الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أثره في ميراث المرتد
وفيه فرعان:
الفرع الأول: ميراث المرتد في دار الإسلام اتفق الفقهاء على أن المرتد لا يرث أحدا بحال.1
أما مال المرتد في دار الإسلام فله حالتان:
الحالة الأولى: فيما إذا ارتد وبقي في دار الإسلام، فإن أمواله توقف، فإن أسلم دفعت إليه بالإتفاق.2
الحالة الثانية: فيما إذا مات أو قتل على ردته، فهل يورث أم لا؟.
اختلف الفقهاء في ذلك إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: المرتد إذا قتل أو مات على ردته وترك مالا ورثه عنه ورثته من المسلمين دون الكفار.
1 بدائع الصنائع 7/136، والشرح الصغير 2/513، ومغنى المحتاج 3/25، والعذب الفائض 1/34
2 المرجع السابق نفسه مع المبدع 6/234، والمغني 6/ 298، والإنصاف 7/ 348. إلا أن الحنابلة قالوا لو رجع مسلما قبل قسمة الميراث يرث ترغيبا له في الإسلام.
وهو مروي عن أبي بكر الصديق وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت في رواية رضي الله عنهم أجمعين والحسن البصري وسعيد بن المسيب والنخعي وجابر بن زيد، وعمر بن عبد العزيز، وحماد بن أبي سليمان، والحكم بن عتيبة، والأوزاعي، والثوري، والشعبي، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهوية.1
وهو قول فقهاء الحنفية والحنابلة في رواية، إلا أن الإمام أبا حنيفة قال:"ما اكتسبه في حال الردة فهو فيء"2
القول الثاني: إذا مات المرتد أو قتل على ردته، وترك مالا لا يرثه ورثته المسلمون ولا الكفار، وماله يكون فيئا في بيت مال المسلمين.
وهو مروي عن عبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت في الرواية الأخرى رضي الله عنهم وابن أبي ليلي، وربيعة، وأبي ثور.3
1 مصنف عبد الرزاق 6/105، ومصنف ابن أبي شيبة 12/ 276، والأوسط لابن المنذر 2/136، والإشراف 2/249، والجامع لأحكام القرآن 3/49، والمغني 6/301، وأحكام القرآن للجصاص 2/102، والمحلى 9/305.
2 المبسوط 10/100، وبدائع الصنائع 7/138، وتبيين الحقائق 3/285، والاختيار 4/147، والرد على سير الأوزاعي ص 111/112، والمغني 6/300، والمبدع 6/234، والإنصاف 10/339، والمقنع بحاشيته 3/522.
3 مصنف عبد الرزاق 6/105، والأوسط 2/136، والتمهيد لابن عبد البر9/167، والمغني 6/298.
وهو قول فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب.1
وبه قال الإمام أبو حنيفة فيما إذا كان المال مكتسبا بعد الردة.2
وهو قول الظاهرية في ماله الذي ظفر به المسلمون.3
القول الثالث: أن ماله إذا مات أو قتل على ردته، يرثه ورثته الكفار الذين اختار دينهم.
وهو مروي عن قتادة وعلقمة4، وذهب إليه فقهاء الحنابلة في رواية5.
1 الكافي لابن عبد البر 2/1090، وبداية المجتهد 2/353، والتمهيد 9/167، والخرشي 8/66، والجامع لأحكام القرآن 3/49، والأم 4/291، وروضة الطالبين 6/30، ومغنى المحتاج3/25، وأسنى المطالب 3/ 16، والمغني 6/300، والمبدع 6/234، ومطالب أولي النهى 6/301، والعذب الفائض 1/34، وكشاف القناع 6/182.
2 بدائع الصنائع 7/138، وتبيين الحقائق 3/285، وحاشية رد المختار 4/347، والاختيار 4/147.
3 المحلى 9/304.
4 التمهيد لابن عبد البر 9/169، والمغني 6/301، وأحكام القرآن للجصاص 2/102.
5 المغني 6/301، والمبدع 6/234، والمسائل الفقهية 2/61، ومطالب أولي النهى 6/301.
وهو قول الظاهرية في ماله الذي لم يظفر به المسلمون.1
الأدلة:
أولا: أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول.
أ - دليلهم من الكتاب:
قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 2
قال الجصاص في وجه الدلالة: "ظاهر هذه الآية يقتضي توريث المسلم من المرتد، إذ لم يفرق بين الميت المسلم والمرتد"3
2-
وبقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 4
وجه الدلالة من الآية:
دلت الآية بعمومها على توريث ذوي الأرحام بعضهم من بعض، ولم تفرق بين المرتد وغيره، لأن صلة الرحم بينه وبينهم باقية، فتكون سببا في بقاء ميراثهم منه.
1 المحلى 6/ 301.
2 النساء: 11.
3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/102.
4 الأنفال: 75.
3-
وبقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 1
قال السرخسي في وجه الدلالة: "والمرتد هالك، لأنه ارتكب جريمة استحق بها قتل نفسه فيكون هالكا"2
ب- دليلهم من السنة:
بما روي عن أبي الأسود الدؤلي3 قال: أُتي معاذ بن جبل رضي الله عنه في رجل قد مات على غير الإسلام وترك ابنه مسلما فورثه منه معاذ وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام يزيد ولاينقص" 4
ج- دليلهم من المأثور:
1-
بما روي عن علي رضي الله عنه أنه أتي بمستور العجلي، وقد ارتد، فعرض عليه الإسلام، فأبى فقتله، وجعل ميراثه بين ورثته من المسلمين.5
1 النساء: 176.
2 انظر: المبسوط 10 /100.
3 هو: ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الديلي، ويقال الدؤلي، الكناني واضع علم النحو، ثقة، فاضل من التابعين، ولد سنة 1 قبل الهجرة، توفي سنة 69 بالبصرة، انظر: تقريب التهذيب 2/ 391، والأعلام 3/ 236.
4 أخرجه أبو داود 3/ 329، والبيهقي 6/ 254، واللفظ له.
5 أخرجه عبد الرزاق 10/339، والبيهقي 6/254، وابن منصور 1/101، وابن أبي شيبة 12/275، 276، والطحاوي 3/266، والدرامي 2/ 277.
2-
وبما روي القاسم بن محمد، أن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"ميراثه لورثته من المسلمين"1
3-
وبما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه عند رجوعه إلى أهل الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم من المسلمين.2
فهذه الآثار المروية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم تدل على أن ورثة المرتد من المسلمين هم أحق الناس بتركته3
د - دليلهم من المعقول: من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن قرابة المرتد من المسلمين أولى بماله، لأنهم يدلونه بسببين: بالإسلام والقرابة، أما المسلمون من غير قرابته، فيدلون بسبب واحد، وذو السببين قدم في الاستحقاق على ذي سبب واحد، فكان الصرف إليهم أولى.4
الوجه الثاني: أن المرتد- لما لم يرثه أقرباؤه المشركون- وجب أن يرثه أقرباؤه
1 أخرجه عبد الرزاق 10/340، والبيهقي 6/255، والدرامي 2/277، والطحاوي 3/266.
2 ذكره ابن قدامة في المغني 6/301، ولم أجده في كتب الآثار التي اطلعت عليها.
3 بدائع الصنائع 7/138، والمسائل الفقهية 2/62، ونيل الأوطار 6/74.
4 المبسوط 10/101، وفتح القدير 4/391، وبداية المجتهد 2/353.
المسلمون كالمسلم.1
الوجه الثالث: أن الردة ينتقل بها مال المرتد، فوجب أن ينتقل إلى ورثته المسلمين كما لو انتقل بالموت.2
ثانيا: أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول.
أ- دليلهم من الكتاب:
عموم الآيات التي نفت الولاية بين المؤمنين والكفار، والميراث مبناه على الولاية، فإذا انتفت، انتفى الميراث.3
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 4
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 5
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
1 المسائل الفقهية 2/62.
2 المغني 6/ 301.
3 التمهيد 9/ 167، والمغني 6/301.
4 النساء: 144.
5 الأنفال: 73.
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} 1
فهذه الآيات الكريمات، تنفي الولاية والمناصرة بين المؤمنين والكفار.
والميراث مبناه على الولاية والمناصرة، فينتفي بانتفائها.
ب- دليلهم من السنة:
1-
حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" 2
وجه الدلالة من الحديث:
الحديث دل بوضوح على منع التوارث بين المسلم والكافر، والكافر والمسلم، والمرتد كافر، فلا يرث ولا يورث.3
2-
وبحديث عمرو بن شعيب لا يتوارث أهل ملتين شتى.4
وجه الدلالة من الحديث:
دل الحديث على أن المرتد لا يرث ولا يورث لأنه كافر.5
1 الممتحنة: 1.
2 متفق عليه، وقد سبق تخريجه ص 382.
3 التمهيد 9/167، ومغنى المحتاج 3/25، والمغني 6/301، والمبدع 6/234، والمسائل الفقهية 2/62.
4 سبق تخريجه ص 382.
5 المغني 6/ 301، والجامع لأحكام القرآن 3/ 49.
ج- دليلهم من المأثور: دليلهم من المأثور:
بما روي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كتب إلى عبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم يسألهما عن ميراث المرتد، فقالا:"لبيت المال"، قال الشافعي:"يعنيان أنه فيء"1
د- دليلهم من المعقول: من ثلاثة أوجه:
1-
أن المرتد بردته صار كافرا، ولا توارث بين المسلم والكافر.
2-
أن الميراث مبناه على الموالاة، ولا موالاة بين المسلم والمرتد، فلا يرث أحدهما من الآخر.
3-
أن ماله مال مرتد، سواء كسبه قبل الردة أو بعدها، فيكون فيئا، ولا يمكن جعله لأهل دينه، لأنه لا يرثهم فلا يرثونه، لأنه يخالفهم في الحكم2.
ثالثا: أدلة أصحاب القول الثالث: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول.
1 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 254.
2 التمهيد 9/167، والمغني 6/301، والمبدع 6/234، ومغنى المحتاج 3/25، وكشاف القناع 6/182، والمسائل الفقهية 2/62.
أ- دليلهم من الكتاب:
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 1
وجه الدلالة من الآية:
دلت الآية على أن الكفار أولياء بعض، والميراث مبناه على المولاة، والمرتد كافر، فورثته الكفار الذين اختار دينهم، هم أولى به فيرثونه ويرثهم.2
ب- دليلهم من السنة:
حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"3
وجه الدلالة من الحديث:
دل الحديث بمفهومه على أن الكافر يرث الكافر، والمرتد كافر، فيجب أن يرثه ورثته من الكفار.4
ج- دليلهم من المعقول:
أن المرتد يتفق دينه مع أقربائه الذين اختار دينهم ويجمعهم
1 الأنفال: 73.
2 المحلى 9/307.
3 سبق تخريجه ص 382.
4 المسائل الفقهية 2/92.
الضلال، فيتوارثون فيما بينهم كسائر الكفار.1
المناقشة:
أولا: مناقشة أدلة أصحاب القول الأول:
أ- بالنسبة لاستدلالهم بعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 2
وقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} 3
يرد عليه: بأن العموم في هذه الآيات مخصص بحديث أسامة: "لا يرث المسلم الكافر"، والمرتد كافر، فلا يرثه ورثته من المسلمين.4
ب- أما استدلالهم بفعل معاذ رضي الله عنه استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يزيد ولا ينقص.
فيرد عليه: بأن سماع أبي الأسود من معاذ بن جبل رضي الله عنه فيه نظر،
1 المغني 6/ 301، والمحلى 9/307، والمسائل الفقهية 2/62.
2 النساء:11.
3 الأنفال: 75.
4 التمهيد 9/167، ومغنى المحتاج3/25، والمغني 6/301، وأحكام القرآن للجصاص 2/102، 103.
والحديث فيه رواة مجهولون. وبهذا يضعف احتجاجهم به.1
وعلى فرض صحته، فلا دلالة لهم فيه، كما قال الإمام البيهقي:"وإن صح الخبر فتأويله غير ما ذهبوا إليه، لأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن الإسلام في زيادة ولا ينقص بالردة"2
ج- مناقشة أدلتهم من المأثور:
1-
استدلالهم بأثر علي رضي الله عنه يعترض عليه من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الحفاظ لم يحفظوا عن علي رضي الله عنه أنه تعرض للمال، ويمكن أن يكون الذي زاد هذا غلط، وقد ضعف الإمام أحمد هذا الأثر.3
الوجه الثاني: وعلى فرض صحته، فلا حجة لهم فيه، لأنه معارض بقول ابن عباس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وإذا وجد الخلاف، وجب النظر وطلب الحجة، والحجة قائمة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يرث المسلم الكافر" 4، قولا عاما مطلقا، والمرتد كافر لا محالة.5
1 السنن الكبرى 6/255، ومعالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود 3/329.
2 انظر: السنن الكبرى 6/255.
3 الأم 4/73، 85، والتمهيد 6/167، والسنن الكبرى 6/254.
4 سبق تخريجه ص 382.
5 التمهيد 9/167، والأم 4/73، 85، والسنن الكبرى 6/254.
الوجه الثالث: يحتمل أن يكون علي رضي الله عنه صرف مال المرتد إلى ورثته لما رأى أن المصلحة في ذلك، لجبر خاطر الورثة، لأن ما صرف إلى بيت المال من الأموال فسبيله أن يصرف في المصالح، وعلي رضي الله عنه كان إمام المسلمين، فله أن يتصرف في ماله كيف يشاء.1
2-
أما الأثر المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه ففيه مقال، لأن القاسم بن محمد لم يدرك جده، فروايته منقطعة، وكذلك الطريق الآخر الذي رواه عنه الحكم منقطع، لأنه لم يلق ابن مسعود رضي الله عنه وبهذا يضعف استدلالهم بهذا الأثر.2
3-
أما الأثر المروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، فلا دلالة لهم فيه، لأن كتب الآثار المشهورة لم تذكره، فربما كان ضعيفا أو لا أصل له، ولأن زيد بن ثابترضي الله عنه زوى عنه بإسناد أقوى: أن مال المرتد يكون فيئا لبيت مال المسلمين.3
د - مناقشة دليلهم من المعقول:
قولهم بأن المسلمين يستحقون ماله بالإسلام وحده، أما ورثته فيستحقونه بالإسلام والرحم.
1 التمهيد 9/167، والأم 4/73، 85، والسنن الكبرى 6/254.
2 السنن الكبرى 6/255.
3 السنن الكبرى 6/254.
يرد عليه: بأن استحقاق المسلمين لمال المرتد، إنما هو عن طريق الفيء، لا كونه إرثا، وبهذا لا اعتبار للرحم هنا.1
وقولهم: بأن قرابة المرتد من المسلمين هم أحق بماله.
يقال لهم: بأنه لا حق لهم في ماله، لأنه كافر، والكافر لا يرث ولا يورث2.
أما قولهم بأن الردة ينتقل بها مال المرتد، فوجب أن ينتقل إلى ورثته من المسلمين.
فيرد عليه: بأن انتقاله إلى بيت المال أولى، لأنه مال كافر والمسلم لا يرث الكافر.3
ثانيا: مناقشة أدلة أصحاب القول الثاني:
أ- استدلالهم بعموم الآيات التي نفت الولاية بين المؤمنين والكفار.
يرد عليه:
1 التمهيد 9/167، والجامع لأحكام القرآن 3/49.
2 التمهيد 9/167، ومغنى المحتاج 3/25، والمبدع 6/234.
3 المغني 6/301.
بأن نفى الولاية في الآيات، لا يوجب نفي الميراث، لأن الولاية لا دخل لها في الميراث، ولأن الولاية المنهي عنها في الآيات، هي الولاية بين المؤمنين والكفار الأصليين.
وعلى فرض أن لهم دلالة بهذا العموم، فيمكن أن يخرج المرتد من هذا العموم بفعل الصحابة رضي الله عنهم كعلي وابن مسعود، ومعاذ وزيد بن ثابت رضي الله عنهم الذين هم أعلم هذه الأمة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أن معاذا رضي الله عنه عندما ورث الابن المسلم من أبيه الذي مات على غير الإسلام استند في ذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يزيد ولا ينقص، ويبقى سائر الكفار تحت هذا العموم، فلا توارث بينهم وبين المسلمين، هذا إذا كان في هذه الآيات دلالة على نفي الميراث بناء على نفي الولاية.1
ب- أما استدلالهم بحديث أسامة على نفي التوارث بين المرتد وورثته من المسلمين.
فيرد على ذلك: بأن الكافر الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، لم يبين لنا فيه أي كافر هو، حيث يحتمل أن يكون الكافر الذي له ملة، كما يحتمل أن يكون أي كافر ذا ملة أو غيرها، فلما احتمل ذلك لم يجز أن يصرف إلى أحد المعنيين دون الآخر إلا بدليل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في
1 أحكام القرآن للجصاص 2/102، 103.
حديث عمرو بن شعيب: "لا يتوارث أهل ملتين شتى"، فعلم بهذا أنهصلى الله عليه وسلم أراد الكافر ذا الملة، فلما رأينا الردة ليست بملة، رأينا أن المرتدين لا يرث بعضهم بعضا، لأن الردة ليست بملة، فيبقى التوارث بينهم وبين ورثتهم من المسلمين.1
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الحديث نص صريح في منع التوارث بين المسلم والكافر، والكافر والمسلم، والمرتد سواء كان صاحب ملة، أو لم يكن، فهو كافر، بل كفره أغلظ وأشد، لأنه اطلع على الإسلام دون غيره من الكفار، فلهذا لا توارث بينه وبين ورثته من المسلمين، وماله يكون فيئا لبيت مال المسلمين.
ج- أما استدلالهم بأثر ابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.
فيرد عليه: بأنه محمول على أن مال المرتد لبيت المال إذا لم يكن له ورثة يرثونه، أو أنه يوضع في بيت المال حتى يحصى ورثة المرتد، ثم يدفع إليهم، وعلى فرض ضعف هذا الاحتمال فهو لا يقوى على معارضة عموم الآيات السابقة، وهي قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}
1 شرح معاني الآثار 3/265، 266، وأحكام القرآن للجصاص 2/102، 103.
وقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، التي دلت بعمومها على توريث المسلم من المرتد، لأن صلة الرحم بينه وبينهم باقية.1
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الاحتمال الذي ذكروه ضعيف، لأن المسلم –كذلك- إذا لم يكن له ورثة وضع ماله في بيت مال المسلمين.
د- مناقشة أدلتهم من المعقول:
مما لا شك فيه أن المرتد بمجرد ردته أصبح كافرا، ولا يرث أحدا جزاءً له على ذلك، أما ورثته من المسلمين فلا ذنب لهم، وجناية المرتد على نفسه، لا على ورثته، لأنه ربما قصد بردته حرمانهم من الميراث وهذا فيه إضرار عليهم، ولأن ورثته المسلمين ربما كانوا فقراء يحتاجون إلى ماله الذي هم أحق به من غيرهم، فلماذا نحرمهم منه؟ أما الموالاة، فلا دخل لها في الميراث، لأن الموالاة المنهي عنها بين المسلم والمرتد، إنما محبته ومودته.
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن المرتد كافر لا يرث ولا يورث، قصد حرمان الورثة أو لم يقصد، لحديث أسامة رضي الله عنه السابق.
1 أحكام القرآن للجصاص 2/102.
أما ورثته إذا كانوا فقراء فيصرف عليهم من بيت مال المسلمين، ولا يشفع لهم ذلك باستحقاق إرث المرتد.
ثالثا: مناقشة أدلة أصحاب القول الثالث:
أ- استدلالهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
فيرد عليه: بأن الآية لا دلالة لهم فيها على أن المرتد يرثه ورثته من الكفار، لأن غاية ما دلت عليه الآية أن الكفار أولياء بعض يتناصرون فيما بينهم ويتوادون فيما بينهم، ولا دخل للولاية في الميراث.
وعلى فرض أن الآية فيها دلالة على أن الكفار يتوارثون فيما بينهم، إنما يكون ذلك بين الكفار الأصليين أصحاب الملل، أما المرتد فلا ملة له، فبهذا لا توارث بينه وبين ورثته الكفار، ولأن ورثته من المسلمين لا يرثونه، الذين هم أحق الناس بماله، فحرمان ورثته الكفار من ميراثه من باب أولى.
ب- أما استدلالهم بمفهوم حديث أسامة، على أن الكفار يتوارثون فيما بينهم. فهو وإن دل على ذلك، لكن المراد الكفار الأصليين، أما المرتدون فلا توارث بينهم.
ج- أما قولهم بأن المرتدين يتوارثون فيما بينهم كسائر الكفار.
فيرد عليه:
بأن حكم المرتد يختلف عن حكم الكافر الأصلي، إذ المرتد لا يقر عليه، ولا تحل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي، فدل على أنهما مختلفان، فلا يرثه الكافر الأصلي كما لا يرثه المرتد.1
الرأي المختار:
وبعد عرض آراء الفقهاء في مال المرتد، إذا مات أو قتل في دار الإسلام وأدلتهم، وما ورد عليها من إجابات واعتراضات، يتضح لي أن ما قاله الإمام أبو حنيفة من أن مال المرتد -إذا كان مكتسبا في حال الردة- فهو فيء لبيت مال المسلمين، وأما إذا كان مكتسبا قبل الردة فهو لورثته من المسلمين. هو الرأي المختار للأسباب الآتية:
1-
لأن ماله بعد الردة مال كافر، والكافر لا يرث المسلم ولا يرثه المسلم، لأن حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه نص صريح في هذا، وهو مخصص لعموم الآيات السابقة.
2-
أما ماله قبل الردة فهو مال مسلم، وورثته من المسلمين هم الأحق به من غيرهم لأنهم يدلون بسببين للإرث، هما الإسلام والقرابة.
ولأن المرتد -وإن كان جانيا في ردته فهو على نفسه لا على ورثته من المسلمين الذين لا ذنب لهم في ذلك، وحرمانهم من ماله الذي اكتسبه قبل الردة فيه ضرر عليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا ضرر ولا
1 المغني 6/ 301.
ضرار 1،فالمسلم الوارث لم يفعل من جانبه ما يستحق العقاب فلماذا نمنعه من الميراث؟.
ولأن المرتد ربما ارتد لقصد حرمان الورثة من الميراث، ولكن تفاديا لهذا القصد السيئ، نقول بأنه ميراثه المكتسب قبل الردة يكون لورثته من المسلمين، سواء قصد حرمانهم أو لم يقصد.
ولأن ورثة المرتد من المسلمين ربما كان لهم يد العون والمساعدة في ماله الذي اكتسبه قبل الردة، فهم أحق به من غيرهم، لأنهم ربما كانوا سببا في وجوده.
ولأن مال المرتد المكتسب قبل الردة سواء قلنا بأنه لورثته من المسلمين أو لبيت المال، لا فرق، لأن مصيره إلى المسلمين، لكن الورثة منهم أحق به من غيرهم لقرابتهم منه.
3-
ولأن في الأخذ بهذا الرأي جمعا بين الأدلة، والعمل بغالب الأدلة أولى من العمل ببعضها، وإهمال البعض الآخر.
1 أخرجه مالك في الموطأ ص409 وأحمد في المسند 1/313، وابن ماجة 2/784، والحاكم 2/57، والبيهقي 6/69، والدارقطني 3/77.
الفرع الثاني: في ميراث المرتد إذا لحق بدار الحرب
اختلف الفقهاء في مصير مال المرتد إذا لحق بدار الحرب إلى قولين:
القول الأول: إذا لحق المرتد بدار الحرب، وقف ماله كما لو كان في دار الإسلام فإن أسلم، دفع إليه، وإن مات، صار فيئا لبيت مال المسلمين، إلا أن ماله الذي اكتسبه في دار الحرب، يكون مباحا كدمه.
وهو قول جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة.1
القول الثاني: أن المرتد إذا لحق بدار الحرب، حكم بموته، وزال ملكه عن أمواله، وصار لورثته من المسلمين، كما لو مات أو قتل على ردته.
وهو قول فقهاء الحنفية، إلا أن الإمام أبا حنيفة، فرق بين ما اكتسبه قبل الردة وبعدها، فما كان قبلها فهو لورثته من المسلمين، وما كان بعدها فهو فيء لبيت مال المسلمين.
1 الخرشي 8/ 66، والتمهيد 9/167، وقوانين الأحكام الشرعية ص 394، والمجموع شرح المهذب 18/19، وروضة الطالبين 6/30، 10/80، والمهذب 2/286، ومغنى المحتاج 4/142، والمغني 6/302، والإنصاف 10/344، والمقنع بحاشيته 3/522، 523، وكشاف القناع 6/182،183.
استدل الجمهور بالمعقول، والقياس:
دليلهم من المعقول:
1-
أن المرتد حر من أهل التصرف ويبقى ملكه بعد إسلامه، فلم يحكم بزوال ملكه، كما لو لم يرتد.1
2-
ولأن ذهاب المرتد إلى دار الحرب نوع غيبة، لا تؤثر في زوال ملكه عن أمواله.2
أما استدلالهم بالقياس، فكذلك من وجهين:
1-
بالقياس على دار الإسلام، قالوا: فكما تكون أموال المرتد موقوفة إذا ارتد وبقي في دار الإسلام، فكذلك تكون أمواله في دار الإسلام موقوفة إذا لحق بدار الحرب، لأنه لم يمت ولم بقتل، ولا يورث ولا تكون أمواله فيئا لبيت مال المسلمين إلا بعد موته أو قتله على ردته.3
2-
أما دليلهم على أن ما اكتسبه في دار الحرب يكون مباحاً القياس على الحربي، قالوا فكما تكون أموال الحربي مباحة في دار الحرب ولا عصمة له، فكذلك المرتد أمواله مباحة في دار الحرب، ولا عصمة له.4
1 المغني 6/303.
2 المبسوط 10/103.
3 المقنع بحاشيته 3/ 522- 523، والمبسوط 10/103.
4 الإنصاف 10/344.
أدلة الحنفية: استدلوا على أن لحاق المرتد بدار الحرب بمنزلة موته، بالمعقول، والقياس.
دليلهم من المعقول:
أن المرتد بمجرد لحاقه بدار الحرب تنقطع عصمته، وتباح أمواله، سواء كانت في دار الحرب أو في دار الإسلام، لأن الولاية منقطعة بين دار الإسلام ودار الحرب.1
أما القياس: فهو قياسهم المرتد على الحربي.
قالوا: إن المرتد إذا لحق بدار الحرب، صار حربيا حقيقة وحكما، لأنه قد أبطل حياة نفسه بدار الحرب حين لحق بها، وصار حربا على المسلمين، والحربي كالميت في حق المسلمين، لقوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} 2، فكذلك المرتد يصير كالميت في حق المسلمين عند لحاقه بدار الحرب، فتزول أملاكه عن أمواله المتروكة في دار الإسلام، لأن زوال الملك عن المال بالموت حقيقة، لكونه مالا فاضلا عن حاجته لانتهاء حاجته بالموت، وعجزه عن الانتفاع به، وقد وجد هذا المعنى في اللحاق،
1 الاختيار 4/147.
2 الأنعام: 122.
لأن المال الذي في دار الإسلام خرج من أن يكون منتفعاً به في حقه لعجزه عن الانتفاع به فكان في حكم المال الفاضل عن حاجته،، لعجزه عن قضاء حاجته به، فكان اللحاق بمنزلة الموت في كونه مزيلا للملك.1
الرأي المختار:
قول الجمهور هو المختار، من أن اختلاف الدار لا أثر له في مال المرتد، إذا لحق بدار الحرب فإذا لم يمت أو يقتل على ردته في دار الإسلام أو في دار الحرب فماله الذي في دار الإسلام يبقى موقوفاً، سواء بقي في دار الإسلام أو لحق بدار الحرب، فإن أسلم دفعت إليه أمواله، وإن مات أو قتل تقسم بين ورثته من المسلمين على الاختيار السابق في الحالة الأولى من الفرع الأول. لأن المرتد إذا لحق بدار الحرب لم يزل حيا يرزق، فكيف نقسم أمواله بين ورثته من المسلمين وهو لم يمت، مع أن الميراث من شروطه تحقق موت المورث؟، وانقطاع الولاية والعصمة بين الدارين لا أثر له في مال المرتد الذي تركه في دار الإسلام، وإنما أثره في ماله الذي اكتسبه في دار الحرب، فهو مباح، لأنه بلحاقه بدار الحرب صار حربيا، والحربي لا عصمة له في دمه وماله، فكذلك المرتد الذي لحق بدار الحرب.
وقياسهم اللحاق بدار الحرب على الموت قياس مع الفارق، لأن الموت مزيل للأملاك وبه يتحقق الميراث، أما اللحاق بدار الحرب فلا يزيل الأملاك ولا يتحقق به الميراث. وبهذا لا يصح قياس اللحاق على الموت.
1 بدائع الصنائع 7/137، والمبسوط 10/103، والاختيار 4/147.
وبهذا يتضح أن اختلاف الدار لا أثر له في مال المرتد الذي تركه في دار الإسلام، وإنما أثره في ماله الذي اكتسبه في دار الحرب فهو مباح كدمه.
المبحث الثاني: أثره في الوصية 1 للحربي
إن الإنسان الذي أعطاه الله المال قد يفوته الشيء الكثير من فضائل الخير وعمل الصالحات، غرورا منه بطول الأجل، وقد تفجأه المنية قبل أن يؤدى ما وجب عليه ويقوم بما أمر به، فكان من حكمة الشارع أن شرع الوصية، ليتمكن المرء من تدارك ما فاته من خصال الخير وفضائل الأعمال التي تعود عليه، وعلى أفراد مجتمعه بالخير الكثير والنفع الكبير، ففي الوصية صلة الرحم للأقربيين غير الوارثين، وفيها توسعة على أصحاب الحاجات من الفقراء والمساكين، فلهذه العواقب الحسنة وغيرها كثير، شرع الله الوصية، وقد ثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة.
فدليل مشروعيتها من الكتاب قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} 2
1 الوصية في اللغة هي: الجعل والأمر، تقول أوصيت إليه بمال، جعلته له، وأوصيته بالصلاة: أمرته بها. انظر: المصباح المنير 2/ 662.
أما الوصية شرعا: فهي تمليك بحق مضاف لما بعد الموت. انظر: تبيين الحقائق 6/182، وحاشية الدسوقي 4/422، ومغنى المحتاج 3/39، وكشاف القناع 4/335.
2 البقرة: 180.
فالآية الكريمة تدل دلالة واضحة على مشروعية الوصية لمن ترك مالا بعد موته.
أما دليل مشروعيتها من السنة: فحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يريد يوصي فيه يبيت ليلتين إلا وصيته عنده" 1
فالحديث ظاهر الدلالة على مشروعية الوصية لمن له مال يريد أن يوصى به بعد مماته.2
ولا خلاف بين الفقهاء في جواز وصية المسلم للمسلم، وغير المسلم لمثله، كوصية الذمي للذمي، والمستأمن للمستأمن للأدلة السابقة.3
أما وصية المسلم لغير المسلم، فلا يخلو غير المسلم، إما أن يكون ذميا أو حربيا، فإن كان الموصى له ذميا فلا خلاف بين الفقهاء في صحة الوصية له.4
1 أخرجه البخاري 2/124 كتاب الوصايا، ومسلم 3/1249 كتاب الوصية حديث 1627.
2 معالم السنن مع سنن أبي داود 3/282.
3 بدائع الصنائع 7/341، ومواهب الجليل 6/365، ومغنى المحتاج 3/39،43، والمغني 6/103، والمبدع 6/100.
4 بدائع الصنائع 7/341، وتبيين الحقائق 6/183، وبلغة السالك2/، وجواهر الإكليل 2/317، والمهذب 1/589، ومغنى المحتاج3/43، والمغني 6/103، والإنصاف 7/ 298، إلا أنه لا تصح الوصية للذمي بما لا يصح تملكه له كالعبد المسلم والمصحف.
قال ابن حزم: "الوصية للذمي جائزة ولا نعلم في هذا خلافا"1
والدليل على ذلك: قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2
فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية لم ينه المسلمين عن بر الذميين والإقساط إليهم.
والوصية لهم من البر فكانت جائزة.3
وقوله تعالى: {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} 4.
قال بعض العلماء: "هو- أي المعروف وصية المسلم لليهودي والنصراني"5.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "في كل كبد رطبة أجر" 6، فالحديث يدل بعمومه على
1 انظر: المحلى لابن حزم 9/322.
2 الممتحنة: 8.
3 بدائع الصنائع 7/341، وتبيين الحقائق 6/183.
4 الآية 6 من سورة الأحزاب.
5 المغني 6/ 103، والمقنع بحاشيته 2/ 367.
6 أخرجه البخاري 2/52، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء. ومسلم 4/1761 كتاب السلام، حديث 2244 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
جواز الوصية للذمي، لأن الوصية له إذا كان محتاجا أو فقيرا من الأجر1، ولأن الوصية من باب تقديم المعروف إليهم، وهذا جائز، ولأنه تصح له الهبة فصحت الوصية له كالمسلم.2
وكذلك اتفقوا على صحة وصية الذمي للمسلم، إلا بشيء لا تجوز الوصية به كالخمر والخنزير ونحو ذلك كالوصية للكنائس.3
والدليل على ذلك: أن وصية المسلم للذمي جائزة بالاتفاق، فجوازها من الذمي للمسلم من باب أولى.
ولأن الكفر لا ينافي أهلية التمليك، ألا ترى أنه يصح بيع الكافر وهبته فكذا وصيته.
ولأن الوصية من الذمي للمسلم عطية من مالك يملكها ملكا تاما، ولم يوجد هناك مانع فتكون جائزة لصدورها من أهلها في محلها.4
1 المحلى 9/322.
2 بدائع الصنائع 7/341، والمغني 6/103، والمبدع 6/32، وكشاف القناع 4/353.
3 بدائع الصنائع 7/335، وتبيين الحقائق 6/183، وحاشية ابن عابدين 6/655، والخرشي 8/168، وقوانين الأحكام الشرعية ص439، ومغنى المحتج 3/39، وتحفة المحتاج 7/13، والمغني 6/103، والمبدع 6/32، وكشاف القناع 4/353.
4 بدائع الصنائع 7/335، والمقدمات الممهدات 9/350، وتبيين الحقائق 6/183، والمغني 6/103، 104.
هذا إذا كان الموصى له ذميا، أما إذا كان حربيا، فلا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الحربي مستأمنا في دار الإسلام.
وفي هذه الحالة اختلف الفقهاء في صحة الوصية له من المسلم أو الذمي إلى قولين:
القول الأول: تصح الوصية من المسلم والذمي للمستأمن الحربي في دار الإسلام.
وهو قول الجمهور: المالكية، والشافعية، والحنابلة، والحنفية في رواية 1.
القول الثاني: لا تصح وصية المسلم والذمي للمستأمن في دار الإسلام.
وبه قال سفيان الثوري والحنفية في رواية.2
1 مواهب الجليل 6/365، وقوانين الأحكام الشرعية ص 439، والخرشي 8/168، والمهذب 1/589، ومغنى المحتاج3/43، وحاشية الجمل4/43، والمغني 6/104، والمبدع 6/ 32، وكشاف القناع 4/353، وبدائع الصنائع 7/341، والمبسوط 28/93، والهداية 4/257.
2 مصنف ابن أبي شيبة 11/231، والمبسوط 28/93، وبدائع الصنائع7/341، وتبيين الحقائق 6/183، والهداية 4/257.
الأدلة:
أولا: أدلة الجمهور على جواز الوصية للمستأمن الحربي: استدلوا بنفس الأدلة السابقة التي دلت على جواز الوصية للذمي.
وقالوا: إن المستأمن ما دام في دار الإسلام فهو كالذمي، والوصية تجوز للذمي فكذلك المستأمن.
وكون الذمي من المقيمين في دار الإسلام إقامة مؤبدة، والمستأمن من المقيمين فيها إقامة مؤقتة، لا أثر له في جواز الوصية، ولكونها تمليكا كسائر عقود التمليكات الجائزة، كالبيع والإجارة.1
ثانيا: أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بما يلي:
1-
أن المستأمن وإن كان في دار الإسلام إلا أنه من أهل الحرب، ويمكنه الرجوع إلى داره في أي وقت شاء، ولا يتمكن من إطالة المقام في دار الإسلام، وما دام أنه من أهل دار الحرب، فلا تصح الوصية له، لأن اختلاف الدارين له تأثير في انقطاع العصمة والموالاة.2
2-
ولأن الوصية للحربي مستأمنا كان أو غيره فيها إعانة له على المسلمين، وإعانة الحربي لا تجوز.3
1 بدائع الصنائع 7/335، 341، والهداية 4/257، ومجمع الأنهر 2/717، والخرشي 8/168، ومغنى المحتاج 3/43، والمغني 6/104.
2 المبسوط 28/93.
3 بدائع الصنائع 7/341، وتبيين الحقائق 6/183، والهداية 4/257.
وأجابوا عن دليل الجمهور: أن قياسهم المستأمن على الذمي قياس مع الفارق.
لأن الذمي من أهل دار الإسلام، والمستأمن من أهل دار الحرب، فالوصية له فيها ضرر على المسلمين، لأنه ربما أعان بها أهل داره عليهم، بخلاف الوصية للذمي.
ولأن القصد من الوصية منفعة الموصى له، والمستأمن الحربي لا تأمن عداوته، فكيف يوصي المسلم لعدوه لينتفع بوصيته ضده؟.1
والذي أختاره هو: عدم صحة الوصية للمستأمن الحربي لا من المسلم ولا من الذمي، لأنه من أهل دار الحرب، وقد يعين أهل داره بما يوصي له به من أهل دار الإسلام.
ولأن القصد من الوصية منفعة الموصى له، ولا يتوقع من المستأمن أن يصرف الوصية فيما ينفع المسلمين، بل ربما صرفها فيما يضرهم.
ولأن في الوصية له تمكين له من الكيد والإيقاع بالمسلمين، فالوصية للمستأمن الحربي، لا يأتي من ورائها غالبا إلا الضرر بالمسلمين.
فمن أجل هذه المضار التي تنتج من وراء الوصية للمستأمن الحربي أقول: بأن الأولى أن لا يوصي له من قبل المسلمين والذميين.
أما إذا أمن جانب الضرر من قبل المستأمن، وكان في ذلك مصلحة كتأليفه للإسلام، وحاجته للمال، كأن يكون فقيرا فلا بأس
1 المبسوط 28/ 93، والهداية 4/257.
بالوصية له، لأن في كل كبد رطبة أجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.1
أما وصية الحربي للمسلم أو الذمي، فلا خلاف بين الفقهاء في جوازها2.
الحالة الثانية: أن يكون الموصى له حربيا غير مستأمن.
وفي هذه الحالة اختلف الفقهاء أيضا في صحة الوصية له من المسلم أو الذمي إلى قولين:
القول الأول: لا تصح الوصية من المسلم والذمي للحربي غير المستأمن.
وهو مروي عن سفيان الثوري.3
وهو قول فقهاء الحنفية، ورواية للمالكية، ووجه للشافعية، ورواية عن الحنابلة.4
1 سبق تخريجه ص 425.
2 الهداية 4/257، وبدائع الصنائع 7/335، ومواهب الجليل 6/365، والمهذب 1/589، وتحفة المحتاج 7/13، والمغني 6/104، والمبدع 6/32.
3 مصنف ابن أبي شيبة 11/231.
4 بدائع الصنائع 7/341، والمبسوط28/93، والجوهرة النيرة 2/391، وتبيين الحقائق 6/183، ومجمع الأنهر 2/193، وحاشية رد المختار 6/655، وبلغة السالك 2/466، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4/426، ومغنى المحتاج 3/43، والمهذب 1/589، وتحفة المحتاج 7/13، وأسنى المطالب 3/32، والإنصاف 7/221، 222.
القول الثاني: تصح الوصية للحربي غير المستأمن من المسلم أو الذمي.
وهو قول المالكية في المشهور، وأصح الأوجه عند الشافعية، والحنابلة قي ظاهر المذهب.1
الأدلة:
أولا: أدلة المانعين من الوصية للحربي غير المستأمن: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول.
أ- دليلهم من الكتاب:
1 مواهب الجليل 6/356، والخرشي على مختصر خليل 8/168، وقوانين الأحكام الشرعية ص 439، والمهذب 1/589، وحاشية الجمل 4/42، ومغنى المحتاج 3/43، وحاشيتي قليوبي وعميرة 3/159، والمغني 6/104، والمبدع 6/32، وكشاف القناع 4/353، والمقنع بحاشيته 2/367، والإنصاف 7/298.
2 الآيتان 8،9 من سورة الممتحنة.
وجه الدلالة من الآية:
دلت الآية على جواز البر لأهل الذمة، لأنهم ليسوا من أهل قتالنا، وعدم جوازه للحربيين لأنهم ممن يقاتلنا، والوصية نوع من البر فلا تجوز لهم.1
ب - دليلهم من السنة:
حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" 2
وجه الدلالة من الحديث:
يدل الحديث على أنه لا توارث بين المسلم والكافر، والوصية فيها شبه بالميراث فلا تصح للكافر الحربي.3
ج- دليلهم من المعقول من أربعة أوجه:
1-
أن في جواز الوصية من المسلمين والذميين للحربيين تقوية وإعانة لهم على حرب المسلمين، والضرر بهم وهذا غير جائز.4
2-
أن القصد بالوصية نفع الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربي،
1 المبسوط 28/93، وتبيين الحقائق 6/183، والمقدمات الممهدات 9/355.
2 سبق تخريجه ص 382.
3 الجوهرة النيرة 2/391، والمقدمات الممهدات 9/355.
4 تبيين الحقائق 6/183، وحاشية رد المختار 6/655، وبدائع الصنائع 7/341.
وأخذ ماله، فلا معنى للوصية له.1
3-
ولأن المسلم والذمي من أهل دار الإسلام، أما الحربي فهو من أهل دار الحرب، فاختلف الدار بينهما، وباختلافها تنقطع العصمة والموالاة، والوصية مبناها على ذلك فلا يصح.2
4-
ولأن الحربي في داره كالميت في حقنا، والوصية للميت باطلة.3
ثانيا: أدلة المجيزين الوصية للحربي: استدلوا بالسنة، والقياس.
أ- دليلهم من السنة:
1-
بحديث ابن عمر رضي الله عنهما رأى عمر حلة4 على رجل تباع فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة وإذا جاءت الوفد، فقال: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بحلل فأرسل إلى عمر منها بحلة فقال عمر: كيف
1 المهذب 1/589، ومغنى المحتاج 3/43، وحاشية رد المختار 6/655، والجوهرة النيرة 2/391.
2 المبسوط 28/93.
3 حاشية رد المختار 6/655.
4 الحلة: بضم الحاء جمع حلل وحلال، وهي الثوب الجديد الجيد. انظر: معجم لغة الفقهاء ص 184.
ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال إني لم أكسكها لتلبسها، تبيعها أو تكسوها، فكساها عمر أخا له بمكة مشركا"1
وجه الدلالة من الحديث:
دل الحديث على جواز صلة المشركين الحربيين بالهدية لهم والبر بهم، لأن عمر رضي الله عنه أهدى الحلة لأخيه وكان مشركا بمكة، وكانت حينذاك دار حرب، وبما أن الوصية نوع من أنواع الصلة، فهي جائزة لهم2.
2-
وبحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة3 أفأصل أمي؟ قال: "نعم صلي أمك" 4
وجه الدلالة من الحديث:
1 أخرجه البخاري 2/95، كتاب الهبة، باب الهدية للمشركين.
2 المغني 6/104، والمبدع 6/32، وكشاف القناع 4/353، والمقنع بحاشيته 2/367.
3 وهي راغبة: قيل معناها: أنها راغبة في شيء تأخذه من أسماء وهي على شركها، وقيل: المعنى أنها راغبة في دينها، أو راغبة في القرب من مجاورتها والتودد منها، وقيل: معناها هاربة من قومها. انظر: فتح الباري 5/ 234.
4 أخرجه البخاري 2/66، كتاب الهبة باب الهدية للمشركين، واللفظ له ومسلم 2/696، كتاب الزكاة، حديث 1003.
دل الحديث على جواز صلة المشرك الحربي، لأن أسماء أعطت أمها وهي مشركة حربية والوصية نوع من أنواع الصلة فتجوز للحربي.1
ب - دليلهم من القياس:
1-
قياس تمليك الوصية للحربي على جواز تمليكها للذمي والمستأمن.2
2-
قياس جواز الوصية للحربي على جواز الهبة له.
قالوا قد حصل الإجماع على صحة الهبة للحربي، فكذلك تصح الوصية له، لأنها في معناها بجامع أن كلا منهما تمليك بلا عوض.3
المناقشة:
أولا: مناقشة أدلة المانعين:
أ- استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ
…
} الآية.4
يرد عليه: بأن النهي في الآية المراد به النهي عن تولي أهل الحرب، ومودتهم
1 المغني 6/104، والمبدع 6/32.
2 المهذب 1/589.
3 المغني 6/104،والمبدع 6/32، وكشاف القناع 2/353، والمقنع بحاشيته 2/367.
4 الممتحنة: 9.
ولم تتعرض الآية للنهي عن البر والوصية لهم، فلا دلالة فيها على منع الوصية.1
وأجيب عن ذلك: بأنه كما دل أول الآية على جواز البر لمن لم يقاتل المسلمين من الكفار، وهم الذمييون وهذا بالاتفاق، فقد دل آخر الآية على عدم جواز بر من يقاتل المسلمين من الكفار وهم الحربيون، مع النهي عن موالاتهم ومحبتهم، والبر والوصية لهم من محبتهم ومودتهم فلا تجوز لهم.
ب- أما حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه فلا دلالة لهم فيه على منع الوصية للحربيين، لأن غاية ما يدل عليه الحديث هو منع التوارث بين المسلمين والكفار، والعكس، ولم يمنع من الوصية للحربي، ولم يتطرق إلى ذكرها.
وأجيب عن ذلك: بأن المنع من التوارث بين المسلمين والكفار، قد يتناول المنع من الوصية لهم، وبخاصة الحربيين، لأن الوصية قرينة الميراث، ولأن كلا منهما تمليك مضاف إلى ما بعد الموت.
ج- مناقشة أدلتهم من المعقول:
يرد عليها: بأن هذه الأدلة محمولة على عدم جواز الوصية للحربي إذا خيف
1 المغني 6/104، وكشاف القناع 4/353، والمقنع بحاشيته 2/367.
منه ولم يؤمن جانبه من الإضرار بالمسلمين، فحينئذ لا تجوز الوصية له.
أما إذا أمن جانبه من عدم الإضرار بالمسلمين، فلا بأس بالوصية له، لأنه ربما كانت هناك مصلحة بسببها كتأليفه للإسلام، ودخوله فيه ومن ثم إعانته المسلمين وتقويتهم.
وأجيب عن ذلك: بأن الحربي لا يؤمن غالبا، فإضراره بالمسلمين يتوقع منه في أي لحظة فلذلك لا تجوز الوصية له، حتى لا تكون سببا له في إعانة أهل داره وتقويتهم على المسلمين.
ثانيا: مناقشة أدلة المجيزين الوصية للحربي:
أ - مناقشة استدلالهم بالسنة:
1-
بالنسبة لاستدلالهم بحديث ابن عمر رضي الله عنهما.
يرد عليه: بأنه لا دلالة لهم في هذا الحديث، لأنه غاية ما دل عليه الحديث هو جواز الهدية للمشركين، وبالأخص القريب منهم، لأن الموهوب كان أخا للواهب، وهذا ما فهمه الإمام البخاري رحمه الله حيث بوب لهذا بجواز الهدية للمشركين، والهدية غير الوصية، لأن الهدية تكون في حال الحياة، وبهذا لا يمكن أن نلحق الضرر بالمسلمين، أو يعين بها قومه ضد المسلمين. أما الوصية فهي تمليك مضاف لما بعد الموت، وغالبا ما تكون بالمال، فإلحاق الضرر بالمسلمين بسببها ممكن وإعانة أهل داره وتقويتهم على المسلمين متوقع.
وأيضاً قياسهم الوصية للحربي على الهدية والهبة له قياس مع الفارق لأن الوصية تخالف الهدية كما سبق. وفاسد الاعتبار، لأنه في مقابلة النصوص الصريحة التي نهت عن بر من يقاتل المسلمين من الكفار، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 1
وكذلك حديث أسماء رضي الله عنها لا دلالة لهم فيه على جواز الوصية للحربي، لن الحديث الوارد في جواز الصلة والهدية للمشرك القريب، لأن الموهوبة أم الواهبة، ولم يتطرق إلى ذكر الوصية، وقياسها على الهدية مع الفارق، كما سبق، ويمكن أن يحمل الحديث على فرض أنه يدل على جواز الوصية للحربي، على أن أسماء رضي الله عنها فعلت ذلك لوجود المصلحة، كتأليف أمها للإسلام، ومن ثم دخولها فيه، وبهذا ينتفي الضرر المتوقع منها.
وبهذا يضعف احتجاج المجيزين الوصية للحربي بهذين الحديثين.
ب - أما قياسهم جواز الوصية للحربي على جوازها للذمي.
فيرد عليه: بأنه قياس نع الفارق، لأن الذمي من أهل دار الإسلام، تجري عليه الأحكام الإسلامية العامة، ويدفع الجزية عن ذل وصغار، بخلاف الحربي
1 الآية 9 من سورة الممتحنة.
فإنه من أهل دار الحرب، ولا تجري عليه الأحكام الإسلامية، وأيضا جواز البر لأهل الذمة والوصية لهم هذا ثابت بالاتفاق، لورود النصوص الصحيحة الدالة على ذلك كما سبق.
أما الحربي فإن النصوص دلت على عدم جواز بره والوصية له، لأن ذلك من مودته وموالاته، وقد نهينا عن ذلك، وبهذا يخالف الذمي.
وأيضا الوصية للذمي لا يتوقع منها الضرر على المسلمين، بخلافها للحربي فضررها متوقع، لأنه من أعداء المسلمين، وفي الوصية إعانة وتقوية له على حرب المسلمين، وبهذا لا يصح قياس الحربي على الذمي في الوصية أو غيرها للفارق الكبير بينهما، وبهذا يضعف استدلالهم بهذا القياس.
2-
وكذلك قياسهم الوصية على الهبة والهدية، قياس مع الفارق، لأن الهبة غير الوصية، فالهبة تكون في حال الحياة بخلاف الوصية فإنها عهد مضاف لما بعد الموت، والهدية غالبا ما تكون بغير المال فضررها غير متوقع، وعلى عكس منها الوصية، وبهذا يضعف استدلالهم أيضا بهذا القياس.
الرأي المختار:
وبعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشتها، اتضح لي أن القول بمنع الوصية للحربي هو الرأي المختار، وذلك للأسباب الآتية:
1-
لقوة الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا الرأي، كالآية الكريمة وغيرها من الأدلة السابقة، بخلاف أدلة المجيزين، فأحاديثهم وإن كانت
صحيحة إلا أنه لا دلالة لهم فيها على جواز الوصية للحربي، وغاية ما تدل عليه هو جواز الهدية للمشركين، والهدية خلاف الوصية.
2-
ولأن الوصية المقصد الحقيقي منها هو منفعة الموصى له، طلبا للأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى والحربي أمرنا بقتله وأخذ ما له تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، فلا معنى للوصية له.
3-
ولأن الوصية للحربي فيها إعانة له على الضرر بالمسلمين وتقوية أهل داره عليهم.
4-
ولأن الوصية للحربي قد تكون ذريعة الإحسان إليه، ومحبته، وموالاته، وقد نهينا عن ذلك، وبهذا لا تجوز الوصية له.
5-
ولأن الوصية يفعلها الإنسان في الغالب لاستدراك ما فاته من الأعمال الصالحة، ولم يفت المسلم شيئا يستدركه بعدم وصيته للحربي.
وبناء على هذا الاختيار نقول: إن هذا الحكم وهو عدم جواز الوصية للحربي في دار الحرب، ينطبق على دار الكفر في هذا الوقت، فلا تجوز وصية المسلم للكافر فيها، لأنه من أعداء المسلمين، والوصية له معناها محبته ومنفعته، وكيف يعقل أن يحسن وينفع المسلم عدوه ليتقوى عليه.
وأيضا بناء على هذا الاختيار، يتضح أنه لا أثر لاختلاف الدار في الوصية للحربي، فكما لا تجوز الوصية له في دار الإسلام، فكذلك لا تجوز له في دار الحرب.
إلا إذا كان مستأمنا في دار الإسلام، وأمن جانبه من عدم إلحاق الضرر بالمسلمين، وكانت هناك مصلحة كتأليفه للإسلام، لأنه ربما دخل فيه وأصبح عونا للمسلمين.
ففي هذه الحالة لا بأس بجواز الوصية له، وبهذا يؤثر اختلاف الدارين في الوصية المستأمن الحربي، فتجوز له في دار الإسلام بالشرط السابق، أما في داره، دار الكفر فلا تجوز مطلقا.
الخاتمة
وبعد أن منّ الله عليّ بإتمام هذا البحث ألخص فيما يلي أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال دراستي لهذا البحث - وهي:
1) أن الجهاد بمعناه العام هو بذل الوسع والطاقة في مجاهدة الأعداء كالنفس والشيطان، والكفار، والمنافقين وهو فرض عين على كل فرد من أفراد الأمة، ولا ينوب في جهاد النفس والشيطان أحد عن أحد.
2) أن تعريف الجهاد بمعناه الخاص هو قتال الكفار لإعلاء كلمة الله ونشر دينه وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعريف الجهاد فهو تعريف شامل لكل أنواع الجهاد فيشمل جهاد الإنسان لنفسه، وجبرها على طاعة الله، وجهاد الشيطان الذي هو ألد أعداء المسلمين، وجهاد الكفار في سبيل نشر الدين الإسلامي.
3) أن الجهاد بمعناه الخاص وهو جهاد الكفار فرض كفاية، إذا قامت به طائفة من المسلمين قياما كافيا سقط الإثم عن الباقين وإلا أثموا جميعا.
ولا يكون الجهاد بمعناه الخاص فرض عين إلا في ثلاثة مواضع:
أ- إذا هجم الأعداء على بلاد المسلمين، ونزلوا بها، تعين على كل فرد من أفراد المسلمين جهادهم، ودفع ضررهم.
ب- إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان، تعين على كل فرد من المسلمين الثبات أمام الأعداء، ويحرم عليه الفرار من أمامهم.
ج-إذا عين إمام المسلمين قوما للجهاد، واستنفرهم لذلك، وجب عليهم أن يطيعوه وينفروا إلا من له عذر قاطع.
4) أن الجهاد في سبيل الله، ولإعلاء كلمته، ونشر دينه، يعد من أفضل الأعمال بعد فروض الأعيان، لأن المجاهد يضحي بأغلى ما يملك، وهي نفسه العزيزة المحبوبة إليه، ويجود بها وهذا أقصى غاية الجهود، كل ذلك لتكون كلمة الله هي العليا مع نيل ما أعده الله للمجاهدين، في الدنيا من النصر والغنيمة، وفي الآخرة بالجنة التي هي من أهم وأعظم جزاء يعده الله سبحانه وتعالى لعباده المجاهدين في سبيله.
5) أن الله سبحانه وتعالى له الحكم التام، والحكمة البالغة فيما خلقه وشرعه، وقد شرع الله الجهاد لحكم كثيرة من أهمها إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، ورفع رايته ونشر دينه في جميع أنحاء الأرض، فلم يشرع الله الجهاد لحب الغلبة أو الشهرة، أو التسلط أو الانتقام.
وكذلك شرع الجهاد لرد أي اعتداء واقع على دار الإسلام من قبل الأعداء ولإنقاذ المستضعفين والمظلومين من المسلمين، الذين يعيشون تحت سلطان دولة ظالمة غير مسلمة.
وكذلك شرع الجهاد لإرهاب الأعداء وإذلالهم، وكيدهم وإغاظتهم ولتربية النفوس المؤمنة على الصبر والثبات، والطاعة والقوة، وبذل النفس والمال في سبيل إعلاء كلمة الله.
وكذلك شرع الجهاد لمنع الفتن التي قد تحدث داخل المجتمع
الإسلامي من قبل المسلمين أنفسهم، فتهدد أمانه، وكيانه ونظامه، كالردة، والبغي، والحرابة.
6) أن الشريعة الإسلامية منذ نشأتها اتخذت العقيدة الإسلامية أساسا لبناء المجتمع وإقامة الدولة وتقسيم الناس، وعلى هذا الأساس الذي قامت عليه صار الناس في نظرها صنفين، مسلمين، وغير مسلمين، وصارت الأرض تنقسم إلى دارين: دار الإسلام، وهي الدار التي يتسلط عليها المسلمون وتغلب فيها أحكامهم، فالشرط الأساسي لاعتبار الدار دار إسلام هو كونها محكومة بحكم الشريعة الإسلامية وتحت سيادة المسلمين وسلطانهم، ولا يشترط أن يكون سكان هذه الدار كلهم أو معظمهم من المسلمين ما دام السلطان فيها للمسلمين، وتجري فيها أحكامهم.
وهذه الدار يسكنها نوعان من الناس المسلمون وهم أهلها وأصحاب الحل والعقد فيها، وغير المسلمين وهم الذميون الذين ارتبطوا مع الدولة الإسلامية بعقد الذمة، ويقيمون فيها إقامة مؤبدة ويدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون ويلتزمون لأحكام الشريعة الإسلامية العامة، كل ذلك من أجل الإطلاع إلى محاسن الإسلام، وآدابه السامية، وأنه أصلح الأديان على وجه الأرض، والذي يجب أن يعتنقه جميع البشر، وليس المقصود من عقدها هو تحصيل المال فحسب، وكذلك المستأمنون الذين يقيمون فيها إقامة مؤقتة فهم من سكانها.
7) أن الجزية وضعت صغارا وإذلالاً للكفار، وما قيل من أن الصغار في الآية ليس هو الذل والهوان، وإنما تؤخذ الجزية منهم برفق كأخذ الدين فهذا غير صحيح، لأن الذل والهوان هو المعنى الدائم للصغار ولا ينفك عنه أبدا.
8) وقد اخترت أن عقد الذمة لا يعقده إلا الإمام أو نائبه، لأنه من العقود المهمة التي تحتاج إلى سعة نظر، وحسن تدبير وهذا في الغالب لا يوجد إلا في الإمام أو نائبه كما اخترت أن عقد الذمة يجوز لجميع أصناف غير المسلمين ولا يختص بأهل الكتاب فقط، وهذا من أكبر الدلائل على سماحة الشريعة الإسلامية مع غير المسلمين واتساع نطاقها لهم.
9) أن من أهم الحقوق التي تجب لأهل الذمة الوفاء بالعهد لهم، والمحافظة على أرواحهم، وأعراضهم وأموالهم، وحمايتهم من أي اعتداء يقع عليهم من قبل المسلمين أو من غيرهم.
ومن أهم الواجبات التي تجب عليهم الالتزام للأحكام الإسلامية العامة وبذل الجزية عن ذل وصغار، وعدم التعرض للمسلمين بما فيه إهانة لدينهم أو ارتكاب الجرائم في دارهم، وأن لا يعينوا أعداءهم من أهل الحرب، أو يأووا جاسوسهم.
10) أن من أصناف أهل العهد أهل الأمان، وهم في الغالب المستأمنون الذين يدخلون دار الإسلام بأمان لغرض ما، كتجارة وصناعة
وحرفة وغيرها، ويقيمون فيها إقامة مؤقتة وكذلك يطلق الأمان على المسلم الذي يدخل ديار الكفار بأمان.
ولا يعقد الأمان العام مع غير المسلمين إلا الإمام أو نائبه، أما الخاص فيعقده أي فرد من أفراد الرعية، متى توافرت فيه الشروط كالإسلام والعقل والبلوغ.
ومع أني اخترت أنه يجوز لكل فرد من أفراد الرعية حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى، أن يعقد الأمان الخاص مع غير المسلمين حتى ولو بدون إذن الإمام، أقول بأنه لا ينبغي أن يعطى الفرد من الرعية الحق في عقد الأمان العام أو الخاص مع غير المسلمين في هذا الزمان إلا بعد الإذن من الإمام أو من يقوم مقامه.
وكذلك ينعقد الأمان بكل لفظ يفيد مقصوده سواء كان صريحا أو كنائي، أو بإشارة أو برسالة، وأيضا مدة الأمان لا تتحدد بمقدار معين من الزمان، فهي من الأمور الاجتهادية التي يقدرها الإمام باجتهاده بحسب الحاجة والمصلحة التي تعود على المسلمين، فلا يتقيد الأمان بمدة معينة، وأيضا المستأمن بمجرد رجوعه إلى داره - دار الكفر- ينتقض أمانه ولا يدخل دار الإسلام إلا بأمان جديد، وكذلك إذا ارتكب الجرائم في دار الإسلام كالقتل والسرقة والزنا، انتقض عهده ويرجع إلى داره بعد أخذ عقابه.
11) لا بأس بدخول التجار الكفار والرسل إلى ديار الإسلام،
بدون تقدم أمان، إذا أخرج التاجر أو الرسول ما يدل على أنه تاجر أو رسول، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في معاملة رسل الأعداء وتجارهم.
أما في الوقت الحاضر فلم تجر العادة بدخول التجار أو الرسل أو السفراء إلى ديار الإسلام، بغير أمان، فلا بد من ترخيص سابق بالدخول إلى الديار الإسلامية شأنهم في ذلك شأن غيرهم من المستأمنين.
12) المستأمنون يتمتعون بكامل الحقوق التي يتمتع بها أهل الذمة من حق العصمة في النفس والمال، وحق الحرية في التنقل من مكان لآخر داخل الأراضي الإسلامية ما عدا الأماكن التي وردت النهي في منع المشركين من دخولها، وحق الحرية الدينية، فليس لأحد من المسلمين التعرض لهم ولما يدينون به، وكذلك لهم حق التمتع بالمرافق العامة وغيرها.
أما الواجبات التي تلتزمهم فمن أهمها احترام أحكام الشريعة الإسلامية.
والمحافظة على الأمن والنظام العام في دار الإسلام، والامتناع عن ارتكاب الجرائم، وإظهار المحرمات في دار الإسلام، وعدم التعامل بالمعاملات المحرمة في الشريعة الإسلامية.
13) أما دار الكفر فهي الدار التي تغلب فيها أحكام الكفر ويتسلط عليها ويحكمها غير المسلمين فالشرط الأساسي لتمييز الدار هو وجود
السلطة وغلبة الأحكام، فإن كانت الأحكام والسلطة إسلامية، كانت الدار دار إسلام، أما إذا كانت الأحكام والسلطة غير إسلامية، فالدار دار كفر.
14) أن دار الكفر تنقسم إلى قسمين: أ- دار كفر حربية: وهي الدار التي تنصب العداء التام للإسلام والمسلمين، ولا فرق بين أن تعلن ذلك أو لا تعلنه ولا توجد بينها وبين المسلمين معاهدات أو علاقات دولية، فالعلاقات بينها وبين المسلمين علاقة عداء وحرب.
أما دار الكفر - غير الحربية - دار العهد- فهي الدار التي عقد أهلها العهد بينهم وبين المسلمين بعوض أو بدون عوض، بحسب المصلحة التي تعود على المسلمين، أي أن العلاقة بين أهلها وبين المسلمين علاقة سلمية لا حربية.
وهذا العهد ينبغي أن تكون مصلحة المسلمين هي الراجحة وتكون مدته معينة وبشروط إسلامية.
أما دور الكفر في هذا الزمان والتي بينها وبين الدول الإسلامية، معاهدات وعلاقات دولية، فلا ينطبق عليها تعريف دار العهد بالشروط التي ذكرها علماء الإسلام ومنها أن تكون مدة العهد مؤقتة، لأن هذه المعاهدات والعلاقات تقوم على غير شروط إسلامية، والمصلحة الراجحة فيها تكون لصالح الكفار، وكذلك مدتها غالبا ما تكون مؤبدة غير مقيدة بزمن معين، إلى جانب مساعدة هذه الدول المعاهدة للمسلمين أعداءهم
بالمال والرجال والسلاح، ومتى رأت المصلحة في نقض العلاقة بينها وبين الدول الإسلامية، نقضت هذه العلاقة والاتفاقية بدون إنذار أو إشعار، وهذه فيها شبه بدار العهد من ناحية المعاهدات والاتفاقات الدولية التي بينها وبين المسلمين، ولكنها في الحقيقة دار حرب بل أشد.
15) أن من أصناف أهل العهد أهل الهدنة، وهم أهل الحرب الذين تقع المصالحة بينهم وبين المسلمين على ترك القتال مدة معلومة بعوض منهم أو من المسلمين عند الضرورة، أو بغير عوض بحسب المصلحة التي تعود على المسلمين ولا يعقد الهدنة مع المشركين إلا الإمام أو نائبه، ولا يصلح لأحد من أفراد الرعية أن يعقده، لأنه من العقود المهمة التي تحتاج إلى سعة نظر وتقدير للمصالح العامة، وتدبير للقضايا الحربية، وهذا كله لا يمكن توافره غالبا إلا في الإمام أو من يقوم مقامه، وكذلك يجب أن تتحقق المصلحة للمسلمين من عقد الهدنة عند إبرام العقد، وإن استمرت المصلحة طيلة بقاء العقد فهذا لا بأس به، أما إذا لم تستمر فلا ننقض إليهم عهدهم، ويبقى العقد صحيحا حتى ولو لم تستمر المصلحة معه طيلة بقائه، وكذلك يجب أن يخلو عقد الهدنة من الشروط الفاسدة الممنوعة في الشريعة الإسلامية، وأيضا لا بأس بعقد الهدنة على أي مدة بدون تحديد لها وإن طالت، بحسب المصلحة والحاجة التي يراها الإمام.
16) أن دار الكفر الحربية وغير الحربية، تنقلب وتصير دار إسلام بمجرد إظهار الأحكام الإسلامية فيها وتسلط المسلمين عليها. أما دار
الكفر الحربية فتصير دار عهد بمجرد وجود العلاقات السلمية بينها وبين المسلمين بعقد المعاهدات والاتفاقات.
أما بالنسبة لتغير الوصف عن دار الإسلام إلى دار كفر، ولن يتغير هذا الوصف إن شاء الله ما تمسك المسلمون بعقيدتهم الإسلامية، وجاهدوا في الله حق جهاده، فهو أيضا يكون بغلبة أحكام الكفر فيها وتسلط غير المسلمين عليها، وكذلك دار الإسلام إذا تسلط عليها الكفار تنقلب إلى دار كفر حتى ولو كان معظم سكانها من المسلمين.
17) أن القول بأن تقسيم الأرض إلى دارين، دار إسلام، ودار كفر، لا دليل عليه، قول باطل ومردود، لأن الكتاب والسنة والإجماع قد دلت على أن الأرض داران دار إسلام ودار كفر. وله أثر في تباين الأحكام الشرعية.
18) لا يجوز للمستأمنين وغيرهم من الكفار استيطان الحجاز، أما دخوله للتجارة ولمصلحة المسلمين فهذا لا بأس به، ومن غير تقييد بمدة، بحسب ما يراه ولي أمر المسلمين من الحاجة والمصلحة التي تعود على المسلمين، فيحدد لهم مدة الدخول بدون استيطان، وله أن يوكل من يقوم مقامه بهذه المهمة وهو ما عليه العمل في الوقت الحاضر.
أما باقي الجزيرة العربية من غير الحجاز فلا بأس بإقامة غير المسلمين فيها واستيطانهم لها، ما لم يكن في سكناهم وإقامتهم ما يهدد مصالح المسلمين.
19) ولا يجوز أيضا للمستأمنين أو غيرهم من الكفار دخول الحرم المكي، أما دخولهم المسجد النبوي وغيره من المساجد، فلا بأس به إذا أُمن جانبهم من العبث بها أو تخريبها، أو الفساد فيها، وكان في دخولهم مصلحة راجحة.
20) أن اختلاف الدار له أثره في وجوب القصاص على المستأمن في دار الإسلام لأنه عندما كان في داره - دار الكفر- لا يقتص منه، لعدم التزامه للأحكام الإسلامية، لكنه عندما دخل دار الإسلام بأمان اختلف الحكم بالنسبة له، فوجب عليه القصاص إذا ارتكب ما يوجبه في حق المسلمين أو غيرهم من الذميين والمستأمنين المقيمين فيها.
وكذلك أثر اختلاف الدار في وجوب القصاص له من غير المسلمين المقيمين في دار الإسلام كالذميين والمستأمنين.
أما من المسلمين فلا أثر لاختلاف الدار في وجوب القصاص، فالمسلم لا يقتل بالكافر المستأمن أو غيره، سواء كان القتل في دار الإسلام أو في دار الكفر.
21) أن اختلاف الدار له أثر في وجوب الدية بقتل المستأمن في دار الإسلام سواء كان القتل من المسلمين أو من غيرهم كالذميين والمستأمنين المقيمين فيها.
لأن المستأمن قبل الأمان كان حربيا مباح الدم والمال، فلا قصاص ولا دية ولا كفارة بقتله، لكنه عندما دخل دار الإسلام بأمان اختلف
الحكم بالنسبة له، فأصبح معصوم الدم والمال وعلى قاتله من غير المسلمين القصاص في العمد، والدية في الخطأ، أما المسلم فلا يقتل بالمستأمن لعدم المساواة بينهما، لكن الشريعة الإسلامية لم تهدر دمه بل أوجبت الدية على قاتله من المسلمين تعويضا لدمه المعصوم في دار الإسلام.
وكذلك أثر اختلاف الدار في وجوب الكفارة على المسلم بقتل المستأمن، لأنه عندما كان في داره كان دمه هدرا ولا عصمة له، ولا تجب بقتله دية ولا كفارة، ولما اختلفت الدار وأصبح في دار الإسلام بأمان وجبت الكفارة على المسلم بقتله، أما وجوب الكفارة على المستأمن فلا أثر لاختلاف الدار في ذلك، لأن الكفارة لا تجب على المستأمن لا في دار الإسلام ولا في دار الكفر.
22) أن اختلاف الدار له أثر في وجوب إقامة حد الزنى على المستأمن في دار الإسلام سواء كان المزني بها مسلمة أو كافرة.
23) أن اختلاف الدار له أثر في وجوب إقامة حد القذف على المستأمن في دار الإسلام، إذا قذف مسلماً أو مسلمة.
أما إذا قذف مستأمنا آخر أو ذميا فلا أثر لاختلاف الدار في وجوب إقامة الحد عليه، إلا من ناحية تأديبه وزجره للمحافظة على أعراض المعصومين في دار الإسلام من الذميين والمستأمنين المقيمين فيها، وكذلك للمحافظة على دار الإسلام من انتشار الفساد فيها.
24) أن اختلاف الدار له أثر في وجوب إقامة حد السرقة على
المستأمن في دار الإسلام، إذا سرق من مال المسلمين أو الذميين أو المستأمنين المقيمين في دار الإسلام.
وكذلك أثر اختلاف الدار في وجوب إقامة حد السرقة على المسلم السارق من مال المستأمن، فمال المستأمن في دار الإسلام يختلف عنه في دار الكفر، فماله في دار الإسلام معصوم بأمانه يقام الحد على من سرقه، أما في دار الكفر فماله مباح ولا يقام الحد على من سرقه.
25) أن اختلاف الدار له أثر في إقامة حد الحرابة على المستأمن في دار الإسلام إذا قطع الطريق على سكان دار الإسلام من المسلمين أو غيرهم.
وكذلك أثر اختلاف الدار في إقامة حد الحرابة على قاطع الطريق على المستأمن في دار الإسلام، مسلما كان أو ذميا أو مستأمنا آخر.
26) أن اختلاف الدار له أثر في ارتكاب جريمة البغي من المستأمن في دار الإسلام.
وكذلك أثر اختلاف الدار في ارتكاب جريمة التجسس من المستأمن في دار الإسلام.
27) أن اختلاف الدار له أثر في وجوب الهجرة على العاجزين عن إظهار دينهم في دار الكفر، وكذلك أثر اختلاف الدار في كراهية السفر إلى دار الكفر من غير حاجة.
28) أن اختلاف لا أثر له في قسمة الغنيمة في دار الكفر الحربية، فكما تجوز قسمتها في دار الإسلام، فكذلك تجوز القسمة في دار الحرب، ولا أثر لاختلاف الدار في ذلك.
29) أن اختلاف الدار لا أثر له في التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة في دار الكفر، فالربا وغيره من العقود المحرمة، يحرم على المسلمين التعامل به في أي مكان كان في دار الإسلام أو في دار الكفر إذا دخلوها بأمان، أما إذا دخلوها بغير أمان فلا يجوز لهم أيضا إعطاء الربا للكفار، ويجوز لهم أخذه منهم.
وكذلك لا أثر لاختلاف الدار في إباحة أخذ مال الحربي غير المستأمن بالربا أو بغيره، فكما يباح أخذ ماله في دار الإسلام إذا دخلها بغير أمان فكذلك يباح أخذه في دار الكفر إذا دخلها المسلمون بغير أمان ولا أثر لاختلاف الدارين في ذلك.
30) أن اختلاف الدار لا أثر له في جواز نكاح الكتابية في دار الإسلام، وإنما أثره في نكاحها في دار الحرب، لأن نكاحها في دار الإسلام مباح مع الكراهة أما في دار الحرب فهو محرم على القول الذي اخترته.
وكذلك أثر اختلاف الدار في نكاح الكتابية في دار الكفر في هذا الزمان، لأن نكاحها في دار الإسلام مباح مع الكراهة، أما في دار الكفر في هذا الزمان فهو محرم بناء على الرأي الذي اخترته ما لم تدعو الضرورة إليه.
31) أن اختلاف الدار لا أثر له في وقوع الفرقة بين الزوجين، وإنما الأثر لاختلاف الدين، فإذا أسلم أحد الزوجين في دار الكفر ثم هاجر إلى دار الإسلام لا يفرق بينهما، بسبب اختلاف الدار، وإنما تقع الفرقة بينهما لاختلاف دينهما، وكذلك إذا أسلم أحد الزوجين في دار الإسلام والآخر في دار الكفر فرق بينهما، بعد عرض الإسلام على المستأخر منهما - لاختلاف الدين بينهما، ولا أثر لاختلاف الدارين في ذلك.
32) أن اختلاف الدار لا أثر له في إقامة جرائم القصاص على المسلم في دار الكفر فالجاني المتعمد يقتص منه في دار الكفر كما يقتص منه في دار الإسلام، إلا عند عدم القدرة والاستطاعة على إقامة القصاص في دار الكفر فلا بأس بتأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام، ولم يؤثر اختلاف الدار إلا من هذه الناحية.
33) أن اختلاف الدار لا أثر له في إسقاط الحدود عن مرتكبيها في دار الكفر، فالحدود كما تجب إقامتها في دار الإسلام، فكذلك تجب إقامتها في دار الكفر، ولم يؤثر اختلاف الدار في جرائم الحدود في دار الكفر إلا من ناحية التأخير فالإمام إذا لم يقدر على إقامة الحدود في دار الكفر فلا بأس بتأخيرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام.
34) أن اختلاف الدار لا أثر له في منع التوارث بين المسلمين، وغير المسلمين فالمسلم يرث قريبه المسلم سواء كان في دار الإسلام أو في دار الكفر، وكذلك الكافر يرث قريبه في أي مكان في دار الإسلام أو في دار الكفر، فلا أثر لاختلاف الدارين في ذلك.
35) أن اختلاف الدار لا أثر له في مال المرتد الذي تركه في دار الإسلام فما كسبه قبل الردة سواء بقي في دار الإسلام أو لحق بدار الكفر يوقف، فإن مات أو قتل على ردته فهو لورثته من المسلمين، أما ما كسبه بعد الردة فهو فيء لبيت مال المسلمين.
ولم يؤثر اختلاف الدار إلا في ماله الذي اكتسبه في دار الحرب فهو مباح كدمه.
36) أن اختلاف الدار لا أثر له في جواز الوصية للحربي غير المستأمن فكما لا تجوز الوصية له في دار الإسلام فكذلك لا تجوز له في دار الحرب.
أما إذا كان الحربي مستأمناً في دار الإسلام، فقد أثر اختلاف الدار في جواز الوصية له إذا أمن جانبه من عدم إلحاق الضرر بالمسلمين، وكانت هناك مصلحة من الوصية، كتأليفه للإسلام ومن ثم دخوله فيه، أو كان فقيراً محتاجاً.
هذا أهم ما تيسر تدوينه وجمعه في هذا البحث، وأسأل الله أن يجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به من اطلع عليه، وأن يغفر لي خطأي إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.