثره في نكاح الكتابية في دار الحرب

- ‌الفصل الخامس: اختلاف الدار وأثره في الجرائم في دار الكفر

- ‌المبحث الأول: أثره في جرائم القصاص في دار الكفر

- ‌المبحث الثاني: اختلاف الدار وأثره في جرائم الحدود في دار الحرب

- ‌الفصل السادس: اختلاف الدار وأثره في الميراث والوصية

- ‌المبحث الأول: اختلاف الدار وأثره في الميراث

- ‌المطلب الأول: أثره في الميراث بين غير المسلمين

- ‌المطلب الثاني: أثره في ميراث المرتد

- ‌فهرس المصادر والمراجع المطبوعة

الفصل: ‌المبحث الأول: أثره في جرائم القصاص في دار الكفر

‌الفصل الخامس: اختلاف الدار وأثره في الجرائم في دار الكفر

‌المبحث الأول: أثره في جرائم القصاص في دار الكفر

إن إزهاق النفس المؤمنة بغير وجه حق من الجرائم المحرمة ومن كبائر الذنوب، سواء كان ازهاقها في دار الإسلام أو في دار الحرب لقوله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} 1، وقوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} 2

فهذه الآيات وغيرها كثير تحرم قتل النفس المؤمنة بغير حق، وأن ذلك من كبائر الذنوب التي يستحق مرتكبها العقوبة في الدنيا والآخرة. ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة"3.

فهذا الحديث وغيره كثير يدل على تحريم دم المسلم إلا بحقه، سواء كان في دار الإسلام أو في دار الحرب.

1 الأنعام: 151، والإسراء:33.

2 المائدة: 32.

3 أخرجه البخاري 4/188 كتاب الديات، ومسلم 3/1302، كتاب القسامة باب ما يباح به دم المسلم واللفظ له وقد سبق.

ص: 299

واتفق الفقهاء على وجوب إقامة القصاص على المسلم الذي ارتكب جريمة القتل عمدا في دار الإسلام، متى توفرت شروطه.1

وكذلك اتفقوا على أن المسلم إذا قتل من يظنه حربيا فكان مسلما، أو يرمي إلى صف الكفار فيصيب مسلما، أو تترس2 الكفار بمسلم ويخاف على المسلمين أن لم يرمهم فيرميهم فيقتل المسلم أن هذا لا قصاص فيه، وإنما هو من باب الخطأ، وفيه الكفارة بالاجماع3 لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 4

واختلف الفقهاء في وجوب إقامة القصاص على المسلم إذا ارتكب جريمة القتل في دار الكفر إلى قولين:

القول الأول: أن المسلم إذا ارتكب جريمة القتل في دار الكفر فلا قصاص عليه، ولا يخلو القتيل أن يكون واحداً من ثلاثة: 1- أن يكون القتيل حربيا ثم أسلم وأقام في دار الكفر، ولم يهاجر إلى دار الإسلام فلا قصاص على قاتله ولا يجب عليه شيء سوى الكفارة.

1 الاختيار 5/23، وقوانين الأحكام ص 374، وكفاية الأخبار 2/ 95، 96، والمبدع 8/250.

2 التترس: التستر والتوقي- انظر لسان العرب 6/32.

3 الاختيار 5/25، والمنتقى شرح الموطأ 7/100، ومغنى المحتاج 4/13، والمبدع 8/251، والإنصاف 9/447.

4 النساء: 92.

ص: 300

2-

أن يكون القتيل والقاتل من أهل دار الإسلام، ودخلا دار الكفر بأمان لغرض كتجارة ونحوها، فلا قصاص على القاتل في هذه الحالة.

3-

أن يكون القتيل أسيرا في دار الحرب فقتله أسيرٌ مثله فلا قصاص أيضا على القاتل في هذه الحالة.

وهذا قول فقهاء الحنفية ما عدا أبا يوسف في إحدى الروايتين عنه1. وهو رواية للإمام أحمد.2

إلا أن الإمام أبا حنيفة خالف الأصحاب في الحالة الأخيرة -أي في القتيل إذا كان أسيراً- فقال: "لا دية ولا كفارة على قاتله، أما الأصحاب فقالوا: تجب الدية والكفارة"3

وهذا القول نسبه الجصاص للحسن بن صالح4، فقال: وقال الحسن ابن صالح من أقام في أرض العدو وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على

1 بدائع الصنائع 7/105، 132، 133، 237، وأحكام القرآن للجصاص 2/240، 241، وتبيين الحقائق 6/112، وحاشية المختار 6/532.

2 انظر: المغني لابن قدامة 7/648.

3 انظر: نفس مراجع الحنفية السابقة.

4 هو الحسن بن صالح بن حنى الهمداني الثوري الكوفي أبو عبد الله، ثقة، فقيه، ومن رجال الحديث الثقات، رمى بالتشيع، ولد سنة 100هـ، وتوفي سنة 168هـ بالكوفة، له كتب منها: التوحيد، والجامع في الفقه.

انظر: تقريب التهذيب 1/166، وميزان الاعتدال 1/230، والأعلام 2/193.

ص: 301

التحول إلى المسلمين، فأحكامه أحكام المشركين، وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم، يحكم فيه بما على أهل الحرب في ماله ونفسه، إلى أن قال: إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام1

القول الثاني: أن المسلم إذا قتل مسلما آخر في دار الكفر متعمداً وجب عليه القصاص، ولا فرق في وجوبه بين دار الكفر ودار الإسلام.

وهو قول جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب والظاهرية وأبي يوسف من الحنفية في إحدى الروايتين عنه.2

الأدلة:

أولا: استدل الأحناف على عدم وجوب القصاص في دار الكفر، بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول.

أ - دليلهم من الكتاب:

قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 3.

1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/240.

2 مواهب الجليل 6/175، وقوانين الأحكام الشرعية ص 373، والأم 6/35، والأشراف لابن المنذر ص 84، ومغنى المحتاج4/14، ونهاية المحتاج 7/260، والمغني 7/648، والمبدع 8/251، والمحلى 10/360، وأحكام القرآن للجصاص ص 2/241.

3 النساء: 92.

ص: 302

وجه الدلالة من الآية الكريمة:

الآية ظاهرة الدلالة على أن المسلم إذا قتل مسلما متعمدا في دار الكفر لا قصاص عليه، ولاشيء عليه سوى الكفارة، لأن الآية لم تذكر غيرها، فدلت على أن القصاص والدية لا تجب بقتل المسلم في دار الكفر.1

قال الجصاص: "لا يخلو قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، من أن يكون المراد به الحربي الذي يسلم فيقتل قبل أن يهاجر على ما قاله أصحابنا"2

ب - أما دليلهم من السنة:

1-

فما رَوَى أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة3 من جهينة قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم قال: فلما غشيناه4 قال: لا إله إلا الله قال: فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، قال فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: فقال لي يا أسامة: أقتلته بعد ما قال: لا إله

1 بدائع الصنائع 7/105.

2 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/241.

3 الحُرْقة: بضم الحاء وبالراء ثم قاف - وهي بطن من جهينة، وسموا بذلك لوقعة كانت بينهم وبين بني سهم بن مُرَّة بن عوف بن سعد بن ذبيان، فأحرقوهم بالسهام لكثرة من قتلوا منهم. ينظر: نسب معدٍ واليمن الكبير 728.

4 أي لحقنا به حتى تغطى بنا. فتح الباري 12/195.

ص: 303

إلا الله؟ قال: قلت يا رسول الله أنه إنما كان متعوذا1، قال: قتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال: فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم"2

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث ظاهر الدلالة في أن المسلم إذا قتل مسلما في دار الحرب لا قصاص عليه ولا دية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أسامة شيئا من ذلك.

قال أبو بكر الجصاص: "وهذا الحديث يدل على ما قلناه - أي أنه لا قصاص على المسلم في دار الحرب - لأنه لم يوجب عليه شيئا، وهو حجة على الشافعي في إيجابه القود على قاتل المسلم في دار الحرب إذا علم أنه مسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بإسلام هذا الرجل ولم يوجب على أسامة دية ولا قودا.3

2-

بما روى عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لم قال: لا تراءى ناراهما"4.

1 متعوذا: أي معتصما. المصباح المنير 2/437.

2 أخرجه البخاري 4/186- 187، كتاب الديات، واللفظ له. ومسلم 1/97 كتاب الإيمان حديث 159.

3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/243.

4 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308.

ص: 304

فهذا الحديث يدل على أن المسلم الذي لم يهاجر إلى دار الإسلام لا قصاص على قاتله ولا دية، فدمه مباح لأنه لا عصمة له.

قال الجصاص: "قوله أنا بريء منه - يدل على أن لا قيمة لدمه كأهل الحرب الذين لا ذمة لهم"1

3-

وبما روي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"2

فالحديث يدل على أن المسلم الذي يسكن مع المشركين في دارهم أنه مثلهم، والمشرك لا قصاص على من قتله في دار الحرب بالإتفاق، وكذلك المسلم الساكن معه لا قصاص ولا دية على قاتله.

4-

بما روى عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين" 3

فهذا الحديث أيضا يدل على أنه لا قصاص على من قتل مسلما في دار الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين في الحديث أن الحربي إذا أسلم ولم يهاجر ويفارق الحربيين إلى المسلمين. لم يقبل منه عمله، فيكون مثلهم لا عصمة له، ولا قصاص على من قتله.

1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/243.

2 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308.

3 سبق تخريجه ص 164.

ص: 305

5-

وبما روي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة أو قال: لا ذمة له" 1

فالحديث أيضا يدل على أن المسلم المقتول في دار الكفر لا قصاص على من قتله ولا دية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث أن من يقيم مع المشركين في دارهم فقد برئت منه الذمة ويكون دمه هدر مثلهم.

قال الجصاص: "هو الرجل يسلم فيقيم معهم فيغزون فإن أصيب فلا دية له، لقوله عليه السلام فقد برئت منه الذمة"2

6-

وبما روي عن سالم عن أبيه رضي الله عنهما قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة3، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا4، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده

1 أخرجه البيهقي 9/13، وذكره الجصاص في أحكام القرآن 2/242، وقد سبق تخريجه بغير هذا اللفظ في الجزء الأول، ص 308.

2 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/242.

3 بنو جذيمة: قبيلة كانت تسكن بأسفل مكة من ناحية يلملم منسوبة إلى ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة. انظر: نسب معد واليمن الكبير470.

4 صبأنا: أي أسلمنا - وصبأ أي خرج من دين إلى دين. انظر: لسان العرب 1/107، 108.

ص: 306

فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد. مرتين" 1

وجه الدلالة من الحديث:

دل الحديث على أن المسلم القاتل في دار الحرب، لا قصاص عليه، ولا دية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب على خالد رضي الله عنه لا قصاص ولا دية مع أنه قتلهم في دارهم.2

7-

وبما روي عن عقبة بن مالك الليثي رضي الله عنه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فأغارت على قوم، فشذ رجل من القوم، وأتبعه رجل من السرية ومعه السيف شاهرة، فقال الشاذ: إني مسلم فضربه فقتله، فنمى3 الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا، فقال القاتل: يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا تعرف المساءة في وجهه وقال: إن الله أبى عليّ أن أقتل مؤمنا ثلاث مرات"4

وجه الدلالة منه:

قال أبو بكر الجصاص: "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان المقتول، ولم يوجب على قاتله الدية، لأنه كان حربيا لم يهاجر بعد إسلامه"5.

1 أخرجه البخاري 3/71، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة.

2 انظر: المحلى 10/368.

3 فنمى: أي وصل.

4 أخرجه أحمد في المسند 4/110، وذكره الجصاص في أحكامه 2/242.

5 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/242، 243.

ص: 307

أما دليلهم من المأثور:

فبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} 1، قال: يكون الرجل مؤمنا وقومه كفار فلا دية له ولكن عتق رقبة مؤمنة 2.

قال الجصاص: "هذا محمول على الذي يسلم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا، لأنه غير جائز أن يكون مراده المؤمن في دار الإسلام إذا قتل وله أقارب كفار، لأنه لا خلاف بين المسلمين أن على قاتله الدية لبيت المال، وأن كون أقربائه كفاراً لا يوجب سقوط ديته"3

د- ودليلهم من المعقول:

1-

أن إمام المسلمين لا يقدر على إقامة القصاص في دار الحرب، لأنه لا ولاية للدولة الإسلامية على محل ارتكاب الجريمة، والوجوب مشروط بالقدرة، ولا قدرة للإمام على إقامة القصاص على من يرتكب جريمة القتل في دار الحرب، وإذا انعدمت القدرة، لم تجب العقوبة.4

2-

أن القتيل في دار الحرب يورث شبهة بأنه من أهل دار الحرب، ومع وجود الشبهة لا يجب القصاص.5

1 النساء: 92.

2 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/240.

3 المرجع السابق نفسه.

4 انظر: فتح القدير 4/155، وبدائع الصنائع 7/ 131.

5 بدائع الصنائع 7/131.

ص: 308

3-

أن القصاص لم يشرع إلا لحكمة الحياة، قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 1، والحاجة إلى الأحياء عند قصد القتل لعداوة حاملة عليه، ولا يكون ذلك إلا عند المخالطة ولم توجد هنا.2

4-

أن المسلم المقيم في دار الحرب يكثر من سواد الكفار، ويقوي من شأنهم، فهو وإن لم يكن منهم دينا فهو منهم دارا، وهذا يورث الشبهة في عصمته.3

5-

لأن الاستيفاء متعذر في دار الحرب إلا بالمنعة، والمنعة منعدمة.4

ثانيا: أدلة الجمهور القائلين بوجوب القصاص على المسلم القاتل في دار الحرب:

استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والقياس.

أ- دليلهم من الكتاب:

عموم الآيات التي دلت على وجوب القصاص على القاتل في كل مكان، في دار الحرب أو في دار الإسلام.5

1 البقرة: 179.

2 بدائع الصنائع 7/105.

3 المرجع السابق 7/237.

4 انظر: بدائع الصنائع 7/131.

5 انظر: المغنى 7/648، والمحلى 10/368.

ص: 309

1-

ومن هذه الآيات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} .1

فالآية دلت على وجوب القصاص على القاتل في دار الحرب، لأن الخطاب عام لكل حالة من حالات القتل، إذا كان عمدا، ولم تخص دار الإسلام من دار الحرب، فيدخل تحت عمومها المسلم المقتول في دار الحرب، فيجب القصاص على قاتله.

2-

وبقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .2

فدلت هذه الآية أيضا بعمومها على أن النفس بالنفس، سواء وقع إزهاقها في دار الإسلام أو في دار الحرب، ولا أثر لاختلاف المكان في وجوب القصاص.

3-

وبقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} .3

فهذه الآية دلت بعمومها كغيرها من الآيات، على وجوب القصاص على القاتل في دار الحرب كما يجب ذلك في دار الإسلام، ولم تخص هذه النصوص إحدى الدارين من الأخرى، كما قال ابن حزم.4

1 البقرة: 178.

2 المائدة: 45.

3 الإسراء: 33.

4 انظر: المحلى10/368.

ص: 310

ب - أما دليلهم من السنة:

فبعموم الأحاديث التي دلت على وجوب القصاص بين المسلمين في كل مكان، ولا أثر لاختلاف الدار في هذا الحكم، فكما يجب القصاص في دار الإسلام على القاتل المتعمد، فكذلك يجب في دار الحرب.1

ومن هذه الأحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ومن قتل له قتيل فهو يخير النظرين إما يودي وإما أن يقاد" 2

فبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن ولي المقتول مخير بين القصاص والدية، فأيمهما اختار فهو أحق به، سواء كان القتل في دار الإسلام أو في دار الكفر، وإلى غير ذلك من الأحاديث التي تدل بعمومها على وجوب القصاص على القاتل في دار الكفر، كما يجب ذلك في دار الإسلام.3

ج - أما دليلهم من المعقول:

فلأن فعل هذه الجريمة أي جريمة القتل محرم في دار الكفر كما هو في دار الإسلام بالاتفاق، وإذا كان اختلاف الدارين لا يؤثر على تحريم الفعل، فإنه لا يؤثر بالتالي على العقوبة المقررة لهذه الجريمة، جزاءً على إتيان الفعل المحرم.4

د - أما دليلهم من القياس:

1 انظر: المغني 7/648.

2 أخرجه البخاري 4/188، كتاب البيان، واللفظ له، وقد سبق تخريجه ص 317.

3 انظر: المحلى 10/368، والمغني 7/648.

4 انظر: كشاف القناع 6/88، والمهذب 2/241.

ص: 311

1-

فبالقياس على دار الإسلام في وجوب القصاص على القاتل المعتمد:

قالوا: أن المسلم القاتل في دار الكفر، قتل من يكافؤه ويساويه عمدا وعدوانا، فيجب عليه القصاص، كما لو قتله في دار الإسلام.1

2 وبالقياس - أيضا - على دار الإسلام في وجوب القصاص على المسلم القاتل عمدا، وإن لم يوجد فيها إمام:

قالوا: كما يجب القصاص على المسلم القاتل عمدا في دار الإسلام وجد إمام، أو لم يوجد، فكذلك يجب القصاص عليه في دار الكفر، حتى وإن لم يوجد فيها إمام.2

المناقشة:

أولا: مناقشة أدلة الحنفية:

أ- أما الآية: فلا دلالة لهم فيها على أنه لا قصاص على من قتل مسلما متعمدا في دار الحرب، لأن معنى الآية الصحيح هو: أن المقتول إذا كان حربيا ثم أسلم وبقي في قومه وهم كفرة، ولم يهاجر إلى دار الإسلام فقتل عن طريق الخطأ، فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير رقبة مؤمنة، وكذلك إذا كان مسلما ودخل دار الحرب فقتل خطأ، فلا دية ولا تجب إلا الكفارة فقط.

1 انظر: المغني 7/648.

2 انظر: المرجع السابق.

ص: 312

وهذا المعنى هو الذي عليه أكثر أهل العلم.

فيقول صاحب البحر المحيط: "معنى الآية أن المؤمن المقتول خطأ الذي أسلم في دار الحرب ثم قتل ولم يهاجر، فلا قصاص ولا دية، لأن أهله أعداء للمسلمين ولا تجب إلا الكفارة"1

وقال ابن كثير: "معنى الآية أي إذا كان القتيل مؤمنا ولكن أولياءه من الكفار أهل الحرب فلا دية، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير.2

وقال الرازي: "المراد بالآية إن كان المقتول خطأ من سكان الحرب وهو مؤمن، فالواجب بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير رقبة، فأما وجوب الدية فلا"3

وقال الطبري: "معنى الآية فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم عدو لكم يعني من عداد قوم أعداؤكم في الدين لم يأمنوكم الحرب، على خلافكم في الإسلام وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة"4

وهذا هو المعنى الصحيح للآية عند بعض الصحابة والتابعين، ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وعكرمة ومجاهد والنخعي.5

1 انظر: البحر المحيط 3/324.

2 انظر: تفسير القرآن العظيم 1/535.

3 انظر: التفسير الكبير 10/234.

4 انظر: جامع البيان 5/207.

5 انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/323، وجامع البيان للطبري 5/207، وتفسير القرآن العظيم 1/535.

ص: 313

قال ابن عباس رضي الله عنهما: فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن، الرجل يكون مؤمنا وقومه كفار فلا دية له، ولكن تحرير رقبة مؤمنة، وقال أيضا: فإن كان من أهل دار الحرب وهو مؤمن فقتله خطأ، فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة ولا دية عليه.1

وقال النخعي: "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن، هو الرجل يسلم في دار الحرب فيقتل، قال ليس فيه دية وفيه الكفارة"

وقال عكرمة: "فإن كان من قوم عدو لكم - يعني المقتول - يكون مؤمنا وقومه كفار، قال: فليس له دية ولكن تحرير رقبة مؤمنة"

وقال السدي: "فإن كان من قوم عدو لكم في دار الكفر، فقتل فالواجب تحرير رقبة مؤمنة، وليس له دية"

وقال قتادة ومجاهد مثل قولهم.2

وبعد أن بينا المعنى الصحيح للآية عند العلماء، تبين لنا أنه لا دلالة للحنفية فيها على أنه لا قصاص على القاتل المتعمد في دار الحرب، لأن الآية وردت في قتل الخطأ.

ب - مناقشة أدلتهم من السنة:

أن الأحاديث التي استدلوا بها لا دلالة لهم فيها.. ويرد عليها بما يلي:

1 جامع البيان 5/207، 208.

2 انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/323، وجامع البيان 5/207، 208.

ص: 314

فحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما يمكن أن يرد عليه من وجوه:

1-

لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة لا قصاص ولا دية، لأن قتل المسلم كان أثناء المعركة مع الكفار، وقتال الكفار مأذون فيه، والفعل المأذون فيه لا ضمان فيه، فكان فعل أسامة من الفعل المأذون، فلا ضمان عليه كالخاتن والطبيب.

2-

أن المقتول كان من العدو قبل أن يسلم، ولم يكن له ولي من المسلمين يأخذ ديته، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .1

3-

أن أسامة قتله متأولا لقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} 2، فكان معذورا لهذا التأويل، ولذلك عذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يوجب عليه قصاصا، ولا دية، لاعتقاده أن ذلك القتيل لما نطق بالشهادة إنما كان ذلك خوفا من السيف، ولم يكن تحريم القتل في تلك الحالة معلوما لذي أسامة.

4-

أن القصاص سقط عن أسامة لأن القتل لم يكن عمدا عدوانا، بل كان من باب الخطأ، وسقطت الدية لأنه من قوم هم عدو للمسلمين كما في الآية 3.

1 النساء: 92.

2 غافر: 85.

3 انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/324، وفتح الباري 12/196، والمحلى 10/369، والقصاص في النفس ص 413.

ص: 315

أما حديث جرير بن عبد الله، وسمرة بن جندب، وبهر بن حكيم، فجميع هذه الأحاديث لا دلالة لهم فيها على ما ذهبوا إليه، لأن غاية ما تدل عليه هذه الأحاديث هو وجوب الهجرة على المسلم المقيم في دار الكفر إلى دار الإسلام إذا لم يأمن على دينه ونفسه وماله - مع أن حديث سمرة ضعيف -كما قال الألباني، وحديث جرير بلفظ من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة1، قال فيه الحجاج وهو مدلس2، وكذلك حديث عقبة وحديث خالد بن الوليد رضي الله عنهما لا دلالة لهم فيهما.

لأن القتل الذي حصل فيهما كان من باب الخطأ، وعندئذ يسقط القصاص.

وفي هذا يقول ابن حزم الظاهري: "كل هذه الأخبار حجة عليهم لأن خالد لم يقتل بني جذيمة إلا متأولا أنهم كفار ولم يعرف أن قولهم: صبأنا صبأنا إسلام صحيح، وكذلك السرية التي أسرعت بالقتل في خثعم وهم معتصمون بالسجود، وإذ هم متأولون فهم قاتلوا خطأ بلا شك فسقط القود، ثم نظرنا فيهم فوجدناهم كلهم في دار الحرب في قوم عدولنا، فسقطت الدية بنص القرآن، ولم يبقى إلا الكفارة"3

1 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308.

2 انظر: ارواء الغليل 5/30، 32.

3 انظر: المحلى لابن حزم 10/369.

ص: 316

ج - مناقشة دليلهم من المأثور:

أما أثر ابن عباس رضي الله عنهما فلا دلالة فيه إلا من ناحية وجوب الكفارة، فيمن قتل مسلما في دار الحرب يظنه حربيا، أما الدية فلا تجب، لأنه من قوم عدو لنا هذا هو الصحيح من قول ابن عباس رضي الله عنهما.

أما قولهم بأنه لا قصاص ولا دية على من قتل مسلما عمدا في دار الكفر فهذا لم تدل عليه الآية.1

د - مناقشة أدلتهم من المعقول: من عدة أوجه:

الوجه الأول: لا نسلم إسقاط القصاص عن القاتل في دار الكفر لعدم الولاية والقدرة على إقامة القصاص في دار الكفر، فالإمام بحسب استطاعته يقيم الحدود في دار الكفر، فإن استطاع أن يقيم القصاص على الجاني في دار الكفر، وإذا لم تكن له القدرة الكافية على إقامته في دار الكفر، فله تأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام، فالقصاص لا يسقط عن القاتل عمدا بأية حال من الأحوال لا في دار الكفر ولا في دار الإسلام، إلا إذا عفى أولياء المقتول ورضّوا بالدية.

1 انظر: جامع البيان 5/207.

ص: 317

الوجه الثاني: لا نسلم بأن كون القتل في دار الكفر يورث شبهة ومع وجودها يسقط القصاص، لأن الشبهة التي يسقط بها القصاص هي الشبهة في الفعل الذي حصل به القتل، أو الشبهة في القصد إلى القتل، والشبهة في الفعل قد عدمت لأن القتل عمدٌ عدوان.

وأما الشبهة قي القصد فلا نقول بوجوب القصاص على المسلم إذا قتل في دار الكفر، إلا إذا كان قاصدا القتل عالما بإسلام المقتول.

الوجه الثالث: يرد عليه بأن الحاجة إلى الحياة مطلوبة في كل وقت، ولا نسلم بأنها لا تكون إلا في حالة الاختلاط، إذ يلزم بموجب هذا الاستدلال عدم وجوب القصاص إذا حصل القتل العمد العدوان على معصوم الدم مع تباعد ما بين بلد القاتل والمقتول، حيث لم يوجد الاختلاط.

الوجه الرابع: قولهم أن في بقاء المسلم في دار الكفر فيه تكثير لسوادهم ويقوي من شأنهم، وهذا يورث الشبهة في عصمته يقال لهم بأن هذا محمول فيما إذا كان هذا هو مقصده.

أما إذا لم يكن يقصد ذلك، بل كانت إقامته بسبب كتجارة أو طلب علم أو غير ذلك فلا شبهة في عصمته، فهو معصوم الدم والمال بإسلامه كغيره من المسلمين.

ص: 318

الوجه الخامس: قولهم بأن الاستيفاء في دار الكفر متعذر، يقال لهم بأن تعذر الاستيفاء في دار الكفر لا يمنع من سقوط القصاص، فإن الحق يتعلق بالذمة حتى إمكان الاستيفاء، فالمفلس في ذمته لا يمنع من وجوب الحق عليه، مع أن الاستيفاء حال الإفلاس متعذر فكذلك تعذر استيفاء القصاص في دار الحرب لا يمنع من استيفائه بعد التمكن والقدرة على إقامته حتى ولو بعد الرجوع إلى دار الإسلام.1

ويمكن حمل أدلة الحنفية على حالتين:

1-

عدم علم القاتل بإسلام المقتول، فيقتله على أنه كافر، ثم يتبين له بأنه مسلم.

2-

أن يكون القتل من باب الخطأ، وفي كلتا الحالتين لا يجب القصاص إجماعا، وهذا ما تدل عليه الآية التي استدلوا بها، وهي قوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .

وكذلك الأحاديث كحديث أسامة وخالد رضي الله عنهما وغيرهما.

وبهذا الحمل تجتمع الأدلة ويحصل الأخذ بها جميعا.2

1 انظر: القصاص في النفس ص 415.

2 انظر: المرجع السابق.

ص: 319

حتى أن الإمام الشوكاني أنكر على الحنفية قولهم هذا، فقال:"القول بأنه لا قصاص في دار الحرب لا وجه له من كتاب، ولا سنة، ولا قياس صحيح، ولا إجماع، فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها، فما أوجبه الله على المسلمين من القصاص ثابت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها، مهما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولا يرفع شيئا من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل، وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع من لزوم القصاص ولزوم الإرش"1

أما قول الحسن بن صالح، فقد رد عليه الجصاص بعد أن نقله عنه بقوله: فأما قول الحسن بن صالح في أن المسلم إذا لحق بدار الحرب فهو مرتد، فإنه خلاف الكتاب والإجماع، لأن الله تعالى قال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} 2 فجعلهم مؤمنين مع إقامتهم في دار الحرب بعد إسلامهم، وأوجب علينا نصرتهم بقوله:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 3، ولو كان ما قال صحيحا لوجب أن لا يجوز للتجار دخول دار الحرب بأمان، وأن يكونوا بذلك مرتدين

1 انظر: السيل الجرار للشوكاني 4/552، والارش هو: الدية.

2 الأنفال: 72.

3 الأنفال: 72.

ص: 320

وليس هذا قول أحد.1

ثانيا: مناقشة الحنفية لأدلة الجمهور:

أ- يرد على استدلالهم بالعمومات واردة في الكتاب والسنة بأنها مخصصة بما سبق من الأدلة كقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، يجاب عن ذلك: بأننا لا نسلم هذا التخصيص لأن الآية لا دلالة فيها على أن المسلم القاتل في دار الكفر لا يقتص منه إذا قتل عمدا، حتى يقال بأنها مخصصة للعمومات الواردة من الكتاب والسنة الدالة على إقامة القصاص في كل مكان سواء في دار الإسلام أو في دار الكفر، بل غاية ما تدل عليه هذه الآية هو أن الحربي إذا أسلم ولم يهاجر ثم قتل في صف الكفار من باب الخطأ، فلا قصاص ولا دية على قاتله، وإنما يجب لقتله الكفارة فقط.

وهذا هو المعنى الصحيح للآية، والذي عليه أكثر أهل العلم.

ب - مناقشة استدلالهم بالمعقول:

وهو قولهم بأن القتل محرم في دار الحرب كما هو محرم في دار الإسلام: أننا لا ننكر بأن فعل هذه الجرائم كالقتل وغيره في دار الحرب من المحرمات، ويجب على المسلم أن يجتنبها ويلتزم بأحكام الإسلام في كل مكان لكن المسألة ليست مسالة تحريم والتزام، وإنما المسألة مسالة وجوب

1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/243.

ص: 321

إقامة القصاص على القاتل، ولا يجب على الإمام أن يقيم القصاص إلا وهو قادر ومستطيع، ولا قدرة لإمام المسلمين على إقامة القصاص على من ارتكب جريمة القتل في دار الحرب، وإذا انعدمت القدرة لم تجب العقوبة.1

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن القصاص لا يسقط عن القاتل المتعمد بحجة أنه قتل في دار الكفر، ولإمام المسلمين أن يقيم القصاص بقدر المستطاع، فإن لم يقدر على إقامته في دار الكفر -لأنه لا ولاية له -أمكنه تأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام فيمسك المجرم من قبل السلطات المعنية بهذا الشأن، ثم يبعث به إلى داره، وهناك يقام عليه القصاص، وبخاصة في هذا الزمان، فهناك معاهدات واتفاقات دولية بين الدول الإسلامية وغالبية الدول الكافرة على تسليم المجرمين وغيرهم.

ج - أما القياس:

فيرد عليه بأنه قياس مع الفارق، فالمسلم في دار الإسلام معصوم بإسلامه وبداره، فلا شبهة في عصمته، أما المسلم المقتول في دار الكفر، فقد وجدت شبهة الإباحة في عصمته، وهو انتفاء الدار، حيث أن الإسلام لا يكفي في العصمة، وأيضا بقاؤه بين الكفار فيه شبهة في عصمته، لأنه ربما يريد تكثير سوادهم، وفي ذلك ضرر على المسلمين.2

1 انظر: فتح القدير 5/155، والتشريع الجنائي 1/281.

2 بدائع الصنائع 7/131، 132.

ص: 322

ويجاب عن ذلك: بأن العصمة تحصل للمسلم بمجرد إسلامه، ولا أثر للدار في العصمة، فمتى حصل الإسلام حصلت العصمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله

" الحديث1.

وكذلك قياسهم الثاني مع الفارق، لأن هناك فرقا بين المسلم المقتول في دار الإسلام، والمسلم المقتول في دار الكفر، لأن الولاية موجودة والقدرة على إقامة القصاص متحققة، في دار الإسلام بخلاف دار الكفر.

الرأي المختار:

بعد أن بينا آراء الفقهاء في القصاص من المسلم إذا قتل مسلما عمدا في دار الكفر وأدلتهم ومناقشتها يتبين لي أن الرأي المختار هو رأي الجمهور، وهو أن القصاص لا يسقط عن القاتل المتعمد في دار الكفر.

وقد اخترته للأسباب التالية:

1-

لقوة أدلتهم وسلامتها من الردود والمناقشات الصحيحة، فقد استدلوا بعموم الآيات والأحاديث الدالة على وجوب إقامة القصاص على الجاني، ولم تفرق بين كون الجريمة ارتكبت في دار الكفر أو في دار الإسلام، ولم يرد نص صحيح صريح يقوى على تخصيص هذا العموم.

2-

ولأن الأدلة التي استدل بها الحنفية غير مسلمة لهم، وقد سبق الرد عليها.

1 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 39.

ص: 323

3-

ولأن في الأخذ بهذا الرأي تتحقق الحكمة التي من أجلها شرع القصاص.

4-

ولأن في الأخذ بالرأي المخالف فتحا لباب الفساد وانتشار الجرائم من ضعاف الإيمان والمتسترين بالإسلام، الذين يستغلون الفرص.

فربما كان هناك عداء بين مسلمين فيحتال أحدهما على الآخر حتى يسافر معه إلى دار الأعداء، ثم يقتله هروبا من القصاص بحجة أنه لا قصاص على القاتل في دار الكفر، كما قال الحنفية.

وسدا لهذا الباب وجبت إقامة القصاص في أي مكان متى قدر الإمام على ذلك، ولا يسقط عن الجاني المتعمد بأية حال من الأحوال، إلا في حالة عفو أولياء المقتول.

5-

ولأن في إقامة جرائم القصاص وغيرها في دار الكفر -إذا قدر الإمام على ذلك- تحقيقا لأعظم الأهداف، وهو مشاهدة الأعداء لعدالة الإسلام وسماحته، وأن جزاء القاتل هو القتل، وربما يحملهم ذلك على اعتناق أحكامه في عدالته وسماحته، وكونه أصلح الأديان على وجه الأرض.

وإذا قيل بأن في إقامة جرائم القصاص وغيرها على المسلم في دار الحرب تنفيراً عن الإسلام، وكذلك أن الإمام لا يتمكن من إقامة القصاص في دار الكفر لعدم القدرة، لأنه لا ولاية له على دار الكفر.

أقول: أنه تلافيا لهذه الإحتمالات الواردة، فإنه يمكن تأخير القصاص على القاتل حتى رجوعه إلى دار الإسلام.

ص: 324

فقد قال ابن قدامة: "من أتى حدا من الغزاة أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب، لم يقم عليه حتى يقفل"1 أي حتى يرجع.

وقال البهوتي: "من أتى ما يوجب قصاصا في الغزو، لم يستوف منه في أرض العدو حتى يرجع إلى دار الإسلام"2

وبهذا الاختيار يتبين لنا أنه لا أثر لاختلاف الدار في إقامة جرائم القصاص على المسلم في دار الكفر، فالقصاص يقام على الجاني في دار الكفر كما يقام عليه ذلك في دار الإسلام.

وهذا لن يؤثر إلا من ناحية التأخير حتى الرجوع إلى دار الإسلام عند عدم الاستطاعة والقدرة على إقامته في دار الكفر.

وهذا كله فيما إذا وقعت الجريمة في دار الكفر الحربية، أما إذا وقعت في دار الكفر غير الحربية، والتي بينها وبين المسلمين معاهدات واتفاقات دولية، فقد تكون إقامة القصاص وغيره على الجاني متيسرة للعهد الذي بينهم وبين المسلمين، فلا يحتاج إلى تأخير حتى الرجوع إلى دار الإسلام.

1 انظر: المغني لابن قدامة 8/473.

2 انظر: كشاف القناع 6/88.

ص: 325