الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: اختلاف الدارين وأثره في وجوب الدية
المطلب الأول: أثره في دية المعاهد الكتابي
لا خلاف بين الفقهاء أنه لا دية للكافر الحربي غير المستأمن وكذلك المرتد سواء وقع القتل من المسلم أو من المعاهد الذمي أو المستأمن.
لأن الكافر الحربي غير المستأمن وكذلك المرتد، مباح الدم فلا عصمة لدمه، بل قتله عبادة وقربة يتقرب بها العبد إلى ربه، وإذا كان قتله مباحاً فمن الأولى أن لا دية له.1
أما الكافر المعاهد الذمي أو المستأمن، فإنه قبل العهد وإعطاء الأمان له كان حربياً مباح الدم، ولا عصمة له، لكنه عندما أصبح في دار الإسلام، بعهد وأمان اختلف الحكم بالنسبة له فأصبح يطلق عليه مستأمناً وصار دمه وماله معصوماً ما دام في دار الإسلام ومتمسكاً وملتزماً بعقد الأمان.
وقد عرفنا مما سبق أن الأئمة الأربعة اتفقوا على أن المسلم لا يقتل بالمستأمن، لعدم المساواة بينهما لا في الدين، ولا في العصمة والقصاص أساسه المساواة.
ولكن الشريعة الإسلامية، شريعة العدالة والسماحة لم تهدر دم المعاهد المستأمن أو غيره، بل أوجبت على قاتله الدية، تعويضاً لدمه
1 بدائع الصنائع 7/236، والخرشي على مختصر خليل 8/54، ومغني المحتاج 4/57، والإقناع 2/153، والمغني لابن قدامة 7/795، ونيل الأوطار 7/66، والهداية للكلوذاني 2/93.
المعصوم في دار الإسلام، حتى أن بعض الفقهاء أوجب له الدية كاملة كدية المسلم في العمد والخطأ، وبعضهم غلظها في العمد، على ما سنبينه فيما يلي.
اختلف الفقهاء في مقدار دية المعاهد الكتابي المستأمن أو غيره من المعاهدين إلى أربعة أقوال:
القول الأول: أن دية المستأمن الكتابي كدية المسلم في العمد والخطأ، لا فرق رجالهم كرجال المسلمين، ونساؤهم كنساء المسلمين، وجراحاتهم كجراحات المسلمين.
وهو مروي عن عمر وعثمان وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم ومجاهد والشعبي والنخعي والثوري وسعيد بن المسيب والزهري والحكم وحماد بن أبي سليمان.1
وهو قول فقهاء الحنفية2 ورواية للحنابلة إذا كان القتل عمداً.3
1 مصنف ابن أبي شيبة 9/286،287، ونيل الأوطار 7/65، والمغني 7/793،795، والبحر المحيط 3/324، وبداية المجتهد 2/414، والجامع لأحكام القرآن 5/327.
2 بدائع الصنائع 7/254، والمبسوط 26/85، ومجمع الأنهر 2/639، وتبيين الحقائق 6/128، والبحر الرائق 8/337، والاختيار 5/36، 37، وأحكام القرآن للجصاص 2/238.
3 المغني لابن قدامة 7/793 – 795، والإفصاح لابن هبيرة 2/210، والهداية للكلوذاني 2/93.
القول الثاني: أن دية المستأمن الكتابي نصف دية المسلم في العمد والخطأ.
ودية جراحاتهم نصف دية جراحات المسلمين.
وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز، وعروة بن الزبير.1
وهو قول فقهاء المالكية والحنابلة في ظاهر المذهب.2
القول الثالث: أن دية المعاهد الكتابي المستأمن أو غيره ثلث دية المسلم في العمد والخطأ.
وهو مروي عن الحسن البصري، وعكرمة، وعطاء، وعمرو بن دينار، وإسحاق بن راهوية، وأبي ثور، وسعيد بن المسيب في رواية.3
وهو قول فقهاء الشافعية، والحنابلة في رواية.4
1 مصنف ابن أبي شيبة 9/286، 287، ونيل الأوطار 7/65، وبداية المجتهد 2/414، والمغني 7/793، والجامع لأحكام القرآن 5/327.
2 المنتقى شرح الموطأ 7/98، قوانين الأحكام الشرعية ص 376، والمدونة 6/395، وبداية المجتهد 2/414، وحاشية العدوي 2/275، والمغني لابن قدامة 7/793، والمبدع 8/352، والإنصاف 10/65، والإفصاح لابن هبيرة 2/210، والهداية للكلوذاني 2/93.
3 مصنف ابن أبي شيبة 9/288، 290، والمغني 7/793،795 ونيل الأوطار 7/66، وبداية المجتهد 2/414.
4 مغني المحتاج 4/75، وروضة الطالبين 9/258، والأم 6/105،106، والمهذب 2/252، والإقناع 2/163، وكفاية الأخيار 2/103، والهداية للكلوذاني 2/93، والمغني لابن قدامة 7/793، والمبدع 8/352.
القول الرابع: أن المستأمن وغيره من الكفار دمه هدر لا دية ولا كفارة.
وهو قول الظاهرية.
قال ابن حزم: "دية غير المسلمين هدر وإن قتل مسلم عاقل بالغ ذمياً أو مستأمناً عمداً أوخطأ فلا قود عليه ولا دية ولا كفارة ولكن يؤدب في العمد خاصة ويسجن حتى يتوب كفاً لضرره".1
الأدلة:
أولاً: أدلة أصحاب القول الأول الذين قالوا بأن ديته كدية المسلم:
استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول:
أ - دليلهم من الكتاب:
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} .2
وجه الدلالة من الآية:
أن الله سبحانه وتعالى أطلق القول بالدية، في جميع أنواع القتل من غير فصل، فدل أن الواجب في قتل المستأمن في العمد أو الخطأ الدية كاملة.3
1 انظر: المحلى لابن حزم 10/347.
2 النساء: 92.
3 بدائع الصنائع 7/255، وتبيين الحقائق 6/128.
قال الجصاص: "الدية اسم لمقدار معلوم من المال بدلاً من نفس الحر لأن الديات كانت معروفة بين الناس قبل الإسلام وبعده، فرجع الكلام إليها في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 1، ثم لما عطف عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} كانت هذه الدية هي الدية المذكورة أولا، إذا لو لم تكن كذلك لما كانت دية، لأن الدية اسم لمقدار معلوم من المال بدلاً من نفس الحر لا يزيد ولا ينقص، وقد كان مقدارها معروفاً عند الناس قبل الإسلام، فوجب أن تكون الدية المذكورة للكافر هي التي ذكرت للمسلم، وحيث إن المسلم ديته كاملة، فيجب أن تكون دية غير المسلم المعاهد كاملة أيضاً".2
ب - دليلهم من السنة:
1-
بما روى عن عمرو بن حزم3رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وفي النفس الدية مائة من الإبل".4
1 النساء: 92.
2 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/238.
3 هو: أبو الضحاك عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري، من الصحابة شهد الخندق وما بعدها، توفي سنة 53هـ. الإصابة 3/375، وتقريب التهذيب 2/68.
4 أخرجه مالك في الموطأ ص 611 كتاب العقول، والنسائي 8/57، 58 في القسامة والدارمي 2/110، والحاكم 1/395، وقال صحيح على شرط مسلم، والبيهقي 8/28، والدارقطني 1/121، وقال الألباني حديث صحيح. انظر: إرواء الغليل 7/303.
وجد الدلالة من الحديث:
أن النفس عامة تشمل نفس المسلم والكافر، فتكون دية المعاهد المستأمن كدية المسلم.1
2-
وبما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى العامريين بدية المسلمين وكان لهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.2
وجه الدلالة من الحديث:
الحديث ظاهر الدلالة في أن دية المعاهد المستأمن أو غيره كدية المسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك3
3-
وبما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ودى ذمياً دية مسلم.4
دل الحديث أن دية الذمي كدية المسلم والمستأمن كالذمي في الدية.5
4-
وبما روى عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل دية
1 أحكام القرآن للجصاص 2/239، 240.
2 أخرجه الترمذي 4/20 كتاب الديات وقال: وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والبيهقي 8/102، والزيلعي 4/366.
3 الاختيار لتعليل المختار 5/36،37.
4 أخرجه الدارقطني 3/103 كتاب الحدود، والبيهقي 8/103، كتاب الديات وذكره الزيلعي في نصب الراية 4/366.
5 تبيين الحقائق 6/129.
المعاهد كدية المسلم.1
فالحديث ظاهر الدلالة في أن دية المعاهد كدية المسلم، والمعاهد يشمل الذمي والمستأمن.
5-
وبما روى عن الهيثم بن أبي الهيثم2 "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان قالوا: إن دية المعاهد دية الحر المسلم".3
6-
وبما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الدية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان دية المسلم واليهودي والنصراني سواء فلما استخلف معاوية صير دية اليهودي والنصراني على النصف، فلما استخلف عمر بن عبد العزيز رده إلى القضاء الأول. 4
7-
وبما روى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن5 قال: كان عقل الذمي مثل عقل المسلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر وعمر وعثمان
1 أخرجه الدارقطني 3/130، والزيلعي في نصب الراية 4/367.
2 هو: الهيثم بن حبيب الصيرفي الكوفي، صدوق، من السادسة روى عن عكرمة وحماد بن أبي سليمان، أثنى عليه الإمام أحمد وقال ما أحسن أحاديثه، ويروى عن أصحاب الرأي، وثقه ابن معين، وأبو زرعة وأبو حاتم. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 11/91،92، وتقريب التهذيب 2/326.
3 أخرجه الزيلعي في نصب الراية 4/367 محمد بن الحسن الآثار.
4 أخرجه الزيلعي في نصب الراية 4/367 وبحثت عنه في كتب السنن فلم أجده.
5 هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن بن فروخ التميمي المدني أبو عثمان مشهور بربيعة الرأي ثقة فقيه. توفي سنة 136. تقريب التهذيب 1/247 ووفيات الأعيان 2/188.
حتى كان صدراً من خلافة معاوية.1
8-
وبما روى عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دية كل ذي عهد ألف دينار".2
فقد دلت هذه الأحاديث على أن دية المعاهد الذمي أو المستأمن كدية المسلم.3
9-
وبما ورى عن ابن عباس رضي الله عنها قال: قال لما نزلت {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} قال: كان إذا قتل بنو النضير من بني قريظة قتيلاً أدوا نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا الدية إليهم كاملة قال: فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم في الدية.4
ثالثاً: دليلهم من المأثور:
1-
بما ورى عن ابن شهاب الزهري أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما جعلا دية اليهودي والنصراني المعاهدين دية الحر المسلم.5
1 أخرجه أبو داود في المراسيل ص 16 والزيلعي في نصب الراية 4/367 وقال سنده صحيح.
2 أخرجه أبو داود في المراسي ص 159 والبيهقي في السنن الكبرى 8/103 كتاب الديات والمزي في تحفة الأشراف 13/213.
3 أحكام القرآن للجصاص 2/239.
4 ذكره الجصاص في أحكام القرآن 2/239 ولم أجده في كتب السنن المعروفة. والآية رقم (42) من سورة المائدة.
5 أخرجه الدارقطني 2/250 كتاب الحدود.
2-
وبما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم".1
3-
وبما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "دية المعاهد مثل دية المسلم".2
فقد دلت هذه الآثار المروية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم على أن دية المعاهد الذمي أو المستأمن مثل دية المسلم.
رابعاً: دليلهم من المعقول:
من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الدية وجبت باعتبار الإحراز، والكافر والمسلم سواء في ذلك، لأن الإحراز بالدار، وذلك استويا في ضمان قيم الأموال المتلفة، حيث وجبت على متلفها إذا كان لكافر مثل ما يجب للمسلم، وإذا كان هذا ثابتاً في أموالهم كانت أنفسهم أولى بالضمان، فوجب أن يكونوا ملحقين بالمسلمين، فيجب بقتلهم ما يجب بقتل المسلمين.3
1 أخرجه عبد الزراق في المصنف 10/97، وابن أبي شيبة 9/286، والزيلعي في نصب الراية 4/368.
2 أخرجه الدارقطني 2/250، وعبد الزراق 10/97، وابن أبي شيبة 9/286.
3 انظر: المبسوط 26/85، وتبيين الحقائق 6/129، والبحر الرائق 8/237.
الوجه الثاني: أن المعاهد معصوم الدم والمال على التأبيد إذا كان ذمياً يتساوى مع المسلم في الحرية والعصمة وديته تكون كدية المسلم والمستأمن مثل الذمي في الدية.1
الوجه الثالث: أن نقصان الدية اعتباراً لنقصان الملكية، والكفر لا تأثير له في هذا فلهذا تستوي دية الكافر المعاهد مع دية المسلم
ودليل اعتبار ذلك أن المرأة تنصف ديتها لأن المرأة ليست أهلاً للملكية في جميع الأشياء كالرجل فهي تملك المال دون الزواج، وكذا المملوك نقصت ديته لانعدام أهلية ملكية المال والزواج، وإذا كان الكفر لا تأثير له في نقصان الملكية كذلك لا تأثيره له في نقصان الدية.2
ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني الذين قالوا بأن دية المستأمن الكتابي نصف دية المسلم.
استدلوا بالسنة، والمأثور، والمعقول:
أ - دليلهم من السنة:
1-
ما روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم
1 انظر: تبيين الحقائق 6/129، ومجمع الأنهر 2/639، والمبسوط 26/85.
2 انظر: المبسوط 26/85.
قال: "دية المعاهد نصف دية الحر".1
وجه الدلالة من الحديث:
الحديث ظاهر الدلالة في أن الدين المعاهد وهو الذمي أو المستأمن نصف دية المسلم.
قال الإمام أحمد: "ليس في دية أهل الكتاب شيء اثبت من هذا"2
وقال الخطابي: "ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا".3
2-
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دية المعاهد نصف دية المسلم".4
فالحديث أيضاً يدل دلالة واضحة على أن دية المستأمن نصف دية المسلم.
1 أخرجه أحمد في مسنده 2/180، 215،وأبو داود 4/707 – 708 كتاب الديات باب دية الذمي واللفظ له.
والترمذي 4/25 كتاب الديات باب دية الكفار وقال حديث حسن ولفظه دية عقل الكافر نصف دية عقل المؤمن، والنسائي بلفظ نحوه 8/45 كتاب القسامة باب كم دية الكافر. وابن ماجة 2/883 كتاب الديات باب دية الكافر بلفظ:(قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى) .
2 المغني 7/794.
3 انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 4/707.
4 أخرجه الطبراني في الأوسط نقلاً عن نصب الراية 4/367.
ب - دليلهم من المأثور:
بما أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن قضى أن دية اليهودي والنصراني إذا قتل أحدهما، مثل نصف دية الحر المسلم.1
وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بلفظ: "دية المعاهد على النصف من دية المسلم".2
ج - دليلهم من المعقول: من وجهين:
الوجه الأول: أن مبنى الديات في الشريعة الإسلامية على التفاضل في الحرمة والتفاوت في المرتبة، لأنها حق مالي يتفاوت بالصفات بخلاف القتل، لأنه لما شرع زجراً لم يعتبر فيه ذلك التفاوت، فإذا ثبت هذا نظرنا إلى الدية فوجدنا الأنثى تنقص فيها عن الذكر، ولابد أن يكون للمسلم مزية على الكافر، فوجب ألا يساويه في ديته.3
الوجه الثاني: أن الكفر نقص يؤثر في القصاص، فوجب أن يؤثر في نقصان الدية كالرق، لأن نقص الكفر أعظم من نقص الأنوثة، بدليل أن الأنوثة لا تمنع
1 أخرجه الإمام مالك في الموطأ ص 622 ما جاء في دية أهل الذمة.
2 مصنف ابن أبي شيبة 9/288، ومصنف عبد الزراق 10/93.
3 أحكام القرآن لابن العربي 1/478.
القصاص والكفر يمنعه، وإذا كانت الأنوثة تؤثر في نقص الدية فبأن يؤثر فيه الكفر من باب أولى.1
ثالثاً: أدلة أصحاب القول الثالث الذين قالوا بأن دية المعاهد الكتابي ثلث دية المسلم:
استدلوا بالسنة، والمأثور، والمعقول:
أ - دليلهم من السنة:
1-
ما ورى عن عمرو بن حزم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل".2
وجه الدلالة من الحديث:
دل مفهوم الحديث أن غير المؤمنة بخلافها، وجعلوا بيان هذا المفهوم قضاء عمر وعثمان رضي الله عنهما بأن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، فقالوا إن قضاء عمر وعثمان رضي الله عنهما مبين للقدر الذي أجمله مفهوم الصفة.3
2-
وبما روى عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كل رجل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم.4
1 المنتقى للباجي 7/97، والمغني لابن قدامة 7/794.
2 سبق تخريجه ص 51 وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى بهذا اللفظ 8/100.
3 الأم 6/105، وسبل السلام 3/1218.
4 أخرجه عبد الزراق في المصنف 10/92، والبيهقي في السنن الكبرى 8/101.
فالحديث ظاهر الدلالة في أن دية المعاهد الكتابي ثلث دية المسلم.
ب - دليلهم من المأثور:
1-
بما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في اليهودي والنصراني بأربعة آلاف درهم.1
2-
وبما روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: "قضى عثمان في دية اليهودي والنصراني بأربعة آلاف درهم".2
ج - دليلهم من المعقول:
من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن قولنا بأن دية المستأمن ثلث دية المسلم أقل ما قيل والأصل براءة الذمة فيما زاد.3
قال الإمام الشافعي: "لم يقل أحد في مقادير ديات غير المسلمين أقل مما قلنا وهو ثلث دية المسلم فيجب المصير إليه لأنه أقل مقدار حصل الإجماع عليه، فهو القدر المتيقن الذي لا شك فيه".4
1 أخرجه الإمام الشافعي في المسند ص 354.
2 أخرجه ابن أبي شيبة 9/289، والبيهقي 8/100، والشافعي في مسنده ص 354.
3 كفاية الأخيار 2/103.
4 أحكام القرآن للشافعي 1/375.
الوجه الثاني: أن الأنوثة أثرت في نقصان الدية إلى النصف، فالكفر أولى في تنقيصها إلى ثلث الدية، لأن نقيصة الكفر فوق كل نقيصة.1
الوجه الثالث: أنه لا مساواة بين المسلم والكافر فلا تكون ديتهما سواء.2
رابعاً: أدلة الظاهرية القائلين بأنه لا دية للمستأمن ولا لغيره من الكفار:
أولاً: استدلوا بما سبق من الآيات التي نفت المساواة بين المسلم والكافر، ولا قصاص ولا دية إلا مع المساواة، وفي هذا يقول ابن حزم:"ولا يجوز على أصول أصحاب القياس أن يقاس الشيء إلا على نظيره وليس الكافر نظير المؤمن".3
ثانياً: وبقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} إلى قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 4، وهذا كله في المؤمنين بيقين والضمير الذي في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
1 الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/163، ومغني المحتاج 4/57.
2 الأم 6/104،105.
3 المحلى 10/357.
4 الآية 92 من سورة النساء.
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} راجع ضرورة لا يمكن غير هذا إلى المؤمن المذكور أولاً، ولا ذكر في هذه الآية لذمي أصلاً ولا لمستأمن فصح يقيناً أن إيجاب الدية على المسلم في ذلك لا يجوز البتة.1
المناقشة:
أ - مناقشة أدلة الحنفية:
أولاً: استدلالهم بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} .
يجاب عن ذلك من ثلاثة أوجه:
1-
قولهم بأن الآية في بيان حكم المقتول إذا كان من قوم بينهم وبين المسلمين عهد وذمة فهذا غير صحيح، لأنه يحتمل أن يكون المراد بها بيان حكم المقتول المؤمن إذا كان من قوم كافرين وبين قومه وبين المسلمين ميثاق.2
وفي هذا يقول ابن حزم: "إن الضمير في الآية راجع إلى المؤمن المذكور الذي في أول الآية، ولا ذكر فيها لذمي أصلاً ولا لمستأمن وإنما هي في المؤمن المقتول خطأ فقط، ولم يأت قط نص في إيجاب دية ولا كفارة في قتل الكافر الذمي والمستأمن".3
1 انظر: المحلى 10/347 - 348.
2 انظر: المحلى 10/347 - 357.
3 انظر: المحلى 10/347 - 357.
2-
أن الآية لا تدل على أن دية المعاهد - المستأمن أو الذمي - مثل دية المسلم لأن الدية في الآية مطلقة وإطلاقها لا يمنع من اختلاف مقاديرها وقد وردت السنة في بيان هذه المقادير.1
3-
وعلى فرض أن المراد بالدية في الآية المعاهد، فالدية في الآية مطلقة مقيدة بالأحاديث الصحيحة التي بينت أن مقدار دية المعاهد نصف دية المسلم.2
رد عليهم الحنفية فقالوا:
إن الله سبحانه وتعالى ذكر المؤمن المقتول خطأ وحكمه وهو بعمومه يقضي سائر المؤمنين إلا ما خصه الدليل، وبذلك لم يكن من الجائز إعادة ذكره ثانياً مع شمول أول الآية له ولغيره، وإذن يكون المراد نوعاً آخر خلاف الأوليين هم المعاهدون، وأيضاً عدم تقييد الله تعالى هذا النوع بالإيمان غير مجيز لتخصصه بالمؤمنين دون غيرهم، ثم إطلاق القول بأن المقتول من المعاهدين يقتضي أن يكون معاهداً مثلهم، ألا ترى إلى قول القائل هذا الرجل من أهل الذمة، ويفيد أنه ذمي، فظاهر قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} موجب لأن يكون المقتول معاهداً مثلهم، ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى لما أراد حكم المؤمن إذا كان من ذوي أنساب المشركين قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ
1 نيل الأوطار 7/66.
2 انظر: نيل الأوطار 7/66.
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فقيده بالإيمان لأنه لو أطلقه لكان المفهوم منه أنه كافر مثلهم، ولو كان أيضاً الضمير راجع إلى المؤمن كما قال ابن حزم لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه.
فهذا كله يقتضي المساواة وفساد هذا التأويل.1
وقال الإمام الطبري أيضاً في الرد على من ادعى أن الآية في المؤمن فقال: "فإن ظن ظان أن في قوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} دليلاً على أنه من أهل الإيمان، لأن الدية عنده لا تكون إلاّ لمؤمن فقد ظن خطأ، وذلك أن دية الذمي وأهل الإسلام سواء لإجماع الجميع على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيد المؤمن من أهل الإيمان سواء، فكذلك ديات أحرارهم، ولم يكن في ذلك على أن المعنى بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} من أهل الإيمان.2
وقال الجصاص أيضاً: "إن دية المرأة لا يطلق عليها اسم الدية وإنما يتناولها الاسم مقيداً ولهذا يقال دية المرأة نصف الدية وإطلاق اسم الدية إنما يقع على المتعارف المعتاد وهو الدية الكاملة".3
وقالوا أيضاً: "إذا كان مقدار الدية ليس مبنياً في الآية كان فعل
1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/238، 239.
2 انظر: جامع البيان للطبري 5/209.
3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/238.
النبي صلى الله عليه وسلم وارداً مورد البيان، وفعله صلى الله عليه وسلم إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب".1
وقالوا إن الأحاديث التي وردت في أن دية المعاهد نصف دية المسلم أخبار آحاد فلا تقيد مطلق الكتاب.
وأجيب عن ذلك بأن قولهم أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن دية المعاهد ذمياً كان أو مستأمناً كدية الحر المسلم، فهذا غير مسلم، لأن جميع الأحاديث التي استدلوا بها ضعيفة أو مخصصة وسيأتي الرد على كل حديث منها على حده.
وأيضاً غاية ما تدل عليه الآية على فرض أنها وردت في دية المعاهد هو إطلاق الدية تقدير لها، فجاءت السنة الصحيحة مقيدة لهذا الإطلاق، وهي قوله صلى الله عليه وسلم دية المعاهد نصف الدية المسلم، فبينت مقدار دية المعاهد وهي أنها على النصف من دية المسلم.
وقالوا أيضاً لما لم يكن مقدار الدية مبيناً في الآية بينته السنة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ودى المعاهد بدية المسلم2، ولما ثبت أن جميع هذه الأفعال التي نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ضعيفة فلم يبق إلا قوله فيكون مبيناً للآية وأن دية المعاهد على النصف من دية المسلم وهو أصح حديث وأبين ما ورد في دية المعاهد كما قال العلماء.3
1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/239.
2 انظر: نيل الأوطار 7/66.
3 الإمام أحمد والإمام الخطابي وقد سبق ص 343.
ثانياً: مناقشة أدلتهم من السنة:
بالنسبة لاستدلالهم بعموم قوله صلى الله عليه وسلم " في النفس مائة من الإبل"، يجاب عن ذلك بأن المراد بالنفس في الحديث النفس المؤمنة كما ورد في الرواية الصحيحة " في النفس المؤمنة مائة من الإبل" 1 وعلى فرض أنه عام كما قالوا فهو مخصص بالأحاديث التي بينت مقدار دية المستأمن.
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقال الترمذي بأنه حديث غريب.2
وأيضاً في إسناده راو ضعيف وهو أبو سعد البقال واسمه سعيد بن مرزبان، قال ابن حجر: ضعيف مدلس3، وقال ابن عدي: أنه من جملة الضعفاء.4
ومن جهة المتن يحتمل أن يكونا أسلما بعد الجروح قبل موتهما فكمل الإسلام ديتهما.
وأما ما روى عن سعيد بن المسيب فهو مرسل تابعي لا تقوم به حجة.
وأيضاً قد أعله الإمام الشافعي بالوقف في سنده على سعيد بن
1 أخرجه البيهقي 8/100 كتاب الديات بهذه الزيادة.
2 انظر: سنن الترمذي 4/20.
3 انظر: تقريب التهذيب 1/305.
4 انظر: نصب الراية 4/366، ونيل الأوطار 7/66.
المسيب. وأيضاً يقال لهم بأن سعيد بن المسيب روى عنه خلاف ذلك.1
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه الدارقطني وقال: إن في إسناده أبا كرز وهو متروك الحديث واسمه عبد الله بن عبد الملك الفهري.2
وقال الهيثمي: أبو كرز ضعيف وهذا أنكر رواه.3
وكذلك حديث أسامة بن زيد أخرجه الدارقطني وضعفه وقال في إسناده عثمان الوقاص وهو متروك.4
أما حديث الهيثم فهو حديث غير صحيح لأني لم أجده في كتب السنن المشهورة، ولو كان حديثاً صحيحاً ما ترك لكني لم أجده إلا في أحكام القرآن للجصاص ونصب الراية للزيلعي.
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال صاحب نصب الراية معلول ببركة الحلبي قال أما حديث ربيعة فإنه كذلك حديث مرسل لا تقوم به حجة.5
أما استدلالهم بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بني قريظة وبني النضير من أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ديتهم سواء دية كاملة فهذا
1 انظر: الأم 6/105، 104.
2 انظر: سنن الدارقطني 3/129، ونيل الأوطار 7/66.
3 انظر: مجمع الزوائد 6/299.
4 انظر: سنن الدارقطني 3/130.
5 انظر: نصب الراية 4/367. والأم 6/106.
حديث فيه لين ولا تقوم به حجة كما قال ابن عبد البر.1
بهذا يتضح لنا أن جميع الأحاديث التي استدل بها الحنفية ومن معهم إما ضعيفة، أو مرسلة، أو منقطعة لا تقوم بها حجة، أو مطلقة مقيدة، وبهذا يبطل استدلالهم بها.
وفي هذا يقول الشوكاني: "ومع هذه العلل فهذه الأحاديث معارضة بحديث عمرو بن شعيب وهو أرجح منها من جهة صحته وكونه قولاً وهذه فعلاً والقول أرجح من الفعل".2
أما أدلتهم من المأثور: فيرد عليها بما يلي:
بالنسبة لما روى عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فهي أقوال صحابة لا تقوى على معارضة الأحاديث الواردة في أن دية المعاهد نصف دية المسلم.
وكذلك يمكن أن يقال بأن عمر رضي الله عنه روى عنه خلاف ذلك وهو القول بأن دية المستأمن ثلث دية المسلم وقد قضى بذلك3. وهذا مما يضعف استدلالهم بقوله.
وكذلك الآثار المروية عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما فهي لا تقوى على مقاومة الأحاديث الصحيحة السابقة، بل قيل عنها إنها منقطعة وضعيفة.4
1 نقلاً عن الجامع لأحكام القرآن 5/327.
2 نيل الأوطار 7/66.
3 مسند الشافعي ص 354.
4 سبل السلام 3/1217.
وعلى فرض صحة هذه الأحاديث والآثار في وجوب الدية كاملة بمكن حملها على أنها وجبت كاملة تغليظاً وزجراً ومنعاً لانتشار الفساد في المجتمع، وقد روى عن عثمان رضي الله عنه أنه غلظ الدية على المسلم الذي قتل المعاهد.1
أما أدلتهم من المعقول: فيرد عليها بما يلي:
يرد على الوجه الأول: بأننا نمنع ارتباط الإحراز بالدية، فإن المرأة والرجل من المسلمين في الإحراز سواء، ومع ذلك تختلف ديتها، فالمرأة على النصف من دية الرجل.
أما الوجه الثاني: فيقال لهم بأنه لا مساواة بين الكافر والمسلم حتى في العصمة، فالمسلم معصوم الدم بإيمانه، والمعاهد معصوم الدم بأمانه، وهناك فرق بين الإيمان والأمان، ومع انعدام المساواة في العصمة وغيرها بين المسلم والمعاهد - الذمي أو المستأمن - تنعدم المساواة بينهما في الدية.
أما الوجه الثالث: فيقال لهم أيضاً: بأن نقص الكفر أعظم من نقص الأنوثة والرق بدليل أن الأنوثة لا تمنع القصاص بينما الكفر يمنعه، فإذا كانت الأنوثة تؤثر في نقص الدية فتأثير الكفر في نقصها من باب أولى وأحرى.2
1 المغني لابن قدامة 7/794.
2 انظر: المنتقى شرح الموطأ 7/97.
ب - مناقشة أدلة المالكية والحنابلة:
1-
مناقشة أدلتهم من السنة:
بالنسبة لاستدلالهم بحديث عمرو بن شعيب فهو ضعيف لأن عمرو بن شعيب فيه مقال معروف عند المحدثين إذا روى عن أبيه عن جده كما قال الشوكاني.1
وقال أبو داود إنه ليس بحجة2، وقالوا أيضاً: علمنا أن الصحابة الذين قالوا بأن دية المعاهد كدية المسلم قد حضروا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان ذلك ثابتاً لعرفه هؤلاء ولما عدلوا عنه إلى غيره، وأيضاً قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"دية المعاهد مثل دية المسلم"، وأنه ودى العامريين دية الحرين المسلمين، وهذا أولى لما فيه من الزيادة، ولو تعارض الخبران لكان ما اقتضاه ظاهر الكتاب وما ورد به النقل المتواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن الدية مائة من الإبل من غير فصل فيه بين المسلم والكافر أولى فوجب تساويهما في الديات.3
أجيب عن ذلك بأن عمرو بن شعيب ثقة صدوق كما قاله ابن حجر.4 وحديثه هذا من أصح الأحاديث التي وردت في دية المعاهد كما قال الإمام أحمد والخطابي.5
1 انظر: نيل الأوطار 1/117.
2 المصدر السابق.
3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/240.
4 انظر: تقريب التهذيب 2/72.
5 سبق بيانه ص57.
أما قولهم بأن الصحابة الذين قالوا بأن دية المعاهد مثل دية المسلم حضروا خطبة فتح مكة، ولو كان ذلك ثباتاً لعرفوه وما عدلوا عنه.
يقال لهم: إن الصحابة الذين قالوا بقولكم هذا هم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم، مع أنه روى عن عمر رضي الله عنه خلاف ذلك وما روى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما ضعيف.
وقولكم بأنه لم يثبت وإلا لعرفه الصحابة الذين قالوا بوجوب الدية كاملة، يقال لهم بأنه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث كما قال العلماء، والصحابة الذين لم يعرفوه ربما خفي عليهم هذا الحديث، ولم يصل إليهم.
أما الأحاديث التي وردت في أن دية المعاهد مثل دية المسلم فهي ضعيفة كما سبق.
وقولهم بأن هناك تعارضاً فيرجع إلى ظاهر الآية، يقال لهم بأنه ليس هناك تعارض لأن حديث عمرو بن شعيب أقوى وأصح من جميع الأحاديث التي استدلوا بها كما قال الشوكاني، فيقدم عليها ولا يكون هناك تعارض.
ولو سلمنا تعارض الأحاديث فمطلق الآية لم يبين مقدار الدية فالدية في الآية مطلقة فكيف يمكن الرجوع إلى ظاهرها عند تعارض الأحاديث التي بينت مقدار الدية.
وقولهم أيضاً عند التعارض يرجع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم "والدية مائة من الإبل" من غير فرق بين المسلم والكافر، يقال لهم بأن الدية مائة من الإبل في النفس المؤمنة دون غيرها كما وردت بذلك الرواية الصحيحة.
أما ما روى ابن عمر رضي الله عنهما فقال الهيثمي في جماعة لم أعرفهم.1
يجاب عن ذلك بأنه على فرض أن فيه ضعفاً فهو يتقوى بحديث عمرو بن شعيب.
ب - مناقشة أدلتهم من المأثور:
ما روى عن عمر عبد العزيز لا تثبت به حجة ولا يقوى على معارضة ظاهر الآية والسنة كقوله صلى الله عليه وسلم "الدية مائة من الإبل" وفعله عندما ودى المعاهد بدية المسلم.
يجاب عن ذلك بأن عمر بن عبد العزيز خليفة راشد، وعقل راجح ولا يمكن أن يقضي بأن دية المعاهد نصف دية المسلم إلا بعد الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولما كانت الدية في الآية مطلقة رجع إلى حديث عمرو بن شعيب المقيد لها فأخذ به وعمل به وقضى به.
ج - مناقشة أدلتهم من المعقول:
قالوا استدلالكم هذا ضعيف لأن وجوب كمال الدية يعتمد كمال حال القتيل فيما يرجع إلى أحكام الدنيا، وهي الذكورة، والحرية، والعصمة، وقد وجدت هذه المعاني في الذمي والمستأمن، أما نقصان الكفر فلا تأثير له في أحكام الدنيا.2
1 انظر: مجمع الزوائد 6/299.
2 انظر: بدائع الصنائع 7/255.
يجاب عن ذلك بأننا لا ننكر أنه يعتمد في كمال الدية الذكورة والحرية والعصمة لكن عندنا هذه الشروط لا تكفي بل نضيف إليها ما هو أهم منها وهو الدين.
وبما أنه لا مساواة بين المسلم والكافر في الدين، فتنعدم المساواة في الدية، أما قولكم بأن الكفر يؤثر في القصاص، فهذا غير مسلم لأن الذمي يقتل به المسلم عندنا، فبطل الاحتجاج بهذا.
يجاب عن ذلك بأن الأدلة الصحيحة وقد سبق ذكرها قد دلت على أن الكفر له تأثير في القصاص وأن المسلم لا يقتل بالذمي ولا بالمستأمن وإذا ثبت هذا فإنه كذلك يؤثر في الدية فلا مساواة بين المسلم والكافر في الدية.
وقولكم بأن الأنوثة لا تؤثر في منع القصاص، والكفر يمنع القصاص، فهو غير مسلم أيضاً لأن الكفر عندنا لا يمنع القصاص.
ويجاب عن ذلك بأن الكفر يمنع من القصاص، والسبب في ذلك هو عدم المساواة بين المسلم والكافر، فكذلك الكفر يمنع التساوي في الدية للفرق الكبير بين المسلم والكافر.
أما نقصان الأنوثة فهناك فرق بينه وبين نقصان الكفر، فنقصان الأنوثة، يؤثر في الدية ولا يؤثر في القصاص، بينما نقصان الكفر لا يؤثر لا في القصاص ولا في الدية فلا تأثير له في أحكام الدنيا.1
1 المبسوط 26/85.
ويجاب عن ذلك بأن هذا غير صحيح، فنقصان الكفر له تأثير في القصاص، فلا قصاص بين المسلم والكافر كما دلت على ذلك الأدلة الصحيحة السابقة، وله تأثير أيضاً في الدية لعدم المساواة بين المسلم والكافر.
ثالثاً: مناقشة أدلة الشافعية:
أ - مناقشة أدلتهم من السنة:
بالنسبة لاستدلالهم بحديث: "وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل"1، يقال لهم نحن لا ننكر بأن مفهوم الحديث يدل على أن غير المؤمنة بخلاف ذلك، ولكن مقدار هذا المفهوم بينه قوله صلى الله عليه وسلم:"دية المعاهد نصف دية المسلم" ولا ما قضى به عمر وعثمان رضي الله عنهم كما قلتم.
أما حديث عمرو بن شعيب فهو غير صحيح، لأن الحديث الصحيح عن عمرو بن شعيب هو قوله صلى الله عليه وسلم:"دية المعاهد نصف دية المسلم".2
ب - مناقشة أدلتهم من المأثور:
بالنسبة لما روى عن عمر وعثمان رضي الله عنهما فهي أقوال صحابة لا يمكن أن تعارض ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قوله "دية المعاهد نصف دية المسلم".
1 سبق تخريجه ص 51.
2 سبق تخريجه ص 58.
وفي هذا يقول الشوكاني: "فعل عمر ليس بحجة على فرض عدم معارضته لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فكيف وهو هاهنا معارض قولاً وفعلاً".1
وأيضاً ليس في فعل عمر رضي الله عنه ما يدل على أن دية المعاهد ثلث دية المسلم، لأن عمر رضي الله عنه فعل ذلك عندما كانت الدية ثمانية آلاف درهم فأوجب نصفها وهو أربعة آلاف درهم، وأيضاً روي عن عمر وغيره من الصحابة آثار تدل على خلاف ذلك.2
ج - مناقشة أدلتهم من المعقول:
قولهم بأن دية المستأمن ثلث دية المسلم أقل ما قيل، هذا دليل ضعيف لأنه مبني على علة غير صحيحة، لأن كل قائل يحتاج إلى دليل على صحة قوله والأخذ بأقل ما قيل ليس بدليل إذ ليس له أصل في الكتاب والسنة.3
أما قولهم بأن الأنوثة أثرت في نقصان الدية فالكفر أولى في تنقيصها.
فهذا مسلم ويقال لهم بأن الكفر أثر في نقصان الدية إلى النصف كما دل على ذلك الحديث الصحيح وليس إلى الثلث كما قلتم.
1 نيل الأوطار 7/65.
2 المغني 7/794.
3 نصب الراية 4/367.
وكذلك قولهم بأنه لا مساواة بين المسلم والكافر فلا مساواة بينهما في الدية، فهذا أيضاً دليل لنا ومع انعدام المساواة تكون دية المعاهد نصف دية المسلم وليس ثلثها كما قلتم.
هـ - مناقشة أدلة الظاهرية:
قولهم في الآية بأنها في المؤمن وليس فيها ما يدل على دية المعاهد فقد سبق الرد عليها عند مناقشة أدلة الحنفية.
أما قولهم بأن المسلم لا يساوي الكافر فلا قود ولا دية للكافر من المسلم، فنقول لهم: نحن معكم في أن المساواة لها تأثير في امتناع القصاص، وكذلك لها تأثير في عدم مساواة دية المسلم بدية الكافر، فعدم المساواة أثر في إيجاب نصف الدية للكافر المعاهد كما دل عليه الحديث الصحيح.
وقولهم: بأنه لم يرد دليل قط من كتاب ولا سنة نص على دية المعاهد.
يقال لهم: لقد دل ظاهر الآية على رأي بعض العلماء على وجوب دية المعاهد، لكن الدية في الآية مطلقة وبينت الأحاديث والآثار مقدار هذه الدية.
وكذلك وردت في ذلك نصوص من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والآثار المروية عن أصحابه رضي الله عنهم وإن كان في بعضها ضعف لكنها تقوى بعضها البعض وأصحها حديث عمرو بن شعيب فكيف غفلتم عن هذه الأحاديث؟.
الرأي المختار:
وبعد أن عرضنا آراء الفقهاء وأدلتها ومدى قوتها وضعفها، يتضح لنا أنه لم يسلم لفقهاء الشافعية دليل لا من سنة ولا من مأثور ولا من معقول.
وكذلك فقهاء الحنفية لم يسلم لهم دليل واحد من السنة، ولم يبق لهم سالماً من الرد إلا إطلاق الآية وبعض الآثار المحمولة على تغليظ الدية فيما إذا تعمد المسلم قتل المعاهد.
وكذلك الظاهرية ليس لديهم دليل من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن المعاهد لا تجب له الدية أبداً.
وكذلك فقهاء المالكية والحنابلة ليس جميع أدلتهم صحيحة وسالمة من الرد بل فيها ضعف ورد عليها لكن سلم منها أهم دليل وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "دية المعاهد على النصف من دية المسلم" 1، وهذا أبين دليل في دية المعاهد كما قاله أكثر العلماء.
وهذا مما يجعلنا نختار رأيهم بأن دية المعاهد الكتابي الذمي أو المستأمن نصف دية المسلم.
وذلك للأسباب الآتية:
لأن الأدلة التي استدل بها الحنفية من السنة على وجوب الدية كاملة كدية المسلم أفعال، وأحاديث إيجاب نصف الدية أقوال والأقوال مقدمة على الأفعال كما يقول الشوكاني.2
وهو أيضاً ما اختاره بعض العلماء كالشوكاني والصنعاني.
فيقول الشوكاني في السيل الجرار: "الحق ما ذهب إليه المالكية والحنابلة لأن المروي عن بعض الصحابة لا تقوم به حجة، والمرفوع لم
1 سبق تخريجه ص58.
2 نيل الأوطار 7/66.
يصح، والمطلق من الآية مقيد بالسنة، وحديث عمرو بن شعيب إسناده حسن".1
وقال في نيل الأوطار: "الراجح العمل بالحديث الصحيح وطرح ما يقابله مما لا أصل له في الصحة".2
وقال الصنعاني في سبل السلام: "لا يخفى أن دليل القول الأول أقوى" - قول المالكية والحنابلة - لا سيما وقد صحح الحديث إمامان من أئمة السنة.3
ويمكن أيضاً الجمع بين الأحاديث والآثار على فرض الصحة بأن تحمل الأحاديث والآثار التي أوجبت الدية كاملة، على التغليظ فيما إذا كان القتل عمداً، زجراً للقاتل، وردعاً أمثاله، ومحافظة على أمن المجتمع ورعايا الدولة الإسلامية، وتحمل الأحاديث والآثار التي أوجبت نصف الدية على القتل إذا كان خطاً وهذا ما قاله الإمام أحمد رحمه الله.4 والله أعلم.
1 السيل الجرار للشوكاني 4/440.
2 انظر: نيل الأوطار 7/66.
3 انظر: سبل السلام 3/1218.
4 المغني لابن قدامة7/793.